إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب القسامة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القسامة هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وقد بين الشرع القسامة على صفة مخصوصة لابد من وقوعها عليها، وعلى هذا فيلزم في القسامة أن يبدأ فيها بأيمان الرجال من أولياء الدم، فإن نكلوا أو بعضهم انتقلت القسامة إلى المدعى عليه وبرئ بها.

    1.   

    أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة

    من يبدأ بالقسامة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم] :

    شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة القسامة، وكيف يجريها القاضي في مجلس الحكم والقضاء، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله ببيان هذه الجملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع القسامة أو بيّن القسامة على صفة مخصوصة، فلابد من وقوعها على هذه الصفة، فقال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال).

    هذه المسألة الأصل فيها ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه حينما ادعى حويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل ، قال صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، وتستحقون دم صاحبكم)، وفي اللفظ الآخر: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته). فهذا يدل على أنه توجه أيمان القسامة إلى المدعين أولاً قبل أن توجه إلى المدعى عليه، فلو ادعى شخص على شخص أنه قتل، أو ادعت جماعة على جماعة أنها قتلت، فالأصل أن نبدأ بالمدعين، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وظاهر السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم يقوي هذا القول.

    وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم، واحتجوا برواية الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة -أي: الأنصار الذين ادعوا الدم- عن البينة بأن اليهود قتلوه، يعني عن الشاهدين، فقالوا: لا بينة عندنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (فتبرئكم يهود) فقالوا: لا نقبل بأيمان قوم ضالين، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعى عليهم قبل أيمان المدعين.

    وحديثنا الذي في الصحيح أوضح وأتم وأشد بياناً، وحديثهم فيه نوع إجمال، ولا يمتنع أن يحمل على أصل القضية؛ لأن الحادثة لما وقعت وقعت على صورتين، ينبغي لطالب العلم أن يُلِم بهما حتى يستطيع أن يجمع بين الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    الصورة الأولى: هي الأصل.

    والصورة الثانية: هي المستثناة التي شرعت بها القسامة.

    فأما صورة الأصل فهي أصل الحكومة والقضاء، أن كل من ادعى على شخص أنه قتل نطالبه بالبينة؛ إما إقرار القاتل، أو شهود عدول يثبتون الجريمة على الصفة المعتبرة في الشهود، فهذا الأصل، وهو أن نُطالب المدعي بالبينة، فجاء حديثهم الذي ذكروه على صورة الأصل، وحديثنا على الصورة الخارجة عن الأصل، وهي أيمان القسامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الأنصار عن البينة وقالوا: لا بينة عندهم، وجّه اليمين إلى اليهود، فإما أن نقول: إنها يمين الدعوى، وهي أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحينئذٍ تكون يميناً غير يمين القسامة، ومن هنا نقول: إن هذه جارية مجرى الأصل، ثم جاء حديثنا بالتفصيل للصورة المستثناة وهي صورة القسامة، فوجه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أيمان القسامة أولاً للمدعين، وهذا الحديث واضح الدلالة، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم؛ فتستحقون دم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نر ولم نشهد، فقال: فتبرئكم يهود)، فجعل أيمان المدعى عليه بعد أيمان المدعي، وهذا جار مجرى الأصل، وهذا هو الوجه الأول الذي نرجح به حديثنا على حديثهم.

    الوجه الثاني: أن حديثنا يقوى بالأصول الشرعية، فإن الأصول الشرعية تقتضي أن المدعي هو الذي يبدأ أولاً قبل المدعى عليه بالنسبة للحجج، فلما نوجه أيمان القسامة على المدعى عليه فكيف نوجهها على المدعي بعد ذاك، ومن هنا الأصل يقتضي رجحان رواية المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه جار على السنن.

    والقاعدة أنه لو جاءت روايتان: إحداهما موافقة للأصول معتمدة ومعتضدة، فإنها مقدمة على غيرها مما خالف، وإلا قد يكون الذي خالف ناقل عن الأصل فيقدم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في صور من الخلاف الذي وقع بين العلماء رحمهم الله.

    في هذه الجملة دليل على أننا نبدأ بالمدعي، فنقول له: احلف خمسين يميناً، وهذه الخمسين يميناً تُقسم على الورثة، إما على العصبة -وهذا وجه- وإما على أقرباء الميت الذين يرثونه، وتقسم على قدر حصصهم في الميراث، فلو كان المقتول له ابن وبنت، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فالابن له ثلثا المال، والبنت لها الثلث؛ فتقسم الأيمان بين الابن والبنت، ولو توفي عن أربعة أبناء أو خمسة أبناء تقسم الأيمان على الخمسة الأبناء؛ لأن حظوظهم متساوية، فتقسم على حسب الرءوس إن حصل كسر في الخمسين ولا تنقسم الأربعين إلا بكسر على أربعة؛ فحينئذٍ يُجبر الكسر ويتمم، فلو كانوا أربعة قلنا: يحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً؛ لأنه جبر من كسر اثني عشر ونصف فيحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً.

    يطالبهم القاضي أن يحلفوا هذه الأيمان، ويشترط في هذه الأيمان أن تكون في مجلس القضاء والحكم؛ لأن الحجج المعتبرة مكانها مجلس القضاء، والإقرار معتد به في مجلس القضاء، فإذا حلفوا هذه الأيمان، اشترط أن يكون في مجلس القضاء، وأن تكون أيمان شرعية بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، والذي عليه العمل عند أئمة العلم رحمهم الله أن القاضي يبدأ قبل أن يحلف هؤلاء أيمانهم بتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذيرهم من غضبه وسخطه جل وعلا؛ لأن اليمين توجب غضب الله للعبد إن كانت يميناً فاجرة، فما بالك إذا كانت أكثر من يمين.

    ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بين الكندي وأخيه خصومة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألك بينة؟ قال: ليس عندي يا رسول الله! بينة، قال: ليس لك إلا يمين، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر، ويحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب؛ ليقتطع بها حق امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان)، وهذه يمين واحدة، وأعظم الأيمان أيمان القضاء التي تكون في مجلس الحكم، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله-، فيخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى أن يصدقوا وألا يكذبوا، ولهم الحق كما ذكرنا أن يبنوا على غالب ظنهم.

    قال رحمه الله: (ويُبدأ بأيمان الرجال) أي: يُبدأ بأيمان الرجال من المدعين قبل النساء؛ لأنهم الأصل.

    قال: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يميناً]:

    (فيحلفون خمسين يميناً) تُقسم هذه الأيمان على قدر حصصهم من الميراث، وإن كانوا عصبة كانت منقسمة على عدد الرءوس، ويشترط أن يستتم هؤلاء الأيمان، فلو أنهم كلهم حلفوا إلا واحداً؛ فإنه لا توجب القسامة الحكم بالدم، يعني: لا يُقتل حتى يحلف الجميع، فلو حلفوا الأيمان إلا يميناً واحداً لم يقبل منهم إلا أن تكون تامة كاملة، وهذا هو الأصل، ولا يُشترط الولاء المتتابع بين اليمين والأخرى، فلو حلف بعض الأيمان في مجلس، ثم أتمها في مجلس آخر -كأن يحلف خمسة أيمان، وكانت عليه عشرة أيمان، ثم تردد، ثم حلف بعدها الخمسة، أو حلف الخمسة وجاءه عذر فقضى حاجته، ثم رجع وحلف الخمسة- فهذا لا يؤثر ما دام أنه حلف العشرة الأيمان المطلوبة كاملة في مجلس القضاء والحكم.

    نكول الورثة عن الحلف

    قال رحمه الله: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً؛ حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] :

    يحلف المدعون في الأيمان على القاتل، ويقولون: والله إن فلاناً أو إن هذا قد قتل فلان ابن فلان إذا كان القاتل في مجلس الحكم، وإذا لم يكن في مجلس الحكم يذكرونه باسمه على وجه لا يشترك معه غيره، كما ذكر العلماء بأن يرفعوا نسبه، فيذكرون اسم أبيه وجده، وما يتميز به عن غيره أنه قتل فلاناً قتل عمد أو قتل خطأ أو قتل شبه عمد، فيصفون القتل، وهذا حتى تكون اليمين معتبرة.

    بيّن رحمه الله أنه يبدأ بأيمانهم، ثم إذا نكل هؤلاء بأن قالوا: لا نحلف، أو نكل بعضهم فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، فالنكول عن أيمان القسامة وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، وهذا يدل على مشروعيته، وأن من حق الإنسان أن يتورع عن القسامة، وقد وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيار الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟

    ولكن في حوادث من الحوادث الأخرى يأتيك شخص تثق به ثقة كاملة، أو مثلاً يقع القتل على وجه تطمئن أنت إلى صدق المخبر، ولا تعرف فيه كذب؛ فتطمئن إلى قوله، ويسبق أن هذا الرجل توعد المقتول، أو بينه وبين المقتول عداوة، أو بينه وبين المقتول ثأر، فأنت مطمئن لهذه اليمين، وإن لم تر ولم تشهد، لكنك تحلف على غالب الظن، ومن رحمة الله عز وجل وتيسيره للعباد أنه أجاز الحلف على غلبة الظن، ففي هذه الحالة لك أن تنكل وتمتنع من اليمين تورعاً، وقد امتنع عن اليمين تورعاً خيار الأمة من الصحابة.

    بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه باع عبداً، فظهر في العبد عيب، وقال المشتري: به عيب، واشتكاه إلى عثمان رضي الله عنه، فقال: ما علمت فيه عيباً، فقال له: تحلف اليمين، قال: لا أحلف اليمين، ولكن يأخذ ماله ويعطيني العبد، فتورع رضي الله عنه عن حلف اليمين، وما كان في ذلك منقصة له رضي الله عنه، وشاء الله أن يبيع العبد بأضعاف قيمته بعد ذلك؛ لأنه ما عامل أحد ربه إلا غنم في دينه ودنياه وآخرته، فهو تورع عن هذه اليمين؛ لأنه يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تبين للإنسان أن هناك حقاً، وأن هناك دماً، وأن هناك قاتلاً ظالماً، وأراد أن يشهد اليمين ويحلف بالله على هذه اليمين شهادة حق، فإنه لا ملامة عليه ولا غضاضة.

    (فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟) وفي هذا دليل على أن الحلف ينبغي أن يكون على علم في الأصل، فتستفيد فائدة وهي: أن هناك أصلاً، وهناك مستثنى من الأصل، فالأصل في حلف اليمين: أن يكون عن علم وبينة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]، فجعل الشاهد لا يكون شاهداً بالحق إلا إذا كان بشيء يعلمه، قال: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا )، واليمين شهادة، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] فقالوا: نشهد، يحلفون بالله أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به من تسمية الأيمان شهادة، وكقوله تعالى: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [النور:6] فهذا كله فيه تسمية الأيمان شهادة، فدلت على أن اليمين لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وبناءً على ذلك فالأصل أنه يحلف على شيء يعلمه، فإذا كان قد غلب على ظنه -لاحظ لم ير ولم يسمع ولم يشاهد ولكن غلب على ظنه- بأن جاءه مثلاً عشر نسوة أو عشرون امرأة قد شاهدن القتل، وجئن يشهدن ما تقبل شهادتهن في القتل، وبين الرجل وبين الرجل ثارات، أو بينه وبينه عداوة، أو سبق وأن توعد -كما ذكرنا- في فاطمئنت نفسه لهذا أن يشهد به، فحلف يمينه، فإنه في حكم ما ذكرناه؛ لأن الشهادة واليمين على غالب الظن معذور فيها صاحبها.

    قال: [فإن نكل الورثة] :

    (فإن نكل الورثة): النكول هنا يستوي فيه -كما ذكرنا- كلهم أو بعضهم، صورتها: أن يكون النكول من الورثة جميعهم بقولهم: لا نحلف، مثلما قال الأنصار، أو أن يكون النكول من بعض الورثة لا من كل الورثة، سواء كانوا أكثر أو أقل، فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، وهنا ننبه على مسألة مهمة، وهي أنه إذا امتنع البعض عن الحلف لا يكره على الحلف، كما يقع بين القرابة، حيث يغضبون عليهم ويقولون لهم: أنتم ضيعتم دم قريبنا، أنتم ليس لقريبنا عندكم حق، وليس له قدر، وهذا لا يجوز، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يلم بعضهم بعضاً، وتورعوا، بل إنه إذا تورع أحد يقبل منه هذا الورع، هذا بالنسبة للنكول، وهناك صورة ثالثة وهي: أن يكون النكول مِن من حلف، فيحلف بعض الأيمان ويمتنع من بعضها سواء حلف أكثر مما نكل أو أقل أو استويا -الحلف والنكول- بأن تكون عليه يمينان فحلف واحدة ونكل عن الثانية، فالحكم في جميع هذه الصور واحد.

    والنكول من البعض كالنكول من الكل، وإن نكول بعض الورثة كنكول جميع الورثة، وإن نكول الحالف عن بعض الأيمان كنكوله عن جميع الأيمان، ما نقول: تقسط الدية أو نقسط الحكم، أو يحكم ببعض ويترك بعض أبداً، يبقى الحكم أن يحلف الجميع أو يحكم بالنكول إذا وقع من بعضهم دون البعض.

    كون الورثة نساء

    قال رحمه الله: [أو كانوا نساءً] إذا كان الذين يحلفون رجالاً ونساء فلا إشكال، ويقولون بالاندراج، ويكون النساء مع الرجال، لكن أن يتمحضوا إناثاً، فمذهب الجمهور عدم قبول شهادة النساء منفردات على الدم، وهذا له أصل؛ لأن الله عز وجل لم يجعل شهادة النساء في غير الأموال، وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فالمرأة يعتريها من الضعف والتسرع ما لا يكون في الرجل، ولذلك لا يقبل في شهادة القتل امرأة، فلا تثبت بشهادة امرأتين أو أربع نسوة، بل لابد وأن تكون شهادة القتل والزنا للرجال، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب القضاء، ونبين الأدلة، ونبين وجه الحكمة في ذلك، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى ولا تعقيب لأحد على الشريعة في هذا، فالله عز وجل إذا حكم لا يعقب على حكمه، وهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.

    فالمرأة لا تستطيع أن ترى مشهد قتل أو غيره، ولو وقع أمامها منظر من المناظر المؤلمة -فضلاً عن القتل- سرعان ما تغيب وجهها، أو تضع يديها على عينيها، ولا تستطيع أن تستمر في المشاهدة والرؤية، وقد تستعجل من الخوف من رعب الحوادث، فتخطئ في تصور الحوادث وتسلسلها، بل إنك لو سألتها أن تصف شيئاً رأته، فإنك لن تستطيع أن تنتزعه إلا على أحوال متعددة: إذ يغلبها البكاء ويغلبها الضعف، وهذا شيء جبلت عليه فلا تلام عليه، فالله يخلق القوي والضعيف، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى.

    ولكن لا ينبغي لأحد أن يكابر في الحقائق، ولا ينبغي لأحد أن يُحملها ما لا تتحمل، وأن يظن أنه يحسن وقد أساء؛ لأنه لا أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بخلقه منه سبحانه، بل هو أعلم بكل شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

    فالشاهد أن أيمان النساء لا تقبل؛ لأن شهادتهن في الأصل إذا انفردن لا تقبل، لكنهم اعتضدوا بالأصل هنا، وإن كان بعض العلماء لم يقبلها مطلقاً في الأيمان، وهذا له أصل سنذكره إن شاء الله في باب الشهادات في مسألة الاعتضاد.

    حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي

    قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]

    قال المصنف: (ويُبدأ بأيمان الرجال)، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟ قولان للعلماء رحمهم الله:

    جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعاً أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم)، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يميناً -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته)، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم)، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته)، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد.

    وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالاً للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يُقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد.

    قال: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] :

    فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يميناً أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يميناً ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يُحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي الصحيح: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي : (ليس لك إلا يمينه)، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان.

    قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ)

    (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يميناً -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلاً من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلاناً، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقاً بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة.

    لو حلف المدعي الخمسين يميناً، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يميناً حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.

    1.   

    الأسئلة

    حكم قسامة القصار

    السؤال: إذا كان من بين ورثة الدم قصار فما الحكم، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله هل ينتظر الصبي حتى يبلغ ويطالب بالحق؟ وهذا اختاره جمع من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه بالأصول، ولكن إذا كان هناك من به عذر مثل الصبا يمنع، ولكن إن كان فيه ما يصعب انتظاره: كالجنون؛ فإنه لا ينتظر، ويكون وجوده وعدمه على حد سواء، فينتقل إلى غيره، فلا يحلف إلا من كانت به أهلية، والله تعالى أعلم.

    حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد

    السؤال: لو حلف المدعون أيماناً كاذبة على المدعى عليه، ولم يعلم ذلك إلا بعد إنفاذ الحكم، فهل يقتلون جميعاً، أثابكم الله؟

    الجواب: أولاً: كيف يُعلم أنهم كاذبون، لابد وأن يقروا ويقولوا: إنهم كاذبون في الأيمان وإنهم تعمدوا قتله، كما سيأتينا إن شاء الله في باب شهادة الزور، أن من شهد على إنسان أنه قتل، أو شهد شهود على أن شخصاً قتل، ثم جاءوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإنهم قتلة، وسبقت الإشارة في مسألة القتل بالسبب، ومن القتل بالسببية شهادة الزور، أن يشهد شهود زور أن فلاناً قتل فلاناً، وكانوا قاصدين لقتله، لكن لو قالوا: أخطأنا؛ فهذا قتل خطأ، فهل تقبل شهادتهم الثانية؟ لأن ثبوت خطأ في الشهادة الأولى يوجب الضعف في الضبط عندهم، ومن شرط صحة الشهادة الضبط، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.

    لكن إذا قال الشهود، أو قال أصحاب هذه الأيمان: إنهم يعلمون علماً أكيداً أن فلاناً لم يقتل، وهذا لا يتأتى إلا لمن كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقةً، فإذا كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، وعدلوا إلى شخص آخر، وحلفوا -والعياذ بالله- الأيمان الفاجرة، فلينتظروا ما يصيبهم، فقد كان يقال: من حلف اليمين الفاجرة في أي مجلس من مجالس القضاء، لا يمر عليه الحول وهو بخير.

    هذه من السنن المجربة، حتى في أيمان القسامة هذه، فقد وقعت لـعبد المطلب وجاء ولي يتيم وامتنع، فدفع المال، وهذا على سنن الجاهلية، فحلف التسعة والأربعين يميناً، فمضت السنة فلم تبق فيهم عين تطرف، كلهم ماتوا، وهذا من عجائب ما يقع، ولذلك فإن كبار السن وأهل العقول تجد الواحد منهم يدفع ماله كله ولا يحلف يميناً في مجلس القضاء، فالأيمان أمرها عظيم، خاصة في مجلس القضاء، فإنه لا يحول الحول على صاحبها بخير، وهذا مما يعلم بالسنن، ولا يشترط فيها الدليل إذا ثبتت بالتجربة، وعادة الله عز وجل وسنته لا تتخلف؛ لأنه عندنا أصل عام وهو أن الله منتقم، وينتقم من كل ظالم، ومن أظلم الظلم سفك الدماء البريئة، وأكل الأموال المحرمة، واتخاذ القضاء وسيلة للوصول إلى هذه الأغراض، ولو كان سفك الدم مباشرة أهون من أن يأتي ويكذب على القاضي، ولذلك قالوا: من كذب على القاضي بشهادة زور فقتل بها، أعظم مما لو قتل مباشرة؛ لأنه لو قتل مباشرة فهو قاتل فقط، لكن أن يستخدم القضاء وسيلة للوصول إلى غرضه -والعياذ بالله- من استباحة دماء المسلمين المحرمة وأموالهم وأعراضهم، فحينئذٍ يكون قد جنى فوق جنايته الأصلية الذنب والإثم، ثم جنى على القضاء، وذلك بكونه استغله لكي يبطل الحق ويحق الباطل، نسأل الله السلامة والعافية.

    فعلى كل حال إذا كانوا يعلمون من هو القاتل فذلك يقع بالصور التالية:

    الصورة الأولى: أن يعلموا من هو القاتل حقيقة، فيعدلون إلى غيره.

    الصورة الثانية: أن يعلموا أن فلاناً لم يكن موجوداً أثناء القتل، على وجه يتحققون من أنه لم يقتل.

    الثالثة: أن يكون بينهم وبين هذا الشخص الذي حلفوا عليه عداوة وأرادوا أن يقتلوه إشفاءً لغليلهم، لا إحقاقاً لحق، ولا وصولاً إلى حق، هذه كلها من الصور التي تكون فيها الأيمان كاذبة فاجرة -والعياذ بالله- فإذا قالوا: تعمدنا قتله؛ قتلوا به جميعاً، ولو كانوا مائة شخص، ولو كانوا مليوناً، وقد ذكرنا هذا في قتل الجماعة بالواحد، على قول عمر رضي الله عنه : (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به)، فتقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عصم دماء المؤمنين، ولو فتح الباب أن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لقامت عصابات بقتل الناس ثم يسلمون من القصاص، وفي ذلك من الشر والبلاء ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

    بعض آداب طلب العلم

    السؤال: إن من النعم الكبيرة عليّ أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيراً إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟

    الجواب: بارك الله فيك، نِعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.

    السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جداً، وأي خيرٍ وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يُسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يُسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبداً من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح.

    كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالاً، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يُحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله.

    الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسباً، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.

    هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفاً، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حريٌ بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يُذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء. جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعاً لنعم الله عز وجل عليهم.

    يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟!

    طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشراً ولا بطراً ولا غروراً ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟!

    فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبداً، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظماً لنعمة الله، لاهجاً لسانه بشكر الله، معتقداً في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجراً، وأعظم عند الله ثواباً، وأكثر إخلاصاً وقرباً من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغاً رفيعاً حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يُفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه.

    نعم، علينا أن نتذكر أولاً مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم.

    ثانياً: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها:

    أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلاً مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئاً كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا.

    ثانياً: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يُدريك فلعل من بينهم أئمة سيُهتدى بهم غداً، وما يُدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غداً، وما يُدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز.

    فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغاراً -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل.

    ثالثاً: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجراً عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروماً، ولا تجعلني شقياً، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه.

    رابعاً: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير. من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخاً له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين!

    خامساً: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذراً، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن.

    ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات.

    فإذاً لا تلتفت إلى عيوب إخوانك، ولا يعني هذا أنا لو رأينا العيب فلا ننصح ولا نوجه، لا، إنما المراد شغل الذهن، وأعجب ما يمر عليّ أن البعض يقول: لأول مرة أحضر الدرس وأرى طلاب العلم يفعلون ويفعلون، فقلت: سبحان الله العظيم، ما يكفيك أن الله سبحانه وتعالى أكرمك أن تجلس مع طلاب العلم حتى تبدأ تبحث عن عيوبهم، ينبغي لطالب العلم ألا يكون بهذه الصفة بحيث يبحث عن النقد والجرح لإخوانه، والتتبع لعوراتهم وعثراتهم، كلنا عيوب وكلنا خطأ، والله عز وجل يقول للصحابة: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] وهم في مجلس العلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الإنسان مهما كان منه الخطأ، فإنه مع الأيام، ومع النصيحة ومع التوجيه يصلح فساده، ويقوم اعوجاجه ويسدد ويلهم الرشد من ربه سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يكمل الناقصين، ويجبر كسر المكسورين بفضل منه وهو أرحم الراحمين، فعلى كل حال لا يشتغل الإنسان بالناس عن نفسه.

    من انشغال المرء بالناس عن نفسه: المضايقة لطلاب العلم في مجالسهم، فتجد مثلاً طالب علم في مجلس يسأل سؤالاً، فإذا بالطالب الآخر يقول له: هذا سؤال تسأله؟ هذا أسلوب تفعله؟ نعم، شيء طيب أن يوجه طالب العلم أخاه إذا أخطأ، ولكن بطريقة خفية بينه وبينه، أما إذا كان العالم موجوداً؛ فالأصل أن العالم يتولى هذا، إلا إذا كان العالم مشغولاً في مجلس العلم، فلا بأس بأن يشتغل طالب العلم بنصحه لأخيه، لكن المراد هنا أن طالب العلم لا يجوز له أن يكون حجر عثرة دون طلب إخوانه للعلم، هناك طلاب علم قاصرون مبتدئون، يسألون عن أمور واضحة، فإياك أن تتهكم بهم، يسألون عن أمور مشكلة ولا يحسنون أسلوب السؤال، فلا تجرؤ على أذيتهم، قوّمهم وسددهم بالتي هي أحسن، أما أن تتهكم بهم وتسخر منهم، قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10] قالوا: هو سائل العلم، أدّبنا الله عز وجل ألا نجعل بينه وبين العلم عوائق، وألا يأتي الإنسان يتهكم من سؤاله، كل من سأل عن شيء يريد أن يتعلمه من دينه فهو على خير وبر، ما دام أنه يرجو مرضاة الله عز وجل ، فمن الآداب ألا يضيق المسلم على أخيه المسلم في طلبه للعلم.

    سابعاً: من الآداب -والآداب لا تحصى كثرة، ولكن من عادتي أن أذكر جوانب قد تكون أصولاً لغيرها- أن يحرص كل الحرص على أساسين:

    أحدهما: جلب المصلحة.

    والثاني: درء المفسدة.

    فالمصلحة المراد جلبها أن تكون خير ما يكون عليه طالب العلم لأخيه في الحصول على العلم، وهذا لا يكون إلا بالإيثار والتضحية، منها بأن تجيبه إذا سألك، فقد تشكل عليه مسألة، فيقول لك: أريد منك أن تشرح لي هذه المسألة؛ لأني لم أفهمها من الشيخ، أو يقول لك: أريد أن أجلس معك أراجع هذه المسألة، فتبذل له وتضحي، وتساعده على ذلك.

    كذلك أيضاً تتفقد مواطن النقص فيه وتكملها، وهذا بشرط ألا يشغلك -كما ذكرنا- عن نفسك، وألا يكون صارفاً لهمتك في طلبك للعلم.

    كذلك تحصيل المصلحة الجماعية، إذا كنت معهم تكون على هيئة لا تشوش على طلاب العلم، وقد كان بعض المشايخ رحمة الله عليهم يمنع طلاب العلم أن يتميزوا في شيء؛ لأنهم إذا جلسوا في مجلس العلم التفتت إليهم الأنظار؛ فشغلوا طلاب العلم بالنظر إليهم، فكان بعض المشايخ يدقق إلى هذه الدرجة، حتى في القلم الذي يكتب به إذا كان قلماً غريباً فيمنعه، يقول: لأن هذا يشوش على أخيه، فما بالك إذا كان جوالاً أو بيجراً يشتغل به أثناء الحلقة يكلم الناس ويشوش على إخوانه المسلمين، وهذا لا يجوز، فما بالك بمن يأتي مجلس العلم وجواله مفتوح يصدر أصوات الموسيقى، ويزعج إخوانه عن طلب العلم (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، فهؤلاء الصفوة الذين تضع لهم الملائكة أجنحتها تمهيداً لمعرفة رسالات الرسل وأمانات الأنبياء؛ حتى يفهموها ويعوها، وما يُدريك لعل في هذه اللحظة التي يرن فيها جوالك مسألة طرحت يحتاجها طالب العلم لكي ينقذ من الضلال في صلاته أو عبادته أو معاملته، فتشغله عنها، فيقع في الخطأ طيلة عمره بسبب أنه شغل عن علمها ومعرفتها، وأنت المسئول أمام الله عن التشويش عليه، فعلينا أن نتقي الله عز وجل فلا نمنع من حصول المصالح بالتشويش، ومن ذلك رفع الصوت المزعج أثناء طلب العلم، والتميز عن طلاب العلم بالمزاحمة والأذية والإضرار، هذا كله يعيق عن المصلحة؛ لأنه يمنع طلاب العلم من الفهم والوعي، ويشغلهم عما هو من مصلحتهم.

    أما درء المفاسد، فدرء المفاسد التي في العلم نفسه، ولها أمثلة ومنها: طرح أسئلة التشكيك: كأن يأتي الشيخ بمسألة، فتجده ينظر إليها نظرة انتقاص يقول: هذا رأيه، وهو إلى الآن لم يستوعب دليلها ولم يستوعب حجتها، فيحكم على أقوال الأئمة والعلماء قبل أن يضبط أدلة المسائل ووجوهها وحججها، فيحكم عليها مسبقاً، فالشيء الذي لا يفهمه ولا يستوعبه خطأ، والشيء الذي تألفه نفسه وترتاح إليه صواب، فهذا يقف عند هذا الحد حتى يؤذي إخوانه، فمن طلاب العلم من يجلس في مجلس العلم فلا يقول القائل كلمة إلا عقب عليه، وقد يحاول أن يوهم طلاب العلم محبته وتقديره لشيخه.

    الله الله! لا ينبغي للمسلم أن يكون هادماً لما بنى الله ورسوله، الله سبحانه وتعالى أمرنا بتوقير أهل العلم ومحبتهم، وهذا لا يختص بالعلماء الأحياء فقط بل بالأموات أيضاً، حينما تأتي مسألة لعلماء قدماء، فيكتب أحدهم سؤالاً يشْعِر بأن هذا القول مستهجن، أو أن هذا القول لا يمكن أن يتقبله بعضهم، حتى نجد هذا في الأسئلة العامة، يقول: أنا لا أستطيع أن أفهم هذا الشيء، ومن أنت حتى يجعل الله فهمك حجة على الكتاب والسنة، وعلى العلماء والأئمة، لا بد أن نهيئ من أنفسنا ما نتقبل به الحق، وألا نكون في أساليب أسئلتنا واستفتاءاتنا ومعاشرتنا للعلماء أو مخاطبتنا لهم نغرس فيها الشكوك في تقبل الحق والرضا به والعمل به، كان الناس إذا تكلم العلماء أنصتوا، وإذا أفتوا عملوا، أما اليوم فما تجد عالماً يتكلم إلا وجدت حوله من الأدعياء ما لا يحصى كثرة، ولن تجد فتوى من الحق تقال، إلا وجدت الموهنين فيها والمشككين، ولكن الله الموعد، غداً بإذن الله بين يدي الله تجتمع الخصوم، وسنشهد بين يدي الله ويشهد كل إنسان رزقه الله الحق والبصيرة على كذب الكاذبين وخداع المفترين، والله إن الرجل ليأتي بالمسألة لطالب العلم، وهذا كلنا نشاهده حتى في طالب العلم، تجده يجلس بين يدي علماء أجلاء كنا نتلقى على أيديهم العلم، مثل علم الأصول، كان مبنياً على قواعد وحجج، لكن هذه القواعد تقرر ويراد بها فهم الكتاب والسنة، فلما قررها علماء الأصول ضربوا أمثلة عقلية؛ لأنها هي في الأصل لفهم النصوص، فتحتاج إلى أمثلة عقلية حتى تفهم بها النصوص، كنا نجد بعض طلاب العلم يقول لإخوانه: هذا رأيي، وكنا ننصحهم ونذكرهم بالله عز وجل، فتخرجوا وخرجوا، ووجدنا من كان متأدباً كيف حاله، ووجدنا من كان ناقداً مسيئاً للأدب كيف كان مآله، والله إني لأعرف بعضهم كان بحالة من الذكاء والفهم، ولكنه استغل فهمه وذكاءه -والعياذ بالله- للتشكيك والتوهين، واحتقار العلماء، وإنه اليوم يكاد يكون صفر اليدين، لا دعوة ولا علم، وقد نال بعضهم درجة الدكتوراه وهو صفر اليدين، وأعرف بعضهم يقف ويسألني عن بعض المسائل البدهية، والله لا يترك عبده جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26].

    الأمور مبنية على حَكَم عدل سبحانه، يقص الحق وهو خير الفاصلين، لا يوجد أحد يتهكم بأهل العلم أو ينتقص العلم أو يوهن منه إلا اقتص منهم.

    ومن درء المفاسد ألا يكون الإنسان بتصرفاته وأقواله وأسئلته ومعاملته لأهل العلم من الأحياء والأموات، مشككاً في علمهم موهناً فيه نازعاً لثقة الناس من علمائهم، ولذلك فالكلمة الأخيرة التي نقولها: أنك تجد أعداء الإسلام اليوم أحرص ما يكونون على توهين الثقة في أهل العلم.

    ومن هنا وجدت أن هناك من الأدعياء في العلم ما لا يحصى كثرة، ووجدت من المتحذلقين والمتفيهقين ما لا يحصى كثرة، وهذا كله لماذا؟ لأنه جعل الناس تفقد ثقتها بأهل العلم، الذين هم أهل علم وعلى رسوخ، وظن أن كل عالم مثل هذا، وهذا كله من البلاء الذي ابتلى الله عز وجل به الدين وأهله، ولكن مع هذا كله نشهد الله عز وجل أننا في نعمة منه عز وجل لا يعلم قدرها إلا هو سبحانه، ونعلم علم اليقين أن الحق باق ما بقي الملوان، وتعاقب الزمان، بعز عزيز وذل ذليل، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المرجفون، ولو كره المفسدون.

    فينبغي لطالب العلم إذا عاشر طلاب العلم ألا يكون مفسداً وأن يكون مصلحاً، ومن الإفساد أن يجعل بين طلاب العلم وبين العلماء -خاصة المتقدمين وأئمة السلف- عوائق، بل عليه أن يكون نِعم طالب علم مع أخيه، معيناً له على محبة العلماء والحرص على التلقي منهم والثقة فيهم، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع بينهم خلاف في بعض المسائل، شهد بعضهم لبعض بالفضل، وكان الرجل من التابعين يأتي يسأل الرجل من الصحابة فيقول له: انطلق فاسأل فلاناً، فإنه أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وكان الرجل يأتي ويسأل عن شأن من شئون الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، فيقال له: انطلق إلى أمهات المؤمنين، فكان عمر رضي الله عنه وهو المحدث الملهم الخليفة الراشد، ومع هذا يرجع إلى عائشة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها.

    ما يمكن أن يكون العلم إلا بالمحبة والتقدير والاعتراف بالجميل، وتقدير هؤلاء الذين فهموا ووعوا وحفظوا وحملوا للأمة دينها وشرعها، ومن عرف قدر العلماء وأنصف، فقد آتاه الله عز وجل خيراً كثيراً؛ لأن وراء هذا كله السلامة من الآثام، والعصمة من الله سبحانه وتعالى، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا وإياكم بعصمته، وأن يرزقنا وإياكم الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ونسأل الله بعزته أن يرزقنا وإياكم القول السديد والعمل الرشيد، وأن يرزقنا محاسن الأخلاق والأقوال، ويهدينا إليه لا يهدي إليه إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، والله تعالى أعلم.

    حكم قراءة يس عند المحتضر والميت

    السؤال: ما حكم قراءة سورة يس عند احتضار الميت، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالحديث في هذا حسن، وجاء في ذلك أنها تُسهل خروج الروح، ولا بأس بذلك ولا حرج، وقد استحب غير واحد من الأئمة رحمهم الله حين يكون الإنسان محتضراً أن تقرأ عنده؛ لثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قراءتها بعد الدفن هو الذي لا أصل له، وهو من البدع المحدثة، والله تعالى أعلم.

    جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة

    السؤال: في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سبباً في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟

    الجواب: التركيز في طلب العلم مهم جداً، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيراً، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل)، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظاً وفهماً وعملاً، وهم من أقوى الناس حفظاً، وأصفاهم ذهناً، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط.

    فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلاً، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلاً سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يُري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضّره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهماً بسيطاً أو سهلاً يُسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ.

    نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعاً- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني!

    أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقاً له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوماً من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أياً كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علَّمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد أُلقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم.

    الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط.

    واكتب قليلاً إن أردت تحفظ ..... الحروف إن أردت تلفظ

    فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غداً عالماً بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كمَّاً هائلاً، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط. والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درساً في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درساً، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفاً علمياً، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق.

    هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخاً منهم، فـابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة. فكثرة الشتات والتنوع متعب جداً وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علماً وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.

    حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم

    السؤال: ما الحكم على من قتل حمامة في مكة بسيارته وهو غير محرم، أثابكم الله؟

    الجواب: الحمامة فيها شاة، قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة؛ لأنها تعب الماء، وقتل الصيد في الحرم موجب للضمان، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فمن قتل حمامةً -ولو كان حلالاً- فإن عليه أن يذبح شاة بمكة، على الصفة المعتبرة، وهي: الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، وأن تكون سالمة من العيوب، وتذبح وتكون صدقة للفقراء في الحرم، أو يكون عدلها طعام مساكين، والله تعالى أعلم.

    حكم وضوء من لمس الكلب

    السؤال: هل لمس الكلب ينقض الوضوء، أثابكم الله؟

    الجواب: لمس الكلب لا ينقض الوضوء، ولكن إذا لمسه ففيه تفصيل:

    إن كان هو الطري أو الكلب؛ فقد انتقلت النجاسة، أما إذا كان لمسه وكل منهما جامد أو جاف؛ فإنه لا شيء فيه، والله تعالى أعلم.

    حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام

    السؤال: امرأة قبل ولادتها بخمسة أيام رأت بعض السوائل تخرج منها، وذهبت إلى المستشفى وبعد خمسة أيام ولدت، فتركت الصلاة في الخمسة الأيام التي قبل الولادة، فهل تقضي الصلاة الفائتة، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يرى أن سبق الدم للولادة متصل بالولادة في حدود الثلاثة الأيام نفاس، قالوا: لأنه يسبق، وهذا القول قوي، وأما إذا كانت خمسة أيام فلا، المحفوظ أن الخلاف في ثلاثة أيام، أما إذا كانت خمسة أيام فعليها أن تقضي هذه الأيام، والله تعالى أعلم.

    حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز

    السؤال: سائلة تقول: لي والد عاجز لا يستطيع أن يقوم على شأنه من جهة إزالة الحدث، ورفضت أمي القيام على شأن والدي، وكذا إخوتي، فهل يجوز لي أن أقوم بتطهيره، وقد يؤدي ذلك إلى الكشف عن عورته والنظر إليه، أثابكم الله؟

    الجواب: أولاً: لا ينبغي للأم أن تمتنع؛ لأنه لا أحد أقدر على النظر إلى عورة الرجل من زوجته، والله إنه لأمر يُقرح القلوب أن يكون العشير مع عشيره، حتى إذا ضعف بدنه وخارت قواه وشاب رأسه ورق عظمه، نسي العهود التي بينه وبينه. فعلى هذه الأم أن تتقي الله عز وجل، وعلى هذه البنت أن تذكرها الله، وأن تذكرها حق الزوج، إذا كان عندها القدرة على القيام بحقه، فأوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تحسن إلى بعلها، وأنه جنتها ونارها.

    ثانياً: إذا عجزت الزوجة، فيجب على الذكر من الأبناء أن يتولى تنظيف والده؛ لأنه لا يجوز للأنثى أن تُغسل الرجل ما لم تكن زوجة، وهذا أصل، ولذلك الميت إذا مات ولو كان عنده أخواته ولم يشهد موته إلا النسوة ييمم، تعظيماً لأمر العورة. فكون البنت تلمس عورة أبيها لا يجوز، وإنما الذكر يغسل الذكر، والأنثى تغسل الأنثى، وهذا هو الأصل المقرر عند أئمة الإسلام، وعليه العمل والفتوى، فأوصي هؤلاء الإخوان أن يتقوا الله عز وجل، وأن يتذكروا حق والدهم وأن يرحموا ضعفه وحاجته، وأن يتذكروا حينما كانوا صغاراً كيف كان يحملهم بيديه ويحسن إليهم ويتولاهم، ويقوم برعايتهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

    وعليهم أن يتقوا الله عز وجل حتى ولو بالتناوب، فينوب بعضهم بعضاً، وكل شخص يكون له يوم يرعى فيه والده، وأي شيء أعظم من بر الوالدين، من الناس من بر والديه فتمنى أن يقضي حاجة والده بيده حتى ينال شرف الذلة للوالد وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي ذلك قصص يعرفها الناس، وسارت بها الركبان، تبتهج بها النفوس، وتنشرح بها الصدور؛ من كمال بر الأولاد لوالديهم، فعلى الأبناء الذكور أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا برعاية هذا الوالد.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956425