إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حد قطاع الطريق [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من حدود الله عز وجل في كتابه الكريم حد الحرابة على من تعرض معصوم محترم بسفك دمه أو أخذ ماله أو الاعتداء على عرضه، وهذا الحد قد وضعته الشريعة ردع الشذاذ المحاربين وعصابات السلب والقرصنة، وقد بين الشارع الحكيم الأمور التي تتحقق بها الحرابة، ونحو ذلك.

    1.   

    مشروعية حد الحرابة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] هذا الباب يشتمل على حد من حدود الله عز وجل، التي ثبتت بدليل الكتاب والسنة، وإجماع العلماء رحمهم الله.

    ومناسبة هذا الباب للباب الذي قبله أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وحد الحرابة وقطع الطريق فيه اعتداء على الأموال والدماء والأنفس والأعراض، واعتداء على أمن الناس، وذلك بتخويف السبل، فإما أن تكون المناسبة لخاص مع خاص، بأن ننظر إلى أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وقطع الطريق الغالب فيه طلب المال، فناسب أن يذكر الحد الأكبر بعد الحد الأصغر؛ لأن الحرابة أكبر من السرقة.

    وإما أن يقال: إن حد الحرابة أشمل، فيصبح حد الحرابة عاماً بعد خاص، والخاص هو السرقة وهي اعتداء على الأموال، وقبلها جريمة الزنا والقذف وغيرها من الاعتداءات، فبعد أن بيّن الحدود الخاصة بالأموال بالسرقة، والجناية على العقل كحد شارب الخمر، والجناية على الأعراض من القذف وحد الزنا، شرع في بيان الحد الذي يجمع أكثر من حد وعقوبة، وهو: حد قطع الطريق أو ما يسمى: حد الحرابة.

    وكلتا المناسبتين صحيحة، ولا شك أن من دقة المصنف رحمه الله أن يذكر حد الحرابة بعد الحدود الخاصة، ومن دقته أن يراعي المناسبة بين حد السرقة في الجناية على الأموال وحد قطع الطريق.

    وقد اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في هذا الباب، فمنهم من يقول: باب حد قطع الطريق أو قطاع الطريق، ومنهم من يقول: باب الحرابة.

    تعريف حد الحرابة

    والحرابة: مأخوذة من الحرب، وهي ضد السلم، ومن عبر بالحرابة راعى نص الكتاب وتأدب مع الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33] فوصفهم بكونهم محاربين؛ ولأن هذه الجريمة لا يمكن أن تكون إلا وفيها صفة المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم والخروج عليهم بما فيه خوف وضرر وأذية، وليس المراد به خروج البغاة.

    وأيضاً لا تكون جريمة إلا إذا اشتملت على صورة مخصوصة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله من الشروط المعتبرة لكي نحكم بأنها جريمة حرابة.

    فالذين عبروا بالحرابة راعوا لفظ القرآن، والذين عبروا بقطع الطريق راعوا أيضاً وصف نبي الله لوط عليه السلام لقومه، قال: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29] فكلا التعبيرين صحيح، ولكن التعبير بالحرابة فيه نوع من العموم، وذلك إذا قلنا: إن الحرابة لا تختص بالصحراء فقط، بل تقع الحرابة داخل المدن في الجرائم والعصابات المنظمة، أو حتى الاعتداء الفردي المسلح الذي يكون جهاراً وتخويفاً للناس علانية.

    والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله: أن الحرابة لا تختص بالصحراء، ولا تختص بالبحر كما في قرصنة البحار، ولكن يمكن أن تكون داخل المدن، وهذا يترتب عليه مسائل؛ لأن عقوبة الحرابة عقوبة قوية، حتى ولو سامح أهل الحقوق فإنها لا تسقط، وينفذ الإمام والسلطان الحكم وينزل العقوبة ولو سامح أهل الحقوق، وحينئذٍ فأي شيء تعطيه حق الحرابة فهو أمر عظيم، وليس من السهولة بمكان الحكم على أي جريمة أو جماعة أو أفراد بأنهم محاربون لله ورسوله.

    ومن هنا وضع العلماء الضوابط، فالتعبير بالحرابة فيه شمولية وعموم أكثر من التعبير بقطع الطريق؛ لأن التعبير بقطع الطريق يشعر بأن الحد متعلق بالاعتداء في الصحراء دون المصر ودون المدن، وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله على تفصيل عندهم في ضابط المدن؟ ومتى تكون الجناية داخل المدن؟ منهم من يفصل في هذا ومنهم من يطلق.

    والشاهد عندنا: أن من عبر بالحرابة يمتاز بأمرين:

    الميزة الأولى: مراعاة لفظ القرآن.

    والميزة الثانية: أنه أشمل وأعم، إذ لا يشعر باختصاص العقوبة والحد بالجناية في الصحراء دون البنيان.

    تعريف مصطلح قطاع الطريق

    قوله: (حد) تقدم معنا تعريف الحد لغة واصطلاحاً، وأن هذا المصطلح يطلق على العقوبات المقدرة شرعاً.

    ومن هنا لما كانت الحرابة مقدرة من الله عز وجل وجعل فيها القتل عقوبة، ومع القتل الصلب للمقتول الجاني، وجعل فيها قطع اليد والرجل من خلاف، وجعل فيها النفي من الأرض، وكلها عقوبات حددها الشرع وعينها وقصدها، ومن هنا وصفت بكونها حداً.

    وقوله: (قطاع) جمع قاطع، وأصل القطع ضد الوصل، قالوا: إن الناس يسافرون ويخرجون في السفر قاصدين المدن، وقاصدين أماكن مخصوصة، فإذا حصلت الحرابة قطع المحارب عليهم سفرهم وطريقهم، فوصفت بكونها قطعاً للطريق وقطعاً للسبيل.

    وقوله: (الطرق) جمع طريق، وسمي بذلك؛ لأن الناس يطرقونه بالنعال، أو يسمع فيه طرق النعال من الإنسان إذا سلكه، والطريق والسبيل معناهما واحد، وقيل: السبيل للمعنويات، والطريق للمحسوسات، وإن كان قد جاء في القرآن: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ [العنكبوت:29] وهذا يدل على أنه يطلق على المحسوسات كما يطلق على المعنويات.

    قال تعالى في إطلاق السبيل على المعنويات: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [الإنسان:3] أي: ألهمناه سبيل الخير والشر، وهذا من إطلاق السبيل إطلاقاً معنوياً.

    وقوله رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد قطع الطريق، وما جعله الله من العقوبة لهذه الجريمة.

    أدلة القرآن على عقوبة الحرابة

    الأصل في ذلك كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل آيتي المائدة، وهما قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:33-34]، وهاتان الآيتان نزلتا في إثبات عقوبة الحرابة، وإسقاطها، فالآية الأولى: إثبات لعقوبة المحاربين وقطاع الطرق، والآية الثانية: في إسقاط الحد عنهم، وذلك بتوبتهم قبل القدرة عليهم، فبيّن الله سبحانه وتعالى شرعية هذا الحد.

    وسيأتي إن شاء الله في معنى قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33] هل (أو) هنا للتخيير، وأن الأمر راجع للإمام والوالي ينظر الأصلح؟ أم أن (أو) هنا للتنويع على حسب الجرائم التي تقع من هؤلاء الذين اعتدوا على سبل المسلمين فقطعوها وأخافوها، ومنعوا الناس من مصالحهم، وأرعبوا الناس وأدخلوا الخوف عليهم؟ فهل هي عقوبة تختلف باختلاف جرائمهم فيكون القتل لمن قتل، والصلب لمن قتل وسرق؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله في موضعه.

    أدلة السنة على عقوبة الحرابة

    أما دليل السنة فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن أناساً من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها) أي: أصابهم الجوى، والجوى: نوع من الأمراض يأتي الإنسان عند اختلاف الطعام عليه، واختلاف المكان والبيئة (فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فخرجوا إلى إبل الصدقة، فلما صحوا ووجدوا العافية قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فجاء الصارخ في أمرهم إلى المدينة، فما غابت الشمس حتى أتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم) أي: أمر بالمسامير فأحميت بالنار، ثم سملت بها أعينهم.

    قيل: إنهم سملوا عين الراعي فسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وهذا هو الصحيح، والرواية في هذا صحيحة: (ثم تركوا في الحرّة) وهي من حرار المدينة، والمدينة لها حرتان، والظاهر أنها حرة الوبرة، وهي الأقرب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب في تنفيذ الحد فيها (يستسقون فلا يسقون حتى هلَكوا) ، قال الراوي عن أنس رضي الله عنه: (قد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفمه من شدة العطش).

    هذه هي الشريعة التي وضعت الحزم في موضعه، والرفق في موضعه، والرحمة في موضعها، وحينئذٍ أعطت الناس حقوقهم، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت حد الحرابة كما أثبتها القرآن.

    واختلف العلماء رحمهم الله: هل نزول آية المائدة سببه هذه القصة؟

    - من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن سبب نزول هذه الآية قصة العرنيين، وحينئذٍ تكون نازلة في قوم مخصوصين، وينظر إلى عموم لفظها؛ لأن اللفظ عام: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ [المائدة:33] وهذا فيه عموم.

    وبناءً على ذلك تكون نازلة في المسلمين.

    وقيل: إنهم ارتدوا، وهذا أحد الأوجه، فتصبح نازلة في أهل الردة وهو الوجه الثاني لسبب نزول الآية.

    وقيل: إنهم كانوا على الإسلام ولكنهم بطروا النعمة، وكفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وقابلوا المعروف بالإساءة، فتكون حينئذٍ مشروعة في المسلمين.

    ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن الآية لم تنزل في العرنيين، وإنما نزلت بعد العرنيين، وهذا يترتب عليه أمر، وهو أنا إذا قلنا: سمل العينين والتمثيل بهم لم يكن بسبب أنهم فعلوا ذلك بالراعي، فحينئذٍ تكون نسخاً للمثلة ويكون لها حكم خاص، وهذا القول يختاره جمهور العلماء، والقول بأنها نزلت في العرنيين قال به أنس بن مالك وقتادة بن دعامة السدوسي الإمام المشهور، ومذهب الجمهور على أن الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزلها للمسلمين تشريعاً لهذا الحد.

    دليل الإجماع على عقوبة الحرابة

    أجمع المسلمون على اعتبار عقوبة الحرابة، وإن كانوا قد اختلفوا فيمن يمكن أن نصفه بكونه محارباً قاطعاً للسبيل؟ ومن الذي لا يمكن وصفه بذلك؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما تيسر منه.

    1.   

    مسائل في حد الحرابة

    إذاً: فقوله رحمه الله: (باب حد قطّاع الطريق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة قاطع الطريق.

    صور وقوع جريمة الحرابة

    قال رحمه الله تعالى: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة].

    ذكر المصنف رحمه الله شرطين هامين لا بد من توفرهما لكي نحكم بجريمة الحرابة:

    الشرط الأول: التعرض للناس بالسلاح، وحينئذٍ يصدق عليهم أنهم حاربوا الله ورسوله.

    الشرط الثاني: أن يكون هذا الفعل منهم جهرة لا سراً وخفية.

    فلا بد من وجود هذين الشرطين، فإذا تحقق هذان الشرطان لم يلتفت إلى كون جريمتهم داخل المدن أو خارجها، ولم يلتفت لكون الجريمة صادرة من جماعات أو أفراد، وعلى هذا فتشمل الحرابة جرائم الجماعة وجرائم الأفراد، وفي جرائم الجماعات تشمل العصابات وتشمل الاتفاق من الجماعة دون وجود تعصب.

    وتوضيح ذلك: أن الحرابة يمكن أن تكون بالجماعة، إذا نظمت ورتبت وخططت للاعتداء على مال أو نفس أو عرض مسلم، أو على ذي حرمة كالذمي، فإنهم إذا خططوا لذلك فهي جريمة منظمة، وبالتالي فإنه يدخل فيها من لا يدخل في فعل الأفراد، فيدخل في الجريمة المنظمة: المخطط والمنفذ والمدبر.

    فلو أن جماعة اجتمعوا وخططوا للهجوم على جماعة من المسلمين، أو على متاجر، أو على أسواق، أو على محلات، أو على دور فيها أعراض، وحرمات بقصد قتل من فيها أو قصد ضربه وأذيته أو قصد الاعتداء على الأعراض كما في المجموعات إذا صارت بتنظيم وتخطيط لأماكن تجمع النساء من أجل فعل الفاحشة والاعتداء على الحرمة من النساء.

    كل هذا يستوي فيه من يمثل ومن يخطط، فلا يختص الحكم في الجماعات المنظمة بمن ينفذ، بل إن الذي يدبر ويخطط قد يكون أشد جرماً وأعظم بلاءً من الذي ينفذ، حتى إن الجريمة لربما لم تقع ولن تقع إلا إذا وجد من يعرف بعض الأسرار وبعض والوسائل والطرق التي يمكن أن يتوصل بها المجرم إلى جريمته.

    ومن هنا ففي عصرنا الحاضر لو اجتمعت عصابة للهجوم على محل أو مركز تجاري داخل المدن أو الاستراحات كما في المحطات والصحاري، واحتيج مثلاً إلى فك رموز لأجهزة الكترونية أو أجهزة معقدة، فجاء إنسان عنده خبرة ومعرفة وخطط لذلك وأعانهم عليه، فهو شريك لهم ومحارب، وهم في الفعل هم الذين ينفذون.

    ففي الواقع لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذه الحرمة من الدماء والأموال والأعراض لولا هذا التدبير.

    كذلك لو خان الخائن فتدخل في الجرائم المنظمة خيانة الخائن، مثل أن يكون قائداً لنساء وهن من حرمات المسلمين يؤتمن عليهن، كأن يوصلهن إلى مكان خارج المدن، فيتفق مع هذه العصابة أو مع هذه المجموعة، فهذه الجريمة منظمة مرتبة.

    ومذهب طائفة من العلماء أن هذه الجرائم للجماعات المنظمة يستوي فيها المدبر والفاعل الممثل، فكلهم سواء، ويستوي أيضاً فيها العاقر مثل من يحمل السلاح، ومن ينفذ الجريمة بالفعل، فإذا هجم هؤلاء بسلاحهم على محل، فحمل أحدهم السلاح حتى لا يتحرك أحد، وقام الآخر بفتح الخزانة أو قام الآخر بالزنا والعياذ بالله، أو قام الآخر بربط المجني عليه أو نحو ذلك من الأذية، فحامل السلاح لم يفعل فعل الجريمة، ولم يفعل الجريمة من القتل أو السرقة، ولكنه يعتبر في حكم الفاعل.

    وأيضاً يدخل في هذه الجماعات: العصابات المنظمة بالردء، وهو ما اختلف فيه العلماء، والجمهور على أن الردء والحماية للعصابات المنظمة حكمها حكم الجريمة نفسها، فلو كانت العصابة تتكون من مجموعتين: مجموعة تحرس وتكون قبل الجريمة، أو أثناء الجريمة، ردءاً وحفظاً لمن يفعل الجريمة، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنهم يدخلون في ذلك، وأنهم محاربون.

    كذلك تكون من الجماعات غير المنظمة وهو ما يسمى بالاتفاق، وكثيراً ما يقع في أهل الشر، لو أن شخصاً خرج مع عائلته بسيارة مسافراً، ونزل في موضع في الصحراء فيه مجموعة من الأشرار، أو نزل في محطة واتفق نزوله مع وجود مجموعة من الأشرار، فجاء أحدهم فوقف أمام هذا الرجل، يريد أن يعتدي على عرضه، وجاء البقية من أصحابه الأشرار ووقفوا معه، وهجموا على هذا الرجل واعتدوا على عرضه أو دمه أو ماله، فهذه جريمة غير منظمة ولا مرتبة، لكنها في حكم الجناية الواحدة، يستوي أن يجتمعوا بتدبير وتخطيط وترتيب للهجوم وترتيب للفرار وتغطية للجريمة بعد فعلها، وبين أن يقوموا بذلك الفعل اتفاقاً، كأن يتفق رأيهم على الشر، سواء كانوا مع بعض أو كانوا متجانسين، مرّوا على هؤلاء ووجدوهم يضربون الرجل أو يعتدون على عرضه، فنزلوا وفعلوا معهم فعلتهم فهم سواء، وحكمهم حكم المحاربين سواء.

    هذا بالنسبة للجماعات، ويدخل فيها العصابات المنظمة كما هو موجود في الأزمنة والعصور على اختلافها، وتدخل فيها الجماعات غير المنظمة التي تحصل اتفاقاً بالتواطؤ على الشر ومحبة الشر والتشوف للشر، من أذية الناس وانتقاص حرمات المسلمين والاستخفاف وعدم المبالاة بها.

    كذلك أيضاً: كما تقع الحرابة من الجماعة تقع من الفرد، فلو أن رجلاً أشهر سلاحه على رجل مسافر وقال له: أعطني مالك، أو أشهر سلاحه وأخذ ما في جيبه، أو أشهر سلاحه وأخذ بضاعته من سيارته، أو أشهر سلاحه واعتدى على امرأة موجودة في السيارة، أو اعتدى على الرجل في حرمته، أو اعتدى على الأطفال تحت تهديد السلاح؛ فإنها حرابة.

    إذاً: لا تختص الحرابة بالفرد ولا بالجماعة، وإنما هي عامة شاملة لحمل السلاح تهديداً للوصول إلى جريمة، سواء كانت بالاعتداء على النفس، أو على الحرمات من الأعراض أو الدماء، ولو كانت مجرد إخافة.

    التعرض للناس في الحرابة يشترط فيه حمل السلاح عند البعض

    وقوله: [هم الذين يعرضون للناس بالسلاح] يشترط وجود السلاح في قول بعض العلماء، والجمهور على أنه لا يشترط السلاح، وأن العبرة بوجود الضغط والقوة والقهر.

    وقوله: (بالسلاح) يستوي أن يكون قديماً أو حديثاً، ففي زماننا حمل السلاح مثل المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية، ونحو ذلك من المتفجرات وتلغيم الأماكن، كل هذا يعتبر من الحرابة.

    وأيضاً: الأسلحة القديمة التي تسمى الأسلحة البيضاء، فلو حملوا السيوف أو الخناجر أو السواطير، فهذه كلها تعتبر من السلاح عند العلماء رحمهم الله، فإذا أخاف بها السبيل، فأرعب حافلة في سفر أو دخل على محل تجاري جهرة حاملاً للساطور أو السيف وأخذ وفعل ما فعل، فهذا كله يعتبر حرابة.

    إذا كان بغير سلاح فمثل الضرب واللكز واللكم، وهذا نص عليه بعض العلماء رحمهم الله، وفي زماننا لو كان يحسن بعض الأعمال الهجومية التي يخيف بها السبيل، فإنه إذا كان يحسن الضرب بيديه أو رجليه وأرعب من في الحافلة بذلك، أو أرعب من في المحل التجاري بذلك وهدده وخوفه أو خنقه، فكل هذا يعتبر من الحرابة.

    إذاً: يشترط المصنف وجود السلاح، وعلى هذا الشرط إذا لم يوجد السلاح فليس بحرابة.

    لكن من العلماء من قال: السلاح وما في حكمه، وهذا المذهب أقوى.

    وقوله: [بالسلاح] الأصل أن حمل السلاح لا يكون إلا في الحرب، وانظر في دقة العلماء رحمهم الله، كيف أن حمل السلاح لا يكون إلا لشخص يحارب، فإذا جاء هذا الشخص، أو جاءت هذه المجموعة حاملة للسلاح على المسلمين في أسفارهم أو بيوتهم ومساكنهم ومحلاتهم التجارية، فقد أعلنت الحرب على المسلمين، فهي محاربة وإن كانت لا تأخذ حكم الحرب العامة؛ لكن انظر كيف نزلت الشريعة! ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حمَل علينا السلاح فليس منا) فلا يمكن أن يحمل المسلم السلاح على أخيه المسلم، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) والعياذ بالله.

    إذاً: هذا أمر عظيم، ولذلك عظمت الشريعة حمل السلاح على المسلم، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حمل السلاح على المسلم فليس منه، فاشترطوا لكي يكون محارباً أن يحمل السلاح على المسلمين، وهذا على التفصيل يستوي فيه القديم والجديد.

    والقاضي ينظر في الجريمة والحادثة ونوعية السلاح الموجود فيها، فإذا كان يشترط السلاح نظر فيه وحكم بكونه حرابة، وإلا لم يحكم بكونه حرابة.

    والصحيح أن التخويف بالسلاح وما في حكم السلاح له حكم واحد، ومن هنا لو حمل العصا أو الحجارة فقد نص طائفة من العلماء على أنها حرابة، فقد يفعل الحجر ما لا تفعله السكين، وقد تفعل العصا ما لا يفعله السيف، ولذلك لا يختص الحكم بالسلاح المقصود عيناً، فلو أنهم هجموا على حافلة وحمل كل واحد منهم حجراً، وهدد صاحب الحافلة أن ينزل، أو المرأة أن تنزل، أو دخل بيتاً وحمل معه حجراً فهدد رب البيت واعتدى على عرضه جهرة، أو اعتدى على ماله، أو اعتدى على حرمة من حرماته، فكل هذا يعتبر حرابة.

    وقد بيّن المصنف رحمه الله اشتراط السلاح، والصحيح أن السلاح وما في حكمه سواء.

    حكم اغتصاب المال مجاهرة

    وقوله: [في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة].

    الشرط الثاني: أن يكون هذا الاعتداء على سبيل الجهر والعلانية، لا سراً وخفية، ولذلك فمن جاء خفية وسرق من محل تجاري، أو سرق من خزينة، أو من بنك، أو من مصرف خفية؛ فهو سارق.

    أما الحرابة فيشترط أن تكون جهاراً، والجهر يكون تحت القهر والتهديد، فلو كان جهاراً بسرعة، بأن اختطف المال من الرجل وهرب دون تهديد بالسلاح، فهذا مختلس ومنتهب، وليس عليه قطع، وقد تقدم بيان حكمه، وانظر كيف أن الشريعة تفصل في كل جناية وجريمة بما يليق بها، وتعطيها حقها وقدرها.

    ومن هنا فإذا كانت الجريمة بالاعتداء على المال سراً فهي سرقة إذا تحققت فيها شروط السرقة، وإذا كانت علانية فيفصل فيها: فإن وقعت علانية تحت قهر ووطأة السلاح والتخويف فهذه حرابة، وقد بيّن المصنف رحمه الله أنها حرابة سواءً كانت داخل مدينة أو خارجها.

    وإن كانت جهاراً أمام الناس ولكنها ليست تحت وطأة السلاح مثل ما يقع الآن، حيث يكون الشخص سريعاً فيخطف من الرجل شنطته، أو محفظته، أو مالاً أو كتاباً أو شيئاً في يده ذا قيمة ثم يفر، فهذا ليس بسارق وإنما هو منتهب، ويأخذ حكم الانتهاب.

    لكن لو أنه هدده وأرعبه وخوّفه، فهذا التهديد تنتقل به الجريمة إلى الحرابة، وحينئذٍ يأخذ حكم المحارب.

    وقد اشترط العلماء رحمهم الله أن يكون علانية، والمصنف رحمه الله يختار أن هذه الجريمة تقع داخل المدن في البنيان كما تقع في الصحراء.

    والعلماء متفقون على أنها لو وقعت في الصحراء خارج المدن وكانت على مسافة بحيث لو صرخ الصارخ لا يسمعه أحد، ولا يمكن نجاته أو استغاثته؛ فإنها حرابة، سواء كانت في البر أو البحر، مثل القرصنة البحرية بالاعتداء على السفن والبواخر التجارية واختطافها، أو أخذ ما فيها تحت وطأة السلاح، فكل هذا حرابة.

    لا يشترط في الحرابة أن تكون في الصحراء

    وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يشترط أن تكون في الصحراء وهذا هو الصحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى عمم في الآية الكريمة ولم يخص الحكم بالصحراء، وإذا قيل: إن سبب نزولها في العرنيين وقد فعلوا هذا في إبل الصدقة، وإبل الصدقة كانت بعيدة، فجوابه:

    أولاً: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    ثانياً: أن العلماء لم يتفقوا على أن المقصود بالآية هم العرنيون.

    ومن هنا: يقوى القول بأن الحكم لا يختص بالصحراء، وبناءً عليه فالاعتداء على الأموال في البنيان والمدن والاعتداء على الأعراض والأنفس، وتخويف الناس داخل المدن جهاراً بحمل السلاح كله حرابة.

    مثلاً: لو أن جماعة هجموا على محل تجاري، وأشهر أحدهم السلاح وقام الآخر بأخذ المال من الخزنة، أو أخذ الأموال من الدواليب ونحوها كما في المجوهرات ونحوها، فهي حرابة.

    لكن لا بد أن يكون هذا العمل أمام الناس، وذلك كما تفعل بعض العصابات التي تأتي وتدخل في وضح النهار إلى المحل وتمارس هذا العمل، فهذا حرابة، وينطبق عليها حكم المحارب، سواء كانوا جماعة أو أفراداً، يدخل الفرد المحل التجاري ويضع سلاحه على من عند الصندوق، ويقول له: أخرج لي المال، فهذا التهديد فيه إشهار السلاح، وثانياً: أنه جهرة ولم يكن سراً، فحينئذٍ نحكم بكونه حرابة مع أنه داخل المدينة؛ لأنه وقع على ملأ، وحصل به تخويف الناس، وحصل به المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم، وحينئذٍ يصدق عليه أنه حرابة.

    كذلك أيضاً: لو أن جماعة أو عصابة هجمت على رجل في بيته بقصد الاعتداء على عرضه والعياذ بالله، فأشهر أحدهم السلاح، وقام الآخرون بفعل الجريمة، أو قام بعضهم بالزنا والعياذ بالله، أو الاعتداء على الرجال أو الأطفال القصّر، فهذه حرابة ولو كانت داخل البيت؛ فقد نص العلماء على أنه يأخذ حكم الحرابة، وهذا في الاعتداء على الأعراض.

    أما الاعتداء على الدماء كأن تحقد عصابة على رجل، فجاءوا جهرة أمام الناس ومعهم السلاح فهددوا الناس أن يقف أحد أو يتعرض أحد، ثم أخذوا الرجل وقتلوه، فهذه حرابة بالاعتداء على النفس.

    فالنوع الأول: حرابة بالاعتداء على المال.

    والنوع الثاني: حرابة بالاعتداء على العرض.

    والنوع الثالث: حرابة بالاعتداء على النفس.

    ويستوي في المال أن يأخذوه أو لا يأخذوه بل يتلفوه، فالعصابات التي تدخل إلى المدن في وضح النهار وتحت وطأة السلاح تكسر وتخرب وتفسد الأشياء محاربة، وهذا يسمونه الإرعاب والخوف.

    فهم لا يريدون مالاً ولا عرضاً ولا قتلاً، وهذا النوع يعتبر جناية على جماعة المسلمين بالتخويف والإرهاب وإدخال الرهبة والرعب، وتفعله العصابات من أجل أن يخاف الناس، يفعلونه في المدن وخارج المدن.

    فخارج المدن يتسلطون على أطراف المدن كالمزارع ونحوها ولا يقتلون أشخاصاً معينين مقصودين، ولكن يقتلون أشخاصاً لأجل أن يرهبوا الآخرين، فالعصابات تحدث الرعب وتحارب بإحداث الرعب، فمسألة قصدهم للمال ورغبتهم فيه ليست هي الأساس، إنما العبرة في بإشهار السلاح، وأن يكون ذلك جهرة، سواء قصدوا قتل النفس كما يحدث في قتل المعينين، أو إحداث الخوف والرعب عندهم، أو قصدوا أموالهم أو أعراضهم، فجميع ذلك يأخذ حكم الحرابة.

    وفي دخولهم للمدن واعتدائهم على الأعراض والأموال والأنفس، أو مجرد الإخافة في الصحراء، يقع باحتكار السبل، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من ذلك أن يأتوا إلى الطريق التي يمشي فيها المسافرون، فيقفون أثناء الطريق ومعهم السلاح ولا يقتلون، ولكن لا يسمحون لأحد أن يمر إلا بإذنهم، أو لا يسمحون لأحد أن يمر حتى يدفع لهم ضريبة، وهذا كله يعتبر قطعاً للسبيل وحرابة، وهذا الأصل الذي ذكرناه هو الذي تدل عليه معاني الشريعة.

    وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن تخصيص الحرابة بالصحراء ضعيف:

    أولاً: لأن الله لم يفرق بين الصحراء والبنيان، وجعل الأمر راجعاً إلى محاربة الله ورسوله.

    ثانياً: أن العرنيين لو فعلوا هذا في الصحراء ونزلت الآية في حقهم، فإن هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإن إخافة الناس في المدن أعظم وقعاً وأشد بلاءً وأعظم جرأةً وفساداً في الأرض؛ لأن إخافة المدن ليست كإخافة السبل، مع أن إخافة سبل المسافرين نوع لا يحتمله الناس، لكن أن يهجم على الناس في عقر دارهم، ويحدث الخوف للناس في مدنهم وقراهم، فهذا كله أشد من الذي اتفق عليه العلماء رحمهم الله، وهي الجرائم التي تكون في الصحراء خارج البنيان.

    وعلى هذا: لا نحد مسافة ولا مكاناً، بل نقول: العبرة بحمل السلاح على التفصيل الذي ذكرناه، وأن يكون ذلك جهرة، حتى يتحقق فيه أنه محاربة لله ورسوله.

    ويستوي أن يكون في البر أو البحر أو الجو، كاختطاف الطائرات بإشهار السلاح، سواء قصد أخذ مال المسافرين، أو قصد الاعتداء عليهم، أو قصد مجرد الإخافة.

    فالعلماء رحمهم الله قرروا أن مجرد إحداث الرعب في أمن الناس وطمأنينتهم خروج ومحاربة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: لا نشترط أن يكون الأمر فيه إغراء، سواء كان الإغراء بطلب الدماء أو الأموال أو الأعراض من الشهوات ونحوها.

    إلحاق الغيلة بالحرابة

    وفي حكم هذا الأمر ما كان بين الجريمتين، وهي مسألة الغيلة، ومسألة الاستدراج.

    ففي حكم المحاربين الشخص أو الأشخاص الذين يستدرجون بفعل الجرائم من المدن، فعلى القول باشتراط الصحراء قرر بعض العلماء أنه لو استدرج امرأة بفعل الزنا بها، حتى أخرجها من المدينة ثم هددها وزنى بها، أو استدرجها أمام الناس بالقوة أو اختطفها، أو استدرج صبياً لفعل الفاحشة -والعياذ بالله- أو رجلاً لقتله، فإن هذا كله يعتبر حرابة.

    والفائدة إذا قلنا: جريمة، سواء جريمة قتل.. أو جريمة زنا.. أو جريمة لواط.. أنه يسري عليها حكم الجريمة الخاصة، لكن إذا قلنا: إنها حرابة، فيجب على ولي الأمر تنفيذ الحكم، ولو شفع فيه أهل الأرض كلهم ردت شفاعتهم، ولا يجوز لأحد أن يقف ويمنع من قتلهم وصلبهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا اعتدوا على الأموال على التفصيل الذي نذكره؛ لأن الحق فيها لله عز وجل.

    فالاستدراج بفعل الجرائم في زماننا كاختطاف الناس جهرة، وإعطاء المخدر له حتى لا يتحرك، أو ربط المجني عليه حتى لا يتحرك، وأخذه أمام الناس واختطافه من بيته أمام جيرانه تحت وطأة السلاح، أو اختطافه من عمله أو مكتبه أمام زملائه تحت وطأة السلاح، وإخراجه من المدينة، كل هذا يعتبر من الحرابة؛ لأنه وجد فيه حمل السلاح، ووجد فيه المجاهرة وقصد به ما ذكرناه فهو في حكم الحرابة؛ لأن شرطها قد تحقق فيه.

    التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم

    يقول رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس].

    الناس المراد بهم المسلمون أو من لهم حرمة كالذميين، فالذمي له حرمة المسلم، لا يجوز الاعتداء على ماله ولا على دمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم).

    فالكفار الذين يدخلون بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من يقوم مقامه، أو دخل كافر بلاد المسلمين تحت أمان من امرأة مسلمة فإنه لا يجوز أن يتعرض له، وذمة هذه المرأة كذمة المسلمين جميعاً، ففي الصحيحين: (أن أم هانئ رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، وفاطمة تستره بثوب يوم الفتح -فتح مكة-، فقال: من؟ قالت: أم هانئ ، قال: مرحباً بـأم هانئ فقالت: زعم أخي -وهو علي رضي الله عنه، وكانت قد أمنت أحد قرابتها من الكفار- أنه قاتل لرجل أمنته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) فدخل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمانه، مع أن الذي أجارته امرأة.

    ولذلك نص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، فقال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم).

    وقتل الكافر المؤمَّن داخل بلاد المسلمين فيه وعيد شديد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى غضب الله عز وجل على صاحبه، وإعراضه عنه يوم القيامة والعياذ بالله؛ لأنه أخفر ذمة المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يتعرض للذمي والمؤمَّن والمعاهد، فمن له ذمة من مسلم فذمة المسلمين واحدة كما نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

    وقوله: [يتعرضون للناس] يشترط أن تكون للناس حرمة في دمائهم، وفي الأموال على اشتراط القطع في السرقة لابد أن يكون المال له حرمة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله.

    وقوله: [بالسلاح] أي: يكون هذا التعرض مصحوباً بالسلاح.

    وقوله: [في الصحراء أو البنيان] هذا ظرف الجريمة (والبنيان) أي: داخل المدن، وعلى هذا: يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من أهل العلم أن الحرابة لا تختص بالصحراء، وقدم المصنف الصحراء لأنها محل إجماع، وقوله: أو البنيان؛ لأنها تابعة لذلك على الصحيح.

    وقد بينا أن الاعتداء في البنيان أعظم من الاعتداء في الصحراء.

    لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة

    وقوله: [فيغصبونهم المال] ذكر رحمه الله هذا؛ لأن قطع الطريق وإخافة السبل غالباً ما يقصد به أخذ أموال الناس، لكن الحكم لا يختص بغصب المال بل يشمل الاعتداء على النفس والعرض، وحينئذٍ فإن من دقة المصنف أنه ذكر الأدنى للتنبيه على الأعلى، وذكر المال وإن كان أخف من إخافة السبل، لأنه أقل ما يكون في الحدود؛ لأن فيه قطعاً لليد والرجل من خلاف في الحرابة، فذكر المال, وإلا فلو أنهم تعرضوا للناس بقصد قتلهم هناك، فمثلاً: بعض الجرائم وبعض المجرمين الذين يخرجون بالسلاح بقصد قتل الناس واستباحة دمائهم، ويكون هذا عن حقد على المجتمع أو نوع من الإرعاب للمجتمع والإرهاب والتخويف له، وهذا يدخل في الحرابة، فالمصنف رحمه الله ذكر المال لكنه لا يقصد تخصيص الحكم بالمال فقط، فينتبه لهذا.

    فقوله: [يغصبونهم المال] هذا على الغالب أن الاعتداء يكون من أجل الأموال، ويقع أيضاً بالاعتداء على الأعراض، فلو جاء مثلاً في منطقة يغشاها النساء، أو أماكن تجمع النساء في الأفراح، فجاء وأشهر سلاحه عليهن، فهذا يعتبر من الاعتداء على العرض وإن لم يفعل الجريمة.

    المقصود أن المصنف لا يقصد تخصيص الحكم بالاعتداء على المال، فإن الاعتداء على الدماء بالقتل، والاعتداء على الأجساد بالضرب، والاعتداء على السوءات والأعراض بالانتهاك وفعل الفواحش، كل هذا يعتبر من الاعتداء، ولو سلم من الاعتداء بحيث تجرد الفعل وصار محض تخويف فإنه إرهاب واعتداء على أمن الناس، وهذا يعتبر جريمة، وله عقوبة في حد الحرابة أيضاً.

    وقوله: [مجاهرة] هذا الشرط الثاني الذي ذكرناه، وهو أن يكون جهاراً لا خفية.

    وقوله: [لا سرقة] ولذلك لما كانت الجناية على المال خفية سرقة، فقال: (لا سرقة) و(لا) هنا للإضراب، أي أنه لا يشمل حد السرقة، فالسرقة لها حكم خاص، فلو أنه اعتدى على المال خفية فإنه يحكم بكونه حد سرقة، ولا يحكم بكونه حد حرابة.

    اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد

    قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر].

    قوله: (فمن) من صيغ العموم، والمجرم في جريمة الحرابة يشترط فيه أولاً أن يكون مكلفاً، بالغاً، عاقلاً، فلو كانت جريمة الحرابة من مجنون رفع السلاح، فهذا لا يقام عليه حد الحرابة؛ لأنه مجنون وغير مؤاخذ.

    ولو كان صبياً فإنه أيضاً لا يقام عليه حد الحرابة, لكن لو اشترك الصبي مع البالغ، والمجنون مع المكلف العاقل، فهل هذا الاشتراك شبهة يسقط الحد عن الشريك؟

    الصحيح أن اشتراك المكلف مع غير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، وأن هذا لو فتح بابه لاستطاع أهل الجرائم أن ينفذوا جرائمهم بواسطة غير المكلفين.

    وإن قيل: غير المكلف شبهة؟ نقول: غير المكلف كالآلة، فلو أن مكلفاً أمسك حيةً وأنهشها لشخص فقتلته الحية، لقلنا: إنه قاتل، فهو الذي أغرى الصبي، وهو الذي دفعه وحفزه، وربما هدد الصبي أن يخرج معه، ولربما أغراه، وهكذا بالنسبة لضحكه وعبثه بالمجنون حتى يطيعه.

    وقد تقدم معنا في باب القتل أن الاشتراك بين المكلف وغير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، ولذلك فإن الذي عليه العمل أنه لو اشترك الصبيان مع البالغ سقط الحد عن الصبيان، وأدبوا بما يتناسب مع سنهم؛ لأن فيهم المميز وغير المميز، ولا يعني هذا أن نطلقهم هكذا، وإنما ينظر فيهم، فمن كان مميزاً فله حكم، ومن كان غير مميز فله حكم آخر.

    وأما بالنسبة للمكلف فإن الحكم أن يقام عليه حد الحرابة، وليس عندنا دليل على إسقاط الحد عنه، فكون شريكه غير مكلف لا تأثير له في مؤاخذة الشرع لهذا النوع من المكلفين.

    وعلى هذا: فإنه لو اشترك من يسقط عنه الحد ومن لا يسقط عنه الحد وجب الحد.

    لا تشترط الذكورة في المحاربين

    كذلك أيضاً قوله: (من) يشمل النساء، فلو أن عصابة من النساء اتفقت على جريمة الحرابة، فإن جمهور أهل العلم على أن النساء يطبق وينفذ عليهن حد الحرابة كالرجال، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية عنه، وإن كان بعض أصحابه قد قال بقول الجمهور كـالطحاوي وغيره، وبينوا أن المرأة والرجل على حد سواء، وعليه فإن النساء يقام عليهن حد الحرابة كالرجال.

    ومن هنا قال المصنف: (فمن) وهذا يشمل الذكور والإناث المكلفين، والمراد بقوله: (من) أي: المكلف الملتزم وهو المسلم أو المعاهد أو الذمي الذي التزم بأحكام الإسلام.

    قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً] فجريمة الحرابة تختلف على حسب اختلاف الجريمة، وهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.

    أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصواب، وأن يلهمنا الحق فيما اختلفوا فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    الفروق بين الحرابة والغصب

    السؤال: ما الفرق بين الحرابة والغصب أثابكم الله؟

    الجواب: كل من الحرابة والغصب فيهما مغافصة ومعافصة ومغالبة، فيشتركان في هذا المعنى، وكل منهما يقهر المجني عليه للوصول إلى جريمته من أخذ المال ونحو ذلك.

    لكن الفرق من وجوه:

    أولاً: الغصب يكون في الأموال والحرابة تكون في الأموال وغير الأموال.

    ثانياً: الغصب ليس فيه اعتداء على النفس، والحرابة فيها اعتداء على النفس، وهذا راجع أيضاً للفرق الأول.

    ثالثاً: الحرابة فيها تهديد بالسلاح، والغصب لا يشترط فيه التهديد بالسلاح.

    رابعاً: أن الغصب في كثير من صوره يكون فيه نوع من الشبهة، فالجار يأخذ شبراً من جاره، ويقول: هذا حقي، فيكون عنده نوع من الشبهة، ونوع من الاحتيال، قد تكون شبهة حتى بالنسبة له، فيظن أن هذا حقه، وهو في الحقيقة غاصب لمال أخيه، وهذا من أهم الفوارق.

    خامساً: الغصب ليس فيه عقوبة بالحد، وإنما فيه تعزير إذا ثبت، والحرابة فيها عقوبة وفيها حد مقدر، وهذا من ناحية الأثر.

    سادساً: الغصب يسقط بعفو المغصوب منه، والحرابة لا تسقط بعفو المجني عليه.

    سابعاً: يستحب العفو عن الغاصب ومسامحته لعظيم الأجر، قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، والحرابة لا يجوز للإنسان أن يتنازل فيها عن حقه، ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن المحاربين لا تجوز مسامحتهم؛ لأن هذا أمر عظيم جداً، وحتى لو عفا فلا يعتد بعفوه، لكن يقولون من ناحية المكلف نفسه: لا يجوز له أن يسامح.

    هذه بعض الفوارق بين جريمة الغصب وجريمة الحرابة، والله تعالى أعلم.

    حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحاً

    السؤال: إذا كان المجني عليه يملك سلاحاً، وغلبه الجاني، فهل يكون الجاني محارباً أيضاً؟

    الجواب: العبرة بوجود الفعل وهو المجاهرة وحمل السلاح، بغض النظر عن كون المجني عليه عنده سلاح أو ليس عنده سلاح، فقد يكون عند المجني عليه سلاحان فضلاً عن سلاح واحد، ولكن أمامه عشرون شخصاً مسلحون، فماذا يفعل؟!

    وقد يوجد عنده سلاح ولكن لا يستطيع أن يتحرك؛ لأن السلاح على رأسه، إذاً: الحرابة تكون من الجاني وإن كان المجني عليه يملك سلاحاً؛ لأن الحرابة سلوك إجرامي وجريمة وانبعاث للأذية والضرر، يستوي أن يكون المجني عليه قادراً على الدفع أو غير قادر على الدفع.

    ومن هنا يكون حرابة ولو كان المجني عليه مسلحاً.

    صور نقل الفتوى

    السؤال: إذا سمعنا الفتوى في الدرس، فهل يجوز لنا أن نقول: قال الشيخ فيها كذا، إذا سألنا أحد، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة تعرف عند العلماء بنقل الفتوى، ونقل الفتوى له صورتان:

    الصورة الأولى: النقل الحرفي للسؤال الحرفي أو المشابه، فإذا كانت المسألة التي سئل عنها الشيخ هي التي وقعت خارج الدرس، فهذا هو النقل الحرفي للسؤال.

    أو ينقل فتواه حرفياً وليس مجيباً عن سؤال، كأن يقول: جلست في الدرس وسمعت الشيخ يقول كذا وكذا، فهذا رخص فيه العلماء وأجازوه، ويستحب للإنسان أن ينشر العلم، ومن أراد أن يبارك له الله في علمه فليحفظ ما استطاع ويكون وعاء خير، كما مثّل النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وشرب الناس منها، وأكلت الدواب من الكلأ.

    فهذا حال أعظم الناس انتفاعاً، ينتفع بالعلم في نفسه، ثم يبلغه للغير، وهذا هو السنة في العلم: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] هذا أول شيء، ثم بعد ذلك: وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

    فأي شخص يجلس في مجلس علم، ويسمع فيه آية أو حديثاً أو علماً ينتفع به فعليه أن ينشره، ويبين للناس، وإذا نشرت العلم أسقطت عن نفسك مسئولية عظيمة، وإذا لم تنشره فإنه لا يزال أمانة في عنقك حتى تبلغه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).

    فمن جلس في مجالس العلماء وعرف الحكم أو المسائل أو الفتاوى، فعليه أن ينشره بين الناس إبراءً وإعذاراً إلى الله عز وجل، خاصة في المحرمات والمنكرات والحقوق والواجبات، فالأمر أشد والمسئولية أعظم.

    فمثلاً: جلست عند الشيخ، فبين لك أنه يجب فعل كذا، أو يحرم فعل كذا، فهذا واجب على المسلم أن يبلغه.

    الصورة الثانية: إذا كان النقل للفتوى بالمعنى، كأن ينقل فتوى تشبه الفتوى التي قيلت للشيخ، أو لم ينقل الناقل حرفياً، ففي الحالة الأولى ينقل نقلاً مجرداً لا في مقابل فتوى، فيقول: سمعت الشيخ سئل عن مسألة كذا وكذا، فقال فيها كذا وكذا. فهو لم يجب عن سؤال ولا يحكي الفتوى جواباً للسؤال، فهذا مرخص فيه كما ذكرنا، وهو من حمل العلم، وهو مستحب.

    لكن أن يأخذ الإنسان فتوى في مسألة، ثم يسمع سائلاً يسأل في مسألة، فيفهم بحسب فهمه وتقديره أن المسألة التي في الدرس هي المسألة التي تشبه المسألة التي أمامه والتي يسأل عنها، فهذا شدد فيه العلماء رحمهم الله.

    فلابد أن يكون عالماً بالمسألتين، هل هما في حكم المسألة الواحدة أم مختلفتان؟ فإن شك وجب عليه أن يسكت، ولا ينقل الفتوى حتى لا يخلط، يقول للسائل: اذهب إلى فلان واسأله.

    فإن قال قائل: كيف يكتم العلم؟ قلنا: هذا ليس كتماناً للعلم، هذه مخاطرة؛ لأنه ربما كان المسئول عنه الآن غير المسئول الذي أجاب أو حصلت الفتوى عنه.

    فلذلك لا يجوز في هذه الحالة أن ينقل الفتوى إلا إذا كان ضابطاً للسؤالين، وبعض طلاب العلم من خلال التجربة والجلوس مع العلماء والمشايخ تصبح عنده ملكة ودرجة من الفهم والوعي، فيميز بين المسائل؛ لأن بعض طلاب العلم فتح الله عليه في الفهم والفقه، ومنهم من فتح الله عليه في فهم عبارات العلماء في المتون، لكن لا يعرف في الفتوى ولا يحسن نقلها ولا يحسن الإفتاء، ولو طلبت منه أن يدرس كتاباً لأبدع وأجاد وفتح الله عليه في ذلك.

    ومنهم العكس: لا يحسن شرح الكتب، ولا يحسن تحرير العبارات وبيان معانيها ودلالاتها، ولكنه ما إن يسمع سؤالاً إلا وضبطه، ولا يسمع جواباً إلا حرره، فعنده ملكة في فهم الفتاوى.

    وتجد بعضهم شغوفاً بسماع الفتاوى، ثم يقرأ السؤال مرتين أو ثلاثاً ويحدد عناصر السؤال، ثم يحدد عناصر الجواب، ويكثر من قراءة فتاوى المتقدمين؛ لأنهم يضبطون العبارات والفتاوى، فعندما تصبح عنده هذه الملكة التي يغلب معها في الظن السلامة، فيجوز له حينئذٍ إذا غلب على ظنه أن هذه المسألة هي المسألة التي سئل عنها، مثل لو أنه أيام طلبه سمع شيخه يسأل عن مسألة، ثم سئل عن مسألة مشابهة لها، وهو يعلم أن الجواب واحد، فإنه حينئذٍ ينقل جواب شيخه، سواء أسنده أو لم يسنده، لكنه عن علم ومعرفة، فهذا نقل للفتوى محرر، وقد وجدت عنده ملكة يفهم بها السؤال وموارد الفتوى، ويفهم الجواب والمقصود من الجواب، فحينئذٍ يغلب على الظن السلامة، فهذا يجوز فيه النقل.

    أما المحفوظ عن العلماء رحمهم الله فهو التشديد في نقل الفتاوى، وعدم قراءتها على الناس، خاصة إذا كانت في المسائل الدقيقة، مثل مسائل البيوع أو المسائل التي فيها تفاصيل.

    أما المسائل الظاهرة المحرمة التي نهى الله عنها ورسوله، وفيها فتاوى، مثل فتاوى تحريم المحرمات من الزنا والخمور ونحوها من المحرمات الظاهرة، فإن العبارات فيها واضحة، والمسائل المسئول عنها واضحة حتى لعوام الناس، فهذا لا بأس بحكايته ونشره، وهذا نشر للعلم، ويؤجر الإنسان على ذلك.

    وهنا ننبه على أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على البركة في هذا العلم، فأعظم الناس بركة في العلم أعظمهم نفعاً للمسلمين، وجمعاً له وعملاً به ودعوة إليه.

    ومن هنا قال الله عن نبي من الأنبياء: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31] فما بورك النبي إلا بالنبوة، والنبوة فيها خير، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص:29] فبركة العلم نشره، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ ما أوحي إليه، وأن يبلغ ما أنزل إليه.

    وهذا كله يحتم على المسلم أن يحرص على نقل علم العلماء، ولا يشترط أن يكون في الأجوبة والفتاوى، فعلمهم لا يختص بذلك، وإنما يشمل جوانب عديدة، خاصة فيما تعظم الحاجة إليه، والله تعالى أعلم.

    حكم الدعاء بغير العربية في السجود

    السؤال: هل يجوز أن يدعو المصلي بلغته في السجود إذا لم يعرف اللغة العربية؟

    الجواب: يجوز للساجد أن يدعو بلسانه وبالعربية، وذلك لأن النصوص عامة في مشروعية الدعاء، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) ولم يرد اشتراط أن يكون الدعاء عربياً، وإنما يكون اشتراط العربية في الأذكار الخاصة: كالتشهد، والتكبيرات والتسمية والتحميد، ونحوها مما يشترط فيه التعيين.

    وأما بالنسبة للدعاء، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمصلي أن يدعو بلغته ولسانه، والله تعالى أعلم.

    حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها

    السؤال: امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنباً فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟

    الجواب: هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعوراً تاماً كاملاً، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياماً تاماً كاملاً؟

    لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان.

    صومي وصلّي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربكِ عليكِ، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن.

    فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).

    فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملاً، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندماً صادقاً وأن تشتكي إلى ربها.

    إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي).

    ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاماً كاملاً، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].

    فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ).

    يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربكِ، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيراً، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة.

    فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منكِ شيء من المعصية أحسنتِ الظن بالله مباشرة، وأقبلتِ على الله وصدقتِ مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] لكن: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50].

    لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] وهما جناحا السلامة للعبد.

    لكن أن تكون سبباً في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:3] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى.

    فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم.

    نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756367774