يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
التعارض لغة: التقابل والتمانع.
واصطلاحاً: تقابل الدليلين بحيث يخالف حكم أحدهما حكم الآخر.
مثاله: لا تشرب واقفاً؛ فإن الشرب واقفاً حرام، يعارضه دليل: شرب النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً، أو نقول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يشرب قائماً فلم يزجره، فأصبح حكم الأول يخالف حكم الثاني، فنقول: هذا ظاهره التعارض.
لكن بالنسبة لأدلة الشرع لا تعارض فيها على الحقيقة؛ لأن كل هذه الأدلة خرجت من مشكاة واحدةً، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] والوحي نزل من قبل الله جل وعلا، وكلام الله لا تعارض فيه، ولذلك قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، هذا ظاهر لكل قارئ بأن غير كلام الله لا بد وأن يكون فيه تعارض.
فهل يؤخذ مفهوم المخالفة من قوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، أي: لو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافاً قليلاً؟
الجواب: مفهوم المخالفة هنا مطروح، لأنه بيان للواقع، والواقع: أن أي كلام لأي واقع سنجد فيه اختلافاً كثيراً، والاختلاف في كلام الله لا يكون بحال من الأحوال، فالكل خارج من مشكاة واحدة، فلا تعارض في الأدلة.
والتعارض سببه اختلاف الأئمة والمجتهدين في النظر إلى الأدلة، فتظهر الأدلة أمامه متعارضة، ولذلك كان الشافعي يقول: لا تعارض بين أي دليلين، وائتوني بأي دليلين وسأجمع لكم بينهما.
المقصود: أن الأدلة الشرعية لا اختلاف فيها في الأصل وفي الحقيقة، أما التعارض فهو في نظر المجتهد، فلذلك قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأدلة ظاهرها- لا يقول متعارضة- التعارض. أدباً مع الله جل وعلا.
مثال ذلك: ورد في الأحاديث عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط) يعني: لا يجوز أن يتبول المرء ولا أن يتغوط وهو مستقبل القبلة أو مستدبرها، قال أبو أيوب الأنصاري : (فذهبنا إلى الشام فوجدنا الكنف -المراحيض- مستقبله بين بيت المقدس مستديرة الكعبة، قال: فكنا ننحرف ونستغفر الله)، أي: نستدير حتى لا نستقبل ولا نستدبر.
فهذا الحديث يدل على تحريم استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، وهو على عمومه، سواء كان ذلك في الصحراء أو في غير الصحراء، في الكنف أو في غير الكنف.
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (صعدت على بيت
إذاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا ظاهره أنه يخالف قوله، فقد حرم على الناس أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها.
فللعلماء في الجمع بين هذين الحديثين اللذين ظاهرهما التعارض مسالك كثيرة منها:
الأول: ما تبناه الشوكاني في قواعده الأصولية: أنه إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله، ففعل النبي خاصه به، والقول على العموم.
أي: فعل النبي الذي رواه ابن عمر خاص بالنبي، وما من أحد من الأمة يستطيع أن يفعل ذلك، وقول النبي: (لا تستقبلوا ولا تستدبروا) عموم لكل الأمة.
إذاً: أبقى النهي على ما هو عليه، وجعل فعل النبي الذي رواه ابن عمر خاص به، وهذا الجمع ضعيف جداً.
الثاني: من العلماء من قال: نرجح الحاظر على المبيح، وحديث أبي أيوب حاظر وحديث ابن عمر مبيح، وهذا أيضاً ضعيف.
الثالث: ما ذهب إليه الشافعي : بالتفريق بين البنيان وغير البنيان، يعني: يفرق بين الكنف والفضاء.
فمثلاً: لو سافر رجل للحج ثم نزل يقضي حاجته، ممكن أن يستقبل أو يستدبر، هذا الحكم هنا، أما إذا كان في البنيان فإن الحكم يختلف، هذا قول الشافعية وبعض الحنابلة، وهم قول قوي جداً؛ وإن كان هناك قول بالتفريق بين البول والغائط، لكن نقول: الصحيح الراجح في ذلك: التفريق بين البنيان وغير البنيان، والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استقبل بيت المقدس واستدبر الكعبة، فإن قالوا: أليس يكون الفعل على الخصوص؟ قلنا: لا؛ لأن الأصل عدم ذلك إلا إذا وجدت قرينة، والأصل عدم الخصوص، ولا يوجد حكم يختص به إلا إذا دل الدليل.
مثال ذلك: المرأة الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ [الأحزاب:50] فبين بالنص التخصيص له، فإن كان الأصل التخصيص احتيج إلى دليل يبين التخصيص.
فالصحيح في ذلك: أن الأصل عدم الخصوص، فيكون فعل النبي يبين لنا جواز استقبال القبلة ببول وغائط، واستدبارها في الكنف والمراحيض التي في البنيان، أما في الصحراء فلا يجوز لقول أبي أيوب الأنصاري : (لا تستقبلوا ولا تستدبروا).
ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه.
وابن عمر كان في الصحراء وأناخ راحلته، وقضى حاجته مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة، ثم قال: ما تعلمون عن ذلك؟ ذاك في الصحراء، يعني: إن لم يكن هناك ساتر، وابن عمر هو الذي روى حديث حفصة، وهو عالم بحديث أبي أيوب الأنصاري ، فهذا دلالة على فهم ابن عمر الأثري: أن المسألة فيها تفريق بين البنيان وغيره.
مثال آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يشرب قائماً فقال له: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: يشرب معك من هو أشر منه، الشيطان).
ثم نهى بالتصريح عن الشرب قائماً، فقال: (من شرب قائماً فليستقيء). فهذه دلالة على التحريم، لكن جاء دليل آخر بأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من شن معلقة، ومن لا يأخذ بالجمع -مثل الشيخ الألباني - أخذ بقاعدة: الحاظر يقدم على المبيح، والقاعدة هذه وجه من وجوه الترجيح.
لكن نقول له: إن العلماء في الأدلة التي ظاهرها التعارض لهم خطوات ثلاث مرتبة، وهي أيضاً على التخيير:
الأولى: الجمع.
الثانية: النسخ.
الثالثة: الترجيح.
وهو قد أخذ بالتخيير فرجح دون أن يبدأ بالأولى والثانية.
ونقول له أيضاً: نحن معك في هذه القاعدة، ونتفق على أن الحاظر يقدم على المبيح، لكن عندنا أن الجمع أولى، وهو: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وسنقول: بكراهة الشرب قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل محرماً.
لكن قد يقول آخر: قد يفعل مكروهاً، لكن لو قلنا: هذا الفعل مكروه، من الذي يكرهه؟ الله جل وعلا هو الذي يكرهه، فكيف تفعل فعلاً يكرهه الله جل وعلا، وكيف فعل النبي شيئاً يكرهه الله؟ نقول: هو في حق النبي ليس مكروهاً، بل هو مأمور شرعاً أن يبين ذلك، بل هو في حقه بيان للتشريع، وفي حقه فضل ونعمة؛ لأنه يبين للناس حتى لو ضاق الأمر بأحدكم فشرب قائماً فلا يخشى على نفسه من الإثم، بل هو مكروه فقط، فينقل من التحريم إلى الكراهة، وهذا أيضاً ما قاله العلماء وفي الحديثين السابقين، قالوا: إن استقبال القبلة واستدبارها في الكنف على الكراهة، وهذا أيضاً من طرق الجمع، قالوا: في البنيان على الكراهة، وفي الصحراء على التحريم.
إذاً: أول الطرق الجمع بين الدليلين.
مثال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح نكاح المتعة، ثم حرمت في خيبر كما في حديث علي : (إن الله حرم نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية) ثم أباحها النبي صلى الله عليه وسلم مرةً ثانية، ثم حرمها إلى الأبد في يوم أوطاس، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حرم الله عليكم نكاح المتعة إلى يوم القيامة)، فهذا النسخ معروف فيه المتقدم والمتأخر، فلا نقول بالجمع هنا، فهو أباح ثم حرم، ثم أباح ثم حرم، فهل هناك جمع؟ لا، ولا يمكن أن نقول أن التحريم على الكراهة.
فمثلاً: لو قال رجل: الأصل في البيع الإباحة، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وأنت تقول له: بيع الغرر حرام، سيقول لك: لا، الأصل معي، ماذا تقول له؟ نقول: الأصل: الحل عندك، وأنا عندي ناقل من الأصل، وهو نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر، فالذي ينقلنا عن الأصل أقوى من الأصل المبيح.
وجاءنا حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري أنه قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، لماذا تفر من المجذوم؟ حتى لا يعديك.
فالظاهر هو التعارض، فكيف نجمع؟ قال العلماء: ننظر إلى الجمع وهو أول الدرجات، وقد اختلفت مشاربهم في الجمع أيضاً، فالجمهور يقولون: (لا عدوى) أي: لا عدوى تمرض بذاتها، وعضدوا هذا الجمع بأن الواقع يشهد بذلك، فهناك أمراض غير معدية.
والجمع الثاني: وهذا الذي أميل إليه قلباً، وهو ما جمعه الحافظ ابن حجر فقال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى)، على العموم، فلا توجد عدوى بحال من الأحوال، فهو نفي عام.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فمؤول: (لا عدوى) هذا محكم، والثاني محتمل، والمحكم يقدم على المحتمل، فقوله: (لا عدوى) يعني: لا عدوى تمرض بذاتها ولا هي سبب، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم) فمن باب سد الذرائع.
فالجمع بينهما نقول: فر من المجذوم سداً للذريعة؛ لأن الرجل الصحيح إذا جلس مع المريض وجاءه مرض الجذام، فسيقول: هذا المريض أعداني، وأيضاً: قد يقع في قلبه ظن الجاهلية بأن العدوى تمرض بذاتها، فهو ذريعة إلى أن يظن بالله ظن السوء، أو يظن في غير الله ما لا يكون إلا لله جل وعلا، فسد الذريعة وحسم المادة، وقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، وهذا القول قوي جداً لأدلة:
منها: ثبت بسند صحيح: أن سلمان الفارسي أخذ بيد مجذوم، فوضعها في الصحفة يأكل وقال: كل إيماناً بالله وتوكلاً عليه. فرأى أن الأمر بقدر الله، وأنه لا عدوى تمرض ولا شيء يمرض، وإذا قدر الله المرض فإنه سيكون وإلا فلن يكون.
ومنها: ما جاء في الآثار الصحيحة أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن العدوى، فبين له أنه لا يعدي شيء شيئاً، فقال: يا رسول الله! ما بال الجمل الأجرب يدخل في الجمال فيجربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أعدى الأول) إن قلت لكم بأنه أجرب الجمال، فمن الذي أعدى الأول؟ الله.
فسكت الرجل، وعلم أن المسألة قدر من الله جل وعلا، وهذا الجمع هو الصحيح بأن العدوى لا تمرض بذاتها، لكنها سبب لذريعة اعتقاد ظن الجاهلية، فنغلق هذا الباب، وأذكر أن شخصاً كان يصلي فيعطس، ومن بجانبه يعطس، بل في الحرم حدث ذلك، فقام ورجل آخر فقال: يا أخي! لم لا تصلي في بيتك بدل ما تعدينا وتمرضنا بهذه الطريقة وتضيع علينا صلاتنا؟ فالأمر هكذا سيكون ذريعة لكل إنسان ينظر إلى المريض نظرة ازدراء، أما إذا قلنا: بأنه لا عدوى عامة، قوّى الإنسان إيمانه وتوكله على الله جل وعلا.
مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)، يعني: رجل في نهار رمضان حجم له شخص آخر، فالحاجم والمحجوم له أفطرا، وهذا الحديث يقول به الحنابلة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية يعني: أيُّ حجامة في الصوم تفطر، وهذا قول قوي عند الحنابلة، والجمهور على خلاف ذلك، والصحيح هو ما عليه الجمهور؛ أن هذا الحديث منسوخ، لأنه متقدم، قال أنس : مر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر وعلى غيره وهو يحتجم، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم)، ثم قال: (ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة)، وهذا رواه الدارقطني.
وعن أبي سعيد الخدري أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للصائم والحجامة) فـ(رخص) معناه: أنه كان قبل ذلك مفطراً، ثم نسخ هذا الحكم، ففيه دلالة على النسخ بمعرفة المتأخر من المتقدم.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم جعفر قام فقبله.
فبعض العلماء لم يستطع أن يجمع فقال: بالترجيح، وقال: إن حديث أنس أقوى من حديث جعفر ، ووجه الدلالة:
أولاً: حديث أنس قول، وحديث جعفر فعل، والقول أقوى من الفعل.
ثانياً: حديث أنس حاظر، وحديث جعفر مبيح، ومن قواعد الترجيح: أن الحاظر يقدم على المبيح، فهذا المثال يذكره بعض العلماء على الترجيح.
لكن نحن نقول: هذا الترجيح ضعيف؛ لأن الجمع أولى منه، وهو: أن الأخ يقبل أخاه في حالة القدوم من السفر، وقد قال بعض العلماء: إذا قدم من سفر يقبله ويعانقه للشوق.
إذاً: الجمع أولى من الترجيح.
مثال لإمكانية الجمع: قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] هنا الله جل وعلا نفى عن النبي الهداية، وفي آية أخرى قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
الجمع: أن الهداية هدايتان: هداية عامة، وهداية خاصة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقره الله على الهداية العامة، وهي: هداية البيان والدلالة والإرشاد وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: بينا لهم، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].
وأما الهداية الخاصة: فهي لله، وهي هداية القلوب، وهذه هي المنفية عن رسوله صلى عليه وسلم.
إذاً: نقول: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] هداية عامة، وهي: هداية البيان والدلالة والإرشاد، إِنَّكَ لا تَهْدِي [القصص:56] هداية القلوب؛ لأن هداية القلوب لله جل وعلا.
الثاني: ما لا يمكن الجمع بينهما، يعني: دليل عام عارض دليل آخر عام، ولا يمكن الجمع بينهما، فنبحث عن المخصص، كما في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] إلى أن قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] ثم قال: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] إذاً: هو على التخيير: إما أن يطعم أو يصوم وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] خير لكم الصيام، ثم الآية التي تلتها فيها تحديد للزمن، الآية الأولى متأخرة، قال الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فهذا الأمر نسخ التخيير، أي: لابد أنك تصوم، ونسخ التخيير بين أن يطعم أو يصوم، قال الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فنسخ التخيير، فلا الدليل العام الأول يعارض الدليل العام الثاني، ولم نعرف الجمع بينهما، فقلنا: المتأخر ينسخ المتقدم.
الثالث: مثال الترجيح، يعني: ما عرفنا كيف نجمع، وما عرفنا الناسخ من المنسوخ، فنحن نرجح، هذا أيضاً في ما ظاهره التعارض بين عام وعام.
مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مس ذكره فليتوضأ) هذا عام.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أيمس أحدنا ذكره؟ فقال: (إنما هو بضعة منك).
وهذا يمثل به البعض على الترجيح، وإن كان الصواب هو الجمع، فالجمع فقهياً هو: قوله: (من مس ذكره فليتوضأ) إذا كان بإفضاء دون حائل، (وإنما هو بضعة منك) إن كان بوجود حائل.
أما على الترجيح: قالوا: نقدم الحاظر على المبيح، فنقدم قوله: (من مس ذكره فليتوضأ)، على قوله: (إنما هو بضعة منك).
والمحدثون يقولون: إذا تعارض الحديثان حديثياً نقول: ما كان متفقاً عليه يقدم على ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري يقدم على ما انفرد به مسلم، وما انفرد به مسلم يقدم على ما كان على شرطهما، وما كان على شرط البخاري يقدم على ما كان على شرط مسلم، وما كان على شرط مسلم يقدم على السنن بعد ذلك، هذا هو الترتيب.
وجاء عن ابن عمر أيضاً في الصحيح أنه قال: (صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى).
فهذا دليل خاص ظاهره أنه تعارض مع دليل آخر خاص، كيف صلى الظهر بمنى، وكيف صلاها بمكة، والمسافة بين مكة ومنى بعيدة؟ فكيف نجمع؟
بعض العلماء يرى أنه لا جمع بينهما، فيقدمون حديث جابر على حديث ابن عمر ؛ لأن جابراً هو أعلم الناس بالمناسك، وأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء جمع بينهما، مثل الحافظ ابن حجر في الفتح، فقال: يجمع بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ثم رجع فصلى بأصحابه الظهر بمنى، فيكون قد صلى الظهر صلى الظهر مرتين، المرة الأولى تكون فرضاً والمرة الثانية تكون نافلة له، فهذا جمع جمعه بعض العلماء، وهو أيضاً جمع طيب، ونقله الحافظ ابن حجر .
وإن لم يكن فيكون الناسخ والمنسوخ، وإن لم يكن فيكون الثالث وهو الترجيح.
مثلاً: حديث في الصحيحين يحتج به الأحناف، وهم حديث فيه وهم، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال) يعني: ليس بمحرم، وهو حديث عضده حديث أبي رافع قال: كنت السفير بينهما.
وجاء في البخاري عن ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج
فكيف ذلك وميمونة تقول: تزوجني حلالاً، وابن عباس يقول: تزوجها محرماً، فكيف نجمع بينهما، ونحن لا نعرف المتقدم من المتأخر، وأيهما الراجح؟
حديث ميمونة يقدم على حديث ابن عباس لأكثر من وجه:
الوجه الأول: الراوي أعلم بما روى، وهو أيضاً صاحب القصة، والقاعدة عند المحدثين: صاحب القصة يقدم على غير صاحب القصة، وصاحب القصة هي ميمونة ، وأبو رافع هو السفير بينهما، فيقدم صاحب القصة على قول ابن عباس الذي ليس بصاحب القصة.
الثاني: أن كلام ابن عباس مبيح؛ لأنه يبيح للمحرم أن يتزوج، وهذا يوقع في إشكالية الحديث الحاظر، وهو: نهى النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم أن ينكح، وحديث ميمونة لم يقع له إشكال مع أي أحاديث أخرى، فهو متفق مع النهي عن الزواج للمحرم.
مثال ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (في ما سقت السماء العشر) أي: كل شيء يخرج من الأرض قليلاً كان أو كثيراً، ففيه الزكاة.
لكن جاء حديث آخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة)، فهذا خاص، والحديث الأول عام، فكيف نجمع بينهما؟ نقدم الخاص على العام، فنقول: فيما سقت السماء العشر إن بلغ خمسة أوسق، وإن كان أقل من خمسة أوسق فلا زكاة فيه، فيقدم الخاص على العام.
وقال الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
فالآية الأولى خاصة في الموت، عامة في كل الأزواج، الحامل والحائض.
والآية الأخرى خاصة بالحمل، عامة في الطلاق والموت.
فنقول: خصوص وجه الحمل يحمل على على عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ [البقرة:234]، فنقدم خاص وجود الحمل على عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:234]، يعني: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] عام في كل النساء إلا الحامل، وعند ذلك سنخصص الحامل بأن تضع حملها.
لماذا هذا التعسف؟ لماذا لا نقول: الخاص يحمل على العام، ونجعل الخاص هو الذي يحمل على العام الثاني؟
نقول: هذا أصعب وجوه الجمع، لأن القرينة المحتفة هي التي ترجح لنا، وقد جاءتنا قرينة تبين لنا حمل عموم آية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ على خصوص الحامل، وهي حديث سبيعة الأسلمية، فقد كانت حاملاً ومات عنها زوجها قبل أن تضع بليال قليلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد حل لك الزواج). أي: بعد أن وضعت.
وحديث أبي السنابل قال: (كذب
أيضاً: هناك دليل آخر ظاهره التعارض، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، فهذا عام في كل الصلوات، خاص بالوقت بعد العصر وبعد الفجر.
وحديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) فهذا عام في كل وقت، فإذا دخل أحدكم عصراً مغرباً عشاءً فجراً، فليركع ركعتين إذا أراد الجلوس.
إذاً: دخول المسجد وصلاة ركعتين فيه يكون عاماً في الوقت خاصاً في الصلاة، فأيهما يحمل عن الآخر؟
نبحث عن القرائن، وإن لم نجد نتوقف، لكن هنا إن لم يكن هناك قرائن فإن عندنا وجوه للترجيح في الحمل، وهي: أن العام الذي خصص قد يكون أضعف في الدلالة من العام الذي لم يخصص، فننظر في النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، فنجد أنه قد خصص بقضاء الفائتة، يعني: رجل نام عن الظهر ولم يستيقظ إلا بعد العصر، فهل يصليها أو لا؟
يصليها لحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك).
أيضاً: سنة الفجر إذا نام عنها، فقضاء السنن الرواتب التي لم يفرط فيها المرء إما أن يقضيها بعد الفجر، أو بعد الشروق، لأن النبي وجد من يصليها بعد الفجر فقال له: (الفجر مرتين؟)فقال: إنما هي سنتها، فأقره، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قضى سنة الظهر بعد العصر.
إذاً: هذا العام قد خصص فضعفت دلالته، فنقدم عليه العام الذي لم يخصص، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين).
سؤال: لماذا نقدم الجمع على النسخ والترجيح؟
القاعدة التي قعدها العلماء: إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما، ومن طرق الترجيح: المثبت يقدم على النافي، والأخذ بالزيادة، فالذي معه زيادة علم نأخذ منه، لكن لا بد أن تكون هذه الزيادة غير مخالفة.
مثال ذلك: الشافعية يرون أن من السنة أن يشير المصلي في التشهد بأصبعه إلى القبلة دون تحريك، لكن حديث زائدة بن قدامة قال فيه: (يشير بها يحركها) ففيه زيادة علم وهو التحريك، فننظر في التحريك هل يخالف الإشارة؟ إذا قال الرجل: تعال هنا، قالوا: أشار بيده أن تعال، فهذه إشارة فيها تحريك، إذاً التحريك لا يخالف الإشارة، وهو زيادة علم فنأخذ بها، فنقول: يشير يحركها.
أيضاً: يمثل بعض العلماء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).
قال أبو داود: حتى لو وجدت زيادة علم فنأخذ بالمعنى الأفضل، وهو يشمل كل المعاني، هنا: (لا يمس القرآن إلا الطاهر)، فيمكن أن يحتمل أنه طاهر بإسلامه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : (سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) وهو في الصحيحين.
أيضاً: ممكن أن يحتمل أن يكون طاهراً من الجنابة، أو أن يكون طاهراً بالوضوء، فأيهما أشمل في المعنى؟ بالوضوء.
فنقول: نأخذ بالأشمل في المعنى؛ لأنه سيضم كل هذه المعاني، يعني: من باب أولى أنه غير جنب، ومن باب أولى أنه مسلم.
إذاً: يشمل كل المعاني، فنقول: قطعاً لا يمس القرآن إلا طاهر، يعني: لا يجوز لأحد غير متوضئ أن يمس القرآن، وهذا هو الصحيح الراجح.
وأخيراً: أن تأخذ في الترجيحات بالحيطة، فتحتاط لدينك، فإذا جاءك حاظر ومبيح، فأنت تحتاط لدينك فتقدم الحاظر على المبيح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله: (من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر