يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد.
إن أفضل الأصول الذي يحتج به كل إنسان يشتم رائحة العلم هو كتاب الله جل في علاه، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأصل الأصول هو الكتاب، وقد اتفق العلماء على أن القرآن هو كلام الله المبين الحاكم على عباده، فما اختلف العلماء في الكتاب، ولكن اختلفوا في أمر آخر مهم جداً ألا وهو: فهم دلالات الكتاب، وفهم المراد من كتاب الله جل في علاه، وفهم ما هو مراد الله من الآية أو من الحكم الشرعي.
واختلفوا أيضاً في القراءات، أما بالنسبة للاختلاف في الدلالات فسيأتي؛ لأن بابها واسع جداً.
الاختلاف في القراءات قد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك -أو أمتك- أن يقرءوا القرآن على حرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسأل الله المعافاة! إن أمتي لا تطيق ذلك، فجاءه جبريل في المرة الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أمتك أن يقرءوا القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله المعافاة! إن أمتي لا تستطيع ذلك، فقال: إن الله يأمرك -في المرة الثالثة- أن تأمر أصحابك -أو أمتك- أن يقرءوا القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله المعافاة! فجاءه في الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أمتك أن يقرءوا القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا، أو فمن قرأ بها فقد أجزأته).
فالقرآن نزل على سبعة أحرف، وكل حرف يختلف عن الآخر؛ ولذلك نجد في بعض الروايات أن الله عز وجل يقول: فتثبتوا وفي قراءة أخرى تقرأ: (فَتَبَيَّنُوا).
أما القراءة الثانية، وهي قراءة سبعية، وصلت إلينا بالتواتر، أي: أنها متفق عليها، فقرأت: وأرجلِكم، فتكون معطوفة على المسح، وبذلك نبع من الاختلاف هذا في القراءة اختلاف الفقهاء في الحكم الفقهي.
القول الثاني: قول من أخذ بالقراءة الثانية وهي قراءة: (وأرجلِكم)، وهو قول ذهب إليه أنس بن مالك وابن عباس ، وهو قول الشيعة، فقالوا: الواجب هو المسح، ولا بد أن يقولوا: إن الغسل يجزئ؛ لأن الغسل يشمل المسح.
القول الثالث: لـابن جرير الطبري، فقد نظر إلى القراءتين فقال: المصلي مخير بين أن يغسل وبين أن يمسح، وهذا كلام جيد جداً، وهو من الحسن بمكان؛ ذلك لأنه يعضد القاعدة التي قعدها العلماء: إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما، لكن يشكل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار)؛ لأنه لم يرض بالمسح.
القول الرابع: قول ابن حزم ، وهو قول عجيب، فقد قال: إنه يجب على المصلي الغسل والمسح، ولا بد أن يجمع بين الغسل وبين المسح، وحجته في قوله أن الله جل وعلا أمر بالغسل وأمر بالمسح، ففي القراءة الأولى أمر بالغسل في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ ، وفي القراءة الثانية أمر بالمسح، وكلا الأمرين من الله، وهذا القول قريب من كلام ابن جرير .
ولكن الأصل إذا تعارضت القراءات في حكم من الأحكام، أو كان ظاهرها التعارض، فإنه لا بد لنا من الرجوع للسنة والمرجحات.
ومن الأدلة التي تعضد وجوب الغسل: أن جميع الذين رووا ونقلوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (فغسل رجله ثلاثاً)، وفي حديث عثمان المتفق عليه قال: (فغسل رجله إلى الكعبين) ولم يذكر ثلاثاً ولا واحدة.
فالغرض المقصود أن كلاً من زيد أو أسامة أو علي بن أبي طالب أو عثمان أو أنس ، وكل من روى لنا وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أنه قد مسح على رجله مرة واحدة، إذاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم المداوم عليه دل على أن الواجب هو الغسل.
لكن الأصل في الفعل أنه لا يفيد الوجوب، ولكن الفعل هنا يفيد الوجوب للقاعدة التي تقول: بيان الواجب واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين لنا الوضوء قد بين لنا ما أوجب الله علينا، والقاعدة عند العلماء: بيان الواجب واجب.
والواجب هو قول الله تعالى: فَاغْسِلُوا وهذا لفظ أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فأوجب علينا الغسل، والقراءة الثانية أوجب المسح، فلو كان المسح هو المراد لمسح مرة واحدة ليبين لنا الجواز؛ لأنه لما حرم الشرب قائماً شرب هو قائماً؛ ليبين لنا أن هذه ليست على التحريم ولكنها على الكراهة.
أما الإجابة عن القراءة الثانية فهي من وجوه:
الوجه الأول: أن القراءة بالجر جاءت للجوار، فالجر هنا للجوار، وهذه معروفة في اللغة وفي أشعار العرب؛ بل ورد في القرآن جر ما حقه الرفع من أجل الجوار، قال الله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ [الرحمن:35]، وقد ورد في القراءة السبعية الأخرى: (يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٍ)، مع أن النحاس مختلف، فقالوا: الجر هنا للمجاورة، والأصل فيها الرفع، وهي القراءة المشهورة: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ [الرحمن:35] فلما جرت في القراءة الثانية جرت للمجاورة.
الوجه الثاني: أن قراءة: (وأرجلِكم) خاصة بالخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صحيح عن المغيرة بن شعبة : (قام فبال على سباطة قوم قائماً، ثم توضأ، فلما توضأ أهوى
والرد على كلام ابن جرير الطبري الذي يقول: يجوز الأخذ بالقراءتين: بأنه لو كان صحيحاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، لبيان الجواز، ولو كان يجزئ المسح لبينه، ولما أنكر على من مسح وقال: (ويل للأعقاب من النار).
ونتيجة لهذا فإن بعض الصحابة لم يدركوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحدثوا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تعرض عليهم المسائل فيخالفون أو يوافقون، أو أنهم ما كانوا يعرفون عن هذه المسألة شيئاً فيتفقون.
أي مشقة هذه؟! وهذا مخالف لمقاصد الشريعة، والذي جعل عمر بن الخطاب يفتي بذلك أنه لم يطلع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
فاستنبط العلماء: أن من كانت عنده آلة الاجتهاد؛ فاجتهد وأقام العبادة على اجتهاده وإن كانت على خطأ فلا يعيدها، فقد أصاب أجراً بذلك ولا يعيد الصلاة، ومن ذلك قصة عمار بن ياسر الذي تمرغ في التراب كما تمرغ الدابة؛ لأنه أجنب ولم يجد ماءً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أقره قال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب بيديه الأرض ومسح ظاهر كفيه ووجهه، وفي رواية: (نفخ التراب، ثم تمسح وجهك وتمسح كفيك، فيكفيك ذلك لكل بدنك) فقام عمار فقال لـعمر -وكان عمر يفتي أنه لا تيمم من جنابة-: أما تذكر حين كنت جنباً وقد حدث كذا وكذا وكذا.. فلم يتذكر عمر الواقعة، فقال عمار : إن أردت أن أكف عن هذا الحديث أكف، فقال له: لا والله! نوليك ما توليت. فالذي جعل هذا الخلاف يحدث بين الصحابة أنه لم يصل إلى عمر حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المفوَّضة فهي المرأة التي عقد عليها زوجها ولم يسم مهرها، ومات عنها، فكان علي يقول: المفوضة التي مات عنها زوجها ليس لها شيء، أفتى بهذا؛ لأنه لم يصل إليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وهو حديث بروع بنت واشق ، فقد مات عنها زوجها ولم يسم لها المهر؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها المهر، وجعلها ترث من زوجها.
فالخلاف الذي بين الصحابة كان منشؤه أنه لم يطلع على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فـعلي بن أبي طالب لا يريد أن يخالف حديث النبي الله صلى الله عليه وسلم، لكنه اجتهد رأيه وخالف.
فننظر إلى الدليلين فنعملهما؛ لأن كل الأدلة خرجت من مشكاة واحدة، فإعمال الدليلين أولى من إهمال واحد منهما.
فلذلك نظر علي بن أبي طالب وابن عباس في هذه المسألة فقالا: قال الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فللجمع بينهما قالوا: تعتد بأبعد الأجلين، فإن كانت حاملاً ومات زوجها مات فننظر: إن كانت حاملاً في الشهر الثاني فعدتها أن تضع؛ لأن هذا أبعد، وإذا كانت في الشهر الخامس فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأنه أبعد الأجلين.
وهذا الذي أفتى به علي وابن عباس ، حتى إن أبا هريرة وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنكرا على ابن عباس، فتناظرا في هذه المسألة، فقال ابن عباس : تعتد أبعد الأجلين، ونعمل بالدليلين، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لا والله! بل عندما تضع، أي: عدتها عندما تضع، فقال أبو هريرة : نبعث إلى أم سلمة حتى ننظر هل فيها سنة أم لا؟ فبعثوا إلى أم سلمة ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: إن سبيعة الأسلمية كانت حاملاً، ومات عنها زوجها، وما لبثت أن وضعت، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك وقال: تريدين النكاح يا لكع؟ لا والله حتى يبلغ الكتاب أربعة أشهر وعشراً، قالت: فجمعت عليَّ ثيابي فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما وضعت (قد حللت للنكاح)، وهنا فصل الخطاب بين الآيتين، فقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم وبين لنا مرجحاً من المرجحين، وهو أن المرأة الحامل التي توفي عنها زوجها عدتها أن تضع حملها، إذاً إذا كان عندنا امرأة حامل، مر عليها أربعة أشهر وعشر، واشتاقت للنكاح، فماذا نقول لها؟
نقول: الراجح في الخلاف أنها تنتظر إلى أن ترضع، فإذا وضعت حملنا عموم قول الله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] على خصوص الحامل أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
لكن الصحيح أن الذي رجع أسامة وزيد والزبير وابن مسعود ، لكن ابن عباس اختلفت الروايات اختلافاً شديداً هل رجع أم لم يرجع، ولذلك يقول ابن عبد البر في التمهيد سواء رجع ابن عباس أو لم يرجع فالحجة ليست في ابن عباس ولكن الحجة في السنة، وإذا لم يرد شيء عن رسول الله فنرجع إلى الصحابة، لكن الصحابة إذا قالوا خلاف قول النبي وجب الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر