إسلام ويب

دور العلماء في الإصلاحللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أعطى الله تعالى الإنسان وسائل العلم فأخذ بها بعض المسلمين فبرزوا في العلم غيرهم، ونالوا بذلك ثناء الله وثناء رسوله على العلماء. وقد وقف عدد من العلماء مواقف حميدة خلدت ذكرهم، دفاعاً عن دين الله تعالى، ونصرة للحق وأهله، ابتداء من عهد الصحابة حتى العصر الحديث.

    1.   

    تعليم الله لعباده

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أسباب العلم التي أعطاها الله للإنسان

    فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لعباده الخيرة، وقد اختار أن يخلق الإنسان فخرجه من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئاً، ولكنه آتاه أسباب العلم: فخلق له السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه العقل الذي يدرك به محيطه ويفهم به واقعه، ثم بعد ذلك سدده بالوحي الذي هو خارج عنه، يرى به ما قبله وما بعده؛ ولهذا قال الغزالي رحمه الله: (العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج)، ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بهذين الموجهين العظيمين، أحدهما: داخلي: وهو من عند الله، لا يناله الإنسان إلا بقدرة الله وإلهامه، وهو العقل، والثاني: تسديد خارجي، خارج عن طوق الإنسان لا يستطيع الوصول إليه بوجه من الوجوه، وإنما اختيار الله تعالى، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، وهو هذا الوحي الذي ينير للناس طريق الحق، ويدلهم على مراد الله تعالى منهم، ويبين لهم أخبار الأمم السابقة التي لم يدركوها، ويبين لهم ما يأتي بعدهم من مشاهد القيامة وما دونها من الأمور التي يحتاجون إلى التنوير فيها؛ فكان جماع ذلك جميعاً هو العلم.

    تفاوت الناس في العلم

    وهذا العلم لم يرد الله تعالى أن يجعله للبشر جميعاً، بل جعلهم متفاوتين فيه متفاضلين، وقد جعلهم الله تعالى على درجات كثيرة، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ[آل عمران:163]، وجعل الأمم تتفاوت فيما آتاها الله منه؛ فقد ذكر الله تعالى أنه أنعم على اليهود بكثير من أنواع العلوم؛ ففصل لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه في التوراة التي كتبها بيمينه لموسى في الألواح، ولكنهم غضب الله عليهم حين تركوا علم الله وأهملوه، وقد ذكر مثالاً من أمثلتهم، وهو قصة الرجل الذي في سورة الأعراف، فهذا الرجل آتاه الله من أنواع العلم الذي آتى بني إسرائيل ما آتاهم، وعلمه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، ولكنه أعرض عن كل ذلك وأخلد إلى الأرض، وطلب الدنيا بما آتاه الله؛ فخسر الدنيا والآخرة معاً؛ فضرب الله له أخس الأمثلة وأقذرها، وهو المثال بالكلب الذي يلهث فيسيل ريقه، إذا زجره الناس لهث، وإذا تركوه لهث؛ فلا خير فيه على كل حال، سواء عرض له مطمع أو هدد كذلك بتخويف.

    وضرب الله لهم جميعاً مثلاً آخر هو أيضاً غاية في الإعراض عما حملوا، فقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ[الجمعة:5]؛ فضرب الله المثل لذلك العالم منهم بالكلب، وضرب لهم جميعاً مثلاً بالحمار الذي تحمل عليه الكتب، وهو لا يفقه شيئاً منها؛ فهو في غاية الجهل وفي غاية المذلة والهوان، وجهله بسيط؛ فهو جاهل ولا يمكن أن يدعي أنه عالم؛ فجهله على وفق حاله.

    حصول الإعراض عن العلم والعمل به في هذه الأمة

    وهذا المثل الذي ضربه الله لهم لا يختص بهم وحدهم، بل هو لكل من أعرض عما علم، وتركه ظهرياً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيحصل أيضاً في هذه الأمة المشرفة المعظمة، وقد ذكر الله ذلك فقال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان:30]، وقد اختلف أهل التفسير في المقصود بهذه الآية: فقالت طائفة منهم: إنما كان ذلك لإعراض أهل الطائف عن دعوته حين عرض القرآن على عبد ياليل بالطائف، فأعرض عنه، وقالت طائفة أخرى: بل يكون هذا في آخر الزمان عندما تعرض هذه الأمة عن التحاكم إلى كتاب الله، فلا يقوم به الناس في الليل، ولا يحكم به الحاكمون في النهار؛ فيكون ذلك سبباً لرفعه؛ فيقف بثنية الوداع مودعاً، وحينئذ يتركه الناس ظهرياً وراء ظهورهم، وهو أشرف ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض.

    وقد ذكر الله تعالى أن حال النصارى دون حال اليهود؛ فإنهم ضلوا على جهل؛ فاليهود عندهم العلم ولكنهم تركوه وأهملوه، والنصارى لم يكونوا على علم، وإنما تخبطوا في الجهل والظنون، واكتفوا بأقل ما بقي مما كان لدى الحواريين: أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى: ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]؛ فقال: المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى )، فالمغضوب عليهم هم الذين حل عليهم غضب الله حين آتاهم العلم فأهملوه وتركوه، والضالون هم النصارى الذين عملوا على غير علم، وإنما اتخذوا رهبانية من عند أنفسهم، لم يكتبها الله عليهم، ثم لم يقوموا بحقها ولم يؤدوها على وجهها؛ فكانوا بذلك ضالين عن طريق الحق.

    وهذه الأمة ستتبع سنن من قبلها من الأمم؛ كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتتبعن سنن من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً! )، فلا بد أن تتبع هذه الأمة مسالك اليهود والنصارى؛ فيكون منها من يتحملون العلم، ويعرضون عنه ولا يقومون بحقه، ويكون منها من يعرض عنه فلا يتعلمه أصلاً فيعمل على جهل.

    1.   

    مكانة العلماء وفضلهم في هذه الأمة

    هذه الأمة فيها الخير أيضاً، وفيها القائمون لله بالحجة، وقد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لهذه الأمة على رأس كل أمة، أي: كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها، و(من) من ألفاظ العموم، وهي تشمل الجمع والتثنية والمفرد، وراجح إطلاقها وتفسيرها هنا أن المقصود بهم: جمع يجددون أمر الدين، ويحييون ما درس منه؛ فيعلمون الناس ويعيدونهم إلى السنة، ويكافحون ما ظهر من البدع؛ فهؤلاء هم المجددون المحيون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الثناء الكثير في القرآن والسنة على العلماء

    ولقد جاء الثناء الكثير عليهم في القرآن؛ فقد قال الله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، فاستشهدهم على أعظم شهادة، بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، وقد حكم الله لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته؛ فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلام الله؛ فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم ومكانتهم؛ فقد صح عنه في صحيح البخاري من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً؛ فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

    منزلة العلماء والوظائف التي يقومون بها

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العلماء في هذه الأمة: فبين أنهم كأنبياء بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما تجدد أمر من أمورهم، وكلما أحدثوا حدثاً بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يجدد لهم أمر دينهم، ويغير ذلك الحدث الذي أحدثوه ويعيدهم إلى المحجة.

    وهذا ما لا يمكن أن يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خاتم الأنبياء كما قال الله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40]، وإنما يخلفه ورثته من العلماء، فهم الذين يرثون ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى، ويرثون علمه الذي هو ميراثه؛ فيوزعونه ويحملونه بحقه؛ ولذلك قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، ثلاثة أمور هي مما يتجدد كثيراً في هذه الأمة، وهي من المحذور الذي يغير الشرع ويقضي على السنة، وهذه الأمور الثلاثة هي عدو العلماء، وهي التي يكافحونها ويغيرونها.

    معنى قوله: (تحريف الغالين)

    قوله: (ينفون عنه تحريف الغالين)، والتحريف هو: وضع النصوص في غير مواضعها؛ فإن كثيراً من الذين ينتسبون للعلم أو يوهمون أنهم ينتسبون إليه يضعون نصوص الوحي في غير مواضعها، كما كان علماء بني إسرائيل يفعلون؛ فيوهمون الناس أن الحلال حرام ببعض النصوص التي لا تتعلق به، ويوهمونهم أن الحرام حلال ببعض النصوص التي لا تتعلق به، ويوهمونهم أن لبعض الأشخاص من الاعتبار في الشرع ما ليس لهم، ويعتمدون على نصوص لا تتعلق بهم؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في قادة زمانه: (إن قياسهم على الخلفاء هو قياس خمر على لبن)، فرد على أولئك العلماء أو المنتسبين إلى العلم الذين يظنون أن لهم من الحق ما كان لـأبي بكر و عمر و عثمان و علي ؛ فهيهات وشتان! والحال مفترق تماماً، فلا يمكن أن تكون أحكام أولئك لهؤلاء، ولا يجمعهم أي جامع مشترك، ولا يمكن أن يجتمعوا في أي جامع مشترك. ومن المعلوم أن القياس أركانه أربعة:

    أولها: الأصل المقيس عليه، والثاني: الفرع المقيس المجهول حكمه، والثالث: الحكم الشرعي الذي هو حكم الأصل، والرابع: المعنى الجامع بين الأصل والفرع، وهو العلة التي تجمع بين الطرفين؛ فإذا عدمت العلة فهذا قياس فاسد قطعاً؛ لأن أحد أركانه معدوم، وهذه العلة لا تكون إلا وصفاً جامعاً بين الطرفين، ولينظر الإنسان ما الوصف الجامع مثلاً بين أي شخص من الذين يعرفهم وبين أبي بكر مثلاً؟ ما هو الوصف الجامع الواضح الذي يمكن أن يقاس عليه؟

    لذلك كان وضع النصوص في غير مواضعها أول ما يتجه العلماء إليه من الأعداء؛ فيعيدونها إلى نصابها ومواضعها حتى يأخذ القوس باريها، وحتى يعلم الموضع الذي خاطب الله فيه عباده بالحكم، والموضع الذي خاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالحكم.

    معنى: (وانتحال المبطلين)

    العدو الثاني هو قوله: (وانتحال المبطلين).

    كثير هم أولئك الذين يزعمون زيادات في النصوص لم يأذن بها الله، فيضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه ما لم يقله، وينسبون إلى الشرع ما ليس فيه، وهؤلاء هم المنتحلون المبطلون الوضاعون الكذابون، وهم بلاء في هذه الأمة، وقد انتشر في كل عصورها، وقد قام العلماء الجهابذة بكفاح هؤلاء؛ ولذلك فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من أشهر الوضاعين في الصدر الأول من هذه الامة لما حكم عليه الخليفة العباسي بالقتل وأراد صلبه وقتله قال: لئن قتلتني لقد تركت فيكم أربعمائة حديث، وفي رواية: أربعة آلاف حديث، أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويلك! يعيش لها الجهابذة، أين أنت من عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن مهدي يبقران عنها حتى يخرجاها، فلما قتله دعا عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن المبارك فسألهما: هل تعرفان محمد بن سعيد ؟ فقالا: نعم، هو كذاب وضاع، فقال: ماذا وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعلا يتذاكران: وضع حديثاً يقول فيه: حدثنا فلان عن فلان بكذا، ووضع حديثاً يقول فيه: حدثنا فلان عن فلان بكذا، والرجال يكتبون حتى حصروا؛ فكان على العدد الذي قاله؛ ولذلك فإن البخاري رحمه الله قال: (والله لو هم رجل بالصين من الليل بوضع حديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس ببغداد يقولون: فلان كذاب وضاع)، فهذا من حفظ الله لشريعته، ومن حفظه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال العراقي في الألفية رحمه الله:

    فقيض الله لها نقادها

    أي: قيض الله لهذه السنة بعد أن ظهرت تلك الطائفة الوضاعة نقادها.

    فأوضحوا ببحثهم فسادها

    أي: بينوا فساد تلك الأحاديث الموضوعة التي وضعها أولئك القوم، وبينوا فسادها، وأنها ليست عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    معنى: (وتأويل الجاهلين)

    والعدو الثالث هو قوله: (وتأويل الجاهلين).

    كثير هم أولئك الذين يفسرون النصوص على غير معناها، ويشرحونها بما لا تقتضيه، ويحملونها على محامل شتى؛ فيفهمون منها ما لا تدل عليه بوجه من الوجوه، وهؤلاء يتوسعون في التأويلات حتى يخرجوا النصوص عن مرادها، وحتى تتضارب فيما بينها؛ فيضربون بعض القرآن ببعض، وبعض السنة ببعض، ويوهمون الناس التعارض بينها، وأنهم يريدون الجمع، وهذا غاية في الضلال والإضلال، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، وهذا القرآن جعله الله متشابهاً كله، أي: يصدق بعضه بعضاً ويفسره، كما قال الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا[الزمر:23]، وقال أهل العلم في التشابه العام معناه: أن بعضه يفسر بعضاً ويصدقه؛ فما من قصة طوي فيها موضع من المواضع إلا نشر في موضع آخر؛ فيصدق بعض القرآن بعضاً ويفسره.

    السلاح الذي يدفع به العلماء تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

    هذه الوظائف الثلاث لابد أن يقوم بها أهل العلم، وهي مقتضية منهم لثلاثة أوصاف هي العدة قبل الإقدام على هذه:

    الوصف الأول هو: الإخلاص لله والصدق، فمن لم يتحل بذلك لا يمكن أن يقف في وجه تحريف الغالين؛ فأهل الغلو والمبالغة لا يمكن أن يقف في وجوههم إلا من كان من أهل الصدق والإخلاص؛ لأنهم الذين يستطيعون الصبر على الأذى، ويستطيعون الإعلان بقول الحق لا يخافون في الله لومة لائم.

    والوصف الثاني هو: الحفظ للشرع، فمن لم يكن حافظاً للشرع أمكن أن يزاد عليه في الشرع ما ليس منه؛ ولذلك لابد أن يكون الذي يتصدى لرد ما يزيده الناس ويضيفونه إلى الشرع مما ليس منه حافظاً لنصوص الشرع مطلعاً عليها، وهذا الحفظ أساس للإفتاء وأساس للتوقيع عن رب العالمين، وهو الذي يكون الإنسان به من أمناء الله على وحيه، وقد أخرج أصحاب السنن و أحمد في المسند و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الحاكم في المستدرك بأسانيد صحاح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).

    والوصف الثالث هو: الفهم، فمن ليس من أهل الفهم والاستيعاب لا يمكن كذلك أن يرد التأويلات الباطلة، ولا يمكن أن يرد على الاعتراضات والمماحكات التي يأتي بها المتأولون المبطلون، فلابد أن يكون ذو الصدق والإخلاص والحفظ للنصوص من أهل الفهم لها، فالذي يحفظ النصوص ولا يفهمها، والذي يحفظها ويفهمها ولكنه غير صادق وغير مخلص لله تعالى لا يمكن أن يكون من أمناء الله على الوحي؛ فلابد إذاً من تحقيق هذه الصفات الثلاث، وهذه الصفات كل صفة منها تقابل نوعاً من المفسدين في الحديث السابق.

    1.   

    صفة العلماء

    قبل الحديث عن دور العلماء في الإصلاح لا بد من التعريج قليلاً على تعريف العلماء، فمن هم العلماء؟

    ثبوت العلم لوصف العلماء

    إن هذا الوصف شريف، ويمكن أن يدعيه كل أحد؛ فلذلك يحتاج إلى التعريف؛ حتى يعلم بطلان مدعيه من غير وجهه. فالعلماء هم الذين اتصفوا بالعلم الذي هو صفة امتن الله بها على أنبيائه وبلغوها للناس وشرف بها آدم في مسابقته مع الملائكة؛ فقال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[البقرة:31-33].

    فلذلك فالعلم صفة عالية سامقة، ادعاؤها يسهل تكذيبه؛ لأن الإنسان المتصف بها بعد ذكر الشروط الثلاثة السابقة لا بد أن يكون معه زاد من كل علم من العلوم الشرعية، سواءً كانت علوم مقاصد، أو علوم وسائل، وأن يكون مشاركاً فيها جميعاً، بحيث يستطيع فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون من أهل النقل العارفين بالكتاب والسنة، فمن كان جاهلاً بالكتاب والسنة ولو أحاط بآراء الناس وأقوالهم، ولو حفظ أقوال الفلاسفة والمتأولين لا يمكن أن يكون من أهل العلم؛ ولهذا قال الفخر الرازي رحمه الله في ندمه على ما جمعه من أقوال المتفلسفة والمتكلمين يقول:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

    ولذلك فإن الحافظ ابن عساكر رحمه الله يقول: (العلم قال الله قال رسوله)، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ[الأنبياء:45]، ويقول: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، فمن تمسك بهذا الأصل تمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، ولا يمكن حينئذ أن يتذبذب كتذبذب المنافقين، ولا أن يقال له: اترك؛ فيترك؛ لأنه متمسك بأصل كما قال الزبيري لأحد المتكلمين حين أراد مناقشته في إثبات صفات الله تعالى؛ فقال:

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    فما خلف لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الآمين

    صلى الله عليه وسلم.

    فلذلك لا بد أن يكون معه متمسك ودليل؛ ولهذا أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، فهذا الثبت لا بد منه، وهو الحجة الواضحة المتصلة بالقرآن أو بالسنة، فما كان دليلاً قائماً من كتاب أو سنة أو كان فريضة عادلة؛ فهذا هو العلم كما جاء في الحديث الذي جاء رفعه ووقفه: ( العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنة متبعة، وفريضة عادلة )، فهذه ثلاثة أمور، من تمسك بها؛ كان على محجة وله ثبت وبينة من الله، ومن لم يكن كذلك فهو من الذين يخبطون خبط عشواء، تارة يصيبون وتارة يخطئون، وإذا أصابوا فهم مخطئون حين تكلموا فيما لا يحسنون؛ فلذلك لا بد من الاتصاف بهذه الصفات والإحاطة بها.

    عدد العلماء من الصحابة

    وهذه الصفات يندر توافرها، وهي من الأمور النادرة القليلة، وإذا كان أهل العلم قد ذكروا أن العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية عشر فقط، فكم سيكون العلماء إذاً من أهل هذا القرن إذا كان العلماء من الصحابة ثمانية عشر فقط؟! هذا العدد هو الذي اختاره النسائي وألف فيه العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رويت عنهم الفتوى؛ فذكر ثمانية عشر فقط، وزاد ابن حزم فأوصلهم إلى واحد وعشرين فقط! لكن لم يزد أحد بعد ذلك.

    هذا العدد اليسير في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا الوحي، وكانوا عنده يسمعون إذا نزل الوحي عليه مثل أزيز المرجل، أو يسمعون مثل أزيز يعاسيب النحل، أو كصلصلة الجرس، هم قريبون جداً من الوحي، ويرون جبريل في صورة دحية الكلبي ، ويسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقون أنفاسه، ما امتخط ولا بصق إلا وقعت في كف أحد منهم فدلك بها وجهه ورأسه، وإذا تكلم أصغوا إليه كأن على رءوسهم الطير، وهم يلازمونه في الليل والنهار ويسألون عن كل أحواله، ويتعلمون منه كل شيء، حتى إن رجلاً من اليهود قال لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: ( علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! ) وهو يريد الهزء به، فقال: ( أجل، علمنا أن لا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، وأن نستجمر ثلاثاً ) فبين له أنهم على علم من كل شيء، حتى من تفصيل جزئيات الحياة، وأن هذا لا يزعج سلمان أن يقال له: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة!) فيقول: نعم، علمنا كل شيء.

    أدعياء العلم

    إذا كان هؤلاء هم العلماء وهم بهذا العدد اليسير القليل في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف سيكون من بعدهم؟! لا شك أن المدعين كثير جداً، ولكن قال البوصيري :

    والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء

    كثير هم أولئك الذين يزعمون العلم، لكن إذا سألت أحدهم: هل ختمت موطأ مالك أو صحيح البخاري , صحيح مسلم ؟ يقول: لا، كيف إذاً ينتسب لهذا الانتساب وهو لم يختم قط تفسير القرآن، ولم يختم موطأ مالك ، ولم يختم صحيح البخاري ، ولم يختم صحيح مسلم ، فضلاً عن الاطلاع على السنن والمسانيد والأجزاء وكتب التفسير الموسعة، إذا كان الإنسان هكذا مقراً على نفسه بمثل هذا فكيف يكون منهم؟!

    ولذلك فإن أحد الدكاترة اليوم أتاه أحد المدعين الذين يؤلفون كثيراً من الكتب، وتنشر لهم المطابع كل يوم عدداً من المؤلفات، وينتسب لأحد العلماء المعاصرين ويذكر أنه من كبار تلامذته، فقال: هل درست على الشيخ الفلاني الكتب الستة؟ قال: لا، قال: هل درست عليه الصحيحين؟ قال: لا، قال: هل درست عليه صحيح البخاري ؟قال: لا، قال: هل درست عليه عمدة الأحكام للحافظ المقدسي ؟ قال: لا، قال: هل درست عليه الأربعين النووية؟ قال: لا، قال: كيف تزعم أنك من طلاب هذا المحدث الكبير وتنتسب إليه وأنك وارثه بحق، وأنت لم تدرس عليه شيئاً من هذه الكتب، بإقرارك أنت بعظمة لسانك؟!

    فلهذا لا بد إذاً من تقليل من يطلق عليه هذا اللفظ وانتقائه.

    علو مقام العلماء والاتصاف بصفتهم

    فهذا المقام الشريف السامق لا يمكن أن يوصف به كل من هب ودب، بل إن الله تعالى لا يمكن أن يأتمن على وحيه من كان من المفلسين الذين لا يؤتمنون على الدريهمات ويخطئون في ليلهم ونهارهم، هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يؤتمنوا على الوحي الذي هو أشرف ما على وجه الأرض، فلا يمكن أن يـأتمن الله عليه المفلسين، ومن اختارهم الله تعالى للائتمان عليه فهذه تزكية ربانية، فالله تعالى يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، ويقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51].

    ويعجبني هنا قول الفقهاء المتأخرين من المالكية عندما نقلوا عن مالك رحمه الله في تعريفه لأهل الحل والعقد، قال: (هم من اجتمع فيهم ثلاث صفات: العلم، والعدالة، وجزالة الرأي. قال مالك : ولا أراها اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل؛ فبالعقل يَسأل، وبالورع يكف) وفي رواية: (وبالورع يعف) هذا كلام مالك بن أنس في زمانه، قالوا: (فما ظنكم بزماننا هذا؟!) إذا كان مالك بن أنس يقول في زمانه - أتباع التابعين - وهو بين ألف من أتباع التابعين، كل إنسان منهم يقول: حدثنا أبي، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهو يقول: (لا أراها اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل؛ فبالعقل يسأل وبالورع يكف) فما ظنكم بالمتأخرين من بعدهم؟! قال هذا الكلام عدد من أئمة المالكية المتأخرين منهم: شارح مختصر ابن حاجب ، ونقله عنه عدد من المتأخرين منهم: البناني في حاشيته على الزرقاني ، جميعاً يقولون: (إذا كان مالك في زمانه يقول: لا أراها اليوم تجتمع في واحد، فما ظنكم بزماننا؟!).

    عظم تبعات الوصف بالعلم

    إن هذا الوصف السامق الرفيع إذا وصف به إنسان فإن التكليف على قدر التشريف، تزداد مسئولياته، وتزداد التبعات عليه، ولم يكن ليركن إلى الهدوء والراحة والاستقرار، بل سيعلم أنه كلف بالأعباء الشاقة وبالمشكلات الجسيمة، وعليه أن يتحمل أعباءها، كما تحمل الصديق رضي الله عنه؛ فقد كان حين بويع بالخلافة يشم عنده رائحة الشواء، وما ذاق لحماً وإنما ذلك من رائحة كبده، رضي الله عنه وأرضاه، وكان لا يستطيع النوم للتفكير في أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما بلغته ردة العرب اخترط سيفه وكسر قرابه وقال: (أينقص هذا الدين وأنا حي!) فهذا الحال هو الذي يتصف به من كان بهذا المستوى، ومن تحمل هذه الأمانة الجسيمة العظيمة.

    ولذلك أشار الشريف الجرجاني رحمه الله إلى تغير حال بعض معاصريه من ذوي المطامع فقال:

    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما

    ولكن أذلوه جهاراً وجهموا محياه بالأطماع حتى تجهما

    فإذا كان الإنسان يعلم هذه المسئوليات الجسيمة فقد قام عليه من الحجة ما لم يقم على غيره، وهو أولى الناس بأن يتقدم وأن يبرز للناس الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يقول الحق ولو على نفسه، وأن يتقدم بكل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولو أدى لإهلاكه هو، فلا بد أن يتصف بالشجاعة المقتضية لذلك، ولا بد أن يتصف أيضاً بالحرص على الأمة، فهذه صفة من صفات محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، وهذا الحرص على هداية الناس واستقامتهم ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وورثوه لمن بعدهم من أهل العلم؛ فكان صفة بارزة من صفات علماء هذه الأمة، وهذا الحرص يقتضي من الإنسان الرأفة والرحمة، ويقتضي منه النصيحة الجادة، ويقتضي منه الإخلاص والدعاء للناس بالسلامة جميعاً، ويقتضي منه كذلك الاعتدال فيما يقدمه لهم من الحلول؛ لئلا ييأسوا ولا يتجاسروا؛ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99]، وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر:56]؛ فيحاول أن يسلك بالناس هذا المسلك المعتدل المتوسط بين أمن مكر الله وبين القنوط من رحمة الله؛ فيعيشوا حياة الرجاء والخوف، وهي حياة الاعتدال التي ينبغي أن يعيشها المسلم في كل أحيانه، إلا عند الموت فقط؛ ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله تعالى ).

    وحينئذ لا شك أنه سيمتحن على طريق الحق، وسيتعب في سلوك ذلك الطريق، ولكن عزاءه ما قاله ابن تيمية رحمه الله: (ما يفعل أعدائي بي! قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، جنتي في صدري). فهو مشغول بما يحفظه في صدره من الكتاب والسنة والعلم، فإذا قتل كان ذلك شهادة في سبيل الله، وهي أسمى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان اليوم، وإذا سجن فهو خلوة مع الله سبحانه وتعالى، يحتاج إليها كثيراً، ويأنس بها، وإذا نفي وطرد فهو سياحة في سبيل الله وسير في مناكب الأرض وابتغاء من فضل الله، فلا يمكن أن يصلوا إليه بضرر إذاً.

    ولابد كذلك أن يستشعر أن حرصه على أحوال الأمة يقتضي أن يهدر حقوق نفسه في مقابل حقوق الأمة؛ كما قال ... بن عبد الله الفاسي رحمه الله:

    أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب

    ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب

    وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب

    ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب

    على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب

    ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب

    1.   

    استشعار مسئولية العلم والعمل به لدى الصحابة

    فلذلك لابد من استشعار هذه المسئولية، وقد استشعر ذلك العلماء المخلصون الصادقون؛ ففي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان العلماء منهم بالمرصاد لمن حاد عن الجادة، يأطرون الأمة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق، فلا يرون فيها ميلاً إلا ثارت ثائرتهم، فقاموا لله بالحق الذي بايعوا عليه، وهم يعلمون أن من كتم علماً ألجم يوم القيامة بلجام من نار، ويعلمون أن من أفتى على غير ثبت؛ فإثم المستفتي عليه، ويعلمون أن من قال على الله بغير علم، فقد فعل ما هو عدل للشرك، قد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33].

    ولذلك فقد كانوا ينكرون المنكر ولو أدى ذلك إلى أذاهم، ويقومون بالحق وينصحون للأمة، والمشاهد التي جرت لهم في ذلك لا يمكن حصرها وتقصيها.

    موقف جرير بن عبد الله عند موت المغيرة بن شعبة

    أخرج البخاري في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وكان من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يوم مات المغيرة بن شعبة وقد كان أميراً على مصر من الأمصار، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم فمات فجأة؛ فحصل خوض في المصر الذي هو فيه، فقام جرير بن عبد الله البجلي خطيباً فيهم، فقال: (أيها الناس! عليكم باتقاء الله وبالسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن). ثم قال: (استعفوا لأميركم؛ فإنه كان يحب العفو). ثم قال: (أيها الناس! إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبايعه على الإسلام؛ فشرط علي: النصح لكل مسلم، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح)، ثم استغفر ونزل، ترون في هذا المثال حرصاً من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، وعلى لزومها للمحجة، وعلى التزام السكينة والأمن العام والهدوء، وعدم الاعتداء، والحرص على النصيحة، وبين أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك عندما بايعه على الإسلام شرط عليه فقال: ( والنصح لكل مسلم )، أي: أبايعك على الإسلام، وأبايعك على النصح لكل مسلم.

    مبايعة عبادة بن الصامت رسول الله على قول الحق حيثما كان

    ومثل ذلك ما أخرج الشيخان في الصحيحين أيضاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان من كبار علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وهو نقيب بدري عقبي أحدي، من أهل بيعة الرضوان وقد أخرجا عنه أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم).

    إذاً هذه بيعتهم التي بايعهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذات بنود متنوعة متعددة، وهذا البند منها وهو قوله: (على أن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم). ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرين يدلان على التعميم: أحدهما: قوله: (حيثما كنا) أي: في أي مكان كنا فيه، سواءً كنا في نحور الأعداء؛ في الجهاد في سبيل الله، أو كنا على الفرش في البيوت بين الأهل، أو كنا في السجون أو كنا على المشانق، أو كنا في أي مكان، (حيثما كنا) ثم قال: (لا نخاف في الله لومة لائم).

    وهذا التعميم الثاني هو عدم الخوف من أي لائم كان، سواءً كان ناصحاً قريباً مشفقاً، أو كان عدواً مماحكاً؛ فالجميع لا يخافون لومته في الحق، هذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

    موقف عمارة بن رويبة مع بشر بن مروان

    وقد أخرج مسلم في الصحيح أيضاً: أن بشر بن مروان قام على المنبر خطيباً، فلما وصل إلى الدعاء في الخطبة رفع يديه، وهذا مخالف للسنة، فقام إليه عمارة بن رويبة الأسلمي وكان من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في أثناء خطبة الجمعة: (قبح الله هاتين اليديتين القصيرتين! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ما زاد على هكذا، ورفع إصبعه). فهذا الصحابي الجليل وهو يشهد خطبة الجمعة، ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حرك الحصى فقد لغا )، ويعلم أنه قال: ( من لغا فلا جمعة له )، ويعلم أنه قال: ( فلا يفصل بين اثنين بغير إذنهما)، ومع ذلك يقوم إلى هذا الأمير المهيب المشهور، الذي هو من قادة الجهاد في سبيل الله الذين فتحوا الأمصار، ومن الأقوياء من أمراء بني أمية، فيقوم إليه على أساس مخالفته للسنة، في أمر ينظر الناس إليه الآن على أنه سهل جداً، فرفع اليدين بالدعاء الأصل فيه الجواز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي كريم )، وفي رواية: ( ستير كريم، يستحيي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً )، لكن على المنبر لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في دعاء الاستسقاء؛ فقد رفع يديه وظهورهما إلى السماء في الاستسقاء على المنبر، أما ما سوى ذلك من الأدعية فلم يرفع يديه معاً، وإنما كان يرفع إصبعه، فقام إليه هذا الصحابي الجليل، فأنكر هذا الإنكار البالغ الذي فيه زجر عظيم، فقال: (قبح الله هاتين اليديتين القصيرتين! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ما زاد على هكذا ورفع إصبعه).

    موقف أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب مع مروان بن الحكم

    وكذلك أخرج مالك في الموطأ و البخاري في الصحيح: أن مروان بن الحكم وكان أميراً على المدينة أراد أن يخطب خطبة العيد قبل صلاة العيد، وهذا مخالف للسنة، فالسنة في خطبة الجمعة أن تكون قبل الصلاة وفي خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة، وهكذا داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الناس كانوا يصلون مع مروان فإذا سلم انصرفوا عن خطبته؛ لأنها من الدعاية السياسية والكلام في أعراض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان الناس ينصرفون عنها، وكانوا إذا خطب هو أو غيره من الأمراء الذين يتكلمون بالترويج السياسي في خطبة الجمعة لا يستطيعون الانصراف عنهم، لكن يلتفت بعضهم إلى بعض فيكلمه، وقد كان سعيد بن المسيب رحمه الله، وهو سيد التابعين، وقد قال أحمد بن حنبل : (هو أفضل التابعين) كان في المسجد النبوي، فقام خطيب بني أمية فتكلم في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتلك الدعايات السياسية المغرضة، فالتفت سعيد إلى من حوله فقال: (إذا لغا الإمام فالغوا)، فكلمه، وكان سعيد وغيره من فقهاء المدينة الكبار ينظرون إلى الإمام، فما دام في القرآن والسنة والثناء على الله ينصتون ويصغون وينظرون إليه، فإذا اشتغل بذلك الكلام التفت بعضهم إلى بعض فتكلموا فيما بينهم، فأحس مروان بأن الشعب العريض لا يمكن التأثير عليه بالجند، فلا يمكن أن يأتي بعدد الحاضرين لصلاة العيد من الشرطة فيمنعون الناس من الانصراف بعد الصلاة حتى يسمعوا خطبة الأمير، لا يستطيع السيطرة على هذا الشعب الكثير العريض؛ فاحتال عليهم حيلة وهي أن يقدم الخطبة قبل الصلاة، فالناس سينتظرون الصلاة، فلما قام على المنبر يريد الخطبة قام إليه أبو سعيد الخدري و أبو هريرة فاكتنفاه حتى أنزلاه عن المنبر، وقال: (متى غيرتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لقد ترك ما هنالك، وقال لـأبي هريرة : لقد ترك ما تعلم، فقال: ما أعلم خير مما لا أعلم). وكذلك فإنه ذات يوم أيضاً أراد تغيير سنة أخرى فقام إليه رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه، فلم يقبل منه مروان ذلك، فقام أبو هريرة مغضباً فقال: أما هذا فقد أدى الذي عليه.

    موقف ابن عمر مع الحجاج

    وكذلك في صحيح البخاري من حديث سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الحجاج بن يوسف لما خرج أميراً على الحج في أيام عبد الملك بن مروان بعد قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أراد أن يؤخر الصلاة على عادة بني أمية في ذلك الوقت، فقد كانت عادتهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، فأراد الحجاج ذلك فدخل في قبته فجاء عبد الله بن عمر فوقف على القبة، فناداه ودعاه دعاءً شديداً وأمره أن يخرج إلى الناس إن كان سيصلي بهم.. انقطاع للصوت!! ما رأى شاة سميطاً، أي: مشوية كاملة، مصلية، فبكى أنس ورجع عن تلك الوليمة.

    بكاء عبد الرحمن بن عوف عند تقديم مائدة الإفطار

    وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان صائماً، فلما وضعت مائدة الإفطار بين يديه رأى فيها ألواناً، وكان من أغنياء الصحابة، فلما رأى تلك الألوان بكى بكاءً شديداً، حتى بكى من حوله، فقالوا: (يا أبا المنذر ! وما يبكيك؟ فقال: كنا أهل كفر، فبعث الله إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنا واتبعنا فجاهدنا في سبيل الله، فمنا من مات ولم يتعجل شيئاً من أجره، منهم: أخي مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد وليس له إلا سيفه وبردة عليه، إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا بها رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر، فماتوا ولم يتعجلوا شيئاً من أجرهم وبقينا وراءهم ففتحت علينا الدنيا أبوابها فنحن نهدبها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20]).

    وكذلك أخرج البخاري في الصحيح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه دعاه قوم فوضعت المائدة بين يديه فلما رآها بكى مثل ما بكى عبد الرحمن بن عوف فقال: (إن أخي مصعب بن عمير قتل يوم قتل وليس له إلا بردة هي عليه، إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإن نحن غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقد ماتوا، ولم يتعجلوا شيئاً من أجرهم) هكذا كان حرصهم على هداية هذه الأمة والقيام بمصالحها، وكانوا ينصحون لجميع أهلها.

    موقف أبي مريم مع معاوية

    ولذلك أخرج أحمد في المسند أن رجلاً من أصحاب رسول الله كان يكنى أبا مريم ، وليس فيهم هذه الكنية إلا هذا الرجل وحده، فهو من الآحاد، فجاء إلى معاوية رضي الله عنه بالشام ولم يأته قبل، فلما استأذن عليه ودخل قال له معاوية : (ما أسعدنا بك يا أبا فلانة!) أي: ما الذي جعلنا نسعد برؤيتك يا أبا فلانة؟! فقال: (حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه )، فبكى معاوية فقام أبو مريم وانصرف راجعاً ونعلاه في إحدى يديه، لم ينتظر الضيافة، وقد جاء مسافراً من المدينة إلى الشام، وهو يريد فقط أن يسمع معاوية رضي الله عنه هذا الحديث الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    حرص علماء الصحابة والتابعين والفضلاء من العلماء بعدهم على صلاح هذه الأمة

    وكذلك حال أئمتنا من علماء التابعين؛ فإنهم كانوا على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدي الأول، فكانوا يحرصون على صلاح هذ الأمة، كلما رأوا فيها خطراً عالجوه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكتاب الله تعالى.

    وكانوا يستنكرون على الناس الإيغال في كل الأمور، حتى إن أبا عبد الرحمن السلمي وهو من أئمة التابعين لما أتى أهل الكوفة فرأى كثرة ما يحفظ الطلاب يومياً من القرآن، وهذه ظاهرة إيجابية عندنا، نحن الآن إذا رأينا الطلاب يكتب لهم في الألواح الكثير ويحفظونه في اليوم لا يشق هذا علينا، لكن أبا عبد الرحمن أنصح منا، فلما رآهم قام خطيباً في الناس، فنصح لهم فقال: أيها الناس! أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم: أبي بن كعب و زيد بن ثابت ، و علياً و عثمان و أبا هريرة ، و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، قالوا: ما كنا نتعلم عشر آيات من القرآن فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم وحتى نعمل بها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. فهو يخشى على الناس أن يشتغلوا بحروف القرآن وأن يتركوا حدوده، فخشي عليهم ذلك، وهذا ما تعلمه من حرص الصحابة من قبل على هذا؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان له منبر يذكر الناس فيه كل خميس، يعظ الناس ويذكرهم، فقال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الرحمن! وددنا لو ذكرتنا كل يوم، فقال: (إني لأتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا)، فلم يقبل ابن مسعود أن يغير ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله مع أصحابه.

    إنكار معاوية على علماء المدينة سكوتهم عن وصل النساء للشعر

    وكذلك فإن هذا الحرص أيضاً لم يكن مختصاً فقط بالعلماء الذين لا يتولون المناصب والوظائف، بل كان العلماء الذين هم في الوظائف يقومون به أيضاً؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وهو من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتاب الوحي صح عنه في صحيح البخاري أنه حين أتى المدينة في حجته وجد أهل المدينة يصل نساؤهم الشعر، فأخذ قصة من الشعر وكانت في يد حرسي يقف إلى جنبه وهو على المنبر يخطب فقال: (يا أهل المدينة! ما هذا؟! أين علماؤكم؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلات والمستوصلات).

    فهذا أمير المؤمنين ينكر على أهل المدينة مثل هذا النوع من البدع.

    موقف الإمام مالك من أيمان البيعة لبني العباس

    وهكذا من بعدهم من الأئمة، فأتباع التابعين أيضاً كانوا بهذا المستوى، ومن مشاهيرهم: إمامنا إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر رحمة الله عليه، فإنه عندما أحدث بنو العباس أيمان البيعة التي يحلف فيها المبايع بالطلاق والعتاق أفتى مالك ببطلان تلك الأيمان وأنها لا تنعقد، فاتخذ والي المدينة إجراءً في حقه وهو: أن يجلد سبعين سوطاً، وأن ترفع يده حتى تخلع، وأن يطاف به على حمار يوقف به على المجالس، فانتهز مالك هذه الفرصة؛ فكان كلما وقف به على مجلس يقول: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن كان لا يعرفني فأنا مالك بن أنس ، ألا إن أيمان البيعة باطلة، ألا لا طلاق في إغلاق، فلم يكن لـمالك إذاعة ولا وسيلة إعلان يستطيع أن يعمم من خلالها فتواه، وقد وجد ذلك في فرصته عندما أمر به الوالي أن يطاف به على المجالس على ذلك الحمار، فعمم فتواه فسارت بها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها.

    رفض أبي حنيفة للقضاء

    وهكذا كان عدد من معاصريهم من أتباع التابعين بهذه المثابة من النصيحة لهذه الأمة والحرص على مصالحها، حتى إن أبا حنيفة رحمه الله عندما دعي إلى القضاء قال: (لا يمكن أن يجتمع على هذه الأمة أن يكون واليها فلاناً وقاضيها أبا حنيفة )؛ وما ذلك إلا لأنه يتواضع فيخاف على نفسه من أنه قد يتأول أو يجتهد في بعض المواضع، فخاف على الأمة إذا تولى هو القضاء.

    وعندما دعاه المنصور ليوليه القضاء حلف الخليفة: إن أبا حنيفة كفؤ للقضاء، فحلف أبو حنيفة أنه غير كفؤ للقضاء، فقام الناس إليه فقالوا: أتكذب الخليفة وتحلف على نقيض يمينه؟! فقال: (الخليفة أقدر على الكفارة مني، فأنا امرؤ فقير).

    إنكار الشافعي على إبراهيم بن علية بدعته

    وهكذا كان الأئمة بعدهم، فـمحمد بن إدريس الشافعي رحمه الله كان من المشاهير بالنصح لهذه الأمة، وكان يقول للمبتدع قولاً شديداً؛ فقد قال لـحفص الفرد عندما أظهر بدعة القول بخلق القرآن قال له: (دمك في عنقي، وقتلك حل)، فهذه فتوى الشافعي قالها لـحفص الفرد عندما أعلن هذه البدعة وروج لها.

    وكذلك فإنه أيضاً قال لـابن علية : (أخالف إسماعيل بن إبراهيم بن علية في كل شيء، حتى في لا إله إلا الله، فقيل: سبحان الله! كيف تخالف في لا إله إلا الله؟! فقال: إن الله الذي أومن به وأعبده هو الذي كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وهو الذي استوى على عرشه بائن من خلقه، والله الذي يعبده إسماعيل بن إبراهيم بن علية لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يستو على العرش)، فكان هذا أبلغ رد على المبتدعة والضلال في ذلك العصر.

    الإمام أحمد وفتنة القول بخلق القرآن

    وكذلك كان أحمد بن حنبل جبل هذه الأمة وإمامها في فتنة القول بخلق القرآن؛ فكان إمام أهل السنة بحق؛ ولذلك قال فيه عدد من الأئمة بعده: (فتنتان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوى الله لهما رجلين فوقفا في وجههما: فتنة الردة فكان لها أبو بكر ، وفتنة القول بخلق القرآن، فكان لها أحمد بن حنبل ). وقد جاءه أحد العلماء الناصحين فقال له بعد أن جلد عدداً كبيراً من السياط ومكث في السجن ثمانية عشر شهراً قال له ذلك العالم الناصح: يا أحمد ! إن تأويلاً واحداً يخرجك من هذه الورطة، وإن الأمة محتاجة لعلمك، فأخرج لهم أي تأويل واخرج به من السجن، فالتفت إليه بازدراء وقال: (إن كان عقلك هكذا فأنت في راحة). وعندما أتاه آخر من الناصحين وجاء في صورة عامل نظافة، لبس أثواب عمال النظافة ليدخل السجن حتى يتسور على أحمد بن حنبل ، فأتاه فإذا هو قد كان يجلد والقيود في يديه ورجليه؛ فوقف عليه فقال: يا أبا عبد الله ! إنك اليوم رأس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنك إن أجبتهم إلى ما يدعونك إليه فلن يقف أحد بعدك مع السنة، فالتفت إليه فقال: ما شاء الله.. ما شاء الله! فذكر أحمد بعد خروجه أن هذه الكلمة كانت من أساس قوته وصبره على الحق حتى زالت الفتنة.

    مناظرة عبد العزيز المكي لبشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد

    وكذلك الإمام عبد العزيز المكي رحمه الله فقد جيء به في القيود والسلاسل حتى وقف بين يدي أمير المؤمنين الواثق ، وقد جيء بـأحمد بن أبي دؤاد و بشر المريسي يجادلانه، فجادلهما حتى رد ما لديهما من الباطل والحجج وأبطلا بين يدي الخليفة حتى تغير نظر الخليفة من ذلك الوقت وترك تلك البدع.

    مناظرة شيخ المصيصة لابن أبي دؤاد

    وكذلك شيخ المصيصة ، وقد جيء به بالقيود والسلاسل كذلك، فلما وضع بين يدي الخليفة دعاه لمناظرة القاضي أحمد بن أبي دؤاد ، وهو رأس المعتزلة، فقال: كيف أناظر هذا الجهمي وهو جالس مع الخليفة على بساطه وأنا في السلاسل والقيود؟! فأمر الخليفة بفتح القيود عنه حتى يجلس إلى خصمه وأمر أحمد أن يجلس إليه، فجلس إليه فجادله، فقال: إما أن تبدأ وإما أن أبدأ؟! فقال: هذا الذي تدعو الناس إليه شيء علمه رسول الله و أبو بكر و عمر و عثمان و علي أم جهلوه؟ قال: بل علموه، قال: أفدعوا الناس إليه؟ قال: لا، قال: شيء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان و علي فلم يدعوا إليه أحداً جدير بك أن تسكت عنه، فقال: أقلني، والمسألة بحالها، فقال: بل جهلوه، قال: شيء جهله رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان و علي من أين لـأحمد بن أبي دؤاد أن يعلمه؟! فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه من الضحك، فجعل يكرر ذلك، يقول: شيء علمه رسول الله و أبو بكر و عمر و عثمان و علي فسكتوا عنه، جدير بنا أن نسكت عنه، شيء جهله رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان و علي من أين لنا علمه؟ وهذه حجة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين يدي كل مبتدع، كل من أتى ببدعة جديدة، في أي أمر من الأمور؛ فأردت إسكاته فقل له: هذا الذي تدعو إليه وتتكلم فيه، هل علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان و علي أم جهلوه؟ وأعد عليه الحجة كما هي، فهي حجة في وجه كل مبتدع، لا يستطيع أن يصمد لها أبداً.

    دفاع العلماء عن دين الله وسنة رسوله

    وكذلك الإمام البخاري رحمه الله؛ فإنه وقف في وجه الجهمية، وقد ألف كتابه "خلق أفعال العباد والرد على الجهمية"، وكذلك الإمام الدارمي رحمه الله فقد ألف الرد على الجهمية، وهكذا عدد كبير من الناصحين من علماء هذه الأمة الذين كانت لهم مشاهد مشهودة، ومواقف معروفة في الدفاع عن الحق ونصرته، وكانوا جميعاً كلما أحسوا بتهديد لدين الله يتمثلون قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

    أتهجوه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء

    هجوت مباركاً براً تقياً أمين الله شيمته الوفاء

    فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

    لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

    فهم مستعدون للدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال يحيى بن معين رحمه الله: (إنا لنتكلم في رجال عسى أن يكونوا قد حطوا أرحلهم في الجنة قبل مائة عام، ولكن لأن يكونوا خصماً أحب إلينا من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصماً لنا).

    وهكذا حتى في العصور المتأخرة من هذه الأمة؛ فما من عصر من العصور إلا وعرف فيه عدد من الجهابذة الكرام، الذين أوذوا في الله تعالى وقاموا لله بالحق، ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلوا كلمة الله بما يستطيعونه، فكتب الله لهم البقاء على رغم أعدائهم، فمن مات منهم فقد نال الشهادة في سبيل الله، ومن عاش فقد نال العزة كذلك بالله سبحانه وتعالى، وأمثلة هذا كثيرة غير محصورة، فهذا القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي رحمه الله، أضجع وذبح كما تذبح الشاة في موقفه في الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك سجن أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ثماني عشرة سنة وجلد خمسمائة سوط في سبيل الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك عذب عدد كثير من الأئمة الأعلام ونهبت دورهم؛ فهذا أبو بكر بن العربي نهبت كتبه وداره ثلاث مرات، يقول: كلما جمعت مكتبة وبدأت التأليف تقع مشكلة فتنهب داره فلا يبقى فيها شيء، فيدخل منزله وليس فيه فراش ولا لباس ولا أي شيء، ينهب منزله، ثلاث مرات.

    وهكذا أبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب، الإمام الجبل، حافظ السنة، الذي يقول في كتابه "التمهيد":

    سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة وكاشف همي والمنفس من كربي

    جمعت لهم فيه حديث نبيهم

    ويقول في مرثيته لنفسه:

    حديث رسول الله والسنة التي أتت عن رسول الله في صحة الخبر

    هذا الذي يبكي عليه من قرنائه وزملائه، هذا الرجل حبس كذلك ستة أشهر في مكان ثم نقل إلى مكان آخر فحبس فيه ثم نفي، ونهبت داره ثلاثاً، وانتزعت منه مزرعته التي كان يعيش فيها.

    وهكذا، فالذي يريد أن يتتبع ذلك ما عليه إلا أن يقرأ سير هؤلاء الأئمة الأعلام فسيجد كثيراً من المحن التي دخلوها.

    1.   

    تضحيات علماء معاصرين في سبيل نصرة الحق

    والنماذج المتأخرة كذلك في هذا الباب كثيرة جداً.

    محمد عليش في مواجهة الإنجليز

    فـمحمد عليش الذي يشتهر عندنا بـعليش ، وهو من علماء المصريين المتأخرين، ومن فقهاء المالكية قد أفتى بوجوب الجهاد ضد الإنجليز؛ فوضعوه في السجن وهو صائم في رمضان بعد أن تجاوز تسعين عاماً من عمره؛ فمات في سجن الإنجليز، فكان ذلك شهادة في سبيل الله.

    وقوف الفندلاوي ضد الصليبيين

    وكذلك الإمام الفندلاوي المغربي خرج للحج، فلما حج رجع إلى بيت المقدس، فجاءت حملة من حملات الصليبيين على الشام فقال: هذه فرصتي؛ فقد كنت خرجت للحج ثم خرجت للتقديس، أي: الصلاة في بيت المقدس، والآن جاء الجهاد في سبيل الله، فطلب من الأمير أن يجعله في الصف الأول في وجه العدو، وقد كان شيخاً كبيراً في السن، فقاتل حتى استشهد في سبيل الله.

    قتال ابن جزي للإسبان

    وكذلك الإمام ابن جزي المالكي، إمام الأندلس فإنه قاتل الإسبان حتى قتل شهيداً في سبيل الله في إحدى معارك قرطبة.

    وهكذا، وعددهم كثير، لا يمكن أن نحيط به، وبالأخص في هذا الزمان المتأخر، الذي عادت فيه الغربة الأولى، فعاد الناس إلى حال غربة الدين التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء، قالوا: ومن هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )، وفي رواية: ( الذين يصلحون إذا فسد الناس )، وفي رواية: ( الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي )، هذا الزمان زمان الغربة، والذين يدعون فيه إلى الله سبحانه وتعالى يتعرضون لأنواع الأذى، ويتعرضون للقتل، ولغير ذلك من أنواع الأذى.

    تعرض ابن الأمير الصنعاني للإيذاء

    فمن الدعاة الذين دعوا إلى شرع الله وتجديده في هذه العصور المتأخرة مثلاً الأمير الصنعاني اليمني وقد تعرض للأذى في سبيل ذلك وفقد إمارته ومكانته، وأوذي في الله ولكنه صبر على ذلك فرفع الله منزلته.

    كفاح محمد بن عبد الوهاب

    وبعده كذلك محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي؛ فقد دعا إلى التوحيد الخالص وكفاح عبادة الأوثان من دون الله تعالى، والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بيئة عادت إلى الجاهلية الأولى؛ فحاربه أقرب الناس إليه وأخرج من مدينته في وقت الظهيرة حافياً، تطرده الخيل وهو يمشي على رجليه حافياً، ولكن الله سبحانه وتعالى نصره على أعدائه ومكن له في الأرض، وكذلك أولاده من بعده فقد أوذوا أذى شديداً حتى إن أحد أولاده وهو ابنه عبد الله أخرج من نجد وذهب به إلى مصر ثم إلى الأستانة، ثم مرت من فوقه دبابة حتى كسرت عظامه، ودفن بعض أولاده حياً في الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    تضحية حسن البنا وسيد قطب

    وكذلك الإمام حسن بن أحمد البنا الساعاتي ؛ فإنه أيضاً قتل فأطلق عليه ثلاث رصاصات في صدره وهو يتوضأ لصلاة المغرب، وهو مستعد لمحاضرة كان سيلقيها في نادي الشبان المسلمين في القاهرة، ولم يرتع ولم ينزعج لهذا الأمر؛ فعندما أصابته الرصاصات أخذ قلماً كان في جيبه فكتب رقم السيارة، وبدأ يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، ويضع يديه على الدم وهو ينزف منه، ثم كان آخر ذلك أن رفع يده اليمنى عن جرحه فرفع إصبعه بالتوحيد فمات وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    وكذلك بعده من المتأثرين به: سيد بن قطب رحمه الله، وقد كان من المثقفين الذين درسوا في الغرب، ودرسوا في أمريكا، ورأوا الحضارة المادية وانغمسوا في بعضها، ولكن الله أراد له الخير والهداية؛ فقد كان في أمريكا يوم قتل البنا في مصر؛ فسمع الكنائس تدق جرسها، وتعلن أناشيدها فرحاً؛ فسأل أهل الكنائس: لماذا؟ فقالوا: قتل اليوم عدو الكنيسة في الشرق، وهو حسن البنا ، فبحث عن هذا الرجل وبدأ يقرأ كتبه فكان ذلك أصل التزامه وهدايته، وعندما أوذي في الله وسجن منع من كل شيء، فكان الناس يسربون إليه بعض الأوراق والأقلام في داخل الطعام؛ فيكتب فيها وهي في الدسم، وفي أوساخ الطعام، ويردها إلى مكانها، حتى كتب تفسيره من السجن، وعندما حكم عليه بالقتل شنقاً بالمشنقة جاءه أحد المنتسبين للعلم من علماء السلطان، فأراد أن يلقنه شهادة أن لا إله إلا الله؛ فقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فقال: (نعم، أقولها، وأموت من أجلها وأنت تعيش بها وتأكل بها الخبز).

    وعندما طلب منه أن يوقع اعتذاراً، وهو لا يعتذر عن شيء، ولم يفعل شيئاً حتى يعتذر عنه، قال: (إن إصبعي التي أرفعها في التوحيد فأشهد بها أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تكتب خلاف ذلك ولا أن تنقضه). ومن الغريب ما ذكره بعض الحاضرين لقتله أنه عندما رفع على المشنقة، وضع في حبل المشنقة، فأزيل المقعد الذي كان يقف عليه، فانقطع حبل المشنقة ووقع هو حياً، فقال: (كل شيء من دنياكم هش حتى حبال مشانقكم).

    جهود المودودي في الهند

    وكذلك الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله، وقد كان مجدد الدعوة في هذا العصر في شبه القارة الهندية، عندما دعا لإعلاء كلمة الله وانفصال المسلمين عن الهندوس والسيخ والبوذيين، وعندما أراد إقامة دولة للمسلمين في باكستان وأراد استقلالها عن الهند أوذي في الله أذىً شديداً، وكان ذات يوم يخطب في ملأ من الناس قائماً فأطلق الرصاص في القاعة، فقيل له: ادخل تحت المقعد، اجلس.. اجلس! فقال: (إذا جلست أنا فمن يقوم؟!) فبقي قائماً في استقبال الرصاص حتى انهزم المهاجمون.

    نشاط عبد الله عزام في العلم والجهاد

    ولا يمكن أن نتتبع مثل هذه المواقف الكثيرة لكثير من العلماء الذي كان لهم أثر كبير في نصرة هذا الدين، ومن الأمثلة الشيخ عبد الله عزام رحمة الله عليه؛ فقد كان قديماً من المهتمين بجمع العلم في صباه، وقد أولع بأصول الفقه ودراسته، فدرس عدداً من كتب أصول الفقه وحرص على تعلمها، ثم بعد ذلك حببت إليه السنة وحبب إليه القرآن، فتعلم التجويد، وكان لا يأنس في شيء، إذا سها أو مرض يجري على لسانه القرآن ويردده ويرتله، فكان ذلك سمته الثابتة، وأولع بقراءة كتب السنة، فلما درس كتاب "الجهاد" لـابن أبي عاصم وهو أحد كتب السنة حبب إليه الجهاد حباً شديداً، فشغل عليه حواسه، وقد سافر إلى باكستان لما قام الجهاد في أفغانستان، وكان داعياً لجهاد الروس، وعمل الأعمال الجليلة العظيمة في ذلك، وقد كان يأتي لبعض البلدان، وجاب أصقاع الأرض يدعو الناس للجهاد في سبيل الله، ويحيي فيهم روح الجهاد، جاء يوماً إلى مسجد فجلس لمحاضرة، ووضع حقيبته على طاولة بين يديه، فلما فتح الحقيبة أخرج منها ثوباً قتل فيه أحد المجاهدين، وفيه دماؤه، فقال: (من أراد أن يشم رائحة دم الجهاد، وأن يصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتقدم) فكاد الناس يقتتلون على شم تلك الرائحة، ولم نشم قط رائحة أحسن منها، لا يمكن أن يتصور أنها مثل رائحة المسك أو غير ذلك من الروائح المعروفة في العطور اليوم، أبداً، هي رائحة عجيبة جداً، وقد قتل رحمه الله عدة مرات؛ فمحاولات اغتياله لا تنحصر، فجر بيته وفجر منبره الذي يخطب عليه الجمعة، وفجرت سيارته وهي واقفة في مواقف السيارات، ووضعت قنابل في طائرة كان سيسافر فيها، ورمي عليه الصاروخ وهو في كهف فانهدم عليه فم الكهف الذي هو فيه، وكانت شهادته عندما خرج يوم الجمعة هو واثنان من أولاده إلى المسجد لخطبة الجمعة، ففجرت قنبلة أدت إلى شهادته وشهادة ولديه معه، نسأل الله أن يتقبله شهيداً في سبيله.

    فهذه المواقف كثيرة جداً، وهي لا تنحصر فيمن ذكر وإنما هذه أمثلة.

    1.   

    ظهور الرجال في مواقف الشدة

    علينا جميعاً أن نعلم أن هؤلاء ما نالوا هذا المكان إلا باجتهادهم وحرصهم على إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وأنهم يمكن أن يصنفوا في أنهم من الصادقين الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه؛ فنحن جميعاً عاهدنا الله وبايعناه بيعة لا نستطيع إنكارها؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]، لكن أولئك قد وفوا لله بها، ولم يشغلهم شيء عنها؛ فزخارف الدنيا لم تكن تساوي عندهم شيئاً؛ فلذلك تقدموا، فهذا عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه قال: (لو دعاني الفرنسيون في الجزائر إلى أن أقول: لا إله إلا الله؛ ما قلتها) لماذا؟ لأن لا إله إلا الله إذا قيلت بأمر الفرنسيين كان معناها نفيها، وهكذا؛ فإن زعامتهم إنما كانت في وقت حاجة الأمة إليهم، وقد قال أحد شعراء فلسطين وهو يرثي الإمام الشهيد عز الدين القاسمي رحمة الله عليه:

    إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان

    ففي الوقت والحاجة والخوف والشدة يتبين الرجال ويتبين الصادقون، وإني لأرى ولله الحمد في الوجوه التي أراها استعداداً للقيام بأمر الله ورسوله، وهي تذكرنا بجند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم إن شاء الله جند المسيح ابن مريم والمهدي وجند خلفاء آخر الزمان الذين لن تقوم الساعة حتى تقوم خلافتهم، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755896386