فقد كنا نتدارس الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم المسلم، من ذكر أو أنثى، لتكون تلك العلامات برهاناً على إخلاصه في طلبه العلم لوجه ربه جل وعلا، وهذه العلامات يمكن أن نجملها في عشر علامات، ست علامات ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم فعلاً واكتساباً، وأربع علامات ينبغي أن يتخلى عنها طالب العلم تركاً واجتناباً، ينبغي أن يكتسب الأولى وأن يجتنب الثانية.
أما ما ينبغي أن يكتسبه وأن يتحلى به وأن يتصف به، فهو ست علامات كنت شرحت أربعاً منها:
أولها: حسن الإنصات والإصغاء والاستماع.
ثانيها: حسن الفهم والتدبر والتأمل.
ثالثها: حسن السؤال والاستفسار.
رابعها: حسن الحفظ.
وهذه الأمور الأربعة تقدم الكلام عليها مفصلاً بأدلتها، وأما ما بقي من الأمور الستة فهو أمران ينبغي أن يتحلى بهما طالب العلم سأذكرهما ثم أنتقل إلى بيان العلامات التي ينبغي أن يجتنبها طالب العلم.
وقد ألف الإمام الخطيب البغدادي عليه رحمة الله الذي توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة كتاباً في هذا الأمر على وجه الخصوص سماه: اقتضاء العلم العمل، أي: أن العلم يقتضي أن يعمل به صاحبه، ليكون هذا برهاناً على إخلاصه في طلبه، وأنه يريد بعلمه وجه ربه جل وعلا، وقال في أول الكتاب: ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وبذل الهمة للعمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، ثم قرر هذا بالأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأقوال سلفنا الكرام.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام تبين لنا أن طالب العلم إذا لم يعمل بعلمه فعلمه وبال عليه عند ربه، ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين، والحديث في أعلى درجات الصحة، من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: ويلك يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه )، فهذا العالم يؤتى به يوم القيامة فيلقيه الله في نار جهنم، وإذا سقط فيها خرجت منه أقتابه، أي: أمعاؤه، وخرجت من بطنه، نسأل الله العافية من سخطه ومن غضبه، فيدور حول أمعائه التي خرجت من بطنه كما يدور الحمار حول الرحى، فهذه الصورة المنكرة الفظيعة يتعجب منها أهل النار، ومع أنهم يعذبون في النار، فيقولون: ويحك! ما لك عذبت بهذا العذاب؟ أمعاؤك اندلعت من بطنك وبدأت تدور حولها في نار جهنم، وأنت كنت في الحياة الدنيا تذكر بالخير وتنهى عن الشر، وتنتمي إلى العلماء والدعاة، فما الذي أصابك؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه، فالعلم ليس فيه فضل ولا شرف إذا لم يحلَّ بالعمل الصالح والخشية من الله عز وجل.
ولو كان في العلم دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
فإذا علم طالب العلم بعد ذلك وقيد هذا في ذهنه، فينبغي أن يترجمه في سلوكه، وأن يكون العلم على جميع جوارحه، فحبه وبغضه وعطاؤه ومنعه وحربه وسلمه وقيامه وقعوده، كل هذا مقيد بالعلم النافع الذي حصله وأخذه من مشكاة النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه.
فإذاً لابد من أن يعمل الإنسان بعلمه، ولا يشترط في السؤال يوم القيامة أن يكون من العلماء الراسخين المحققين، بل كل من علم شيئاً، فكل من علم أن الكذب حرام ثم كذب، علم أن الغناء حرام ثم استمع إلى الغناء، علمت أن السفور حرام ثم سفرت، هذا كله ستسأل عنه، إذا علم الإنسان الحكم الشرعي سيسأل هل عمل بموجبه أم لا؟ فكل واحد سيسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه. نعم، العلماء مراتب، وما يعلمه الناس يتفاوتون فيه، وكل واحد سيسأل على حسب ما علم، ولذلك كلما ازداد علم الإنسان ينبغي أن يزداد عمله وخشيته من ربه جل وعلا.
ولذلك كان سلفنا يوصون بالعلم ثم بالعمل، كما في سنن الدارمي من رواية عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه من كلامه بخلاف الحديث المتقدم، فذاك مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أما هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا)، هذا هو الواجب، فإذا تعلم الإنسان بالصورة المتقدمة النظرية الأربعة: أصغى واستمع، فهم وتدبر، سأل عما يشكل عليه، حفظ، فالصورة إذاً صارت واضحة عنده مجموعة في ذهنه مقيدة، فينبغي أن يعمل بها.
ولذلك ينبغي للعالم أن يحترس غاية الاحتراس، فكما أن أجره عظيم فإن وزره كبير وخيم، ولذلك قال الله لنساء نبينا الأمين عليه وعلى أزواجه وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:30-31]، هذه قدوة لغيرها، فإذا فعلت خيراً فلها أجرها وأجر من يقتدي بها، فلها الأجر مضاعف مرتين، وإذا فعلت شراً فعليها وزرها ووزر من يقتدي بها، فعليها العقوبة مضاعفة مرتين، فكما تضاعف الحسنة في حق طالب العلم بوجود من يقتدي به، فله أجره وأجر من اقتدى به، فكذلك السيئة، نسأل الله أن يجعلنا قدوة حسنة، وأن يتقبل منا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أولهما: أن نزكي أنفسنا، وأن ننال الأجر عند ربنا.
وثانيهما: أن ننقل هذه التزكية وهذا النور إلى عباد الله جل وعلا.
فنحن تعلمنا لنهتدي ولنهدي الناس، فإذا اهتدينا وتعلمنا وعملنا وجب علينا أن ندعو إلى الله جل وعلا على بصيرة، والدعوة إلى الله فريضة ينبغي أن يقوم بها المسلمون، طالب العلم وطالبة العلم، ولذلك قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، سوف تسألون عن تبليغه وعن نشره وعن الدعوة إليه، هذا القرآن ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام ولقومه، وهم سيسألون عن تبليغه وعن نشره، وهكذا طالب العلم عندما يتعلم العلم صار له بذلك ذكر وقدر وأجر عند الله جل وعلا، وصارت له منزلة في هذه الحياة، فسيسأل بعد ذلك عن نشر هذا النور بين المخلوقات، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].
فطالب العلم ينبغي أن يبلغ، وأن يدعو إلى الله على بصيرة، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم من رواية تميم الداري ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )، فينبغي أن ننصح المسلمين على وجه العموم، وأن نبين لهم دين الحي القيوم، وإذا نصحنا عباد الله حصلنا أجراً كثيراً، سواء حصل الأثر أم لا، إذا حصل الأثر واهتدوا فإن الأجر يتضاعف، وإذا ردوا علينا دعوتنا حصل لنا أجرنا عند ربنا، أما إذا قبلوا فلنا أجر عظيم، كما ثبت في المسند والصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي رضي الله عنه: ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم )، وهي الإبل الجمال، وهي أنفس مال عند العرب، إذا اهتدى على يديك رجل واحد هذا خير لك من أن تملك عرض الدنيا، وأغلى شيء فيها، وأنفس شيء فيها، ألا وهو الإبل والجمال التي يحتاج إليه العرب في صحرائهم، والحديث رواه الطبراني وغيره من رواية أبي رافع رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي رضي الله عنه: ( والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )، أي: خير من الدنيا وما فيها، إذا اهتدى واحد فقط هذا خير من الدنيا ومما فيها من متاع، وهذه البشارة أيضاً قالها نبينا صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن رضي الله عنه، كما في مسند الإمام أحمد ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ).
إذاً: ينبغي أن نقوم بهذه الأمور الستة -كما قلت- اكتساباً، ينبغي أن نكتسبها، وأن نتحلى بها: حسن الإصغاء والإنصات والاستماع أولها، وثانيها: حسن الفهم وحسن التدبر والتأمل، وثالثها: حسن السؤال وحسن الاستفسار، ورابعها: حسن الحفظ والضبط، وخامسها: حسن العمل، وسادسها: حسن التعليم وحسن الدعوة إلى رب العالمين.
إذا اكتسبنا هذه الصفات واتصفنا بها، فإن علمنا علم نافع يقربنا إلى ربنا، وهذا من علامة إخلاصنا لله في طلبنا، فهنيئاً ثم هنيئاً لنا، وإذا تخلفت بعض هذه الصفات فينا فينبغي أن نتدارك أمرنا، وأن نصحح نيتنا ومسلكنا، لئلا يكون العلم علينا، فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الذي لا ينفع، ثبت في صحيح مسلم من رواية زيد بن أرقم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، ومن علم لا ينفع )، العلم الذي لا ينفع نعوذ بالله منه؛ لأنه مضيعة للوقت، وحجة علينا عند الله جل وعلا يوم القيامة.
فالعلم إذا لم ينتفع به الإنسان فهو وبال عليه عند الرحمن، ولذلك كلما ازداد العلم ينبغي أن تزداد الخشية من الله عز وجل، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية )، والخشية تكون في النفس بمقدار العلم، وكلما ازداد العلم ازدادت الخشية، هذا إذا كان العلم نافعاً، (إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)، وهاتان الفضيلتان والقوتان هما منبع سائر الفضائل والكمالات، قوة علمية: أن يعرف الإنسان الحق، وقوة عملية: أن يخشى الله عز وجل، وكل كمال بعد ذلك متفرع عن هاتين القوتين الكريمتين: علم نافع، وعمل صالح، وخشية من الله جل وعلا.
هذه الأمور الستة ينبغي أن يكتسبها وأن يتحلى بها وأن يتصف بها طالب العلم؛ ليكون العلم له، وليكون مخلصاً في طلبه، فهي علامات بينة على أنه يطلب العلم ليتقرب به إلى الله عز وجل.
أولها: الحذر من ضياع الوقت، فإن الوقت هو أنفس ما يملكه الإنسان في هذه الحياة، فهو رأس ماله في معاملته لربه جل وعلا، لا نملك في معاملتنا مع ربنا في سيرنا إلى الله إلى الآخرة إلا هذا الوقت، فما دام هذا الوقت عندنا ولنا فسحة من الأجل فبإمكاننا أن نتقرب إلى الله عز وجل، وإذا انتهى العمر وذهب الوقت انقطع العمل، فهذا الوقت نفيس نفيس، بإمكان الإنسان في وقته أن يكون صديقاً، وبإمكانه أن يكون شقياً زنديقاً، بإمكانه أن يكون مغبوناً، وبإمكانه أن يكون مغبوطاً، فإذا اغتنم وقته فهنيئاً له، وهذا الذي يغبط ويحصل السعادة والهناء في الدنيا والآخرة، ولذلك إذا ضيع الوقت فهذا من علامات شقائه، وكيف سيحصل العلم ويعمل به ووقته يضيع فيما لا ينفع؟!
وقد كان سلفنا يقولون: تضييع الوقت من المقت، إذا مقت الله عبداً وغضب عليه يجعله يضيع وقته فيما لا ينفعه، ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الوقت نعمة عظيمة، لكن أكثر الناس في غفلة عن هذه النعمة، ولا يشعر بنعمة الوقت إلا الموتى، الذي يموت يتمنى لو امتدت حياته وعاد إلى الحياة التي نعيشها ولو بمقدار نصف ساعة لا ساعة، ليغتنم تلك المدة القصيرة فيما ينفعه، فكم عندنا من أوقات نضيعها! فإذا كان ضياع الوقت منقصة في عموم الناس، فكيف سيكون الأمر في حق طالب العلم! إنه منقصة أشنع وأفظع وأخبث.
ولذلك ثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة، والحديث صحيح فهو في صحيح البخاري من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ )، هاتان النعمتان أنعم الله بهما على العباد، لكن أكثر العباد غبنوا، أي: خسروا وفرطوا وضيعوا النافع نحوهما، نعمتان مغبون وخاسر فيهما كثير من الناس، نعمتان راسب فيهما كثير من الناس، فاشل فيهما ونحوهما كثير من الناس (الصحة) عنده عافية وقوة، وبإمكانه أن يتزود في صحته قبل أن يهرم وقبل أن يمرض، (والفراغ): الوقت، عنده متسع من الوقت، ضيع هذا المتسع من الوقت فيما لا ينفعه، هذا هو المغبون، هذا هو الخاسر، هذا هو الأحمق، هذا هو الشقي، ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله: الناس نحو الوقت ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا مغبونين، وإما أن يكونوا مغبوطين، إما أن يغبنوا، وإما أن يغبطوا، أي: أن يحسدهم الناس على ما حصلوا من خير في وقتهم، ويتمنوا مثلما حصلوه، هذا مغبوط، وإما مغبون، أي: خاسر محروم مضيع لوقته فيما لا ينفع، فضياع الوقت من المقت.
فما ينبغي لطالب العلم ولا لطالبة العلم أن يضيعوا هذا الوقت الذي منّ الله به علينا فيما لا ينفع، فتضييعه من علامات شقاء العبد وخسرانه وخذلانه.
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الإكثار من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال
مجالس اللغط واللهو واللغو القيل والقال، هذا إذا تجنب الإنسان الحرام والغيبة والنميمة، أي فائدة ومجالس اللهو؟! قيل وقال، ذهبنا وعملنا بلا فائدة.
فهناك مجالس مناصحة وتذكير ومدارسة وتعلم وتعليم، فهنيئاً لم يجلس فيها ومرحباً بتلك المجالس، وإلا فالبعد واجب، ولا تحصل السلامة للإنسان إلا بذلك.
ليشغل الإنسان وقته فيما ينفعه، وليبتعد عن الثرثرة والهذيان، ولا يضيع وقته فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، نخلة في الدنيا إذا أراد الإنسان أن يغرسها كم يتعب في حفر وسقي وتعهد، ثم هو سيفنى وهي ستفنى بعد ذلك في نهاية الأمر، وهنا نخلة باقية في جنة الله الخالدة، تغرس للإنسان عندما يقول: سبحان الله وبحمده، وإذا كرر الإنسان هذه الجملة المباركة مائة مرة: سبحان الله وبحمده، تحط عنه ذنوبه وخطاياه وأوزاره وإن كانت مثل زبد البحر، كما ثبت هذا في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )، وهذا مما ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وأن يحافظ عليه، وأن يقول على أقل تقدير في كل يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، ليغفر الله له ذنوبه وأوزاره فهو الرحيم الكريم سبحانه وتعالى.
إذاً لا ينبغي للإنسان أن يضيع وقته فيما لا ينفع، إذا هم الإنسان بالنطق في الباطل فليجعل مكان ذلك الباطل تسبيحاً لله جل وعلى وذكراً له وصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام، ثبت في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ).
يغوص البحر من طلب الآلئ ومن رام العلا سهر الليالي
تروم الوصل ثم تنام ليلاً لقد أتعبت نفسك في المحال
الذي يريد أن يستخرج اللؤلؤ يكلف نفسه عناء نزول البحر وغوص البحر، وقد تتخطفه السماك والحيتان وتأكله، وهكذا الذي يريد العلم ينبغي أن يسهر الليالي.
(تروم الوصل)، أي: الوصل بالله والاتصال به والقرب لديه والمنزلة عنده.
تروم الوصل ثم تنام ليلاً لقد أتعبت نفسك في محال
فإذاً لابد من أن نحافظ على وقتنا، وما ينبغي أن يضيع هذا الوقت منا، هذا هو الأمر الأول الذي ينبغي أن نحذره، تضييع الوقت، كان الإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول: تضييع الوقت من المقت، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والنفس إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وإسناده صحيح، من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، ثم قرأ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58].
الجدال يزرع العداوة والبغضاء ويذهب نور العلم، ويمنع الناس من العمل، الفقيه هو الذي ينشر نور الله وينشر الحكمة وينشر العلم، فإن قبل منه حمد الله، وإن رد عليه حمد الله، ولا يجادل ولا يماري، ولا يشتغل بالخصومات، ولذلك كان أئمتنا الأبرار يبتعدون عن الجدال، جاء بعض المجادلين أهل الثرثرة والقيل والقال والخصومات والمنازعات والملاحاة إلى الإمام مالك بن أنس عليه رحمة الله، فقال: قف حتى أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة، أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاك، فاذهب إلى شاك مثلك فجادله. فإذاً لا داعي للجدال، ننشر الحق ونقرره بالأدلة، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].
وأما المجادلة بين طلبة العلم فيما تحتمله الأدلة وهو مشروع، فلا ينبغي أن يقع، فكل منهم إن شاء الله على الهدى، وشريعة الله تحتمل ما قالوه من أقوال إذا كانت معتبرة، فلا داعي للملاحاة ولا للمخاصمة ولا للتضليل، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون من نصوص الشرع ما يظهر لبعضهم أنه مراد، فيخالفه فريق آخر من الصحابة في الفهم، فلا يعيب أحد على أحد، ولا يعترض أحد على أحد، مادام هذا الفهم يحتمله الدليل الشرعي فلا داعي للجدال ولا للقيل ولا للقال.
ثبت في الصحيحين وغيرهما عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بعد موقعة الخندق: ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )، من أجل محاسبة هؤلاء اليهود عليهم لعنات ربنا المعبود، الذين نقضوا العهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتآمروا مع المشركين في موقعة الخندق التي جاء فيها الأحزاب عشرة آلاف من مكة، لما انتهت موقعة الخندق جاء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( وضعتم السلاح؟ قال: نعم، قال: لكنا في السماء لم نضع السلاح )، الملائكة مستنفرة، وأنتم كيف وضعتم السلاح؟! قال: ( فماذا تأمرني؟ )، قال: توجهوا إلى بني قريظة من أجل محاسبة هؤلاء الذين نقضوا عهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتآمروا عليه وعلى المسلمين عندما اتفقوا مع المشركين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة )، من أجل أن نوقف هؤلاء عن غيهم وضلالهم، وأن نحاسبهم على نقضهم لعهدهم، فذهب الصحابة مسرعين إلى دور بني قريظة، وخرجوا من المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم: نصلي، لم يرد منا النبي عليه الصلاة والسلام أن نؤخر الصلاة، إنما أراد المسارعة، وقال فريق: قال لنا النبي عليه الصلاة والسلام: لا تصلوا إلا في بني قريظة، إذاً وقت العصر يتأخر إلى هناك حتى ولو وصلنا بعد العشاء؛ لأن هذا فيه نص صريح فنحن نلتزم به، فانقسموا إلى قسمين: قسم صلى في الطريق، وقسم أخر الصلاة حتى صلوا إلى بني قريظة، فما عنف النبي عليه الصلاة والسلام أحد الفريقين، وكل منهم على هدى، لم؟ لأن هذا الأمر يحتمله دليل الشرع، فلا داعي أن يضلل بعضنا بعضاً، ولا داعي للجدال ولا للملاحاة، فصاحبك إن كان على هدى فما ينبغي أن تماريه ولا أن تجادله، وإن كان على ردى فبين له الحكم الشرعي مقترناً بالدليل، فإن قبل فبها ونعمت، وإلا فلا داعي للجدال ولا للقيل ولا للقال: ( فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ).
ولعلكم -أخواتي- تستحضرون الحديث الذي تقدم معنا في الموعظة السابقة، وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي أخرجه الإمام ابن ماجة والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه، عند بيان وجوب إخلاص النية في طلب العلم، وأن النية إذا فسدت فالعلم وبال على الإنسان لا له، فهو وبال عليه لا له، الحديث تقدم معنا ولفظه: ( لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحيزوا به في المجالس، ولتجيزوا به في المجالس )، ( لتخيروا به في المجالس )، (لتحدثوا به في المجالس، تصرفوا به وجوه الناس إليكم )، كما تقدمت معنا روايات الحديث: ( فمن فعل ذلك فالنار النار )، إذاً لا يجوز أن نتعلم العلم لنباهي العلماء، ولا لنماري، أي: نجادل السفهاء، فالمجادلة ينبغي أن نبتعد عنها، ومن تعلم العلم للمجادلة فمأواه جهنم وبئس المصير.
إذاً: ينبغي أن نبتعد عن الجدال، ولا يقع الناس في الجدل إلا إذا تركوا العمل، ومن عمل بعلمه ليس عنده وقت للمجادلة ولا للملاحاة.
هذا هو الأمر الثاني الذي ينبغي أن يحذره طالب العلم في طلبه، أن لا يجادل.
فالنظر إلى الأغنياء ومخالطتهم يدل على عدم إخلاص النية في طلب العلم، فالإنسان يخالط من يذكرهم بالله ويذكرونه بالله، أما أن يخالط هؤلاء من أجل عرض دنيا فإن هذا منقصة فيه، وإذا خالطهم وتذكر الدنيا، واحتقر نعمة الله عليه فهو منقصة فيه، فأنت -يا طالب العلم- لا ينبغي أن يكون لك إلى غير الله حاجة، فأنت خليفة النبي عليه الصلاة والسلام، وأنت وارث النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا جاءك الأغنياء نصحتهم وقمت بحق الله نحوهم، وأما أن تذهب إليهم وتتمسح بهم وبمجالسهم، فهذا من علامات فساد النية، نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في جميع أحوالنا.
إذاً يحذر الإنسان مخالطة المترفين مخالطة أهل الدنيا، ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها، والحديث في سنن الترمذي ، وقال عنه الترمذي : غريب، وفي إسناده شيء من الضعف، لكن المعنى العام من هذا الحديث وارد في أحاديث صحيحة، أننا ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا في الدنيا، ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( إذا أردت اللحوق بي فليكن زادك في هذه الحياة كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه )، إذا أردت اللحوق بي، وأن تكوني معي في الجنة وفي درجتي يوم القيامة وفي منزلتي ومعي، فحافظي على هذه الأمور الثلاثة: أولها: ( ليكن زادك في هذه الحياة كزاد الراكب )، أي: لا تنهمكي في الدنيا وطلبها وتشغلي نفسك بها، فالإنسان عندما يسافر من هنا إلى مكة -حرسها الله وصانها- أو للمدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، عندما يسافر من هنا إلى مكة يأخذ بمقدار نفقته أو زيادة شيء قليل، فإذا كان يكفيه من هنا إلى مكة ثلاثة آلاف قد يأخذ خمسة آلاف، لا يأخذ معه مئات الألوف، يأخذ بمقدار كفايته في سفره، وهكذا الإنسان في هذه الحياة ليكن زاده فيها كزاد الراكب، لا ينهمك فيها، ويجعل همته منصرفة إليها، القليل منها يكفي ونسأل الله جل وعلا أن يقنعنا بما رزقنا.
الأمر الثاني: ( إياك ومجالسة الأغنياء )؛ لأنها -كما قلت- تذكر بالدنيا، وتجعل بعد ذلك الإنسان يحتقر نعمة الله عليه.
قال: ( ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه )، أي: لا تعدي ثوبك خلقاً وبالياً وترمه إلا بعد أن ترقعيه، يعني: لا تحكمي على الثوب بأنه خلق بالي ينبغي أن يرمى، ولا يصلح للبس، إلا بعد أن ترقعيه، حافظي على هذه الأمور الثلاثة إذا أردت اللحوق بي، والحديث كما قلت في سنن الترمذي وقال عنه الترمذي : غريب، وإسناده فيه شيء من الضعف، لكن المعنى العام وارد في أحاديث صحيحة، فإذا نظر الإنسان إلى من فضل عليه في الخلق والمال فلينظر إلى من هو دونه لا إلى من هو فوقه.
أما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فلا يذكرون إلا بكل خير جميل، ومن ذكرهم بخلاف ذلك فهو ضال عن سواء السبيل، ولذلك حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من الوقوع والكلام في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان، والحديث إسناده حسن من رواية عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه )، (الله الله في أصحابي)، اتقوا الله وراقبوا الله في أصحابي، فهم خير هذه الأمة، وهم أفضل خلق الله بعد النبيين والمرسلين على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، (لا تتخذوهم غرضاً)، أي: هدفاً من بعدي، أي: مجالاً للكلام والقيل والقال والتكلم عليهم، كالهدف الذي يرمى إليه، (فمن أحبهم فبحبي أحبهم)، أي: أحبهم لأنه يحبني وهم أحبابي، فمن أحبني أحبهم، (ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، أي: لأنه يبغضني، فبغض الصحابة بغض لرسول الله عليه الصلاة والسلام، (ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله سيوشك أن يأخذه).
إذاً: علماء الأمة والسلف الماضون ينبغي أن نعرف لهم منزلتهم، وينبغي أن نعرف لهم قدرهم، ولا يجوز أن نقع في واحد منهم، لذلك قال الإمام ابن عساكر عليه رحمة الله في أول كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري عليهم جميعاً رحمة الله، قال: اعلم أخي أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
لحوم العلماء مسمومة، أي: من وقع في لحومهم وأعراضهم وكرامتهم وتكلم عليهم، كأنه يأكل سماً يقتله، ويرديه ويرسله إلى نار جهنم، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، يهتك أستارهم ويفضحهم ويذلهم في هذه الحياة ويعذبهم بعد الممات، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وتقدم معنا -أخواتي الكريمات- أن العلماء ورثة الأنبياء، فإيذاؤهم إيذاء لإمامهم وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، فطالب العلم ينبغي أن يصون لسانه من الوقيعة في سلفنا الماضين وعلمائنا الطيبين.
هذه الأمور الأربعة إذا حذرها طالب العلم واحترس منها، مع الأمور الستة إذا فعلها، واتصف بها، هذا دليل على إخلاصه في طلبه، والأمور الأربعة التي ينبغي أن يحذرها: ضياع الوقت، الجدل، مخالطة المترفين، الوقوع في سلفنا الماضين وعلمائنا الطيبين.
نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام، وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان، وأسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأن يرحمهم كما ربونا صغاراً، وأن يغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، وأسأله أن يحسن إلى من أحسن إلينا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر