الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فكنا نتدارس فوائد دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن فوائد دراسة الحديث الشريف كثيرة وفيرة، أبرزها ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أننا عندما نتدارس حديث النبي عليه الصلاة والسلام ونحفظ سنته الشريفة نحفظ أدلة الشرع ونحافظ عليها من الضياع والذهاب والاستقدام والاندراس.
والفائدة الثانية: كثرة الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
والفائدة الثالثة: أن من يقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام ويحفظ سنته الشريفة يفوز بالنضرة والرحمة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يحفظ سنته وينشر حديثه.
أما الفائدة الأولى: فبقي عليها كلام يسير قليل أذكره، ثم أجيب على سؤالين وجها فيما يتعلق بموضوعنا في الموعظة الماضية، وفي مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام.
أما التكملة المتعلقة بالأمر الأول فأقول: إن علماء الحديث وحفاظ الأثر الذين ينشرون سنة نبينا عليه الصلاة والسلام يحفظونها على هذه الأمة؛ لمدارسة أدلة دينها، فالسنة وحي كالقرآن الكريم، ولا فارق بينهما، إلا أن القرآن وحي يتلى، والسنة المطهرة وحي لا يتلى، وكلاهما نزل به جبريل على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه.
إذاً: علماء الحديث لهم منزلة عالية جليلة رفيعة، عندما يحفظون أدلة الشرع من الضياع والفقدان والذهاب والاضمحلال، ولذلك فإن حبهم دين، أعني حب المحدثين الذين ينشرون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ويعلمون سنته المطهرة، والبغض لهم من أكبر علامات المبتدعين.
ولذلك فقد أنف أهل البدع قاطبة من الانتساب إلى السلف الصالح وإلى أهل الحديث، وتراهم يدندنون ما بين الحين والحين؛ أن من ينتسب إلى السلف، أو إلى أهل الحديث، فإنه انتساب زور، وهو باطل، وأن أهل الحديث حشوية -من الحشوة وهو: رذالة الشيء- وهم.. وهم.. وهم...
ويقال لهم: إذا كنتم أنتم على هدى، هلا نسبتم أنفسكم إلى السلف الصالح! وهلا نسبتم أنفسكم إلى أهل الحديث الشريف! إذا كان من ينتسبون تقولون: لا صحة لنسبتهم، نسبتهم مزورة، وأنتم يا معشر الفرق المبتدعة! إذا كانت حقيقتكم أنكم على هدى، وعلى صلاح، فهلا انتسبتم إلى سلف الأمة، وإلى المحدثين، وهلا استدللتم ودللتم على قولكم بكلام سلف الأمة؛ بدءاً من صديقها أبي بكر رضي الله عنه فمن بعده، وبكلام المحدثين! ولكنكم أبعد الناس عن الاستدلال بأقوال السلف، وأبعد الناس عن الاحتجاج بما ورد في كتب الحديث الشريف في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تلمزون وتغمزون وتنبزون أهل الهدى بأنهم حشوية!
وأول من قال هذا اللفظ في هذه الأمة عمرو بن عبيد ، وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال بعد شيخه واصل بن عطاء الغزال ، قال عمرو بن عبيد : كان عبد الله بن عمر -يعني: ابن الخطاب رضي الله عنهما- حشوياً، يعني: من رذالة الناس وحثالتهم!
وهذا دأب أهل البدع في هذه الأيام إذا أراد أحدهم أن ينبز أحداً من علماء الإسلام، قال: إنه حشوي، وسمعت شريطاً من قريب لبعض المفتين المفتونين، حط فيه على الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، وصفه بالضلال والإضلال! ويعيد هذه اللفظة، يقول: هذا حشوي.. هذا حشوي هذا حشوي، أي: من رذالة الناس وسقطهم، ليس عنده عقل ولا وعي ولا دين، وأنتم أبعد الناس عن السلف، وأنتم أبعد الناس عن الاستدلال بأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام خير الناس.
وإنما الحشوي في الحقيقة هو الذي يبتعد عن السنة، هذا هو الرذالة، وهذا هو الحثالة.
فهؤلاء الذين يطعنون في الصحابة يريدون أصالة أن يطعنوا في القرآن، وأن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لو قالوا للعوام: القرآن باطل، لعلم الناس مرادهم ورجموهم بالحجارة، ولو قالوا للسذج والدهماء: سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا قيمة لها، لرجموا بالحجارة، فأرادوا أن يصلوا إلى مرادهم عن طريق ملتوٍ، فقالوا: الصحابة هؤلاء لا يوثق بهم، لا قيمة لهم، لا دين لهم، فبدءوا يطعنون فيهم، فإذا ثبت ما يقولون ورسخ في أذهان الناس، قالوا بعدها: إن أبا بكر ، عمر ، عثمان هؤلاء كتموا حديث النبي عليه الصلاة والسلام وخالفوه، ومات النبي عليه الصلاة والسلام وهو عليهم غضبان، ثم يقولون: القرآن الذي تم جمعه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان لا يوثق به، فينسفون بذلك القرآن من أوله لآخره بطعنهم في أبي بكر وعمر وعثمان ، فليس أبو بكر رضي الله عنه هو المقصود بالطعن حقيقة، إنما المقصود الدين الذي كان يحمله أبو بكر ، والدين الذي حكم به أبو بكر رضي الله عنه.
وهكذا من طعن في المحدثين وفي أهل الحديث، وقال: إنهم حشوية فهو خبيث زنديق لا دين له.
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذاهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب. ثم روى القصة الماضية عن الإمام أحمد بن حنبل .
وهذا المعنى الذي كان في العصر الماضي المتقدم في القرن الثالث للهجرة، هو هو في عصرنا تماماً، لا يقع في أهل الحديث والمحدثين إلا أهل البدع الذين غضب عليهم رب العالمين، ولذلك يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المهتدين، في الجزء الرابع صفحة (16)، يقول: (إن من ميزات هذه الطائفة) الضالة التي تسمي نفسها بالطائفة العقلانية -الطائفة العقلية التي ابتلي بها هذا الإمام في عهده من محمد عبده وأذنابه- (من ميزات هذه الطائفة العقلية: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا ينظرون فيها) إنما يقرأ القرآن، ثم يتهجم عليه بعد ذلك برأيه وهواه، فمن مميزات هذه الطائفة: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا يقرءون فيها.
فأهل الحديث حقاً همُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصحبوا نفسه صحبوا أنفاسه، والطعن في الصحابة زندقة، والطعن في المحدثين زندقة كذلك.
هاتان الروايتان تشهدان للرواية الثابتة عن الحسن البصري مرسلاً، وعن الحسن بن علي متصلاً، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، بسندين متصلين وبسند مرسل، والأسانيد الثلاثة فيها ضعف، تتقوى ببعضها، ولفظ رواية علي والحسن بن علي والحسن البصري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اللهم ارحم خلفاءنا، قالوا: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله )، وفي رواية: ( الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس )، وهذه الرواية عن هؤلاء الأئمة الكرام عن علي وابنه الحسن والحسن البصري ، رواها الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والإمام الهروي أبو إسماعيل في كتابه: ذم الكلام، ورواها الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وأبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف، وفي كتاب رياضة المتعلمين، وهكذا ابن السني في كتابه أيضاً رياضة المتعلمين، ورواها الإمام الرامهرمزي في المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق، ورواها الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، والإمام الضياء المقدسي عليهم جميعاً رحمة الله.
السؤال الأول: يتعلق بالكتاب الذي سنتدارسه، وقد وجه من عدد من الإخوة: هل هناك طبعة معينة للإمام الترمذي توصي بها؟ يعني: أي الكتاب من طبعات نسخ الإمام الترمذي يشتريه ويقتنيه طالب العلم ويقدم على غيره؟
وأقول: أحسن الطبعات الطبعة التي حققها الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، وهذا في خمسة أجزاء، وما أكملها، حقق المجلد الأول والثاني، ثم توفي رحمه الله تعالى، فحقق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي المجلد الثالث وما أكمله، ثم جاء الشيخ إبراهيم عطوة من علماء الأزهر من علماء مصر، فحقق المجلد الرابع والخامس، واعتنى بالطباعة وإن لم يكن هناك زيادة تعليق.
هذه خير الطبعات، قل أن يوجد فيها تصحيف أو تحريف أو خطأ في الكتابة، وهي مشكولة، لاسيما المجلد الأول والثاني من طبعاتها فهي محققة مدققة مخرجة موثقة مؤكدة.
فإذا لم توجد فلا أقل من الطبعة الثانية التي طبعت في بلاد الشام في حمص والشيخ عزة عبيد الدعاس نشرها وهي في عشرة أجزاء، والطبعتان عندي، وما أعلم بعد ذلك طبعة إلا وهي رديئة، كطبعة طبعت في المطبعة السلفية في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، والتي علق عليها الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف ، وهي شر الطبعات لما فيها من البتر والتصحيف، فطالب العلم يبتعد عنها، وهي أيضاً في خمسة مجلدات.
وأما بالنسبة للشروح؛ فالشروح لن يقتصر على ما فيها غالباً، وما فيها لا يكفينا، فهناك عارضة الأحوذي للإمام أبي بكر بن العربي ، وهكذا تحفة الأحوذي للإمام المباركفوري ، وقيمة ما في العارضة أقوى من قيمة ما في التحفة؛ لجلالة هذا الإمام وتقدمه، فهو من علماء القرن السادس للهجرة، وبإذن الله سنتدارس ما في الكتابين وما في غيرهما.
وأرى لو أن الإنسان اقتنى كتاباً من الطبعة الأولى التي ذكرتها، فهذا أيسر لحفظه ولحمله، وبعد ذلك يفتح الله ما ييسر بالنسبة لشرح أحاديث سنن الترمذي .
والعلة الثانية: الحارث بن عمرو مجهول، وهو من رجال الترمذي وأبي داود كما تقدم معنا، والذي روى عنه أبو عون الثقفي من رجال البخاري ، ولكن هل تزول جهالة الحارث بن عمرو بوصف الراوي له بأنه ابن أخٍ للمغيرة بن شعبة ، وهو من التابعين؟ لا سيما وقد قال الخطيب البغدادي : روي الحديث من طريق آخر، وعليه يكون متصلاً.
وقد ذكر ابن حبان أن الجهالة تزول إذا روى عنه راوٍ واحد، كما يرى ابن عبد البر أنه لا داعي للتنصيص على عدالة الإنسان، فمن اشتهر بطلب العلم ولم يعلم فيه جرح فهو عدل، فالحديث ضعيف من ناحية الإسناد على مذهب الجمهور، وهذا ما تقتضيه قواعد علم الحديث والمصطلح، فالمعتمد في الحارث بن عمرو أنه مجهول، لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، والجهالة لا تزول إلا براويين.
قال البغوي : الاجتهاد هو رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس، فعلى الحاكم أن يحكم بما في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن لم تكن الحادثة التي يحتاج إلى الحكم فيها في كتاب الله، فيحكم بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها في السنة، فحينئذ يجتهد والدليل عليه: ما روي عن معاذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له لما أراد أن يبعثه إلى اليمن: ( كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ ).. الحديث، وما زاد عليه ولا كلمة.
وقوله بعد ذلك: ( أجتهد رأيي ) لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه، أو يخطر بباله على غير أصل من كتاب أو سنة، بل أراد به رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس. أي: أنني أقيس الفرع بالأصل إذا وافقه في العلة فألحقه بحكم الأصل الذي ورد به النص، وهذا هو القياس الشرعي.
والمعلق الشيخ شعيب مال إلى تصحيحه، والشيخ عبد القادر مال إلى تصحيحه في التعليق على جامع الأصول، حيث يقول: أخرجه أحمد وأبو داود وكذا، ثم قال: وقد ضعف بجهالة الحارث بن عمرو ، وبجهالة شيوخه الذين روى عنهم، وهم أصحاب معاذ ، لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين، منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية ، وقالوا: إن الحارث بن عمرو ليس بمجهول عين.
وانظر هنا لما نقل كلام الحافظ في التلخيص، فرأيه أن الحافظ يضعف الحديث، وهذا الذي جزم به في نهاية تعليقه، يقول هنا: جملة القول أن الحديث لا يصح إسناده لإرساله وجهالة راويه الحارث بن عمرو ، وبعد ذلك لجهالة أصحاب معاذ ، والذين ضعفوه عدة منهم ابن حجر وهو العاشر، هذا كلامه، لكن الحافظ ختم كلامه في التلخيص فقال: وقد استند أبو العباس بن القاص في صحته إلى تلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وقال: وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: ( لا وصية لوارث ) مع كون راويه إسماعيل بن عياش ..
و أبو العباس بن القاص من أئمة الحديث الكبار، توفي سنة: (335)، وهذا النقل حذفه الشيخ الألباني .
إذاً: الحافظ ابن حجر نقل من ضعف الحديث ونقل من صححه، وختم كلامه على هذا الحديث بكلام أبي العباس بن القاص ، وأن الحديث تلقي بالقبول من أئمة الفقه والاجتهاد، وعليه فهو صحيح ثابت.
فإن يقل: يحتج بالضعيفِ فقل: إذا كان من الموصوف
رواته بسوء حفظ يجبرُ بكونه من غير وجه يذكرُ
وإن يكن لكذب أو شذا.. يعني: إذا كان الضعف بسبب الكذب.
وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعف فلم يجبر ذا
ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا
يعني: الحديث المرسل الذي ضعفه جمهور المحدثين، يقول: أي: المرسل ألا ترى أنه إذا جاء من طريق مسند، أو من طريق مرسل آخر يحتج به.
ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا..
أي: أرسلوه من طريق آخر، وروي مرسلاً من طريق آخر، والمرسل: هو ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا
وفي بحث المرسل يقول الشيخ الإمام العراقي الأثري يستطيل في المرسل:
واحتج مالك كذا النعمان وتابعوهما به ودانوا
يعني: الحديث المرسل يحتج به الإمام مالك وأبو حنيفة ، وهو المعتمد عند الحنابلة؛ أن الحديث المرسل حجة؛ لأنه قيل في عصر لم يفشُ فيه الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم التابعي عندما يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يستحل أن يرفع هذا إلى النبي عليه الصلاة والسلام إذا حدثه به ثقة عن صحابي، فإذاً: عندهم حجج، هذا قول الأئمة الثلاثة: الحديث المرسل حجة عند أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد .
واحتج مالك كذا النعمان وتابعوهما به ودانوا
ورده جماهر النقاد للجهل بالساقط في الإسناد
ومسلم صدر الكتاب أصله وصاحب التمهيد -يعني: ابن عبد البر - عنهم نقله
يعني: أن الحديث المرسل عند المحدثين مردود.
لكن إذا صح لنا مخرجه بمسند أو مرسل يخرجه
من ليس يروي عن رجال الأول نقبله قلت: الشيخ لم يفصل
يعني: ابن الصلاح .
والشافعي بالكبار قيدا ومن روى عن الثقات أبدا
ومن إذا شارك أهل الحفظ وافقهم إلا بنقص لفظ
فإن يقل: فالمسند المعتمد فقل: دليلان به يعتضد
الشاهد: الإمام الشافعي من الأئمة الأربعة قال: الحديث المرسل ليس بحجة، لكنه قبله بشرطين: شرط في الراوي وشرط في الرواية. أما في الراوي: إذا كان يتصف بثلاثة أمور: من كبار التابعين، وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لا يخالفهم. ويروي عن الثقات، فلا يروي عن الضعفاء، هذه ثلاث صفات في الراوي: إذا شاركه أهل الحفظ لا يخالفهم في الرواية -ليس في هذا الحديث بل في غيره- يروي عن الثقات، ويكون من كبار التابعين، هذه ثلاثة شروط لا بد منها في الراوي المرسل.
وواحد من أربعة في الرواية: وهو: إذا وردت الرواية مسندة من طريق آخر، أو مرسلة أو أفتى بها صحابي فقط أو أفتى بها أكثر أهل العلم المتأخرين بعد الصحابة، فالمرسل يصبح حجة بهذه الأحوال.
فإذاً: ينضم قوله إلى قول الجمهور: أبي حنيفة ومالك وأحمد بأن المرسل حجة، لكنهم قبلوه من غير شرط، وهذا قبله بشروط، رحمهم الله ورضي عنهم.
فحديث معاذ على التسليم بأن فيه الحارث بن عمرو ، وهو مجهول وهذا قول الجمهور، وقلت: هو المقرر حسب جمهور المحدثين وقواعدهم التي سار عليها الكم، لكن ضعف يسير زال بوجود ما يشهد له من أقوال ثلاثة من كبار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثم تلقاه أئمة الفقه والاجتهاد بالقبول كما نص على ذلك أبو العباس بن القاص من علماء القرن الرابع للهجرة، والخطيب البغدادي من علماء القرن الخامس للهجرة، ولذلك فالعبارة التي ذكرها الشيخ الألباني عليه رحمة الله حياً وميتاً في السلسلة عند هذا الحديث وهي قوله: (ولا يهولنك اشتهار هذا الحديث عند علماء الأصول واحتجاجهم به في إثبات القياس، فإن أكثرهم لا معرفة عنده بالحديث ورجاله، ولكن ينزل بينهم بين صحيحه وسقيمه، شأنهم في ذلك شأن الفقهاء بالفروع إلا قليلاً منهم). لا داعي لها؛ لأن هذا الحديث قد صححه أئمة جهابذة محدثون كبار: الخطيب البغدادي ، أبو العباس بن القاص، الإمام ابن القيم، الإمام ابن تيمية، الإمام ابن كثير ، الإمام أبو بكر بن العربي محدث شارح سنن الترمذي ، فقوله: إن هذا الحديث اعتمده علماء الأصول فقط، ولا يؤخذ بكلامهم في الحديث وحالهم كحال الفقهاء في الفروع هذا كلام غير مسلم، نعم الحديث حوله كلام وزال عنه الضعف بفضل ربنا الرحمن.
وأتبع ذلك قوله: وإن كان معناه صحيحاً.
يقول: الحديث فيه ضعف من حيث الإسناد، لكن معناه صحيح، ولم يعلق على هذه الجملة.
وأقول: هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس بصحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معها منزلة الاجتهاد منهما. فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب كما دل عليه هذا الحديث.
وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معاً وعدم التفريق؛ لأن الأدلة وإن كانت جميعاً صحيحة معتبرة فهي متفاوتة من حيث القوة والترتيب، فتقدم معنا: أولها: الإجماع، ثانيها: نص المتواتر أي: كتاب وسنة، ثالثها: سنة أحادية، رابعها: قياس يلحق أمر حادث لأمر سبق لوجوده في العلة الشرعية التي دل عليها بقرآن أو سنة، وهذا مما لا خلاف فيه عند أئمتنا في مراتب الأدلة.
وأما معنى حديث معاذ فلا أعلم حوله خلافاً، لو لم يثبت هذا اللفظ فمعناه معتبر عند أئمتنا قاطبة، وذكرت كلام أبي بكر وعمر وكلام ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فيما يقرر هذا: نقضي بما في كتاب، ثم بما في سنة رسول الله، ثم بما قضى به من قبلنا من الصالحين، ثم نجتهد بعد ذلك ونحترز ونتقي الله في اجتهادنا.
وهذا في الحقيقة أمر مبارك عظيم. والصلاة على نبينا الكريم من أفضل ما نتقرب به إلى إلهنا العظيم، وقد أمرنا الله بذلك في كلامه الكريم، فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فاللهم صل وسلم وبارك عليه بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، صلوا عليه وسلموا تسليماً.
إذاً: أمرنا بأن نكثر من الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
هنا يوجد تعليقة دقيقة ولطيفة عند هذه الآية أذكرها، ثم أذكر ما يحصله طالب الحديث نحو هذه الفائدة من خيرات حسان، هذا اللطيفة والتعليقة أشار إليها الحافظ في الفتح عند كتاب التفسير في تفسير سورة الأحزاب من صحيح البخاري عند هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]، أخبرنا الله أنه هو وملائكته الكرام يصلون على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، لمَ لم يسلم ربنا على نبينا عليه الصلاة والسلام؟ فلم يقل: إن الله وملائكته يصلون ويسلمون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً؟ عندما أضاف الصلاة والسلام إليه وإلى ملائكته، وأمرنا نحن أن نصلي ونسلم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ولم أجد في كتاب ما يزيل هذا الإشكال، إلا أن الحافظ ابن حجر ، ذكر جواباً يطمئن إليه الإنسان، ولعله إن شاء الله يكون مقبولاً مرضياً، وخلاصة جواب الحافظ عليه رحمة الله: أن لفظ السلام يحتمل أمرين: يحتمل التحية والإكرام، ويحتمل المتابعة والانقياد.
والمعنى الثاني: لا يصح أن يكون في حق الله وملائكته نحو نبينا عليه الصلاة والسلام، يتابعونه وينقادون له.
يعني: أنت عندما تسلم السلام يحتمل سلامك أمرين: تحية وإكرام، ويحتمل الاستسلام والانقياد والمتابعة فلا يصح الانقياد والمتابعة من الله وملائكته لنبينا عليه الصلاة والسلام، إنما الذي يتأتى منهم نحوه التحية التي بمعنى الإكرام والتقدير والتبجيل على نبينا صلوات الله وسلامه، ولا يصبح بمعنى الانقياد والمتابعة، ولذلك قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] أي: يقدرونه، ويحترمونه، ويكرمونه، ويثنون عليه، وصلاة الله على نبينه عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري عن أبي العالية : ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : والصلاة من الله على نبيه التبريك، أي: أن يبرك عليه وأن يظهر بركته وخيره وفضله، وأن ينوه بشأنه في الملأ الأعلى وأن يتحدث بفضله.
إذاً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، أمر بأن ندعو له بأن يصلي الله عليه، وبعد ذلك نحن يصح أن نسلم عليه بمعنى السلام الذي هو تحية وإكرام، وبمعنى انقياد ومتابعة، ولا يصح إيماننا بدون انقياد ومتابعة لنبينا عليه الصلاة والسلام: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].
وأما ما يقوله بعض الناس في هذه الأيام بأن في الأربعين النووية ثلاثة أحاديث ضعيفة، فجوابه أن يقال: والله ما أحد ضعيف إلا أنت، ومن علمك هذا الكلام.
جاء بعض العلماء في هذا الزمان يتدارسون على شيخ الإسلام الإمام النووي الذي توفي سنة: (676هـ)، ويقول: بإسناد صحيح، ومن بعد ذلك يقول هؤلاء: هذا ضعيف، وقد قال لي مرة بعض الناس: يا شيخ! في الأربعين النووية ثلاثة أحاديث ضعيفة، فقلت: وبعد سنة ستقولون: ستة.
هذا الحديث قال به نعيم بن حماد ، ونعيم بن حماد من شيوخ البخاري ويقال لهؤلاء: ما الفارق بين هذا الحديث وبين قول الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]؟ يخرجان من مشكاة واحدة، لكن هناك وحي متلو وهنا وحي غير متلو، وهب أن فيه شيء من الضعيف، هب على التسليم لك، فله ما يشهد له من النصوص في القرآن والسنة ما لا حصر له، فاتق الله في نفسك، إذا قال شيخ الإسلام الإمام النووي : روي هذا بإسناد صحيح، فليسكت من بعده؟ يعني: من يقول بعد ذلك: هذا الحديث إسناده ضعيف، ويحتج به أو لا يحتج.
وأما من ناحية من يعترض على الحديث ممن تقدم وممن هو حاضر في هذا العصر، وما هو المعتمد في هذا الحديث إن شاء الله.
فهذا كلام الإمام النووي عليه رحمة الله في كتابه الأربعين النووية، وأقول: الأربعين النووية يحفظها الطلبة ليس في الابتدائي، كانت تحفظ للطلبة الذين هم دون المرحلة الابتدائية، ويقرءون هذا الحديث: رويناه بإسناد صحيح، فيأتي يقول: أنى له الصحة وفيه نعيم بن حماد ؟!
إذاً: يصح من الله التحية والإكرام لنبيه عليه الصلاة والسلام ولا يصح منه الانقياد والاستسلام والمتابعة له عليه الصلاة والسلام، ولذلك أضاف الصلاة إلى نفسه وإلى ملائكته، وأمرنا بالنسبة لنا أن نصلي وأن نسلم عليه، فإن قيل: السلام يحتمل تحية وإكرام ويحتمل المتابعة والانقياد، نقول: كل منهما مراد منا نحو نبينا عليه الصلاة والسلام.
ما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، والحديث في السنن الأربعة، وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً )، فصلاة الله على عباده: رحمته لهم، وصلاته على نبيه: الثناء عليه في الملأ الأعلى.
إذاً: إذا صليت على النبي عليه الصلاة والسلام صلاة واحدة تعطى عشر رحمات من واسع الرحمة والمغفرة من رب الأرض والسماوات. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، يصلي عليكم: يرحمكم سبحانه وتعالى ويرأف بكم، فهو الرءوف الرحيم، وهذا أقل ما يحصل لمن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: عشر رحمات ويحصل عشر صلوات من رب الأرض والسماوات، هذا أقل شيء، وإذا حصل في القلب تعظيمٌ كثير للنبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وحب له، وتعلق به فالحسنات تتضاعف، لكن أقل الجزاء: الحسنة بعشر أمثالها، ثم تتضاعف الحسنة على حسب ما يكون في قلبك من تعظيم لله وإجلال لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذلك ثبت في مسند الإمام أحمد -بسند صحيح كالشمس- من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر )، يعني: إن شئت أن تستقل وإن شئت أن تستكثر، فإن استكثرت فلنفسك، وإن استقللت فلنفسك، فإذا صلى الإنسان على النبي عليه الصلاة والسلام يصلي الله عليه وملائكته سبعين صلاة، فلو قرأ طالب الحديث في اليوم مائة حديث، وفي النهاية ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث مرات، كم يحصل له إذاً من الخيرات والبركات عندما يتدارسون حديث خير البريات عليه الصلاة والسلام؟
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ، والحديث في صحيح ابن حبان قال الإمام ابن كثير في تفسيره: وإسناده جيد، والحديث إسناده صحيح كما قال الإمام الهيثمي في المجمع أيضاً، من رواية أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال: ( أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يرى في وجهه بِشر عليه صلوات الله وسلامه، وهو منشرح النفس ) عليه الصلاة والسلام، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يرى في وجهه البشر، أي: يتلألأ نوراً وابتساماً عليه صلوات الله وسلامه، وكان إذا سر يستنير وجهه كأنه فلقة قمر عليه الصلاة والسلام، وهو أبهى من القمر وأضوأ من الشمس عليه صلوات الله وسلامه، أصبح يوماً طيب النفس يرى في وجهه البشر، فقال له الصحابة الكرام: (يا رسول الله! أصبحت طيب النفس، يرى في وجهك البشر أي: السرور، ويطفح ويشع، فقال عليه الصلاة والسلام: أجل)، يعني: أصبحت كذلك، نفسي طيبة منشرحة، ووجهي فيه هذا السرور وهذا الفرح وهذا الخير والبركة، ( أتاني جبريل -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- من ربي فأخبرني أنه لا يصلي علي أحد صلاة إلا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها )، والحديث روي بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً، ثبت ذلك في المستدرك، صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، وهو في صحيح ابن حبان أيضاً، ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي ، ورواه البخاري في الأدب المفرد، لكن دون البشارة الرابعة (كتب له عشر حسنات)، في هذه الرواية: ( حط عنه عشر سيئات )، رفع له عشر درجات، والبشارة الرابعة في الرواية المتقدمة: ( ورد عليه مثلها )، ينفرد في رواية أنس ، وكل هذا لا تعارض بينه، يعني: عشر حسنات يصلي الله عليه عشراً، يصلي سبعين، يكتب له عشر حسنات، يمحو عشر سيئات، يرفع عشر درجات، يرد عليه مثلها لا تعارض، فإن أقل ما يحصل أنك تحصل عشر رحمات هذا أقلها، ثم بعد ذلك إذا حصل في القلب تعلق بهذا الحبيب عليه صلوات الله وسلامه تعلق كثير، ستضاعف لك الأجور، والله يقدر لك ما في نيتك، فيصلي عليك وملائكته سبعين صلاة أو يكتب لك عشر حسنات، أو يرفع لك عشر درجات، أو يمحو عنك عشر سيئات، أو يرد عليك مثلها سبحانه وتعالى، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
إذاً: لا يوجد عصابة وفرقة وجماعة وأمة يكثرون من الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام كما يحصل من المحدثين.
وقال الخطيب البغدادي : قال لنا أبو نعيم -و أبو نعيم شيخ الخطيب البغدادي عليهم جميعاً رحمة الله- عند رواية هذا الحديث: في هذا الحديث منقبة شريفة يختص بها أهل الآثار؛ لأنه لا يعلم لعصابة من أهل الأرض من الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام كما يعلم لأهل الآثار والمحدثين، فهذه منقبة يختص بها أهل الآثار: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة).
هذه الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام يحصل الإنسان بسببها كما قلت الخيرات الحسان العظام.
وكنت ذكرت لكم أنه بعد هذا الكتاب هناك كتاب آخر، وهو للإمام السخاوي : القول البديع في الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع عليه الصلاة والسلام، والإمام السخاوي هو صاحب فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، وصاحب كتاب المقاصد الحسنة والضوء اللامع وغير ذلك، وغالب ظني أنني وهمت في الموعظة السابقة أو التي قبلها فقلت: في سنة: (802) في غالب ظني، وهو قد توفي سنة: (902هـ)، وقلت: بينه وبين الإمام ابن القيم عليه رحمة الله قرابة خمسين سنة فضيفوا إليها مائة وخمسين سنة، رحمهم الله جميعاً والمتقدم الإمام ابن القيم توفي سنة: (751هـ)، والإمام السخاوي : (902هـ)، يعني: بينهم مائة وواحد وخمسين، عليهم جميعاً رحمة الله.
فكتاب السخاوي هو: القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، على نبينا صلوات الله وسلامه، فاحرصوا على شراء هذين الكتابين مع كتاب الأذكار حلية الأبرار وشعار الأخيار في الأذكار المستحبة آناء الليل وأطراف النهار، وكان أئمتنا الكرام يقولون: بع الدار واشتر الأذكار، وسفهاء هذه الأمة في هذه الأيام حرقوا مكتبة لأنها تسمى باسم الإمام النووي. وقد قال لي مرة بعض السفهاء في مدينة خير الأنبياء عليه الصلاة والسلام: النووي متمذهب لا يؤخذ بكلامه، نعوذ بالله من تضليل آخر الأمة لأولها.
يقول أئمتنا: كان في الإمام النووي عليه رحمة الله ثلاث خصال لو وجدت واحدة في عالم لشدت الرحال إليه:
أولها: العلم الغزير، التحقيق الوفير، العلم بأدلته، وكتابه المجموع لو أكمله في الفقه لما احتاج طالب علم إلى كتاب في الفقه غيره؛ لما يبسط من الأقوال والأدلة والتحقيق والتنقيح علم غزير.
ثانيها: خشية من الله الجليل، وزهد في هذه الحياة الدنيا؛ عبادة، تقى، خشية، زهد، ورع.
وأمر ثالث: دعوة إلى الله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
هذه الأمور الثلاثة اجتمعت فيه: يسطع بالحق ولا يبالي بأحد، عابد قانت لله، عالم محقق، فلو وجدت من هذه الخصال واحدة في واحد لشدت الرحال إليه، ولوجب الاقتداء به في هذه الخصلة. ثم بعد ذلك تحرق مكتبة تسمى باسمه! بحجة أن هذه دعوة للمذهبية، يعني: المذهب الشافعي ، أوليست دعوة إلى شريعة الله الحقة العلية؟ لأن محمد بن إدريس الشافعي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.
المهم: نعود إلى درسنا فنقول: الذي يكثر من الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام يحصل له الخيرات الحسان، وهذه كلها المواطن التي تشرع فيها الصلاة وجوباً أو ندباً انظروها في كتاب جلاء الأفهام، وفي كتاب القول البديع، وفي كتاب حلية الأبرار وشعار الأخيار في الأذكار المستحبة في آناء الليل وأطراف النهار لشيخ الإسلام الإمام النووي .
أقول لكم: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، كم من كتاب ألف في زمن الإمام النووي إلى الآن، أين هو؟ في خبر كان، وكتبه مع القرآن الكريم، في الفقه والحديث، مثل كتاب رياض الصالحين، حيث لا أعلم كتاباً على وجه الأرض طبع أكثر مما طبع هذا الكتاب إلا القرآن الكريم، يليه الأذكار.
ولما ألف الإمام مالك موطأه، قيل له: قد ألف في الموطآت فماذا ينفع موطؤك؟ قال: لتعلمن من أريد به وجه الله، أين الموطئات التي ألفت في زمنه؟ هذه عناية ربانية.
توفي الإمام النووي في ستمائة وستة وسبعين، يعني: أكثر من سبعة قرون، وكتبه بيننا كأنه حاضر.
نقول: المواطن التي تشرع فيها الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وجوباً أو ندباً انظروها في هذه الكتب، وسأقتصر على ثلاثة مواطن من باب العناية بها، فهي ضرورية:
ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله وثقوا كما قال الإمام الهيثمي في المجمع: وسند الحديث صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى علي حين يصبح وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة ).
فينبغي أن نصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه عشر مرات في أول النهار وفي آخره، وليتنا نفعل هذا مع أهلنا جهراً، وحذار حذار، أن يقول بعض الناس: هذا بدعة، وأنت تقول بمشروعية الذكر الجهري، فأي بدعة في ذلك؟ أن تقول لأولادك الصغار ولزوجتك، لأسرتك: تعالوا يا أولادي! تعالوا يا أهلي! تعالوا يا أسرتي! نصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، وتصل على النبي عليه الصلاة والسلام معهم عشر مرات، فيصبح هذا ديدن لك ولهم بعد ذلك وتعلم هذه السنة الطيبة، هكذا إذا أصبحوا وإذا أمسوا فإن الله قد هدانا به: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]. وإذا كان عباد الملوك والأمراء يلهجون بأسمائهم صباح مساء، فليكن من باب أولى وأحرى أن نلهج باسم من هدانا الله به عليه الصلاة والسلام، وأن نصلي ونسلم عليه صلوات الله وسلامه عليه صباحاً ومساءً.
فهذا الأمر الأول والموطن الأول للصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام التي أوصلها الإمام ابن القيم إلى اثنتين وأربعين موضعاً تنظرونها في جلاء الأفهام.
إذاً: ينبغي أن نستحضره عليه صلوات الله وسلامه في جميع أحوالنا وأوقاتنا، أي مجلس تجلسه صل فيه على النبي عليه الصلاة والسلام. ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية، ورواه الإمام ابن السني في كتاب: عمل اليوم والليلة، ورواه الشيخ إسماعيل الجهضمي أحد القضاة المحدثين في جزء ألفه في فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من علماء القرن الثالث للهجرة، ويسوق الحديث بإسناده إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة ، ورواه الترمذي من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم عليه الصلاة والسلام إلا كان عليهم ترة، وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم )، ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه خالقهم والمنعم عليهم وربهم وإلههم سبحانه وتعالى ما ذكروا الله، ولم يصلوا على نبيه عليه الصلاة والسلام (إلا كان عليهم ترة) يعني: حسرة، بمعنى النقص، حسرة ونقصاً، إلا كان عليهم ترة أي: نقصاً فيهم، وحسرة عليهم، (وأمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم)، ما ذكروه ولا شكروه، ولا ردوا المعروف إلى صاحبه، ولا قدروه، بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، لا ذكر وشكر لله، ولا تقدير وصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً: هذا منقصة، وأنت الآن فعلت ما تتحسر عليه عندما ينشر لك الديوان وينصب لك الميزان، لكن أمرك إلى الرحمن إن شاء غفر لك، وإن شاء عذبك، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في كل مجلس يجلسه، والعذاب لا يكون إلا على ترك واجب، فأي مجلس نجلسه لا نذكر الله فيه ولا نصلي على النبي عليه الصلاة والسلام فهذا علينا ترة يعني: نقصاً وتقصيراً وحسرة، وأمرنا إلى الله إن شاء عذب، وإن شاء غفر.
إذاً: عملنا ذنباً وتعلقت بنا خطيئة إذا تركنا الصلاة على النبي. والحديث رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه ورواه الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه بلفظ: ( إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة للثواب )، يعني: ما من قوم يجلسون مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا فيه على نبيهم عليه الصلاة والسلام إلا كان عليهم حسرة، وإن دخلوا الجنة؛ بما فاتهم من الثواب، يعني: يتحسرون مع دخلوهم الجنة للثواب الذي فوتوه على أنفسهم وضيعوه في ذلك المجلس الذي ما ذكروا الله فيه وما صلوا على نبيهم عليه الصلاة والسلام فيه. ولذلك كان الإمام الشعبي عليه رحمة الله يقول: لو كنت قاتل الحسين ، وأدخلني الجنة، لاستحييت أن أنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام حياءً منه، يعني: لو قدر أنني قتلته وغفر لي، فلن أستطيع أن أنظر إلى وجه جده نبينا خير خلق الله عليه الصلاة والسلام في الجنة؛ لما سيبقى في قلبي من الحسرة فسأتوارى عن النبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان عندي ما يؤهلني للنظر إليه، فكيف سأنظر إليه وقد قتلت بضعته ابن بنته؟
وهنا إذا جلست مجلساً ما ذكرت الله فيه ولا صليت على النبي عليه الصلاة والسلام فهذا المجلس عليك حسرة وإن غفر لك، ودخلت الجنة؛ ولذلك سمى الله يوم القيامة بيوم الحسرة، فقال: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39] يقول أئمتنا: لا يحضر الموقف أحد إلا ويتحسر، سواء كان مجتهداً أو مقصراً، تقياً أو شقياً، أما التقي فيتحسر لمَ لم يزدد؟ وأما الشقي لمَ لم يقلع؟ فكل واحد يتحسر في ذلك الموقف، فكيف بمن يفعل الخطايا والرزايا! ويقصر في حق ربه وفي حق نبيه عليه الصلاة والسلام؟
والحديث صححه عدد من الأئمة. والإمام النووي في الأذكار يقول: روينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
وقد قال لي بعض الناس في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، عندما ذكرت هذا الحديث قال: من صححه؟ قلت: الإمام النووي شيخ الإسلام، قال: متمذهب لا يؤخذ بكلامه، قلت: دعني منه، الإمام ابن خزيمة وابن حبان ، والحاكم والترمذي ، أما تتقي الله في كلامك!
فيوم الجمعة ينبغي أن نكثر فيه من الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام. وقد روى الإمام ابن ماجه عن أبي الدرداء نحو حديث أوس بن أوس هذا رضي الله عنهم أجمعين.
والحديث رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن أبي ذر بلفظ: ( إن أبخل الناس من ذكرتُ عنده فلم يصل علي )، وهو يدل صراحة على وجوب الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند ذكر اسمه، ووجه ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن من لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام عند ذكر اسمه فهو بخيل، والبخل في الشرع: منع الحق الواجب، ولا يطلق البخل إلا على من منع حقاً واجباً، ولذلك من أدى الحق الواجب فليس ببخيل، مع أنه ليس بكريم أيضاً؛ لأن بين البخل والكرم واسطة، وهي: أداء الحقوق؛ فمن أدى الحق الواجب فهذا ليس ببخيل، أما الكرم فلا يتصف به إلا إذا قام بشيء مندوب إليه مرغب فيه، وهذا بخلاف العدل والظلم، فمن ليس بظالم فهو عادل قطعاً وجزماً؛ لأن العدل فريضة، أما الكرم فليس بفريضة، بل هو حسن خلق، ومنقبة ومكرمة وفضل، فأداء الحق يخرجك من الظلم، والزيادة على الحق ترفعك إلى الكرم.
إذاً: أقل ما يجب عليك أن تصلي على النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر، وإذا لم تفعل فأنت بخيل، ثم يندب لك أن تتعلق به وأن تكثر من الصلاة والسلام عليه -عليه الصلاة والسلام- على سبيل القربة والندب، بقلب محب متعلق، أما إذا لم تفعل هذا ففيك جفاء وبخل وتقصير نحو خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير والحديث في درجة الحسن، من رواية الحسين بن علي أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي فقد خطئ طريق الجنة )، من ذكرت عنده عليه صلوات الله وسلامه، وفداه أنفسنا وأرواحنا وآباؤنا وأمهاتنا فخطئ، أي: أخطأ الصلاة عليه، وما سطرت منه الصلاة فقد خطئ طريق الجنة، وهو دليل على وجوب الصلاة عليه أيضاً.
وفي سنن ابن ماجه من رواية ابن عباس ، والحديث فيه جبارة بن المغلس توفي سنة: (241هـ)، وفيه ضعف كما قال الحافظ في التقريب، لكن للحديث شواهد، وهو يوجد في كتاب فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في كتاب الشيخ إسماعيل الجهضمي من طريق الكمي الباقر ، مرسلاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قول الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وهذا الحديث أي: الذي في سنن ابن ماجه وفيه جبارة بن المغلس أحد رواته، يتقوى بهذا المرسل، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من نسي الصلاة علي فقد خطئ طريق الجنة )، يعني: أخطأها ولم يصبها.
إذاً: إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن نصلي ونسلم عليه صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الإمام الصرصري ، وهو يحيى بن يوسف الصرصري ، وهو الذي نظم عشرين مجلداً في مدح النبي عليه الصلاة والسلام. ومدحه من المستحبات ومن القربات التي يتقرب بها الخلق إلى رب الأرض والسماوات، فامدح النبي عليه الصلاة والسلام، ودع الغلو والإطراء وقل ما شئت:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمُ واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فهو خير خلق الله وهو أفضل خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، فما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من نبينا عليه الصلاة والسلام.
وإياك والغلو أن ترفعه إلى درجة الألوهية، ثم قل ما شئت في مدحه عليه صلوات الله وسلامه في خلقه وحسن معاملته وشرف نسبه، وعلو درجته عند ربه، والمنزلة التي ينالها عند الله، قل ما شئت في هذا.
والإمام الصرصري غالب ظني توفي سنة ستمائة وكسور، ستمائة وستة، يقول:
من لم يصل عليه إذ ذكر اسمه فهو البخيل وزده وصف الزبال
وإذا الفتى في العمر صلى مرة في سائر الأزمان والأوقات
صلى عليه الله عشراً فليزد عبد ولا يجنح إلى نقصانِ
على نبينا صلوات الله وسلامه.
وهذه الأحاديث دليل كما قلت على وجوب الصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام إذا ذكر. وإلى هذا ذهب الإمام الطحاوي والإمام الحلمي ، وهو فيما يظهر أرجح الأقوال، وقد حكى الإمام الترمذي في سننه عن بعض أهل العلم عند الحديث المتقدم: ( البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي )، أنه إذا صلى عليه في المجلس مرة واحدة أجزأه؛ لحديث: ( ما من قوم يجلسون مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا فيه على نبيهم عليه الصلاة والسلام إلا كان عليهم حسرة )، فيقول: إذا صدرت من الإنسان الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام في المجلس مرة واحدة أجزأه ولا يجب عليه أن يصلي عليه عليه صلوات الله وسلامه كلما ذكر.
والذي يظهر أن القول الأول أسعد بدلالة الأحاديث على أنه ينبغي أن يصلى على النبي عليه الصلاة والسلام كلما ذكر؛ ليخرج الإنسان عن وصف البخل.
هذان القولان معتبران، وهناك قول في منتهى الشذوذ والبعد، حكاه القاضي عياض ، ونقله الإمام ابن كثير في تفسيره عند الآية المتقدمة: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]: هو أنه يجب على الإنسان أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام مرة واحدة في عمره، ولا يجب عليه بعد ذلك!
وهذا القول في منتهى البعد والبطلان، نسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله وهو أحد القولين عند الحنابلة، وقد رد هذا القول بأن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام واجبة في القعود الأخير في التشهد الأخير، إذا لم يفعلها المصلي لا تصح صلاته، فكيف يقال إذاً: إنها تجب في العمر مرة واحدة؟
ثم إن هذه الصلاة التي نصليها على نبينا عليه الصلاة والسلام تبلغ النبي عليه الصلاة والسلام، وعندما تبلغه يرد عليها، لكن حولها كلام في كتاب سير أعلام النبلاء في بيان ما يتعلق بهذه القضية عند قصة ذكرها فليراجع، ومفاده أن الصلاة التي نصليها على نبينا عليه الصلاة والسلام، والسلام الذي نسلم به على نبينا عليه الصلاة والسلام يبلغ ذلك السلام وتلك الصلاة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويسمعها في قبره الشريف عليه الصلاة والسلام، ويرد علينا نبينا صلى الله عليه وسلم، مع صلاة الله لنا، وصلاة الملائكة لنا.
نسأل الله إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام، وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان، ونسأله أن يرزقنا حبه وحب نبيه عليه الصلاة والسلام.
وأن يجعل حبه وحب نبيه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً.
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا.
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر