الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
يقول الله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:23-31].
هذه هي الحلقة الثالثة من سورة الأنفال، سورة القتال التي تبين للمسلمين كيف يتعاملون مع الله في ساعة القتال، وما هو الطريق الأمثل والأنجح لكسب المعركة، وبدون هذا الطريق لا يفلح القوم أبداً، وأي مسلك يسلكونه لا يخضع لهذا النظام العظيم في هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فإنه نظام فاسد فاشل، نهايته البوار والدمار.
يقول الله عز وجل في هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24-25] .. إلى آخر الآيات، كان الحديث عن شر الدواب، فالآية التي قبل هذه الآيات تقول: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، وقلنا: إن الدابة هي كل ما يدب على وجه الأرض، ابتداءً من الإنسان الذي هو أكرم مخلوقات الله، إلى أخس وأخبث حشرة موجودة في هذا الكون، فشر هذه المخلوقات كلها الإنسان الكافر نعوذ بالله، فإذا كان الإنسان المؤمن هو أفضل خلق الله فإن الكافر هو شر خلق الله، وما الفرق بين شر خلق الله وأفضل خلق الله!
ليس هناك فرق بينهما إلا الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، والكفر به سبحانه وتعالى.
فلا تصلح الحياة إلا في ظل هذا الدين، وبالأخذ بهذا الدين، والتخلف عن هذا الدين هو الرجعية والتخلف في الحقيقة، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37]، وإذا كانوا يعتقدون أن التقدم في منهجهم فنحن لا نشك بأن التقدم بالأخذ بالمنهج الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هذا الدين هو حياة الشعوب والدول، حياة الأفراد .. حياة الجماعة .. حياة المرأة .. حياة الرجل .. حياة الجميع بالأخذ بهذا الدين.
ولذلك يا أخي! إذا أردت أن تبحث عن هذا الخبر من الواقع فانظر إلى الأمم الحية التي بدأت بالجهاد، وإن لم يكن لها مبدأ نظيف طاهر طيب وهدف؛ لكن بمقدار ما قدمت من النفوس تقدمت هذه الأمة، خصوصاً العالم الذي خاض الحربين العالميتين، فخسر عشرات الملايين من البشر كما في الحرب العالمية الثانية، فهو يبحث عن الأمن لكنه لم يحصل على الأمن الذي يقدمه الإسلام لهؤلاء الناس.
فإذا كانت هذه الأمم التي ليس لها هدف الحياة الآخرة، فالأمم التي تسعى للحياة الآخرة هي أول من يجب أن يعلن الجهاد في سبيل الله، ولذلك قلت لكم يا إخوان: إن آخر مرحلة استقر عليها الإسلام: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وجميع الأحداث التي تعصف بالعالم الإسلامي اليوم إنما سببها إهمال الجهاد في سبيل الله، ولذلك قبل أن يفرض الجهاد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتمنون الجهاد، وكان الله تعالى يقول: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77]، إلى أن أذن لهم فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
إذاً: الحياة هنا المراد بها السعادة، المراد بها البقاء، المراد بها العزة والكرامة، ولا تكون إلا بالجهاد في سبيل الله، فحينما وصف الله عز وجل لنا معركة بدر الكبرى بين أن الجهاد وإن كان صعباً على النفوس، لكنه في الحقيقة هو حياة الأمم، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، دعاكم للجهاد، فالأمم لا تحيا إلا بالجهاد، ولذلك تعتبر موقعة بدر الكبرى هي القاعدة المتينة لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، بل في العالم، بل في الدنيا كلها إلى يوم القيامة، لماذا؟
لأن الله تعالى شرع الجهاد من أجل أن تحيا الأمم، واليوم يتسلط الكافرون والطغاة والمتجبرون على المسلمين، لأن المسلمين أهملوا الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة الإسلام كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، فالجهاد قتل وفيه حياة؛ لأن هذا القتل يثبت مكانة هذه الأمة في هذه الأرض؛ لأن الجهاد هو الذي يقرر مصير أمة من الأمم، إذاً هو يحيي في الحقيقة وليس يميت.
وقد فسر هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حينما دعا رجلاً من المسلمين، وكان الرجل يصلي فانشغل بصلاته، فلما انتهى جاء واعتذر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرسول الله: كنت أصلي، قال: أما سمعت قول الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) فهذا دليل على أنه لا يجوز أن تقدم طاعة مخلوق كائناً من كان على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله.
ما معنى (يحول بين المرء وقلبه)؟ أي: قد تكون هناك آمال طوال عراض لهذا الإنسان، لكن الله سبحانه وتعالى يقطع هذه الآمال على هذا الإنسان، فلا يحقق شيئاً منها، لأن الأجل قد قرب.
أمر آخر تشير إليه هذه الآية في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، وهو أن القلوب بيد الله عز وجل، وهذا الإنسان عليه أن يبحث ويسعى إلى حسن الخاتمة، فقد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وقد يعمل بعمل أهل النار حسب ما يظهر للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها، والله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، فالإنسان يخضع لإرادة الله عز وجل ولما قدر له.
الفتنة تفسر دائماً وأبداً بالكفر والانحراف عن الدين، وإن كانت تأتي في بعض الأحيان للفوضى والاضطرابات، لكن إذا أطلقت الفتنة فالأصل فيها الكفر أو الردة عن الإسلام، كما قال الله تعالى هنا: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، وتشير هذه الآية إلى معنيين عظيمين يغفل عنهما الناس:
(واتقوا فتنة) يفعلها بعض الناس، (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) أي: تصيب جميع الناس، هذه لها أدلة وشواهد كثيرة من القرآن والسنة، من هذه الشواهد قصة بني إسرائيل في قصة السبت في آخر سورة الأعراف قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، فالقصة أن بني إسرائيل منهم من فعل أمراً عظيماً، فحرم الله عليه الصيد في يوم السبت، واستعمل الحيلة كما يستعمل كثير من الناس الحيل في أيامنا الحاضرة على أخذ الأموال، فصاروا يضعون الشباك في يوم الجمعة، ويخرجونها في يوم الأحد، يقولون: نحن لا نصطاد في يوم السبت، ويتحيلون على أمر الله، فانقسم بنو إسرائيل إلى ثلاثة أقسام: قسم فعل هذه المعصية الكبيرة، وقسم نهى عن هذه المعصية، وقسم لام من نهى وقال: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟!
النتيجة يقول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]، إذاً: إنما ينجو من العذاب الذين ينهون عن السوء.
والرسول صلى الله عليه وسلم صور الحياة بسفينة، فبعض الناس في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وهم المطيعون والعصاة، ففكر العصاة في خرق السفينة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
إذاً معنى ذلك: العقوبة إذا نزلت من عند الله فإنها تأخذ بالصالح والطالح، ولا يتخلص منها إلا الذين ينهون عن السوء، كما قال الله عز وجل: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116].
ويقول الله عز وجل مبيناً أن العقوبة تنزل بسبب مجموعة صغيرة فتعم الجميع: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء:16]، أي: أمة في قرية، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [الإسراء:16]، وفي قراءة سبعية: أمَّرنا مُتْرَفِيهَا [الإسراء:16]، أي: جعلنا السلطة بيد المترفين الفسقة، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16]، ما هي النتيجة؟ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، القرية كلها دمرها الله تعالى تدميراً، مع أن الذين فسقوا هم المترفون، وقد يكونون هم أمراء هذه القرية.
إذاً: معنى ذلك أن العقوبة تعم الجميع، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
إذاً: العقوبة لا تخص العصاة وحدهم، وإنما تعم العصاة ومن يسكت على معصية الله، أما الذين ينهون عن السوء فإن الله تعالى يخلصهم بأي حال من الأحوال، ولو أن يقبض أرواحهم قبل أن تأتي هذه العقوبة.
هذه مسألة يجب أن نفهمها في وقتٍ ضعف فيه جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنجد أن كثيراً من الناس قد أغمض عينيه عن المنكرات، وخاف من البشر، وجامل في دين الله، ودس رأسه بالرمل كما تدس النعامة رأسها في الرمل، ورأى المناكر قد أعلنت أنفسها في وضح النهار، وسكت جبناً، أو طمعاً، أو لأي سبب من الأسباب، فهذه أمور خطيرة يجب أن نفهمها.
إذا كان الناس يريدون أن يسلموا من عذاب الله، فلا بد من إنكار المنكر بأي حال من الأحوال، وأقصد المنكر الذي يعلن، وهو الذي يرى بالعين، ويسمع بالأذن، ويدرك بالحواس، أما إذا كان المنكر قد خفي فالله سبحانه وتعالى يعفينا من أمره حتى ينتشر، وإن كنا مطالبين بأن نتتبع خلايا المنكر بالطريقة المشروعة.
فالانحراف عن الدين عقوبة، يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، إذاً: احذروا أن تصيبكم هذه العقوبة التي تختلف عن العقوبات التي أصابت الأمم السابقة، فالذي أهلك أمماً بالغرق، وأهلك أمماً بالصاعقة، وأهلك أمماً بالريح وأهلك وأهلك، قد يهلككم بالفتنة، وهي الانحراف عن الدين، وهذا هو الشيء الذي لا يدركه كثير من الناس؛ لأن العقوبة لو نزلت على أساس أمر مادي يهلك الأجسام كما نزل على الأمم السابقة لكانت الأمم تدرك مقدار هذه العقوبة، لكن تجد أمة يعطيها الله من الخيرات والنعيم، وهي تبتعد عن الله بمقدار ما يأتيها من النعيم، فهذه قد أصيبت بعقوبة ليس لها نظير من العقوبات في الأمم السابقة، وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، أي: العقوبة، فالمعصية تجر معصية وراءها، وتكون الثانية عقوبة على الأولى، وكل معصية تجر وراءها معصية أكبر منها إلى أن يمرق هذا الإنسان من دين الله تعالى، فلا يبقى عنده أي شيء من دين الله.
فهذا هو معنى قوله تعالى:(واتقوا فتنة)، وهو الذي أشار الله تعالى إليه بقوله في آخر سورة النور: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، لماذا أتى بـ (أو)؟ لأن العذاب الأليم غير الفتنة، فإن العذاب الأليم يصيب الجسد، والفتنة تصيب القلب والروح والمعنى، والأولى المذكورة في الآية أخطر من الثانية، لأن عقوبة الجسد تنتهي في هذا الإنسان بأجله الذي كتبه الله تعالى عليه، ولربما يتجاوز الله عنه، لكن حينما يصاب بالكفر والانحراف عن الدين، فهذه فتنة لا تساويها فتنة أخرى.
ولذلك أقول: إنني ألاحظ في عالمنا اليوم، وفي دنيا الناس اليوم: أن كثيراً منهم أصيب بهذا النوع من هذا العذاب، وبهذه الفتنة العمياء، فأصبحنا نشاهد كثيراً من الذين انحرفوا عن دين الله يصابون في عقيدتهم وفي دينهم حتى خرجوا عن الإسلام دون أن يجدوا رادعاً، بل منهم من أعلن عن كفره وردته، ومنهم من غطى كفره وردته بغطاء شفاف يشف عما تحته، وبعضهم يتكتم كما يتكتم المنافقون قال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
إذاً: معنى قوله تعالى:(واتقوا)، أي: احذروا، (فتنة)، أي: عقوبة ليست كالعقوبات السابقة التي أصابت قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة، لكنها فتنة من نوع آخر تصيب القلب والروح، ويصعب على هذا الإنسان أن يحدد مقدار هذه الفتنة، وموقعها من القلب.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، فمعنى ذلك: أن عقوبة الأجساد تعتبر عقوبة، لكن أشد من عقوبة الأجساد أن يفتن هذا الإنسان في دينه، فيلتبس عليه الأمر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ويختلط المنكر بمخه ولحمه وعظمه ودمه، فلا يستطيع أن يميز، وحينئذ هو يقترف ما يقترف من معصية الله، وهو ما أشار الله عز وجل إليه في قوله في مراحل اقتراف المعصية: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [الأنعام:113]، وهذه المرحلة الأولى، (وَلِيَرْضَوْهُ [الأنعام:113]، حينما تطمئن إليه القلوب، وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113].
وإذا رضي الناس المنكر فإنهم يقترفون بعد ذلك ما هم مقترفون، لكن ما دام الناس يشعرون بأن هذا منكر، وأن اقترافه إثم؛ فهم في خير، ولكنهم يفقدون هذا الخير حينما تطول مدة هذا المنكر، فلا يستطيعون إنكاره في يوم من الأيام، لأنه أصبح أمراً مألوفاً، ويصلون إلى المرحلة الخطيرة من آخر مراحل الحياة الدنيا: وهي أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، كما أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا تعجبوا حينما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، يعني: هذه أعظم أنواع العقوبات التي تصيب الناس في دينهم.
وإذا كانت هذه الآية تتكلم عن أمة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله تعالى يقول لأمة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بحالهم يوم كانوا في مكة، وكانوا مستضعفين في الأرض، فكانت لهم دولة بعد معركة بدر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال:26]، والمراد بالأرض أرض مكة، ومعنى: (تخافون أن يتخطفكم الناس) يعني: أن يصيبوكم ويأخذوكم بسرعة، فالخطف معناه: الأخذ بسرعة، ما الذي حصل؟
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الأنفال:26].
هذه الآية تتحدث عن أمة، لكنها والله تتحدث عنا نحن أيضاً، فقد كنا مستضعفين في الأرض، كنا أمة فقيرة، كنا أمة لا وزن لها في تاريخ العالم، كنا أمة خائفة، كنا أمة لا نملك شيئاً من متاع الحياة الدنيا، فأمننا الله عز وجل، وأبدل خوفنا أمناً، وفجر لنا خيرات الأرض من وراء آلاف الأقدام، فأصبح فقيرنا ملكاً من ملوك الدنيا في ثروته، وأقول هذا لأني رأيت بعيني هاتين رئيس دولة هي أكبر دولة إسلامية، رأيت بيته أقل من بيت أي واحد من عامة الناس في بلادنا هذه، فقلت: سبحان الله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
لكن يا أخي! لا ننسى أن الله تعالى ذكر ثلاث فترات أخاف أنها كلها مرت بنا في حياتنا القصيرة، ثلاث فترات: فترة فقر ومسغبة عشناها منذ سنوات ليست بالبعيدة، وخوف وذعر، فأبدل الله خوفنا أمناً، وفقرنا غنى. فأصبحنا -كما تشاهدون في أيامنا الحاضرة- كأننا نعيش في قصور ملوك، وفي حياة ملوك!
ثم بعد ذلك أرى أن هناك شيئاً بدأ يحدث في أيامنا الحاضرة، ما هو السر في ذلك؟
السر في ذلك أن الله تعالى يمتحن الناس بالفقر والمصائب، والخوف والذعر في المرحلة الأولى.
ثم إذا لم تؤدب الأولى الناس يبدل الله تعالى السيئة حسنة، فيبدل الخوف أمناً، والفقر رزقاً.
فإذا لم تنفع الثانية فإن الله تعالى يسلب هذه النعمة دفعة واحدة من هؤلاء الناس، ويكون العذاب، نعوذ بالله من عذاب الله وأليم عقابه!
اسمعوا إلى هذا المعنى في قول الله تعالى في سورة الأعراف: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94]، البأساء هي الحروب، والضراء: الأمراض والفقر ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [الأعراف:95]، ما معنى بدلنا مكان السيئة الحسنة؟
أبدلنا الضراء صحة وعافية، وثراءً ونعمة ورخاءً، والبأساء بدلها الله تعالى أمناً وطمأنينة؛ لأن البأساء معناها الحروب والفتن، فهذه مرت بنا يا إخوة! بدل الله السيئة حسنة.
قال: حَتَّى عَفَوا [الأعراف:95]، زاد العدد، وزادت الأموال، وزادت الخيرات، إذا قيل لأحد الناس: اتق الله يا أخي! فهذه النعمة بيدك لها ضد! ماذا يقول كثير من الناس؟ يقول: ضدها عاشها أبي وجدي، اسمعوا ماذا يقول الله تعالى: وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، ما هي النتيجة؟
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95]، يا إخواني! يجب أن نخاف من عذاب الله سبحانه وتعالى، وأن نعرف أن لكل شيء ضداً، وأن هذه النعمة التي بأيدينا لا بد أن نرعاها ونشكر الله سبحانه وتعالى، ونقول للناس: اتقوا الله، ونقول لأصحاب السلطة: اتقوا الله، ونقول لهم: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].
وهنا يقول الله تعالى عن هذا الأمر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، يعني: مجيء هذه النعم من أجل أن تشكروا الله سبحانه وتعالى، لا من أجل أن يبطر هذا الإنسان ويكفر هذه النعمة، ويستعملها في معصية الله وفيما حرم الله، هذا ليس منهج المسلم، فمنهج المسلم أنه كلما زادت النعمة بيده قال: الحمد لله رب العالمين.
الخيانة قد تكون قليلة حسب رأي العين، لكنها في ميزان الله عز وجل وفي حكم الله عظيمة، لأن أي خيانة في الإسلام غير مقبولة، فإشارة بالعين وحركة بسيطة قد تضر بالأمة الإسلامية، وتعتبر خيانة. إذاً: فما رأيك يا أخي! في الذين يخططون للإطاحة بالأمة الإسلامية؟! ما رأيك بالذين يربكون الدولة حتى في هذه الفترة العصيبة، يريدون أن ترتبك الدولة وهي تحارب عدواً من الخارج، كما عمل المنافقون واليهود يوم الأحزاب بالرسول صلى الله عليه وسلم من الداخل؟
خيانة بسيطة حسب رأي العين اعتبرها الله تعالى خيانة.
ولما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة قال: يا رسول الله! أنا رجل ضعيف في هؤلاء القوم، وأخاف على أولادي، فالله تعالى يذكر أن الأولاد لا وزن لهم في ميزان الإسلام، فالإنسان يضحي بنفسه وولده وبأي شيء في سبيل دينه، ولذلك الله تعالى قال: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27-28]، وقد كان أبو لبابة من خيار الصحابة، لكنه فعل ذلك خطأ من أجل أن يثبت له قيمة عند بني قريظة، فالله تعالى اعتبرها خيانة، وإذا كان الأولاد يدفعون الإنسان إلى خيانة في دينه وأمته؛ فإن هذه هي المصيبة وهذا هو البلاء، ولذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ).
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى.
(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): خير من المال والولد، أنت قد تدافع عن ولدك فتضر بالمسلمين، والله تعالى عنده لك خير من هذا الولد، أنت قد تضر بالمسلمين من أجل أن تحتفظ بمالك، أو أن تدافع عن مالك، أو أن تكسب مالاً في سبيل الإضرار بالأمة الإسلامية، فالله تعالى عنده خير من هذا المال الذي تدافع عنه، والذي من أجله تضحي بدينك، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
على من يلتبس الأمر على المنحرف عن دين الله تعالى، أما التقي المؤمن فإنه يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل بسبب التقوى، وبسبب امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:29]، أي: تلتزموا أمر الله، وتجتنبوا نهي الله، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم علماً تفرقون به بين الحق والباطل، إذاً: إنما يلتبس على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى قد أعطاهم نوراً يستطيعون أن يفرقوا به بين الحق والباطل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، أي: أمراً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك لا يضل الطريق إلا من خالف أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يلتبس الحق بالباطل إلا على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى يجعل لهم فرقاناً، والفرقان على هذا المعنى: هو ما يفرقون به بين الحق والباطل.
ولذلك نحن نقول: ليس بين الأمة الإسلامية وبين النصر إلا أن تتفقد عيوبها، وأن ترجع إلى ربها، وأن تعاهده سبحانه وتعالى على التوبة والإنابة، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
لكن أقل ما يجب أن تفعله الأمة الإسلامية: أن تعود إلى الله عز وجل في ساعة الشدة، وذلك أضعف الإيمان، فإذا وقفت مع عدوها فعار عليها وعيب ومصيبة وبلاء أن تبقى على ما كان عندها من السيئات؛ لأن الله تعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، ولو في ساعة البأس، وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].
ودائماً أكرر وأقول لكم: خمسة آلاف من الملائكة مسومين في معركة بدر، جبريل واحد منهم، وهو الذي حمل في أحد أجنحته ديار قوم لوط وقلبها، ومع ذلك يذكر الله تعالى أنهم لا ينتصرون إلا بإرادته: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، فإذا كانت الملائكة مع خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة خير الملائكة جبريل مع خيار الصحابة؛ لا ينتصرون إلا بإرادة الله، إذاً: لن تنتصر أمة إلا بإرادة الله عز وجل في أي عصر من العصور، مهما كانت قد أوتيت من وسائل التقنية الحديثة ومن العدد والعدد وغير ذلك، فإن الله تعالى يقول: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].
وإذا جاء النصر من عند الله: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وهنا يقول الله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29]، أيضاً هناك زيادة: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]، ثلاثة أشياء:
فرقان؛ وهو النصر الذي يريده كل الناس قال تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13].
ومغفرة الذنوب.
وتكفير السيئات.
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): يتكرم عليكم بهذا الأمر.
حينما فكر النبي صلى الله عليه وسلم والتقى بالأنصار الذين جاءوا مسلمين، وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة واتفق معهم على أن يذهب معهم إلى المدينة، ويقيم دولة الإسلام هناك في المدينة، وأعطوا العهود والمواثيق، وصلت بعض الأخبار إلى قريش في مكة، وقالوا: لو ذهب محمد إلى المدينة سيقطع علينا طريق القوافل؛ لأن القوافل تمر من الشام إلى مكة عن طريق المدينة، فقالوا: إذاً نجتمع في هذه الليلة في دار الندوة من أجل أن ندرس الوضع الذي نستطيع أن نقضي فيه على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعوا ودخل الشيطان عليهم بصورة رجل متنكر، واستأذنهم وقال: أتأذنون لي بالدخول؟ قالوا: نعم، فبدءوا يتداولون الرأي، فقال بعضهم: أرى أن نكبل محمداً بالأغلال ونودعه السجن، فقال: إذاً يأتي بنو هاشم وبنو المطلب ويطلقون سراحه.
ثم قالوا: ننفيه من الأرض ولا نتركه يقر له مكان، فقال: إذاً تلتف إليه القبائل.
ثم قال أبو جهل : أنا عندي الرأي: نأتي بمجموعة من شباب قريش، ونعطي كل واحد منهم سيفاً، ويقتلونه قتلة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل، وندفع لبني هاشم وبني المطلب الدية، فقال الشيطان: هذا هو الرأي.
أشار الله عز وجل إلى هذه المؤامرة يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، ويذكر المسلمين، الذين ما زالوا يتفيئون ظلال هذا الدين، وتلك الهجرة إلى يوم القيامة يقول تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30]، بعضهم يرى القتل، وبعضهم يرى الإثبات الذي هو القيد، وبعضهم يرى الإخراج، لكن هذا المكر لا يضر إنساناً حفظه الله سبحانه وتعالى، ولذلك يا إخوان! يجب على المسلم أن يتعلق بالله عز وجل وحده، وإذا تعلق بالله عز وجل وحده فإن الله تعالى يكفيه شرور الناس أجمعين، لأن نواصي الخلق بيده، وقلوبهم في قبضته، ولأنه لا يصيب هذا الإنسان إلا ما كتب الله له، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
الخوف من البشر غير وارد، يجب أن يكون الخوف من رب البشر، الذي يملك الموت والحياة والرزق وغير ذلك، وهنا يقول الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ [الأنفال:30]، والمكر معناه: الخداع، وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، إذاً: مكر هؤلاء لا يمكن أن يضرك ما دام الله تعالى قد مكر لك، وما دام الله تبارك وتعالى قد حفظك من مكر هؤلاء، ولذلك هم مكروا وأرادوا قتله، ومكر الله تعالى بهم فأخرجه من بينهم، وذر على رءوسهم التراب عليه الصلاة والسلام، وهو يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9].
ويخرج أمام أعينهم ويحفظه الله عز وجل، ويذهب مع أبي بكر إلى غار ثور، ويبقى ثلاثة أيام هناك، والقوم يصلون إلى باب الغار ثم يرجعون، دون أن ينظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، هكذا يحفظ الله عز وجل رسله وأولياءه! وهذا الحفظ باق وخالد إلى يوم القيامة، بشرط أن نأخذ بأسباب هذا الحفظ، وأن يكون اعتمادنا وتوكلنا على الله عز وجل، لا نتعلق بالبشر والمخلوقين مهما كانت قوتهم ضاربة في الأرض، فإن هذه القوى لا تغني من الله عز وجل شيئاً إذا أراد الله تعالى لها ألا تكون.
أيها الإخوة! قال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فإذا خاف الإنسان من غير الله عز وجل فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يجدد هذا الإيمان، وأن يعلق الخوف والرجاء بالله عز وجل.
وقد أنزل الله تعالى هذه الآية حاكياً ما فعله القوم وما دبروه ضد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلكم السبب والشرارة الأولى لقيام الدولة الإسلامية، بحيث ينطلق هذا الموكب العظيم إلى المدينة ليقيم هناك دولة الإسلام، وليعلن الجهاد في سبيل الله، ثم يكون هناك الفرقان بين الحق والباطل.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
الجواب: هذه نظرة علمانية إلحادية كافرة تقول إن الدين لا يصلح إلا في المسجد، فهم والعجيب أنهم ما تركوا الدين حتى في المسجد، يطاردون الدين حتى داخل المسجد، لم يسمحوا له أن يزاول مهمته؛ لأنهم عرفوا أن المسجد يؤدي دوراً كبيراً، والحقيقة أن هذه أولاً نظرية كافرة، لأن الله تعالى يقول: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].
ومتى بدأت السياسة؟
بدأت يوم جاء الدين، العالم كان يعيش في فوضى واضطراب، وكان الناس في هذا العالم بدواً لا يعرفون السياسة، ولا يعرفون نظام الحياة، حتى قامت دولة الإسلام فعرفتهم السياسة، إذاً: السياسة جزء من الدين، وفصل السياسة عن الدين أمر خطير، وهذا حصل في أوروبا حينما كانت الكنيسة تعذب المبتكرين والمفكرين، لكن لماذا انتقلت إلى بلاد الإسلام؟
انتقلت عن طريق العدوى، إما على أيدي أناس جهال، أو على أيدي أناس حاقدين على الإسلام يريدون أن يطيحوا بالدين وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8]، يريدون أن يطيحوا بالدين كما أطاح المثقفون النصارى بالديانة النصرانية التي كتب الله تعالى لها النهاية، أما دين الإسلام فإنه دين خالد، ولذلك نقول: إن هؤلاء مارقون عن الدين؛ لأنهم يعتقدون أن الدين لا يصلح للحياة، ويقولون: الدين يصلح في عصر الخيمة والبعير، لكن لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبة الفضائية، والوسائل العصرية الحديثة، ونحن نقول: الدين خالد إلى يوم القيامة، والسياسة وجميع أنظمة الحياة كلها خاضعة لهذا الدين, وأي دين يتجرد من هذه الأنظمة ومن هذه القواعد فإنه دين لا قيمة له ولا وجود له.
ومنهج العلمانيين والملاحدة أنهم يرون الدين يجب أن يتجرد من هذه الحياة، ونحن نقول لهم: دين الإسلام لا تقوم الحياة إلا به، والدليل على ذلك أن دولة الإسلام التي رفرف علمها على أكثر المعمورة ما قامت إلا على الإسلام، ويوم تقلص الإسلام من نفوس كثير من الناس بدأت تلك الدولة تتقلص، حتى عادت تلك الدولة الواحدة إلى ما يقرب من مائة دولة في عالمنا الحاضر، وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن دينهم يضعفون في ميدان السياسة، ثم تضيع بلادهم حتى أصبح المسلمون اليوم يكادون أن يفقدوا كل ما بناه آباؤهم وأجدادهم من سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
الجواب: يقول الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41]، ليس هناك ما يحث على الجهاد في سبيل الله أعظم من مثل هذه الآيات.
جاء رجل أعرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أريد الجهاد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك أعرج ومعذور، قال: إن الله يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، وإني أرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة).
الأمة الإسلامية لا تحيا إلا بالجهاد في سبيل الله قال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، والأمة لا يكون لها مكان في هذا التاريخ وفي هذا العالم إلا بالجهاد في سبيل الله، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، والأمة إنما حلت بها النكبات في أيامنا الحاضرة بسبب تركهم الجهاد في سبيل الله، وهو أمر خطير، فمن الردة عن الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله، كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر -يعني: شغلتم بالحرث عن الجهاد- ورضيتم بالزرع؛ أصابكم الله بذل لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، وتأملوا -يا إخوان- معنى (تراجعوا دينكم) يعني: أن دينكم أصبح فيه خلل.
ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية تطالب بالجهاد دائماً وأبداً، لاسيما في مثل هذه الظروف التي تسلط فيها طغاة الأرض والكافرون والمتجبرون على هذا الدين وعلى هذه الأمة الإسلامية، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، وقد تبين الرشد من الغي في أيامنا الحاضرة، وأصبح الأمر واضحاً، فما على الآباء والأمهات والجميع إلا أن يحثوا هذا النشء على الجهاد في سبيل الله، وعلى التدرب والإعداد، فإن الله تعالى قد أمرنا بالإعداد وقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ [الأنفال:60]، والضمير في (لهم) يعود إلى الكافرين المكشوفين مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ [الأنفال:60]، أصبحنا نعلم بعضهم الآن فقد بدءوا يتكشفون، إذاً: لا بد من الإعداد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73].
إذاً: لا بد أن يستعد المسلمون للجهاد في سبيل الله، وأن يتدربوا، والدولة الآن تبذل جهوداً من أجل أن يتدرب شباب هذه الأمة على الجهاد في سبيل الله، لعل الله أن يدفع بهم كيد الكافرين, والله تعالى يبين أن كيد الكافرين لا يندفع إلا بهذا الدين وبالجهاد في سبيل الله قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40]، لا بد من الجهاد في سبيل الله، ولا بد من الإعداد له، والآباء والأمهات وكل الناس مطالبون أن يحثوا الناس على الجهاد في سبيل الله كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:65]، وفي قراءة: (حرص المؤمنين)، وحرض أقوى؛ لأن حرض معناها: حثهم حثاً يصل إلى الهلاك، كأنك تهلك نفسك وأنت تحثهم على الجهاد في سبيل الله؛ لأن الحرض معناه الهلاك.
الجواب: الله المستعان! أولاً بلاد المسلمين كلها تعج بالمعاصي العظيمة، لكن غريب أن تكون هذه المعاصي في بلاد الله المقدسة التي انطلق منها نور الإسلام إلى الأرض كلها!
على كلٍ: أيها الإخوان! أنا مع الأخ السائل، لكن الجهاد في سبيل الله منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الجهاد معناه بذل الجهد في إيصال الخير إلى الناس ودفع الشر عنهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر ليس بالشيء السهل، وليس نفلاًً ولا تطوعاً، ولكنه فرض كفاية، وأراه الآن أصبح فرض عين؛ لأن الذين يكتفى بهم قلوا، وأحسب الدولة إن شاء الله تشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على كلٍ: أيها الإخوة! لا بد أن تتضافر الجهود في هذا الأمر، ولا بد أن نتعاون مع الدولة على هذا الجانب، فليس الأمر مسئولية الدولة وحدها، ولكنه مسئولية الجميع، ولا بد من مناصحة المسئولين، ونقول لهم: اتقوا الله، ونبين لهم أشياء كثيرة من المنكرات؛ لأنهم ربما شغلوا بأشياء عن أشياء، فلا بد أن ننبهم، هذا بالنسبة لمناصحة أولي الأمر، الذين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: (ولأئمة الٍمسلمين)، فهذا من النصيحة.
ثم أيضاً لا بد من مناصحة الناس، ولا بد من استعمال القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة، ويجب أن تكون منظمة، وتحميها وتحرسها وتنظمها الدولة، والأمر لا يقوم بالكلمة فقط، فلا بد من قوة، كما أشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، لماذا ذكر الحديد هنا مع البينات والكتب السماوية والميزان والعدل؟
لأن الميزان والعدل والكتب السماوية والبينات قد يقف الشر في طريقها فيشوه سمعتها، ويلوث بيئتها؛ إذاً: لا بد من أن تكون هناك قوة تحمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
إذاً لا بد من قوة للمسلمين لتنظم بلاد المسلمين، لكن يجب أن تكون هذه القوة منضبطة، ويجب أن تتبناها الدولة، ويجب على الشباب والمسئولين وكل من عنده غيرة على دين الله والعلماء في الدرجة الأولى أن يناصحوا المسئولين وأن يقولوا: نظمونا لننكر هذه المنكرات، ولنعلم الناس الخير من الشر، لا بد من هذا الأمر، وإلا فإن العقوبة تصيب الأمة، وأخشى أن ما يحدث الآن في الساحة عقوبة، لأن الله تعالى يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، آيات كثيرة في هذا المعنى.
يا إخوان! نبقى ونحن نشاهد المعاصي حتى يأتي طغاة الأرض يكتسحون بلاد المسلمين ويرمونها بالصواريخ ويعملون ما يعملون، لا بد أن ينكر المنكر، لأن ما حل إنما هو عقوبة من الله عز وجل نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا بعنايته، ونقول دائماً وأبداً: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، نستغفر الله ونتوب إليه، لا بد من العودة، لا بد من التوبة، لا بد من محاربة المعاصي، لأن انتشار المعاصي هو الذي يسبب هذه العقوبات نسأل الله العافية والسلامة، كما نسأله أن يشد عضد الدولة ويقويها حتى تنكر هذه المنكرات، حتى لا يبقى مدخل لعدو من أعدائنا علينا.
الجواب: أما بالنسبة لهذا الخوف فهو خوف فطري، والله تعالى يقول: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ [الجمعة:8]، الفرار من الموت أمر فطري، والخوف أمر فطري، والمسلم مطالب أن يبتعد عن مواقع الخطر حتى لا يصيبه، لكن بشرط أن يعرف بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس من التوكل أن يقف أمام الخطر وهو يرى الصفارة، لكن الخطر الذي نشاهده الآن هو ضعف اليقين بالله عز وجل في هذه الساعات الشديدة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، فإننا نرى كثيراً من الناس الآن قد ارتبك إيمانه، وتعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على قوى البشر، ونسي أن القوة لله عز وجل جميعاً، واطمأن حينما رأى أن أمماً كثيرة جاءت لتحرسه، ونسي أنه لا يكون شيء إلا بإرادة الله عز وجل.
نقول: الأخذ بالأسباب عقل، لكن الاعتماد على الأسباب كفر، القاعدة هي الأخذ بالأسباب والاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى، والكثرة قد لا تغني من الله عز وجل شيئاً، والقلة قد تنتصر كما قال الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، والكثرة قد تفشل كما قال الله عز وجل عن خير جند في الأرض بقيادة خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].
إذاً: الفرار أو اللجوء إلى مأمن حينما يسمع الصفارة هذا أمر مطلوب، حتى لا يخاطر الإنسان بنفسه، لكن تعال يا أخي! إلى واقع الناس اليوم وهم يتعلقون بغير الله عز وجل، وهم يعيشون حياة مرتبكة، نراهم في هذه الفترة جهزوا كل وسائل المتاع والطعام، ووسائل الراحة داخل البيت، لكن يندر منهم من فكركيف يصلح هذا البيت حتى لا تأتي عقوبة الله عز وجل، هذا الشيء والأمر الذي يجب أن نراقبه وننتبه له في مثل هذه الأيام.
أمر آخر: أن ينام هذا الإنسان مطمئناً حينما يرى جنود البشر تحرسه، وهو يعتمد عليها، فعليه أن يعتمد على الله عز وجل أولاً وآخراً، فالله تعالى هو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو المستعان وعليه التكلان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر