إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب شروط القصاصللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لابد من وجود شروط معتبرة حتى يتحقق ويجب القصاص على القاتل، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول، وهي: أن يكون القاتل مكلفاً، وأن يكون المقتول معصوم الدم، وأن يتكافأ القاتل مع المقتول، وألا يكون بينهما ولادة، كالوالد مع ولده، فإن تحققت هذه الشروط وجب تنفيذ القصاص، وإن تخلف واحد منها سقط القصاص عن القاتل.

    1.   

    شروط القصاص

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب شروط القصاص].

    بعد أن بين المصنف رحمه الله الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بقتل العمد الذي يوجب القصاص من القاتل، شرع رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم لولي المقتول بالقصاص من القاتل، وهذا ما ترجم له رحمه الله بهذه الترجمة: (باب شروط القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لكي يحكم الفقيه ويقضي القاضي ويفتي المفتي بثبوت استيفاء القصاص، وتمكين ولي المقتول من الأخذ بحقه.

    قوله: (شروط القصاص)، تقدم معنا تعريف الشروط أكثر من مرة، وأن الشرط: هو العلامة، وأما في الاصطلاح: فما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وجمعها رحمه الله فقال: (شروط)؛ لتعددها واختلافها، فهناك شروط تتعلق بالمقتول، وهناك شروط تتعلق بالقاتل، فلا بد من توفر هذه الشروط حتى يحكم بالقصاص.

    والقصاص مأخوذ من قولهم: قص الأثر إذا تتبعه: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11] أي: تتبعي أثره، فلما كان حكم الشريعة بالقود -وهو القصاص- يتتبع فيه ولي المقتول القاتل لكي يفعل به مثل ما فعل بالمقتول وصف بهذا الوصف، وهو وصف شرعي وردت به نصوص الشرع، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، فهو مصطلح شرعي، والمصطلحات منها ما هو مستقى من نص الكتاب والسنة، ومنها ما هو مفهوم من الشرع، فهذا مصطلح مستقى لفظاً من الشرع.

    قال رحمه الله: [وهي أربعة].

    إجمال قبل البيان والتفصيل، وقد تقدم أن هذا منهج العلماء رحمهم الله.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله أربعة شروط، شرطاً منها يتعلق بالمقتول، وشرطين يتعلقان بالقاتل، وإن شئت قلت: شرطاً يتعلق بالقاتل وهو كونه مكلفاً، وشرطين مجتمعين يتصل بهما القاتل بالمقتول، وهي قضية المكافأة والمساواة، وقضية عدم البعضية أو عدم الولادة، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً أو أنثى، فيشمل الأب ويشمل الأم، وسواء كان مباشراً كالأب المباشر أو بواسطة كجده وإن علا.

    الشرط الأول: عصمة المقتول

    قال رحمه الله: [عصمة المقتول].

    المراد بهذا الشرط أننا لا نحكم بوجوب القصاص إلا إذا كان المقتول معصوم الدم، وهذه العصمة يحكم بها الشرع، بمعنى: أن الشريعة حرمت قتل هذا المقتول، فإذا ثبتت العصمة للمقتول؛ فإن من قتله بدون حق يجب عليه القصاص.

    والأصل في هذا: أن الله حرم قتل المعصوم، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، فبين أن الإيمان عصمة للإنسان، وأنه لا يجوز قتل المؤمن إلا على وجه الحق.

    وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] قيل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أي: لا تقتلوا إخوانكم، فدل هذا على أن الإيمان عصمة.

    ودلت السنة أيضاً على هذا، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) يدل على أن هناك عصمة للمسلم، ولذلك قال: (لا يحل) فعبر بهذه الصيغة المقتضية للتحريم.

    واتفق العلماء على هذا المصطلح، وهو ما يسمونه بمصطلح العصمة، وهو مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله)، فهذا يدل على العصمة.

    والعصمة تكون للدم، وللمال، وللعرض، وهذا ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع حينما قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)، فجعل العصمة شاملة للنفس والعرض والمال.

    والعلماء يسوون بين عصمة الدم وعصمة النفس فالمعنى واحد، فهذه العصمة تكون مستحقة بالشرع وتكون بالأمان، فلا يجوز أن يقتل من له عصمة في الشرع مثل: المستأمن والذمي والمعاهد، وإن كان مثله لا يقتص له على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

    فهذه العصمة لا بد من توفرها في المقتول، فإن كان المقتول مهدور الدم أو مباح الدم، مثل الحربي،فإنه لا يقتص من المسلم في قتل الحربي؛ لأن الحربي لا عصمة له في الشرع، وليس بمعصوم الدم، فالقتل ليس واقعاً في غير موقعه، بل واقع في موقعه؛ لأن الحربي يقتل، وكذلك إذا كان المقتول غير معصوم الدم كالكافر والمرتد والحربي والمسلم المستحق الدم، فمثلاً: لو أن إنساناً قتل ظلماً وعدواناً، وفر القاتل وهرب، وعلم شخص أنه قاتل، فجاء وأراد أن يأخذه ففر عنه، فقتله بنية القصاص لمن قتله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- بيانه، ففي هذه الحالة ليس بمعصوم الدم.

    وأما إذا كان محصناً وزنى -والعياذ بالله- فاستحق القتل، ففيه خلاف بين العلماء فيمن قتله، فبعض العلماء يرى أن المحصن مهدر الدم، وأنه إذا قتله القاتل فلا قصاص عليه، قالوا: لأن دمه مستحق بالشرع، فإذا قتل فإنه لا عصمة له حتى نقتل من قتله، فأسقطوا القصاص لعدم وجود العصمة.

    ومن أهل العلم من قال: إن قتل الزاني المحصن أمر إلى ولي الأمر والقاضي، فهو مستحق بحكم الشرع، وليس لأحد أن يأتي ويقتله؛ لأن هذا لا يستند إلى ولاية بالقتل، وقد جعل الله عز وجل ولاية للسلطان ومن يقوم مقامه.

    وفي بعض الأحيان يكون قتله حميةً، كما لو جاء ووجده مع زوجته وهو محصن فقتله، أو شهد الشهود الأربعة على أنه زنى بزوجته فقتله، قالوا في هذه الحالة: يكون قتله أشبه بالغيرة، وليس قياماً بحق الشرع، قالوا: فإنه يقتل به، وفي هذه الحالة لا يقال: إن هذا قتل شرعي؛ لأنه ليس على الصفة المعتبرة شرعاً.

    ومن أهل العلم من قال كما اختاره الحنابلة وطائفة: إن الزاني المحصن إذا قتل أو مهدر الدم إذا قتله من قتله؛ فإنه يكون مهدر الدم، ولا قصاص على قاتله، وهذا أشبه من جهة الأصول.

    أما في مسألة المرتد فالأمر يختلف، فلو أن رجلاً سب الله عز وجل -والعياذ بالله- أو سب الدين، أو تهكم واستهزأ استهزاءً بيناً موجباً للكفر، فهذا كافر مرتد، ومن قال الكفر أو عمل به وقيل له: هذا كفر، وقامت عليه الحجة، فأبى وأصر على ما هو؛ فهو كافر مرتد مباح ومهدر الدم، فإذا قتله فإنه في الأصل ليس هنا حمية إلا حمية الدين، ولا عصبية إلا عصبية الدين، فإذا قتله فإنه مأجور على قتله، لكنه -كما ذكر العلماء رحمهم الله- افتيات على حق السلطان والوالي، لكن مثل هذا مهدر الدم لا يقتص له بوجه، فلا يقتص ممن قتله لما سب الله عز وجل، أو سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، فيكون مهدر الدم.

    وفي هذه الحالة لا يكون القصاص على من قتله، فإن قتل به فهو شهيد، إذا ثبت على هذا الوجه أنه مرتد.

    قال رحمه الله: [فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية].

    المسلم إذا قتل حربياً، فإنه مهدر الدم، وإذا حارب المسلمون الكفار سقطت الحرمة لدمائهم، إلا إذا كان بينهم وبين المسلمين ذمة، على تفصيل سبق أن بيناه في باب العهد والأمان.

    ولكن من حيث الأصل أنه لو قتل المسلم الحربي فلا يقتل به، لكن لو قتل الذمي الحربي، كما كان في القديم عندما كان أهل الكتاب تحت ذمة المسلمين، فلو خرج رجل من أهل الكتاب أو كتابي فوجد حربياً فقتله، فإن هذا الحربي مهدر الدم، مع أن قاتله كافر مثله، لكن هذا له أمان، وله ذمة الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة)، فله ذمة المسلمين، فإذا قتل فله حرمة في بلاد الإسلام، فلا يقتل بمن قتله؛ لأنه في حكم الشريعة، وفي حكم من أعطاه الأمان والذمة أن هذا الدم مهدر، ولذلك لا يقتل به.

    وقوله: (فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً) هذا تمثيل على الدم المهدر وهو دم الحربي.

    وقوله: (أو مرتداً) أي: لو قتل مسلماً مرتداً، فإن هذا بإجماع العلماء على أن المرتد مباح الدم، لكن عندهم تفصيل هل تشترط الاستتابة أو لا تشترط؟

    فمن أهل العلم من قال: إن المرتد لا يستتاب بل يقتل كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن امرأة وجدت مقتولة في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرج بالله من كان عنده خبر منها أن يقوم. فقام زوجها -وكان كفيف البصر أعمى- وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتتكلم في دينك، فما هو إلا أن قمت عليها وهي نائمة بمعول -وهو الفأس- فبقرت بطنها فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر)، فأسقط عليه الصلاة والسلام هذا الدم؛ لعدم عصمتها بالردة.

    وهذا يدل على أن من سب الله وسب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مهدر الدم، ولا يقتص من قاتله.

    قوله: (أو مرتداً) الردة سواء كانت بالأقوال أو بالأفعال الموجبة للخروج من الإسلام، فهذا كله سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في ضوابطه، والأحوال التي يحكم فيها بالردة.

    ومن أهل العلم من يشترط الاستتابة، واحتجوا بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه معاذ رضي الله عنه وقال: (إن رجلاً اختار دين اليهودية بعد أن أسلم، قال: فقربناه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلّا أدريتموه وأطعمتموه ثلاثاً وعرضتم عليه، وإن أبى قتلتموه، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر)، فـعمر رضي الله عنه برئ من قتله بدون استتابة.

    وعلى كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن المرتد مباح الدم، والنص في هذا واضح في قضية الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبقى النظر في تعزير من افتات على السلطان وقتل بدون بإذنه، وهذا يحتاج إلى نظر وتفصيل.

    وقوله: (لم يضمنه بقصاص) فلا يقتص من الذي قتله، فلو كان مرتداً في الحقيقة، ولم يوجد شهود يثبتون ردته، وجاء رجل وقتله، فالأصل أن نقول: إنه مسلم، فهذا القاتل إذا أخذه أولياء المقتول، وقالوا: نريد القصاص، فاقتص منه وقتل فهو شهيد؛ لأنه في هذه الحالة قُتل بغير حق، وقتله للمرتد هو على وجه شرعي.

    وبناء على ذلك لا يكون دمه مباحاً في الأصل الشرعي، فإذا قُتل به فإنه مقتول ظلماً، ولكنه في حكم الشرع يُقتل؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان أي شخص يقتل شخصاً ويقول: هذا مرتد، ولذلك لا بد من إثبات الردة، وعدم وجود دليل يدل على توبته من الردة؛ لأنه يمكن لأي شخص -والعياذ بالله- أن يرتد ثم يتوب.

    وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من زنى -والعياذ بالله- وهو محصن، ثم قتله القاتل فيقتل به، ما لم يثبت عند القاضي زناه وعدم توبته؛ لأن أصل القضية أنه إذا كان زانياً محصناً فيحتمل أنه تاب، وإذا تاب لم يُقتل؛ لأن الزاني إذا زنى وتاب ولو بعد الزنا مباشرة، ولو زنى مليون مرة -والعياذ بالله- فما دام أنه تاب إلى الله توبة نصوحاً؛ فإن الله يتوب عليه.

    والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما يريد التقوى من القلوب، فالعبد الذي يفعل الذنب ثم يتوب يتوب الله عليه، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه: لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، أما من تاب صادقاً من قلبه بعد ذنبه فالله يغفر ذنبه.

    فقالوا: يحتمل أنه زنى ورآه يزني، وعلم أنه محصن، وتاب الرجل بينه وبين الله، فحينئذٍ لا يستحق دمه؛ لأنه في الأصل قد تاب وأناب إلى الله عز وجل، فقالوا: لشبهة التوبة ولاحتمال أن يكون تاب بينه وبين الله لا يفتح هذا الباب.

    فقالوا: إذا قتله فيحتمل أنه تاب قبل قتله، ومثل هذه الذنوب تنفع فيها التوبة، وحينئذٍ قتل معصوماً، وأكدوا هذا بالدليل في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن سعداً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت لو وجد لكع قد تفخذها رجل، فيذهب فيحضر الشهود، إذاً يفرغ الرجل من حاجته، وإذا قتله قتلتموه).

    وفي الصحيحين من حديث عويمر العجلاني -الذي تقدم معنا في اللعان- أنه رضي الله عنه سأل رجلاً من بني عمه، وقال له: (يا عاصم ! سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً إن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيض).

    فالشاهد في قوله: (إن قتل قتلتموه)، مع أنه وجده على الزنا، وهذا يدل على أن قتل المحصن لا يسقط القصاص، لكن هذا الدليل محل نظر، لأن قوله: (إن قتل قتلتموه)؛ لأنه ليس عنده دليل وبينة تثبت أنه قد زنى، وأما من كان عليه دليل وبينة تثبت أنه زنى وهو محصن، ثم قتله بعد زناه وإحصانه؛ فحينئذٍ هذا هو محل الخلاف.

    وعلى هذا فرق بعض العلماء بين قضية كونه يثبت زناه بعد إحصانه عند القاضي فيقتله بعد الثبوت؛ لأنه إذا ثبت عند القاضي زناه بعد الإحصان -ولو تاب- أقيم عليه الحد؛ لأن التوبة تنفعه بينه وبين الله، لكن حكم الشرع يجري على الظاهر.

    وعلى كل حال المسألة تتجاذبها هذه الأصول، وقول من قال: إنه مهدر الدم إذا ثبت بالدليل أنه محصن وأنه زنى بعد إحصان، فإن الأشبه أن يقام عليه الحد، فإن قتله فهو مهدر الدم، فلو قال قائل: يحتمل أنه تاب، قلنا: إذا ثبت بالدليل أنه زنى بعد إحصان؛ فقد ثبت موجب قتله، ولا دليل ظاهر على توبته، وأجري الحكم على الظاهر؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على أنه تاب.

    وبناء على ذلك يجب الحكم على الظاهر، وعلى هذا يقوى المذهب الذي اختاره الشارح رحمه الله حينما مثل بالمحصن إذا قتله بناء على زناه بعد الإحصان.

    الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفاً

    قال رحمه الله: [الثاني: التكليف].

    الشرط الثاني: التكليف، والتكليف يقوم على أساسين: البلوغ والعقل، قال الناظم:

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر

    فلابد في التكليف من البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل غير مكلف، كصبي قتل رجلاً أو قتل صبياً، فإنه لا يقتص من هذا الصبي؛ لأنه مرفوع عنه القلم وغير مكلف وغير مؤاخذ.

    وكذلك أيضاً إذا قتل مجنون رجلاً أو قتل جماعة، فإنه لا يقتص منه؛ لأنه غير مؤاخذ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، وفي الصبي خلاف إذا كان مميزاً، والقول بأنه يكون في حكم المكلف قول معارض للنصوص القوية، والأدلة الواضحة، والإجماع السابق لهذا القول يدل على أنه إن كان مميزاً أو غير مميز فإنه لا تكليف عليه، والتفريق بين الصبي المميز وغير المميز قول ضعيف.

    والنصوص واضحة، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، فهذا نص واضح ليس فيه إشكال، وإن كان بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فرقوا بين الصبي المميز وغير المميز، وهو تفريق بدون دليل، ومعارض لما ذكرناه من الأصول الشرعية وإجماع السلف قبل حدوث هذا القول.

    قال رحمه الله: [فلا قصاص على صغير ولا مجنون].

    ولذلك فعندهم قاعدة تقول: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي إذا قتل فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية، وهكذا لو أن الصبي قطع عضواً أو ضرب شخصاً فأتلف له عضواً أو نحو ذلك، فإنه يجب ضمان هذه الجناية، ولا يجب القصاص والقود.

    الشرط الثالث: المكافأة

    قال رحمه الله: [الثالث: المكافأة].

    الشرط الثالث: المكافأة، وهي المساواة، أي: أن يساوي القاتل المقتول، وألا يكون أزيد منه، وتحقق بمسألة الديانة والحرية، والأصل في ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل المقابلة، والقصاص في الأصل يقتضي المساواة؛ لأن المقاصة تحتاج إلى مماثلة، وعدم وجود فضل في القاتل على المقتول من جهة الدين أو من جهة الحرية مما يعتبر في المكافأة، قالوا: لأنه إذا كان القاتل فوق المقتول حرية مثلاً، فإننا إذا قتلنا القاتل وهو حر، لم نساوه بمن قتله، وكان هذا ليس قصاصاً؛ بل كان زيادة في القصاص، والله عز وجل يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فحرم الله الزيادة في القصاص عن الأصل.

    وقول الله عز وجل: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] هذا يسمى عند العلماء: مفهوم الحصر، أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، والسبب في ذلك بيناه في غير مرة: أن مسألة الرق والحرية مبنية على أصول شرعية، ولذلك فإن الإسلام لا يحكم بالرق في الأصل والأساس إلا في حالة مقاتلة المسلمين للكفار وضرب الرق عليهم، فالرق مستفاد من الكفر؛ لأنه عرض عليه الإسلام فأبى، ثم قاتل المسلمين، فلما أخذوه في الأسر ضرب عليه الرق وصار في مستوى البهيمية، قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فهو كافر بالله، ثم حمل السلاح على دين الله وشرع الله عز وجل مانعاً من كلمة الله عز وجل؛ فنزل إلى مستوى أحط من مستوى البهيمية، وهذا المستوى لا يمكن أن يكافئ به المسلم.

    ولذلك فإن القول المعتبر عند جماهير السلف والخلف، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهم، وجمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائهم: أنه لا يقتل حر بعبد، سواء كان العبد عبده أو عبد غيره، وهذا يستفاد منه الشرط الذي ذكرناه وهو المساواة، وأنه ينبغي أن يكون مكافئاً لمن قتله.

    خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي

    قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين].

    أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يُقتل ذو عهد في عهده).

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين.

    ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربياً إجماعاً، وإذا كان ذمياً على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهودياً أو نصرانياً دخل إلى بلاد المسلمين ذمياً، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به.

    وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].

    واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال: أنا أحق من وفّى بذمته)، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سنداً، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان ، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين.

    يعني أنه راوٍ ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده.

    أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي:

    أولاً: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل علياً رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهماً يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر).

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكراً أو أنثى، وسواء كان الكافر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو حربياً أو مرتداً، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثنِ كافراً من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة.

    إذاً: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر.

    أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] فنجيب عنه من وجهين:

    الوجه الأول: لا نسلّم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:178]، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول.

    ثانياً: أن قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة.

    وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص.

    هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمناً فإنه يقتل به.

    وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذمياً ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئاً أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله. وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضاً من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعاً من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصاً.

    والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان.

    وبناءً على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكاً لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جداً في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر.

    وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتداً أو حربياً أو ذمياً أو مستأمناً، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال.

    وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه.

    خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد

    قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين والحرية والرق].

    أي: يساويه في الدين والحرية، فإذا قتل حرٌ حراً قتل به، وهذا نص القرآن: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] وهذا يسميه العلماء: مفهوم الحصر، وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة المشهورة، وهي: مفهوم الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر والغاية.

    وقد أشار إليها الناظم بقوله:

    صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إغيا

    فلما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] يعني: اقتلوا الحر بالحر، وأيضاً لا تقتلوا الحر إلا بالحر.

    وبناءً على ذلك: لا يقتل الحر بالعبد، وهذا مبني على أن الحر أرفع درجة من العبد، كما بين الله تعالى أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، وأن الحر أرفع منه درجة بأصل الإسلام كما ذكرنا: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

    إذا ثبت هذا فإن الناقص لا يقتل به الكامل؛ لأن ذلك لا يعتبر قصاصاً ولا عدلاً، والشريعة جاءت بالعدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، فالشريعة جاءت بالعدل، فالحر لا يقتل بالعبد.

    وخالف في هذه المسألة داود الظاهري رحمه الله فقال: الحر يقتل بالعبد، وجماهير السلف والخلف على غير ذلك، وفيه حديث مرفوع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يقتل حر بعبد)، وحديث السنن عند ابن ماجة وغيره، وحسن بعض العلماء إسناده.

    فهذا يدل على أن الأصل ألا يقتل الحر بالعبد، سواء كان العبد مملوكاً كامل الملك، وسواء كان مملوكاً للقاتل، أو كان مملوكاً لغيره، وسواء كان الرق فيه كاملاً كالرقيق الكامل، أو مبعضاً، كما لو كان نصفه حراً ونصفه عبداً، فإنه لا يقتل به إلا إذا كان حراً كامل الحرية.

    وعلى هذا فلو قتل العبد العبدَ قتل به: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178]، فهذا يدل على أن العبد يقتل بالعبد، وإذا قتل الحر العبد؛ فإنه لا يقتل به، ولكن هل يدفع قيمته أو الدية؟ وجهان للعلماء: قيل: يدفع قيمته بالغاً ما بلغ، وفي بعض الأحيان تكون قيمة العبد أضعاف أضعاف قيمة الدية، مثل أن يكون عبداً عنده صنعة وهو غالي الثمن، فتكون قيمته مثلاً ثلاثمائة ألف، والدية مائة ألف؛ لأنه صاحب صنعة.

    فحينئذٍ اختلف العلماء -وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات-: هل الرقيق ملحق بالأموال فتقدر قيمته عند الجناية، أو ملحق بالآدمية؛ لأنه في الأصل آدمي، ولا يعامل معاملة الأموال في البيع والشراء بل يبقى على آدميته على الأصل؟ نقول: إن العبد تكون ديته نصف دية الحر، وحينئذٍ تكون خمسين ألف مثلاً، إذا كانت الدية مائة ألف، وإذا قلنا: يدفع قيمته بالغة ما بلغت فقد تكون ثلاثة أضعاف الدية كما ذكرنا، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في باب الديات.

    قال رحمه الله: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد].

    (الفاء) للتفريع، وهذا هو التفصيل والبيان، فإذا كان قد ثبت أنه لا بد من المكافأة في الدين والحرية والرق فينبني على هذا، ويتفرع عليه ألا يقتل مسلم بكافر، وهذا عام، كما ذكرنا في الردة، ولو أن شخصاً -والعياذ بالله- ثبت بالشهود أنه سب الدين وسب الله عز وجل، فإنه يحكم بردته، فإذا قتله بعد سبه لله عز وجل مباشرة؛ فإنه قد قتل كافراً، فلا يقتل مسلم بكافر.

    ولا يقتل حر بعبد كما ذكرنا، سواء كان عبده أو عبداً لغيره.

    حكم قتل الذمي بالمسلم

    قال رحمه الله: [وعكسه يقتل].

    فلو أن ذمياً كان بين المسلمين، وجاء وقتل مسلماً، أو قتل امرأة مسلمة، قُتل بها، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، وكانت من الأنصار، فسئلت: من فعل بك هذا؟ فلان.. فلان.. حتى ذكروا يهودياً )، وقال بعض أهل العلم: إنه كان اليهودي يتربص بها من قبل، فلما ذُكر اسمه هزت برأسها وأومأت، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالتدمية البيضاء، فعند مالك رحمه الله من مسائله في القتل هذه المسألة: أن الشخص إذا وجد في آخر رمق من حياته وقيل له: من الذي قتلك: فلان؟ وهز رأسه، قلنا: هذا تدمية بيضاء موجبة للقسامة ومؤثرة في الحكم؛ لأن الشخص في هذه الحالة أقرب ما يكون إلى الصدق, وأبعد ما يكون عن الكذب؛ لأنه مقبل على آخرته وقد ترك الدنيا، ولا مصلحة له أن يكذب، ولذلك يرى أن قوله هنا يؤخذ به لما ذكر، وستأتي -إن شاء الله- هذه المسألة.

    وفي هذه الحالة سئلت المرأة فقيل: من فعل بك؟ فلان.. فلان؟ فأُخذ اليهودي فأقر واعترف، والحقيقة أن هذا الحديث ليس فيه حجة على ثبوت الدم، بل فيه حجة على ثبوت التهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بقولها، وإنما أخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فأخذ ووضع رأسه بين حجرين ورض كما رض رأس الجارية.

    وهذا يدل على أن الكافر يقتل بالمسلم، وعلى ذلك إجماع العلماء رحمة الله عليهم، أنه إذا قتل كافر مسلماً؛ فإنه قد أسقط العهد الذي بينه وبين المسلمين فيقتل قصاصاً، ويقتل أيضاً لخروجه عن العهد الذي بينه وبين المسلمين.

    أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى

    قال رحمه الله: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر].

    الذكر أرفع درجة من الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في أن الرجل لا يساوي المرأة من حيث الأصل، وهذا أمر واضح جلي في الشرع، وعلى المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن يترك هذا الخلط الذي يدعيه أعداء الإسلام من مساواة الرجل بالمرأة من كل وجه، فهذا قول باطل معارض لنصوص الكتاب والسنة.

    والله تعالى يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، والله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بعد هذا التكريم خلق منه حواء، فجاءت خلقة الأنثى بنصوص الشرع تبعاً ولم تأتِ أصلاً، وجاء التكريم استقلالاً للإنسان الذكر، وجاءت خلقة الأنثى بنص الكتاب أنه خلق منها زوجها ليسكن إليها، فهي تبع للرجل، ولحكمة من الله سبحانه وتعالى أن جعلها على هذا الوجه، ولم يسوِ بينها وبين الذكر، والله عز وجل يخلق الضعيف والقوي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الضعيف كالقوي، فهذه خلقة الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحياة إلا بوجود قوي وضعيف.

    وهذا ليس فيه ظلم ولا جور، بل هذه خلقة الله عز وجل، فلا تستطيع أن تستدرك على الخالق، حاشا وكلا! تعالى الله عز وجل.

    فالله عز وجل في أصل الخلقة خلق المرأة على هذا التكوين: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] خلقها على هذا الضعف لحكمة بينها تعالى فقال: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فلو خلقت قوية لما استقامت أمور الحياة، ولتنكد العيش، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر على هذه السنن فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فلا يستطيع أحد أن يبدل خلق الله.

    نعم.. في الشريعة جاءت التشريعات تخاطب الرجال وتخاطب الإناث، ومع ذلك خصت الرجال بما خصتهم، وخصت الإناث بما خصصتهن، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها قد جعلت الرجل مثل المرأة سواء بسواء أبداً، هذا أمر واضح جداً في التكاليف الشرعية وفي الأحكام والمسائل، فلا يخلط الأمر، بل ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن تكون الأمور واضحة.

    ولذلك متى ما خرجت المرأة عن هذه الفطرة استرجلت، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات من النساء، أي: أنها خرجت عن هذا المقام الذي فطرها الله عز وجل عليه، وأرادت أن تساوي الرجل، والله يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].

    فهذه أمور خلطت على المسلمين، ودخلت من الأفكار الوافدة من أعداء الإسلام؛ لأنهم يعلمون أنهم يناقضون كثيراً من أصول الشريعة، وتستقيم أمور المسلمين كثيراً إذا عرفت المؤمنة الصالحة مكانتها وعرف الرجل مكانه، وكمل كل منهما الآخر، وحاول كل منهما أن يكون على السنن والفطرة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا يخرج عنها ألبتة.

    ولذلك الذين يقولون: حقوق المرأة، هؤلاء والله يعذبون المرأة ويحملونها ما لا تطيق، وفوق ما تطيق، فهل يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل فلا يكلفوها، ولا يحملوها ما لا تتحمل.

    ومن هنا لما خرج الناس عن هذه الفطرة تنكدت الحياة، وتعذبت المرأة وأهينت وأذلت، حتى إن بعض أعداء الإسلام انتصر لحقوق المرأة، فلما خرجت المرأة في الدول الشيوعية للاتحاد السوفيتي تكنس الشوارع، وتعمل مثلما يعمل الرجل، صارت مهانة ذليلة ورجعت على العكس، فقد كانت تظن أن مسألة حقوق المرأة أنها مسألة يراد بها تكريم المرأة حقيقة، فتبين أنها إهانة للمرأة وإذلال لها.

    وأقسم بالله الذي فطر السماوات والأرض لن تجد المرأة تكريماً غير الذي كرمها الله به، وأنها إذا ظنت أنها تجد التكريم في غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتعلم أنها لن تزداد عند الله إلا مهانة وذلاً، ولتقدم على ما أقدمت أو تحجم.

    فعليها أن تعلم أن التكريم الحق إنما هو حينما تكون في مكانتها الطبيعية الجبلية التي فطرها الله عز وجل عليها، قائمة على أسرتها، وربة لبيتها، ومحافظة على أولادها، وراعية لزوجها، فقادت العالم أجمع بعدل وإنصاف وحكمة وقدرة من الله واقتدار، ومع ذلك ما تخلفت ولا تقاعست وكانت في أوج الحضارة، وكانت المرأة في قعر بيتها قائمة لحقوق أولادها وزوجها.

    وهل معنى ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا كانت المرأة مثل الرجل؟ أبداً، هذه كلها أمور مخلوطة، وأوراق مغالط فيها ومكابر فيها، فعلى الإنسان أن ينظر إلى الحقيقة.

    وعلينا أن نفهم الكتاب والسنة لنرد على كل من يأتي ويروج ويقول: المرأة مثل الرجل، وقد خاطبها الله كما خاطب الرجل، فهذه أمور لو جئنا نفصل فيها وأمسكنا من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه الإسلامي، لوجدت من المسائل ما لا يحصى كثرة من التفريق بين الرجل والمرأة، وتجد أن هناك أصلاً شرعياً يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط.

    وعلى كل حال: الأمر في هذا واضح، وليس هذا مقامه، لكن نقول: إن الرجل إذا قتل المرأة قتل بها، وإذا قتلت المرأة الرجل قتلت به.

    لكن إذا قتلت به فبعض العلماء يرى أنه يأخذ أولياء المقتول نصف الدية من أولياء المرأة أو من مال المرأة، قالوا: لأن المرأة نصف الرجل كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها)، فهذا يدل على أنها على النصف، فإذا كانت على النصف فديتها نصف دية الرجل كما سيأتي إن شاء الله، وإذا ثبت أنها على النصف فمعنى هذا أنها لا تساوي الرجل، فلو قتل رجل امرأة وحكمنا بالقصاص، فإنه إذا قتل أولياء المرأة الرجل، فقال بعض العلماء: يدفع أولياء المرأة نصف الدية؛ لأنها لا تكافئ الرجل من كل وجه.

    والصحيح: أن المرأة تقتل بالرجل، والرجل يقتل بالمرأة، ولا دفع للفرق بينهما.

    الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول

    قال المصنف رحمه الله: [الرابع: عدم الولادة].

    الشرط الرابع: عدم الولادة وعدم البعضية، وهو ألا يكون المقتول بعضاً من القاتل، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً كأبيه أو أنثى كأمه، فلا يقتل الأب إذا قتل ابنه، ولا تقتل الأم إذا قتلت بنتها أو ابنها، وقد ثبت هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه العمل، وفيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحافظ ابن عبد البر : إن الأمة تلقته بالقبول، يقصده حديث: (لا يقتل الوالد بالولد)، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، وأغنت شهرته عن طلب إسناده.

    ولـشيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم تكلم على هذه المسألة في الإعلام، في مسألة الأحاديث التي اشتهرت فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا الذي درج عليه أئمة الإسلام والسلف الصالح.

    والمنبغي للمسلم أن يسعه ما وسع السلف، وما جرى عليه العمل وأجمعت عليه الأمة، وكانوا فيه على السنن؛ فإن المسلم يلزمه ذلك، وهو أولى بالصواب وأحرى به إن شاء الله.

    ولماذا لا نقتل الوالد بالولد؟!

    قالوا: لأن الوالد سبب وجود الولد، فلا يكون الولد سبباً في موته وهلاكه, هذه علة.

    وبعضهم قال: لأن الولد جزء من الوالد، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعلهم كجزء من الإنسان.

    وقال بعض العلماء: العلة في عدم قتل الوالد بولده: أن الوالد يؤدب ولده، والغالب ألا يقتل والد ولده عمداً وعدواناً لكن هناك شبهة التربية والتأديب، وأنه لا يقدم على ضربه حتى يموت، لما جبل عليه الوالد من الرحمة والعطف عليه، فالشبهة قائمة، والشبهة تسقط القصاص.

    وعلى هذا الوجه الأخير استثنى المالكية المسألة المشهورة، وهي أن يضجع الوالد ولده ويقتله، مثل أن يذكيه تذكية مثل البهيمة، ففي هذه الحالة قالوا: تسقط شبهة التربية، ويقوى أن الوالد يريد إزهاق الروح عمداً وعدواناً، فيقتص منه.

    وعلى كل حال: فجمهور العلماء على عدم قتل الوالد بالولد مطلقاً، ويشمل هذا الحكم الوالد المباشر والجد والجدة سواء من جهة الوالد أو من جهة الوالدة، أي: سواء تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث.

    قال رحمه الله: [فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] وذلك كما ذكرنا.

    قال رحمه الله: [ويقتل الولد بكل منهما].

    أي: العكس، يقتل الولد بكل منهما، فلو قتل الولد -والعياذ بالله- والده، وهذا من أسوأ ما يكون؛ لأنه جمع بين العقوق والقتل -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من الشقاء المتناهي -والعياذ بالله- فإذا قتله فإنه يقتل به.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الذمي إذا قتل رقيقاً مسلماً

    السؤال: لو قتل ذمي عبداً مسلماً فهل يقتص منه أم لا، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإذا قتل الذمي رقيقاً مسلماً فإنه يقتل به، والجارية الأنصارية قيل: إنها كانت مولاة، ومن هنا يقتل به من جهة الكفر، والكافر ليس له فضل على الرقيق، ولذلك قال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221].

    وعلى كل حال ليس هذا مما يمنع القصاص من الذمي، بل يقتص منه ويقتل، والله تعالى أعلم.

    حكم القصاص من السكران إذا قتل

    السؤال: هل هناك قصاص على السكران إذا قتل، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل السكران مكلف أو غير مكلف؟

    ومن حيث الأدلة والأصول قد سبق أن ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق، وأن السكر موجب للحكم بزوال العقل، ونص الله عز وجل على أن السكران لا يعلم ما يقول، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43].

    فمن حيث الأصل لا شك أن مذهب الظاهرية ومن وافقهم في أن السكران غير مكلف قوي جداً.

    وفي مسألة القتل هنا استثنى بعض العلماء فقالوا: لو فتح الباب لكان لا يسع الإنسان إلا أن يسكر ثم يقتل.

    وعلى كل حال: فإن قضاء الصحابة هو الأولى، كما ذكرنا في قضاء علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه حينما جمع الصحابة، وقد اشتكى إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر، فقال علي : هذا أصل يقتضي أنه يعامل معاملة الصاحي.

    والذي يظهر والله أعلم أنه من حيث الأصل في الحكم أنه غير مكلف، لكن لا مانع في بعض الأحوال المستثناة إذا استشرى الأمر وعظم الفساد أن يستثنى كما استثنى الصحابة، فإن الصحابة زادوا في الحد وزادوا في العقوبة عند الانهماك في شرب الخمر.

    ولذلك رجح شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الزيادة راجعة إلى تقدير الظرف، لا من باب أن الزيادة تعزيرية، وليست زيادة نصية حدية، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس إن شاء الله، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.

    حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة

    السؤال: هل يجوز قبول مال الذي لا يصلي أو الأكل من طعامه أو محادثته إن كان من الأقرباء، أثابكم الله؟

    الجواب: أما بالنسبة للأكل من طعامه فلا شك أن فيه خلافاً: هل هو كافر أو ليس بكافر؟ فإن ترك الصلاة كلية وحكمنا بكفره؛ فإنه يجوز الأكل من مال الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، واستضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، كما في مسند أحمد ، ولأنه طعم من شاة اليهودية كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على قبول ضيافة الكافر، خاصة إذا رجي تأليفه وكسبه للإسلام، وبشرط أن يؤمن مكره وضرره.

    وأما قبول هديته ففيها تفصيل: فبعض العلماء يقول: إذا كان فيها منة وأذية على المسلم؛ فإنه لا يقبل هديته، ولا يقبل منه شيئاً، فلا يقبل منه مالاً، ولا يجيب له دعوة، فإذا كان فيه خبث وله أغراض سيئة، أو يريد مثلاً أن يدعو إنساناً طيباً وحاله طيب حتى يغري غير الطيبين، أو نحو ذلك من المداخل التي قد يفعلها أصحاب الكفر لأذية المسلمين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة قبول الدعوة؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والله عز وجل أمرنا معهم أن نأخذ الحذر، والواجب على المسلم أن يأخذ الحذر، وهذا من الحذر، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل، وتحقيق لمقصود الشرع، والله تعالى أعلم.

    بيان من هم أهل الذمة

    السؤال: هل أهل الذمة هل هم أهل الكتاب فقط، أم يشمل حتى المجوس وأهل الشرك أثابكم الله؟

    الجواب: الذمة تختص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، واختلف في السامرة والصابئة، هل كانت لهم أصول سماوية أم لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله.

    فالذمة خاصة بالكتابيين كما قدمنا في باب العهد وأحكام الذمة، وقد فصلنا في هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله، وأن الصحيح أن الكتابي من كان له أصل من دين سماوي، كما قال تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156]، فخص الكتب السماوية بهاتين الملتين، وهذا هو الأصل فيهم أنهم هم اليهود والنصارى.

    وأما المجوس فإنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في شيء، ويبقون على الأصل في شيء آخر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فتضرب عليهم الجزية ويعاملون كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ومن هنا فإنه يختلف أهل الذمة عن المجوس من وجه، ويوافقونهم في وجه.

    وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عند المسلمين، فإن المشرك إما أن يعرض عليه الإسلام وإما أن يقتل، إما أن يسلم وإما أن يقتل.

    أما أهل الكتاب فلأن لهم ديناً سماوياً، وقد اختلفوا عن غيرهم من هذا الوجه، فالإسلام يقر الشرك ولا يقر الوثنية، فعباد الأشجار والأحجار وعباد الأوثان إذا هجم عليهم المسلمون فإنهم لا يخيرونهم إلا بين أمرين: أن يسلموا أو أن يقاتلوا.

    وأما إذا كانوا من اليهود والنصارى فيخيرون بين الثلاثة الأمور: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في كتاب أحكام الذمة، والله تعالى أعلم.

    حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر

    السؤال: هل يجوز جمع صلاة الجمعة والعصر للمسافر، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة الأصول الشرعية تقتضي جواز الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا لا إشكال فيه من جهة الأصول، أي: لا فرق بين الجمعة وبين الظهر.

    لكن الأصل أن المسافر لا يصلي الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ جمعة في سفره ألبتة، وهذا أمر واضح وجلي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان معه مائة ألف نفس في عرفات، وكان بالإمكان أن يجمِّع ولو مراعاة لأهل مكة، ومع ذلك لم يصلِّ الظهر جمعة.

    ومن هنا نص العلماء على أن المسافر في الأصل لا تجب عليه الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه العدد الذي تصح به الجمعة وما صلّى جمعة واحدة.

    ومن هنا كان يشدد بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في خروج الإنسان وهو مسافر يجمِّع بالغير؛ لأنه لا يجمع بهم إلا من كان منهم، من أجل تحقيق هذه السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام.

    والجمع بين الصلاتين يشدد فيه بعض الحنابلة، وبعض المتأخرين يقول: دليلنا أنا وجدنا العلماء يقولون: يجمع بين الظهر والعصر، وما وجدناهم يقولون: يجمع بين الجمعة والعصر، لكن هذا ليس بدليل، فالعلماء رحمهم الله يذكرون الأصل وينبهون به على ما حلّ محله، ولذلك الجمعة إذا صلاها فإنه يصح له أن يجمع بعدها العصر، ولكن إذا أراد أن يخرج من الخلاف ويحتاط فهذا شيء آخر.

    أما من حيث الأصل فإنه لا إشكال في جواز أن يجمع العصر إلى الجمعة، وليس هناك دليل بمنع ذلك، بل الرخصة التي أحل بها الجمع هي وجود السفر، ووجود السفر موجب للرخصة، ولا فرق بين الجمعة وبين غيرها، ولذلك إذا فرق المفرق فعليه بالدليل.

    لكننا نقول: إذا احتاط وصلى الظهر وجمع إليه العصر فلا بأس.

    وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: يحضر الجمعة فينوي بها الظهر ولا ينويها جمعة, فإذا نواها ظهراً فلا إشكال، ووجه واحد أنه يجمع العصر إليها؛ لأنه يصلي وراء الإمام بنية الظهر، ويصح أن يصلي الظهر لاتحاد صورة الصلاتين، واختلاف النية مخرج على حديث معاذ رضي الله عنه؛ لأن الشرط ألا تختلف صورة الصلاتين، فإذا أراد أن يخرج من الإشكال فينوي المسافر الظهر، ويستفيد من حضور الجمعة للذكرى.

    والفرق: أنه إذا حضرها بنية الظهر جاز له أن يتكلم، وجاز له أن يتحرك، وجاز له أن يفعل؛ لأنه ليس بمجمع أصلاً، وهذا مبني على أصل عند العلماء رحمهم الله، وخاصة أن المسافر لا تجب عليه الركعتان الأوليان من الظهر، وقد قالوا: إن الخطبتين منزلة منزلة الركعتين خاصة في الحاضر.

    فإذا ثبت هذا فإنه يدخل بنية الظهر، ثم يحضر الجمعة ويستفيد، ويصلي العصر جمعاً، وإن أراد أن يدخل بنية الجمعة طلباً لفضيلة الجمعة فلا بأس؛ لأنه يحصل له فضيلة أفضل من الظهر، إلا أن الوالد رحمة الله عليه كان يختار أن تكون نيته للظهر؛ لأن اتباع السنة بعدم التجميع أولى وأقوى، وإن كان الأصل في ظاهره أن الجمعة أفضل من الظهر، والله تعالى أعلم.

    حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة

    السؤال: هل يجوز أداء صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد في الصلاة الواحدة؟ وأيضاً في نية الصوم هل يجمع بين صيام الإثنين إذا وافق يوماً من أيام البيض، أثابكم الله؟

    الجواب: يجوز أن يدخل المسجد وينوي الراتبة وتندرج تحتها التحية، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلما قال: (يركع ركعتين) دل هذا على أنها إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة أجزأت، وأن مراد الشرع ألا يجلس في المسجد حتى يصلي، وعلى هذا فإنه تجزيه عن الراتبة.

    وأما بالنسبة للصوم فإنه إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ووافق الإثنين والخميس؛ أجزأه عن صيامه المعتاد للإثنين والخميس، وهكذا لو وافقت الأيام البيض يوم الخميس أو يوم الإثنين، فإنه ينوي في قرارة قلبه الإثنين, كونها من البيض، وكونه يوماً مستقلاً من عادته أن يصومه، فيكتب الله له أجر اليومين، الأول بنيته والثاني بعمله.

    وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن من اعتاد الشيء من الطاعة وحال بينه وبين تحقيقه العذر؛ كتب له الأجر، فهو اعتاد أن يصوم أيام البيض، واعتاد أن يصوم الإثنين، ولا وجه للفصل بينهما، إذا وافق يوم الرابع عشر يوم الإثنين فلا يستطيع أن يجعل أيام البيض في غير يوم الإثنين، ومن هنا يكتب له أجر اليومين، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة.

    وهكذا إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ شرع له أن يدخل زيادة الإثنين والخميس؛ لأنها مقصودة لليومين، فلو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصام الأحد، شرع له أن يصوم الإثنين؛ لأنه لمعنىً مستقل، كما لو صام يوماً وأفطر يوماً، ووافق يوم فطره يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ فإنه يشرع له أن يصومه؛ لأنه لمعنىً خاص، والله تعالى أعلم.

    نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته

    السؤال: زوجي رجل مستمسك بدينه والحمد لله، وحسن الخلق مع الآخرين، ولكنه يشدّ علي، ويسيء الظن بي، ويتلمس أخطائي، ولا يرعى كوني امرأة ضعيفة أمانة بين يديه، فهل يحق لي طلب الطلاق منه، أرجو منكم توجيه النصيحة لزوجي أثابكم الله؟

    الجواب: الله المستعان!

    أولاً وقبل كل شيء: احمدي نعمة الله عز وجل أن رزقك الله زوجاً بهذه المثابة، ما دام أنه يخاف الله عز وجل وفيه حسن خلق، وما كان من إساءة الظن، ففي بعض الأحيان قد يقسو الرجل على زوجته من باب الغيرة، وحب الخير لها، وفي قرارة قلبه هو يحبها ويجلها ويكرمها، فيدخل الشيطان على المرأة بالظنون، فأوصيك دائماً أن تجعلي احتمالاً مضاداً لهذا الاحتمال حتى يضعف سلطان الشيطان على قلبك.

    ثانياً: أرجو لك عند الله أجراً عظيماً، وثواباً جليلاً كريماً إن صبرت على هذا الزوج، وأرجو لك من الله أن يعوضك على صبرك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتحول، والله لا يضيع أجر الصابرين، ولا يخيب أمة أو عبداً صبر لوجهه.

    فأنتِ إذا صبرتِ على عبد صالح ترجين رحمة الله؛ فأنتِ على خير، وأما الحدة والشدة فلا خير فيها، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في الإحرام يضرب عبده وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (انظروا إلى هذا المحرم) يعني: هو في إحرامه وهو يضرب.

    فكان عند الصحابة قسوة، حتى إنه لما دخل على ابنه عبد الرحمن قسا عليه قسوة شديدة في قصة الضيف المعروفة، وقال له: اخرج غدر. فقد يكون الإنسان صالحاً وفيه حدة، فالصبر على هذا الصالح المحتد أجره عظيم عند الله عز وجل وثوابه عظيم.

    فأوصيك بالصبر، فإذا جاوز حدوده فبالإمكان الاستعانة بمن يوثق فيهم، فإذا كان له عم أو والد أو أخ كبير، فتعرضين الأمر عليه عن طريق أخيك، وإذا لزم الأمر تكلميه مباشرة أو عن طريق الهاتف أن فلاناً يقسو زيادة عن اللازم، وتحددي الأمور التي تضايقك ولا تستطيعين الصبر عليها.

    أما الطلاق فليس هو الحل، بل هو نهاية الحلول، وما دام أنه رجل يخاف الله عز وجل؛ فأوصيكِ إذا جاوز الحد أن تقولي له: اتقِ الله عز وجل، فإن المؤمن إذا قيل له: اتقِ الله؛ رعدت فرائصه من الله عز وجل خوفاً من الله سبحانه، فأنتِ عندك سلاح متين.

    وأخاف عليكِ -لا قدر الله- إن طلقكِ ألا يبدلك الله خيراً منه، وقد تجدين من يهش لك ويبش، ولكن تجدين منه من الشؤم والبلاء ما لا يخطر لك على بال، وهذه سنة الله عز وجل، أنه إذا أنعم على العبد أو الأمة بنعمة ونظر إلى غيرها أنه يصرفها عنه ويذيقه الويلات فيما انصرف إليه.

    ولا أقول لكِ: أنه كامل، ولا أحملكِ فوق طاقتكِ، أنا أقول: ما دام أنه يخاف الله، فبيدكِ سلاح عظيم وهو التذكير بالله عز وجل، ولذلك قولي له: اتقِ الله؛ لأن التقي يخاف من الله عز وجل.

    فعندك أمر تستطيعين أن تحلي به مشاكلك وهو تذكيره بالله، وإذا كان لا يسمع منك فكما ما ذكرنا تنظرين إلى العاقل من قرابته وتعرضين الأمر عليه، وثقي ثقة تامة وليثق كل إنسان في هذه الحياة أنه لن يجد شيئاً كاملاً، وأن الحياة جبلت على النكد والبلاء والكد: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فالله عز وجل الذي خلق كل شيء، وقدر كل شيء، وعلم بكل شيء سبحانه، وأحاط بكل شيء رحمة وعلماً, ووسع كل شيء رحمة وعلماً يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فأقسم سبحانه وتعالى بالبلد الأمين، وأقسم برسوله وهو حال فيه، وبكل ما خلق: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:3-4] أي: في تعب وعناء.

    فإذا كان التعب والعناء تستطيعين أن تصبري عليه فهذا خير لكِ، والحكماء والعقلاء على مر العصور والدهور ما كانت حياتهم إلا صبراً وتجلداً، فتجلدي واصبري يا أمة الله، فإن الله يصبركِ.

    وما يدريكِ فلعل الله أن يخرج منك من هذا الرجل ذرية صالحة، واحمدي الله عز وجل أن زوجكِ لم يبتلَ بالمخدرات، ولم يبتلَ بالمحرمات، واحمدي الله عز وجل أنه لا يأتيك آخر الليل سكران، ولا يأتيك آخر الليل -والعياذ بالله- من عند مومسة، أو من بعد حرام أو من بعد فحش وآثام، فاحمدي الله عز وجل، وقولي: بعض الشر أهون من بعض، وكم من امرأة أقض مضجعها زوج يقلقها بالمحرمات، ويسبها ويسب أهلها وذويها وقرابتها، واحمدي الله عز وجل أنه لم يظلمكِ في مال، ولم يظلمكِ في فراش، واحمدي الله عز وجل على أشياء كثيرة.

    ولابد من وجود النقص، فالإنسان ضعيف، وأنتِ ضعيفة وأضعف منه، لكن الله سبحانه وتعالى يجبر كسركِ ويعينك إن صبرتِ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).

    فما طابت الحياة إلا بالصبر، والصبر لا يكون إلا بالأذية والتعب والعناء، وأشد ما تكون الأذية والتعب والعناء من القريب، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيراً ابتلاه، وإذا أراد أن يعظم له الأجر في البلاء جعل بلاءه من أقرب الناس إليه.

    الزوجة يؤذيها زوجها، وابن العم يؤذيه ابن عمه وقريبه، والشيخ يؤذيه طالبه، قد يعلم طالباً ثم يوماً من الأيام يرميه بنبله، أو يسييء الظن به، أو يتهجم عليه، فلابد من الأذية والبلاء.

    وإذا أتتك الأذية من أقرب الناس إليك؛ رفع الله درجتك، وأعظم أجرك، وأجزل مثوبتك، وجعل عاقبتك لك.

    يا أمة الله! إن الله وعدكِ وعداً لا يخلفه والله لا يخلف الميعاد، بشيء واحد إن حققتيه وقمتِ بحقوقه وآمنت به وصدقتيه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل أمره بين يديه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

    فلا تنظري إلى ما أنتِ فيه اليوم، ولا تنظري إلى الهم والغم، فإن هذا من الشيطان، ولذلك كل امرأة تأتيها الهموم والغموم وتنظر فيها وتتأملها؛ تزداد عليها الهموم، ويدخل الشيطان عليها، ولكن إذا نظرت إلى أن الله معها، وأن هذا ابتلاء، وأنها سنة الحياة؛ والله ثم والله لو أن زوجك صفا لك من الكدر، ونعمت حياتك معه؛ إذا بكِ تفاجئيه بأولادك قد خرجوا عليكِ, وإذا سلمت من الأولاد؛ سلّط الله عليكِ صويحباتك، فلن تسلمي من البلاء، وما يزال المؤمن في هم وغم وكرب وبلاء، ومن بلاء إلى بلاء حتى يقف على أبواب الجنة، ويطأ بقدمه أعتابها، فيقول كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]؛ لأن الدنيا سجن المؤمن.

    أتظنين أن زوجك إن طلقكِ أنكِ ستعيشين حياة هنية سعيدة؟!

    أتظنين أنه لو جاءك زوج آخر أنكِ ستعيشين معه حياة سعيدة، وأنكِ ستجدين فيه الكمال والخير الموجود في زوجكِ، ثم هذا النقص الموجود فيه يكمل؟!

    يا أمة الله! الصبر الصبر، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبرّه الله)، تذكري ثم تأملي وتفكري في الأيام التي مضت والسنين التي انقضت وأنتِ في الهم والغم، كم لكِ من درجات وحسنات وأجور وخيرات وبركات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى!!

    فاحمدي الله، واصبري بصبر الله.

    أما الكلمة الأخيرة فأوصي هذا الزوج أن يتقي الله، وأوصي الإخوان والصالحين دائماً أن يتواصوا بحقوق الأهلين والزوجات، وإذا جلس الصديق مع صديقه ينبه لمثل هذا، سواء في حقوق السهر، أو الفراش، أو حقوق المال والنفقة، فإذا رأيت صديقك أو قريبك مقصراً في ولده، كأن يكون بخيلاً، فهو رجل صالح طيب ولكنه لا ينفق على ولده، بل يقتر على ولده وعلى نفسه، فعليك أن تقول له: اتق الله.

    فأوصي الصالحين أن يوصي بعضهم بعضاً بالله عز وجل، ويقول: اتق الله عز وجل في أهلك وولدك.

    ففي بعض الأحيان تراه يسهر إلى ساعات متأخرة ولا يأتي إلى زوجته إلا في ساعات متأخرة، وهذا لا يأمن على زوجه الحرام، وقد لا يأمن عليها الآثام, فلينصح بعضنا بعضاً، وليذكر بعضنا بعضاً.

    وأوصي هذا الأخ أن يتقي الله في أمة الله، وأن يرحم ضعفها، وأن يرفق بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم).

    فالله الله في حقها، وليتذكر ما أمره الله عز وجل به: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756245569