يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
ما زال الله جل في علاه يبين لنا أن هذه الأمة تحتاج إلى رجال يدافعوا عن دينه جل في علاه، فالأغرار لا يستطيعون القيام بدين الله جل في علاه، والفتن تأتي قسراً، وتَدْلَهِم الخطوب والظلمات على الناس بسبب الجهالات، ولا يستطيع أحد أن يقف ليرفع نور راية لا إله إلا الله إلا طالب العلم المسلم، ونحن نعلم من سنين طوال الحرب الضروس على ثوابت هذا الدين، لكن المسألة لا تعلن صراحة أنها حرب على ثوابت وأصول الدين، بل يؤخذ بها ويرد على الثوابت بشبهات حولها مع تلبيس وتدليس لا بد للأغمار الأغرار أن يقعوا فيها، ولن تجد أحداً من العامة يستطيع أن يرفع رأسه إذا سمع هذا الكلام المعسول المنمق بقال الله وقال الرسول، ومن استطاع أن يقف أمام هذه الهجمة فليقف الآن، فإن حدود الله جل في علاه هي من الثوابت، وهناك من يأتي بحدود ليسقط الحدود، ثم يأتي بشبهات حول كون هذا حداً أو ليس بحد ويذكر أدلة يغطي بها ما يقول، ولن يستطيع أحد أن يقف أمام هذا التيار إلا طالب العلم، ولذلك فإن الذي يحدث الآن هو طمس لهوية العلم؛ حتى لا يخرج أحد يستطيع أن يقف وقفة ثابتة ضد من يريدون طمس الدين ومعالمه، وحتى لا يظهر من الدين إلا رسمه أو اسمه، فليس هناك معنى للدين، ولا مضمون له، ولا ثوابت يمكن لها أن تقود الإنسان إلى الله جل في علاه.
فأنت إن لم تكن راسخاً في العلم فلا تستطيع أن تقف، وهذه أيضاً من تلبيسات الشيطان، إذ يلبس على أناس فيهم من الخير العميم ما هو فيهم، وهم من المجتهدين في طلب العلم، فيدعوهم إلى التقاعس من الطلب، أو الانسلاخ من بعض الطلب، فيلبس عليهم، ويقول: السؤالات كثيرة .. تكرارات .. هي مسائل نظرية وليست عملية، وهذا هو تلبيس إبليس، إذ يجعل المجد الذي تظن فيه أنه يحمل الراية يتقاعس مرة تلو المرة، فيجعله يكثر من الأسئلة والنقاشات الكثيرة حتى يمل منها فيتقاعس، فيبقى على ما هو عليه، فتأتيه الفتن فلا يستطيع أن يقف أمامها.
فلابد للإنسان أن يتقي الله ربه، وأن يتقن الطلب، وأن يثبت أمام هذه الشبهات.
وأيضاً قول الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وقول الله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، فانظروا إلى هذا التأصيل الباطل الذي يوحيه الشيطان.
وقالوا: إن دلالة القرآن قطعية، وحديث (من بدل دينه فاقتلوه)، دلالته ظنية، وإذا تعارض القطع مع الظن فلا بد من تقديم القطع على الظن، وهذا في الحقيقة حق أريد به باطل.
ومن الشبه الأخرى أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ارتد في وقته وفي حينه أكثر من شخص ولم يقم عليهم حد الردة، وهذا فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى أن هذا حد، إذاً فهذه المسألة من عمر وأبي بكر هي مسألة اجتهاد ولي الأمر.
وهناك شبهة أخرى، حيث قالوا: إن حديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، من رواية عكرمة عن ابن عباس، وعكرمة كذاب كما قال ابن المسيب ، فهو مقدوح فيه ومجروح، وقد وهم البخاري حين رواه عن عكرمة.
وقالوا: إن الإمام مسلم رفض الرواية عن عكرمة وهذه شبهة من أقوى الشبهات؛ إذ إن مسلم بن الحجاج النيسابوري مفخرة المسلمين في رواية الحديث، وقد عضد الإمام مسلماً في رفضه لرواية عكرمة الإمام مالك، فقد طرح رواية عكرمة، فقالوا: نحن نرد الحديث؛ إذ الحديث عندنا فيه شبهة فلا يمكن أن نأخذ به، إذاً فلا دليل على حد للردة في القرآن ولا في السنة، ونحن نعرف أن هناك أناساً ارتدوا، وهناك أناس قتلوا فيها بسبب الردة، لكن هذا اجتهاد فقهاء، والفقهاء رجال قد يقبل اجتهادهم أو يرد.
وهكذا انقطع هذا الدين بإسقاط حد من حدود الله، وكل ذلك بسبب هذه الشبهات والتلبيسات التي تحدث، والأحناف أيضاً يقولون بذلك.
فالحاصل: أن هذه المسائل لا يمكن أن يقف أمامها صاحب دين وعبادة وزهد فقط، بل لا بد أن يكون صاحب علم، وهذا من فضل العالم على العابد، ومن فضل مجالس العلم على غيرها، وسنبين أيضاً أننا في حاجة ماسة لعلم التفسير؛ بسبب هذه المسائل التي يدخلون علينا بها.
وأيضاً يقول الله جل في علاه زاجراً ومخوفاً من يرتد عن دينه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، نعوذ بالله من هذا الخذلان.
وكذلك سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع من قال: هذا سوء أدب، أو بعض المتأخرين الذين حاولوا أن يبينوا أن هذا من دأب القوم، والقوم يفعلون ذلك من سوء أدبهم، فإن هذا الأمر لا مدخل فيه؛ لأنه سياج قوي، فمن سب رسول الله فقد كفر.
وكذلك إنكار معلوم من الدين بالضرورة، كإنكار شرب الخمر، وكإنكار فرض الصلاة، وكإنكار الحجاب، ومعنى المعلوم من الدين بالضرورة: أنه لا يحتاج إلى نظر، ولا يحتاج لبحث ولا اجتهاد، فإنكار المعلوم من الدين بالضرورة ردة عن الدين أيضاً، وهناك أمور أخرى مختلف فيها لا ندخل فيها، فهذه أمور مهمة جداً تثبت لك أن هذا من الردة وسب الدين يدخل مع سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل هذه الثلاثة خروج من الملة، ولا يحتاج في ذلك إلى إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
ومن أبواب الردة أيضاً: تكذيب الله جل في علاه، وهو يدخل في سب الله جل في علاه ورد حكمه، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
إذاً: فحد الردة ثابت بالسنة وبالإجماع، فأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سب رسول الله فإنه يقتل، وهذا نقله ابن المنذر في الإجماع، وكتب الأئمة الأربعة تعج بذلك، فبالاتفاق أن من سب رسول الله يقتل، فما بالكم بمن سب الله؟! وكذلك سب دين الله جل في علاه؟! أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، فالإجماع منعقد على حد الردة، وأن الذي يرتد عن دين الله يقتل.
وأما السنة: فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن ردءاً لـأبي موسى الأشعري ، فدخل معاذ على أبي موسى فقال: يا أيها الناس! إني رسول رسول الله إليكم، وأبو موسى يعلم منزلة معاذ ، حيث إن معاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم الناس بالحلال والحرام
ووجه الدلالة منه : أن معاذاً رضي الله عنه نسب القتل إلى أنه قضاء الله، وهو ليس بكاذب ولا متأول ولا متنطع وحاشاه، بل هو صحابي من صحابة رسول الله لا يتحرك إلا بإشارة من رسول الله، ولا ينفذ حكم القتل إلا بشرع من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: قضاء الله، وهو لا يوحى إليه، إذاً: فعندما ينسب القضاء إلى الله فهو عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث متفق عليه لا يستطيعون الكلام عليه، وقد رواه بقية الجماعة أيضاً.
ومن الأدلة في السنة: حديث عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا حديث له قصة لطيفة جداً، وهي: أن علي بن أبي طالب جاءه أناس فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فأقام عليهم الحجة وقال: اتقوا الله إني بشر مثلكم، إني آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، ثم تركهم يوماً، ثم رجعوا فقالوا: أنت خالقنا ورازقنا، فأجج النار فأحرقهم بالنار، ؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله، وادعوا الألوهية لـعلي فلما بلغ ابن عباس ذلك قال: لو كنت مكانه ما فعلته، إن الله هو الذي يعذب بالنار، (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحداً بعذاب الله جل في علاه)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإذاً: حكمهم القتل لا الحرق، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في البخاري وفي السنن الأربعة.
ومن الأمثلة في السنة: حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، ثم ذكر من الثلاث: (التارك لدينه المفارق للجماعة).
ومن السنة أيضاً: ما أورده أصحاب السير، وهذا الحديث معول على إمرار الحافظ ابن حجر له دون بيان القدح فيه، قال: ذكر أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل امرأة ارتدت عن دين الله جل في علاه. وهذا الحديث سيكون لنا فيه وقفة في الرد على الشبهات حوله بفضل الله.
ومن السنة أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قيل له: إن امرأة ارتدت وارتد من ارتد من العرب، فأمر زيد بن ثابت فقتلها.
كذلك قتل رجل على عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه كان قد ارتد، فقتلوه قبل أن يستتيبوه، فجاء رجل يخبر عمر، فقال عمر : أما أطبقتم عليه بيتاً ثم أطعمتموه في كل يوم رغيفاً حتى يرجع إلى الله، فإن لم يرجع فاقتلوه، اللهم إني لا أرضى ولا آذن. يعني: لا آذن أن يقتل من غير استتابة.
وكذلك عثمان بن عفان، فقد جاء بسند صحيح أن امرأة ارتدت في عصر عثمان فأمهلها ثلاثاً، فلم ترجع لدين الله فقتلها.
إذاً فحد الردة ثابت بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم كما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآثار ثابتة عن الخلفاء الأربعة، فهذا فعل أبي بكر وفعل عمر وفعل عثمان وفعل علي، فهي سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهو إجماع وسنة ثبت به حد الردة فأبى علينا المرجفون إلا أن يقولوا: لا ردة في الإسلام، ولا حد في الردة، واستدلوا بأدلة على ذلك، وأول هذه الأدلة التي استدلوا بها قول الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، وقول الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، قالوا: وهذا تخيير من الله جل في علاه.
واستدلوا أيضاً بقصص عجيبة منها: أن هجرة الحبشة الأولى تنصر فيها اثنان ممن هاجروا إلى الحبشة بعدما كانوا على الإسلام، وما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الحد.
قالوا: وفي المدينة كان حصين له ابنان تنصرا فأراد أن يقتلهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتركهما لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، فاستدلوا بهذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تركهما ولم يقتلهما.
ومن الشبهات التي ذكروها أيضاً أن هذه الآيات قطعية في الدلالة، وأما الأحاديث فظنية الدلالة، والقطع إذا تعارض مع الظن فإنه يقدم على الظن.
ومن الشبهات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أقام حداً بحال من الأحوال، فلما لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة فليس بثابت.
ومن الشبهات أيضاً: أن هذا من اجتهاد الفقهاء، والفقهاء رجال يقبل منهم ويرد.
ومن الشبهات أيضاً: التشكيك في حديث عكرمة : (من بدل دينه فاقتلوه)، فقالوا: إن عكرمة متهم، وكفى أن الإمام مسلم ترك الاحتجاج به.
ومن أعظم الشبهات قولهم: جاء حديث النبي: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الحكم إذا علق على شرطين وعلتين فلا يكون الحكم إلا بوجود الشرطين والعلتين، قالوا: وهذا الحديث قد ذكر شرطين وعلتين فلا حد للردة إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: التارك لدينه، إذاً: فالردة انفراداً لا حد فيها، والمفارق كذلك لابد له من علة أخرى وهي الردة عن دين الله.
وكذلك قالوا: إن المفارق للجماعة معناه: أنه يفارق الجماعة بعدما كان في وطن المسلمين وهو مسلم بينهم وارتد وبدل وذهب وناصر أهل الكفر على أهل الإسلام، فهذا هو الوحيد الذي عليه حد؛ لأنه فارق الجماعة إلى جماعة الكافرين، وحتى في هذه الحالة لم يقولوا: هذا حد ردة، بل قالوا: هو محارب، والمحارب يقتل. أي: لا يوجد ردة أيضاً.
فمنهم من قال: هذه الآية منسوخة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل العرب على الدين فأكرههم على الدين.
والتفسير الثاني: أنها باقية، لكنها خاصة بأهل الكتاب، يعني: لا تكرهوا أهل الكتاب على الدين، ولكن خذوا منهم الجزية إن دفعوها، وغير أهل الكتاب فاقتلوهم وأكرهوهم على الإسلام على قول الجمهور، لكن الإمام مالكاً يرى أن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى والكفار عامة.
التفسير الثالث: أنها خاصة في امرأة نصرانية كانت كلما أنجبت مات ابنها، فانتظرت الإنجاب لتجعله يهودياً أو نصرانياً، فلما جاء الإسلام وقد جعلت الولد يتنصر أرادت أن تكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] أي: إن أحب الإسلام دخل فيه وإن لم يحب الإسلام لا يدخل فيه.
وهذا قول ابن عباس، وقال القرطبي وهذا أوجه ما يقال في هذه الآية؛ لأن هذا قول بحر الأمة وحبرها الذي علم التأويل والتفسير، وهذا لا يمكن أن يكون من بنات أفكاره، بل هو مرفوع، وهذا هو سبب النزول وفيه نظر، لكنه أقوى الأقوال.
التفسير الرابع: أن الآية فقط إرشاد إلى أنه لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]أي: أن الدين واضح جلي وكله براهين، والعقل السليم السديد يقبله، ولا يمكن أن يكره على أن يدخل فيه صاحب القلب الصادق النقي، ولم تتعرض الآية لا لسيف ولا لقتال ولا لغيره، وهذا ترجيح السعدي، وهذا كلام من الجودة بمكان.
فهذه التفاسير كلها لا تثبت ما قالوه ولا ما زعموه.
وقولهم: إن قول الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] يعارض (من بدل دينه فاقتلوه)، فقدموا الآية على الحديث؛ لأن الآية قطعية الدلالة، والحديث ضد الدلالة، الرد عليهم فيه من وجوه:
الوجه الأول: استدلالكم بالآية على الإسلام وغير الإسلام: فالمسلم الذي يرتد لا إكراه عليه، والكافر الأصلي لا إكراه عليه، هذا استدلال بالعموم، لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) خاص، وباتفاق أهل الأصول أنه لا تعارض بين عام وخاص، فإذا وجد العام والخاص قدم الخاص على العام، إذاً: فنقدم هذا الحديث (من بدل دينه فاقتلوه) على الآية، فهذه الآية يعمل بها في دائرتها كلها إلا في الإسلام، فلا نكره اليهودي على دخول الإسلام، ولا نكره المجوسي على دخول الإسلام، ولا نكره عباد البقر وغيرهم على دخول الإسلام، ولا نكره النصراني على أن يدخل الإسلام، فإن شاء أن يكفر فليكفر، وإن شاء أن يؤمن فليؤمن، وأما المسلم -خصوصاً إذا دخل الإسلام- فلا؛ حتى لا نفتح باباً للمنافقين والذين يريدون أن يشوشوا على هذا الدين، فهذا هو دأب الكافرين قال الله تعالى مبيناً أن هذا هو دأب الكافرين: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، وعلة هؤلاء حين يفعلون ذلك أن يرتد المسلمون عن دين الله، فلا نفتح الباب لمثل هؤلاء.
إذاً: فنقول: هذه حالة خاصة في المسلمين فقط، فمن كان مسلماً فلا بد أن يكره على دين الإسلام ويبقى عليه ولا يخرج منه، وإن خرج فدمه حلال كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن ذلك الاستدلال غير صحيح، بل الآية التي يحتجون بها خاصة بالكافرين وليست في المسلمين، فإن أفضل التفاسير هو تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فالسياق والسباق يفسر لنا أن هذا أمر من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكفر: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
إذاً: فالسياق يبين لنا أن هذه الآية لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، كقول الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وأنهما في الكفار، فالسياق يبين أنها خطاب للكفار وليست خطاباً للمسلمين الذين ارتدوا، فالآيتان خاصتان، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام لأهل مكة قال: لكم دينكم)، فيخاطب الكفار، فالآيتان خاصتان بالكفار، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض بحال من الأحوال.
وقولهم: الدلالة القطعية تقدم على الدلالة الظنية، نقول: هذا حق أريد به باطل؛ لأنه لا تعارض، فالآيات عامة والأحاديث خاصة فتقدم، أو الآيات خاصة بالكافرين، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض، فلا يقدم قطعي على ظني، ولا بد أن نأخذ بهذا الحديث.
والرد على ذلك: أن هجرة الحبشة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان هذا قبل التشريع، وكل الآيات المكية التي نزلت لا تقرر أحكاماً، بل تعلم التوحيد وتعلم الإيمان وتزيده، فلما تنصر هذا وذاك لم يرد التشريع في قتلهما، فلا حجة للقائلين: إنه لا حد على الردة.
والرد على هذه الشبهة أن نقول: ثبت العرش ثم انقش، فهذه الرواية من رواية السدي الصغير وهو كذاب لا يؤخذ منه شيء، فروايته مهلهلة، فإذا كانت مهلهلة فلا يحتج بها، ولن يستطيعوا أن ينقشوا حتى ولو ثبتوا العرش، فإذا قلنا: إن النبي لم يقتل فقد خالف قوله فعله؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أبي بن سلول وهو قد سبه وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، وقام رجل أبله سفيه وقال لرسول الله: اعدل فهذه قسمة لا يراد بها وجه الله، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق، فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه حالات خاصة حتى لا يتحدث الناس في مقتبل الدعوة وعند تأسيس الدولة الإسلامية أن محمداً يقتل أصحابه، ولذلك قلنا: إن المصالح هي التي جعلت عمر لا يقيم الحد على الناس؛ لأن هناك مقاصد شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن القتل وإقامة حد الردة من أجل ألا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فيفر الناس من دين الله بدلاً من أن يدخلوا في دين الله أفواجاً.
والرد على هذا القول من وجوه، الوجه الأول: قد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد، فقد نقل الحافظ ابن حجر في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد الردة على امرأة بعدما أمهلها ثلاثاً.
الوجه الثاني: أن رواية لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد، رواية ضعيفة، ولو قلنا: لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد قال ذلك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله، بل قول النبي تشريع، كما أن فعل النبي تشريع، وقول النبي أقوى في التشريع، وقد قال: (من بدل دينه فاقتلوه).
فإن قالوا: لا نقبل هذا الحديث، قلنا: معاذ رضي الله عنه وأرضاه قتل رجلاً ارتد، ولم يفعل ذلك معاذ إلا بدليل، وهذه تسمى سنة تقريرية. فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك، قلنا: قد علم رب محمد ذلك، فلو كان هذا من الخطأ بمكان لأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن رب السماوات والأرض هو الذي يشرع، وقد اطلع على ما فعل معاذ ، فقد أقر رب معاذ فعل معاذ قبل أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل معاذ ، فكانت سنة تقريرية.
وقال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، وهذا سيظهر لك جلياً حديثياً كيف أن أهل التحقيق والتدقيق عند الالتباسات هم الذين يظهرون الصواب، فنقول: إن تركه مسلم فقد روى له البخاري وكفانا بـالبخاري حجة.
فإن قالوا: إن ابن المسيب قد قال عنه: إنه كذاب، وورد عن بعضهم أنه قال: لا تأخذوا منه حديثاً، ولا يكتب حديثه، وقدح كثير من الناس في حفظه، فالرد على ذلك أن نقول: إن القاعدة عند علماء الجرح والتعديل: أنه إذا ورد في المرء تعديل وورد فيه جرح، فإن الجرح لا يقبل إلا مفسراً، فقد ورد في عكرمة أنه من أوعية العلم، وأنه بحر في التفسير، وقال سعيد بن جبير عن عكرمة : إنه أعلم الناس بالتفسير، وبعضهم قال: وهو من أكثر العلماء رواية، ومنهم من قال: ثقة ثبت، إذاً: فقد ورد فيه التعديل، ثم ورد فيه الجرح، فبعضهم يقول: كان يرى رأي الخوارج وهذا الذي أثبته الذهبي عليه، فإذا ورد فيه جرح وتعديل فلابد من تفسير للجرح.
وعند التفسير لابد أن نقف أمام ملاحظات ثلاث، الملاحظة الأولى: الإثبات بالسند أن الجرح حدث من هذا الراوي، فتجريح سعيد بن المسيب له لا يصح؛ لأن السند إليه ضعيف لا يصح.
والملاحظة الثانية: أن من تكلم فيه فقد تكلم فيه من قبل رأيه، فقال: كان يرى رأي الخوارج، حتى إنه نسب ذلك إلى ابن عباس، وقالوا عنه: إنه وقف في الكوفة أمام المسجد، وكلما دخل رجل قال: هذا من الكفار، أي: يرى أنه كافر بالمعصية.
إذاً: عندنا حالتان: الأولى: أنه لم يثبت، الثانية: أنهم أثبتوا الجرح فيه من أجل أنه يرى رأي الخوارج.
إذاً: ففي الجرح قد أثبت العلماء أن الكلام فيه من قبل حفظه لا يصح، وأيضاً من قبل عدالته لا يصح، فالعلة الأولى واهية، وأما قولهم: أثبت الذهبي أنه كان يرى رأي الخوارج وأقر بذلك، فنقول: إن الحافظ ابن حجر قال: لم يثبت في جرحه في حفظه من شيء، ولم يثبت أيضاً شيء عن رأيه، يعني: لم تثبت فيه بدعة الخوارج، ولم يثبت الكلام فيه من جهة الحفظ، وابن حجر أتقن من الذهبي ولذلك طرح البخاري كلام المجرحين فيه وجعل عكرمة من ضمن المحدثين الذين يروى عنهم.
وقد قال العلماء: من روى عنه البخاري فقد وثقه، وقد جاوز القنطرة.
ومن الرد عليهم أيضاً: أن مسلماً لم يترك عكرمة كلياً، بل روى لـعكرمة مقروناً برجل ثقة، ولو كان منطرحاً كذاباً لا يمكن ولا يحل لـمسلم بمعرفته على وجه الكذاب أن يضعه في كتابه، فهنا نقول: قد تهافتت هذه الشبهة وصح لنا الحديث وسلم لنا بأن عكرمة ثبت، وأن عدم رواية مسلم له ليست فاضحة في عكرمة رضي الله عنه وأرضاه.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المفارق للجماعة)، فهي صفة كاشفة، أي: أن التارك لدينه هو الذي فارق الجماعة.
ثانياً: أن التارك لدينه فارق الجماعة؛ لأن التارك لدينه قد فارق جماعة المسلمين عن دينهم الإسلام إلى دين الكفر.
ثالثاً: أن التارك لدينه المفارق للجماعة هو أغلظ من التارك لدينه فقط دون المفارق للجماعة.
رابعاً: قد جاءنا الدليل الذي لا احتمال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، يعني: من ارتد عن دين الله، والتارك لدينه حكمه القتل، وأغلظ منه وأعتى منه وأشد وأنكى من ترك دينه ثم ذهب إلى الكفار يحارب معهم ضد المسلمين، فيكون أغلظ من ذلك، فيقتل في كل الأحوال، ولا يقبل منه توبة ولا يقبل منه شيء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر