بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء السادس والثلاثين في الآية السابعة والخمسين من سورة المائدة، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57].
سبب نزول هذه الآية المباركة على ما ذكره المفسرون رحمهم الله قالوا: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، وكانوا إذا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: نادى بالأذان- ضحكوا وقالوا: صياح مثل صياح العير).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله فيهما: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ...[المائدة:57] إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]).
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً [المائدة:57].
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا )) أي: لا تصيروا هؤلاء المشركين وأهل الكتاب لكم أولياء.
قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً )) الدين ما عليه المرء من عقيدة وعمل، يعني: مجموع العقيدة والعمل يسمى ديناً.
والهزو: ما يسخر منه ويستهزأ به. واللعب: ما يلعب به.
قوله تعالى: مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:57]، (من) هنا بيانية وليست تبعيضية، بيانية كقول الله عز وجل: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30].
قوله: مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ ))، هذه تشمل اليهود والنصارى والمراد بذلك المشركون ممن كانوا يساكنون المسلمين في المدينة وقد أظهروا الإسلام نفاقاً من جنس ما ذكر رفاعة بن زيد و سويد بن الحارث ، وقد لقب الله عز وجل المشركين بالكفار، ولقبهم بالذين أشركوا؛ لأنهم عريقون في الكفر والشرك، لكونهم عبدة أوثان، بخلاف أهل الكتاب فإن الشرك عليهم طارئ؛ لأن أصل الدين دين سماوي منزل من رب العالمين، لكن داخله من التحريف والتبديل ما جعله شبيهاً بدين المشركين.
قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57].
فيه معنى الإغراء والحث على لزوم التقوى، كما أقول لك: إن كنت شجاعاً فأقدم، إن كنت كريماً فابذل، وهكذا.. إن كنتم مؤمنين فلا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء.
المعنى الإجمالي لهذه الآية أيها الفضلاء!
يخاطبنا ربنا جل جلاله بأشرف الأوصاف وأحسنها وصف الإيمان، يا أيها الذين آمنوا! لا تجعلوا من المشركين ومن أهل الكتاب الذي يسخرون من دينكم ويهزءون به ويطلقون عليكم الألفاظ القبيحة لا تجعلوا من هؤلاء أولياء لكم.
معلوم أن دأب الكفار -سواءً كانوا كتابيين أو وثنيين- هو السخرية من دين المسلمين؛ بل السخرية من المسلمين كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30]، وكانوا يسخرون من بلال و خباب و عمار وغيرهم من الفقراء، وكانوا يقولون: أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] أي: أهؤلاء اختارهم الله من بيننا ليكونوا أنصاراً لدينه، وكانوا يقولون: لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11].
[وقال الله عز وجل: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].].
وذكر ربنا جل جلاله عن المنافقين أنهم كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61]، وذكر عن اليهود أنهم يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة:8]، كانوا يقولون: السام عليك يا محمد! وكانوا ينادون: يا أبا القاسم! فإذا التفت عليه الصلاة والسلام، يقول اليهودي: لا. ما أريدك وإنما أريد فلاناً؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: ( لا تكنوا بكنيتي )، لا أحد يكنى بأبي القاسم من أجل أن يسد هذا الباب.
وقال الله عز وجل: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104]؛ لأن اليهود اتخذوا من هذه اللفظة سبيلاً للطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءت هذه الآية تقول: يا مسلمون! لا تتخذوا هؤلاء الكفار والمشركين، ولا تتخذوا هؤلاء الكتابيين الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً أولياء.
أيها الإخوان! هذه السيرة تتكرر، فما زالوا إلى يومنا هذا يسخرون من كلام الله، ويسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسخرون من شعائر الإسلام وشرائعه، يعيبون صلاة المسلمين، وصيامهم، وحجهم، وزكاتهم، بل يعيبون تشريعات الإسلام، ما يتعلق منها بالاقتصاد، وما يتعلق منها بالاجتماع والأسرة، وما يتعلق منها بالسياسة الشرعية في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا كله يتخذونه هزواً ولعباً.
من اتخذ هؤلاء أولياء ففي دينه شك؛ لأنه لو كان إنسان يسخر من أبيك وأمك ما اتخذته ولياً، فما بالك بمن يسخر من دينك؟ ومن يسخر من نبيك صلى الله عليه وسلم؟
ذكر الإمام أبو السعود رحمه الله في تفسيره قال: روي أن نصرانياً بالمدينة وكان هذا النصراني -عليه لعنة الله- إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، يقول: أحرق الله الكاذب. يعني: بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام، فتطايرت من النار شرارة فأحرقته وأهله جميعاً فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
أيها الإخوة! كل من استهزأ بالدين وسخر منه فهذه عاقبته.
المستفاد من الآية:
أولاً: عدم جواز الاستنصار والتحالف مع المشركين الساخرين من ديننا سواء كانوا من أهل الوثنية أو من أهل الكتاب.
ثانياً: قال ابن خويز رحمه الله من علماء المالكية: هذه الآية كقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51]، وقوله: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، قد تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين، ومثله لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فجاء قوم من اليهود فقالوا: نسير معك يا محمد! فقال عليه الصلاة والسلام: ( إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين ).
ثالثاً: قال الشوكاني رحمه الله: في الآية نهي عن موالاة أهل البدع المنتمين إلى الإسلام، والبيان بقوله تعالى: مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:57]، لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة الباعثة على النهي.
نذكر مثالاً مما هو حادث في هذا الزمان من اتخاذ الدين هزواً ولعباً:
الغناء معروف من قديم الزمان أنه لهو إن كان مصحوباً بالمعازف، وجماهير أهل العلم على أنه محرم، ولا يغرنكم كثرة الفاعلين له ولا كثرة السامعين، عافانا الله وإياكم!
هذه المعازف التي هي الطبول أدخلوها وسموا هذا العمل مديحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مدح النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر الجديد بل قد فعله الصالحون، كـكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، وصفية بنت عبد المطلب ، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء جميعاً مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أحياناً تدخل فيه هذه المزامير والطنابير والطبول حتى لا يبقى لسامعها إلا أن يرقص والعياذ بالله! وكما قال ابن عقيل : والله ما رقص عاقل قط، نعم إن العاقل لا يرقص، ومن فعل ذلك فيما مضى فعفا الله عما سلف، لكن الرقص ليس من صنيع الرجال، بل هو من صنيع النساء.
فكون هذه المعازف تدخل في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا من اتخاذ الدين هزواً ولعباً، نسأل الله العافية.
ولذلك قال الشوكاني رحمه الله: أهل البدع الذين توجد فيهم هذه العلة -وهي اتخاذ الدين هزواً ولعباً- يلحق حكمهم بحكم من ذكر في الآية.
رابعاً: السخرية من شعائر الدين والاستهزاء بأهله موجبة للبغضاء والشنآن والعداوة. يعني: لو وجدنا إنساناً يستهزئ بالدين؛ يسخر منه أو يسخر من أهل الدين فكما قال ربنا سبحانه: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، والجزاء من جنس العمل.
خامساً: الأمر بتقوى الله بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وأن علامة أهل الإيمان تقوى الله عز وجل في أمرهم كله.
نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر