إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جماهير السلف والخلف من الأئمة رحمهم الله على أن الظهار لا يصح إلا من الزوج، فإذا وقع ظهار من الزوجة تجاه زوجها فإنه لا يقع ولا تترتب عليه كفارة، وإنما عليها الندم والاستغفار. وقد نص العلماء رحمهم الله على حرمة أن يطأ المظاهر زوجته قبل أن يخرج الكفارة، واختلفوا في دواعيه ومقدماته، كما أن الراجح في الظهار أنه يصح من كل زوجة ولا يدخل في ذلك الإماء.

    1.   

    تابع أحكام الظهار

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    وقوع الظهار من كل زوجة

    فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة]

    أي: يصح الظِهار إذا كان متعلقاً بالزوجة.

    وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دُخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها.

    كذلك أيضاً يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، فأثبت أن الظِهار متعلق بالنساء.

    والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظِهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنتِ عليّ كأمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يُعزِره ويؤدبه لهذا الخطاب.

    كذلك أيضاً في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظِهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنتِ عليّ كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظِهار بالنساء بقوله: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ... [النور:31]، وآية الأحزاب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ... [الأحزاب:50]، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دل على أن ملك اليمين غير النساء.

    والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظِهار لا يتعلق بها الطلاق.

    فصح دليل النظر والأثر على أن الظِهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية.

    وبناءً على ذلك يختص الظِهار بالمرأة التي عقد عليها عقداً شرعياً، سواءٌ أو قع الدخول أم لم يقع.

    وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظِهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    وكلك أيضاً للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن عليّ كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظِهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار.

    ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظِهار متعلق بالزوجات، وبناءً على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات.

    ويبقى السؤال لو قال لها: أمركِ بيدك. ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمركِ بيدكِ فقالت: طلقت نفسي فحينئذٍ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمركِ بيدك فقالت: أنتَ عليّ كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق.

    ما يصح من أنواع الظهار

    قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الظِهار معجلاً ومعلقاً بشرط].

    شرع رحمه الله في صيغة الظهار، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فإما أن يعجل وينجز، وإما أن يعلق.

    فالحالة الأولى: أن يكون الظهار منجزاً، فإذا أنجز يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقد أنجز ولم يعلق ظِهاره على شيء، فيقع الظهار.

    والدليل ظاهر الكتاب وظاهر السنة، فالأصل في الظِهار أنه يقع منجزاً، والإجماع منعقد على أن صيغة الظِهار المنجزة والمعجلة واقعة إذا صدرت مستوفية للشروط المعتبرة.

    والحالة الثانية: أن يكون الظِهار معلقاً، والتعليق بشرط كأن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت.

    أو: أنتِ عليّ كظهر أمي إن كلمت فلانة أو ذهبت إلى كذا، فهذا كله معلق بشرط، فإذا وقع الشرط وقع الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت فخرجتْ وقع الظهار، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك يقع الظِهار معلقاً، فإذا وقع الشرط حكم بثبوت الظِهار، وجرت الأحكام المعتبرة عليه.

    قال رحمه الله: [فإذا وجد صار مظاهراً].

    قوله: [ فإذا وجد ] يعني الشرط، وقوله: [صار] أي: الزوج، وقوله: [مظاهراً] لأنه فيما بينه وبين الله علق ظهاره على وجود شيء، ووجد ذلك الشيء، فلزمه ما التزمه فيما بينه وبين الله، وقد تقدم معنا بيان الأدلة على ثبوت الطلاق معلقاً، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك الظِهار يقع معلقاً.

    قال رحمه الله: [ومطلقاً ومؤقتاً].

    أي: ويصح الظِهار مطلقاً ومؤقتاً، يعني التقسيم في قوله: [معجلاً ومعلقاً بشرط] فالمطلق أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهذا مطلق، فلم يقل: في الليل، ولا: في النهار، ولا: في اليوم، ولا: غداً، فما علق ولا قيد.

    وقوله: [ويصح مقيداً ومعلقاً] كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر. أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الأسبوع، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم. فإذا جاء مقيداً -وهو المعلق بوقت معين- نقول له: إن امتنعت من قربانها وإتيانها طيلة هذا الوقت فلا شيء عليك، فكما أنه لم يقع وطء، ولا عزم على الوطء، فحينئذٍ إذا مضى الشهر حلت له وارتفع الظهار؛ لأنه جعل كونها محرمة عليه كحرمة الأم مؤقتاً بوقت معين، وهذا الوقت المعين المحدد يتقيد به الحكم الشرعي بالظِهار، فبيّن رحمه الله أن الظِهار المقيد بوقت أو بزمان يتقيد بذلك الزمان، فإن مضى هذا الزمان كاملاً وانتهى فإنه ينتهي الظِهار بانتهائه.

    لكن لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر جمادى الأولى، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر رمضان، وأراد في رمضان أن يجامعها، وأن يعود إليها أو يمسها فإنه حينئذٍ تلزمه الكفارة، ما دام أنه قيّد الظِهار بشهر رمضان وأراد أن يعود وحصل منه العود في رمضان، لكن لو أنه سكن وصبر حتى انتهى رمضان يرتفع الحكم وتعود حلالاً له؛ لأنه جعل ظهاره مقيداً بزمان فيفوت بفواته.

    قال رحمه الله: [فإن وطأ فيه كفّر].

    قوله: [فإن وطأ فيه] يعني في الزمان الذي علق به أو قيد.

    وقوله: [كفّر] أي: لزمته كفارة الظهار؛ لأنه سيأتي أن كفارة الظِهار لا تلزم إلا بالعود؛ لأن الله تعالى جعل العود شرطاً في وجوب الكفارة، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فجعل لزوم الرقبة ووجوبها على الزوج مقيداً بالعود، وهذا هو شرط الكفارة، وسيأتي إن شاء الله بيانه.

    وإذا ثبت هذا أنه شرط الكفارة فحينئذٍ لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر، أو أنتِ عليّ كظهر أمي هذه الساعة، أو هذا اليوم، ومضى اليوم كاملاً دون عود فلا كفارة.

    قال رحمه الله: [وإن فرغ الوقت زال الظهار].

    قوله: [وإن فرغ الوقت] أي: الذي علق وقيد به، وقوله: [زال الظِهار] أي: رجعت حلالاً له، ولا تلزمه كفارة.

    ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير

    قال رحمه الله: [ويحرم قبل أن يكفّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها].

    يحرم على الزوج إذا ظاهر من زوجته أن يطأها قبل أن يكفر بنص القرآن: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فألزم الله الكفارة قبل حصول المسيس، وهو كناية عن الجماع.

    وقال بعض العلماء: يدخل في حكم الوطء مقدمات الوطء، ومن أهل العلم من خص الحكم بالوطء نفسه، والخلاف في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] هل المراد بقوله تعالى: أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] الجماع أم لا؟ لأن الله عبر بالمس عن الجماع فقال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] فيعبر بالمسيس عن الجماع.

    ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للقرآن: (إن الله يكني).

    وإذا ثبت هذا فمذهب طائفة من العلماء أن قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] المراد به: من قبل أن يقع الجماع. وحينئذٍ لم يحرموا مقدمات الجماع، فيحلون للرجل المظاهر من زوجته أن يستمتع بالتقبيل والمباشرة فيما دون الفرج، وقالوا: لا حرج عليه ولا بأس. والذين منعوا قالوا: إن قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] يراد به الوطء وفي حكم الوطء مقدماته؛ لأن ما منع من الوطء، يمنع من مقدماته كالإحرام؛ فإن الإحرام كما يمنع الوطء يمنع من مقدماته من المباشرة ونحوها، وكذلك الاعتكاف يمنع من الوطء ويمنع من مقدمات الوطء بالنسبة للصائم.

    فإذا ثبت هذا قالوا: إن الحكم يبقى على الجماع ومقدمات الجماع، فلا يجوز له أن يستمتع بالمرأة بما يدعوه إلى وطئها، والآية محتملة.

    إلا أن بعض العلماء رجح القول الذي اختاره المصنف من جهة قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقال: إنه قصد التحريم، بدليل أنه لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي كان ظهاراً، والأم لا يجوز تقبيلها، ولا يجوز الاستمتاع بها مما دون الفرج، وقد وصفها بهذا الوصف، فحرمها تحريماً يشمل الجماع ويشمل مقدماته، فرد الأولون وقالوا: هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ لأنه ما سمي ظهاراً إلا لقـوله: أنتِ عليّ كظهـر، والظهر كني به عن الركوب والجماع، فبناءً على ذلك يختص بالجماع.

    وكلا القولين له وجهه، ومن قال بالدواعي يستدل بأن الشرع يحرم الوطء -كما ذكرنا- ويقصد من تحريمه تحريم كل ما يدعو إليه، ولأن ما يدعو إلى الشيء يغري بالشيء، وما يدعو سيوقع في الشيء.

    وبناءً على ذلك قالوا: نحرم عليه الوطء ودواعيه، كما اختاره المصنف رحمه الله.

    وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر

    قال رحمه الله: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود].

    هذه الجملة من فوائدها أن الرجل لو ظاهر من امرأته ثم توفي قبل أن يجامعها فلا كفارة عليه، ولا يلزم إخراج الكفارة من تركته والتكفير عنه، لكن لو أنه ظاهر منها ثم جامعها ثم توفي بعد جماعها لزمته الكفارة ووجبت عليه، وهذا معنى قوله: [في الذمة]، فتلزمه في ذمته أثناء حياته وبعد مماته، وهذا مخرج على القاعدة المعروفة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وقد ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام، ومنها هذه المسألة، فالشخص لو فعل وارتكب ما يوجب التكفير ثم توفي مباشرة ثبتت في ذمته، ونُزِّلت ذمة الميت منـزلة ذمة الحي، ووجب إخراج الكفارة من ماله وتركته.

    فلا تلزم بالذمة إلا بالجماع، فلو أنه لم يجامع لم يتحقق العود.

    قال رحمه الله: [ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه].

    إذا أراد الرجل أن يعود في ظهاره، وأراد أن يطأ المرأة فلا يجوز له أن يطأها حتى يقع منه التكفير، وبناءً على ذلك قالوا: إذا وجد العزم -أي: عزم على جماعها وإتيانها- يكفر وهذا مبني على حديث الترمذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمظاهر: (ولا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يكفر قبل أن يجامع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل أن يقع الجماع.

    حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة

    قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره].

    بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظِهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظِهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظِهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظِهار، خلافاً لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهباً للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية.

    والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل.

    فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة.

    فلو أنه قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي. فكرر ثلاثاً في مجلس واحد، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك عليّ كظهر أمي. ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي عليّ كظهر أمي. فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكداً أو مخبراً أو مؤسساً، كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظِهار فكرره ثلاثاً أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيداً في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي تأكيداً لما قاله لها في الخلوة.

    وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواءٌ أكان مؤكداً أم كان مؤسساً أم كان مخبراً، وهذه صورة.

    والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات)، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة.

    وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية.

    وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء. فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير.

    قوله: [ من واحدة ] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة.

    وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة].

    لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي. فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن.

    وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن عليّ كظهر أمي. وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة. فجعله ظهاراً واحداً.

    وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.

    وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن عليّ كظهر أمي فإنه يتعدد الظِهار بتعدد المحل. وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـالأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع.

    والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظِهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخولٍ بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولاً بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية.

    فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها.

    وبناءً على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول.

    وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها.

    قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات]

    هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها.

    فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعاً: أنتن عليّ كظهر أمي، ويخاطبهن جميعاً بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من طلق زوجته بعد ظهار منها ثم مراجعة لها

    السؤال: إذا ظاهر الزوج من زوجته، ثم طلقها طلقة واحدة، ثم راجعها بعد انتهاء عدتها بمهر جديد هل يعتد بالظِهار في هذه الحالة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالذي اختاره طائفة من العلماء أن طلاقها وخروجها من العصمة لا يهدم الظهار، وكذلك أيضاً دخول الطلاق ولو كان موجباً للبينونة، ولو أنها نكحت بعده فإنه يبقى ظِهاره لها، فلو عادت إليه يعود الظِهار، ولا تحل له إلا بعد أن يكفر؛ لأنه قد تعلقت ذمته بذلك الظِهار وثبت له حكمه شرعاً، فلزمه التكفير قبل الجماع. والله تعالى أعلم.

    حكم الفصل بين لفظ الظهار والتعليق

    السؤال: لو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي، وأضاف بعد فترة يسيرة قوله: هذا الشهر أو هذا اليوم، فهل الظِهار يتقيد الظهار حينئذٍ؟

    الجواب: هذه المسألة فصلّنا في أحكامها، وهي مسألة التعليق في الطلاق، وبينّا أن التعليق عند العلماء إذا حكموا بصحته يشترطون أن تكون عنده نية قبل أن يذكر التعليق، فلو كان عند ابتدائه بالظِهار لم يكن في نيته التقييد، وإنما قصد ظهاراً تاماً، فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. ثم بدا له أن يعلق فقال: اليوم. أو: الشهر لم يصح؛ لأنهم اشترطوا أن تكون نيته للتعليق قبل وقوع الظِهار منه، أما إذا وقع الظِهار فقد وقع منه مطلقاً بدون تعليق.

    وبناءً على ذلك لا بد وأن يكون ناوياً للتعليق، وأن يكون التعليق متصلاً باللفظ، فيقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهرَ، أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم فإن حصل إخلال بهذين الشرطين لم يقع تعليقه معتبراً. والله تعالى أعلم.

    حكم ظهار الزوجة من زوجها إذا أسند الأمر إليها

    السؤال: لو قال الزوج لزوجته: الأمر إليكِ فقالت: أنا عليك كظهر أمكِ، فهل يقع الظهار؟

    الجواب: إذا أسند إليها الأمر فظاهرت فإنه لا يقع الظِهار منها؛ لظاهر الآية الكريمة. والله تعالى أعلم.

    حكم زكاة الحلي

    السؤال: هل ذهب الهدية عليه زكاة، وبعضه قد لا يلبس إلا مرة؟

    الجواب: الذهب فيه الزكاة إذا كان حلياً أو غير حلي، والدليل على ذلك عموم النصوص، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم نص يدل على استثناء الذهب الملبوس للحلي من الأصول الدالة على وجوب الزكاة، وأما حديث: (ليس في الحلي زكاة) فهذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية وهو ضعيف الرواية، والعمل على عدم ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والصحيح أن الحلي -سواءٌ وكان ملبوساً أم غير ملبوس، لبس أكثر الحول أم بعض الحول -الزكاة واجبة فيه؛ لأن عموم النصوص دالٌ على ذلك، وسواءٌ أكان هدية أم اشترته المرأة بنفسها، فلو أنها أُهدي إليها ذهب، وكان هذا الذهب الذي أهدي إليها قد بلغ النصاب فإنها تعتبر حول هذا الذهب من يوم القبض؛ لأن الهدية لا تملك إلا بالقبض، فإذا حكم بدخوله إلى ملكها حكم بوجوب الزكاة عليها، فتستقبل حولاً كاملاً، فإذا مر الحول وهو عندها فإنه يجب عليها أن تزكيه إذا كان بالغاً النصاب. والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة المرأة الفريضة والمؤذن يؤذن

    السؤال: هل يجوز للمرأة أن تصلي الفريضة والمؤذن يؤذن، أم تنتظر حتى ينتهي الأذان؟

    الجواب: يجوز لها ذلك؛ لأنه إذا دخل الوقت جازت الصلاة، لكن الأفضل والأكمل والسنة أنها تُردد مع المؤذن حتى تحل لها الشفاعة حينما تسأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة، وهذه هي السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي)، فأي مؤمنة تفرط في هذا الفضل العظيم؟ وأي مؤمن يفرط في هذا الفضل العظيم.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام الذي وعده، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تامة كاملة إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.

    كيفية التوفيق بين سد الفرجة في الصف والوقوف مع رجل منفرد خلف الصف

    السؤال: إذا وجدت فرجة في الصف الأخير، ووجدت رجلاً واقفاً في صف لوحده، فهل أسد الفرجة التي في الصف، أو أقف مع الرجل المنفرد؟

    الجواب: لاشك أنك إذا وقفت مع أخيك صححت صلاته؛ لأن صلاة المنفرد لا تصح خلف الصف، فتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود هذا الرجل لما تركت آخر الصف.

    وبعض العلماء يقول: يجب عليك أن تدخل في الصف؛ لأنك مأمور بإتمام الصفوف، وحينئذٍ تنافس أخاك فتستبق إلى الفرجة وتمنعه من أن يسبقك إليها؛ لأنه إذا سبقك إليها كنت أنت الذي تتعرض صلاتك للبطلان؛ لأنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف.

    وبعض العلماء يقول: من حقك أن تتخلف من أجل أن تصحح صلاة أخيك، وتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود أخيك -كما ذكرنا- لسددت هذه الفرجة، ثم تنتظر حتى إذا جاء أحد معه تتقدم وتسد هذه الفرجة.

    وبعض العلماء يقول في الشخص الذي يأتي ولا يجد أحداً: يجذب من الصف واحداً ليصلي معه وهي رواية عند الحاكم في المستدرك حسنها بعض العلماء، والحقيقة أن في تحسينها نظراً؛ لأن الضعف فيها قوي.

    فكثير من العلماء رحمهم الله يرى أن الصلاة صحيحة للمنفرد خلف الصف فيمنعون من الجذب؛ لأنهم لا يرون أنها باطلة، لكن الذي ينبغي أن ينظر في المسألة على قول من يقول بالبطلان.

    فإذا كان الشخص الداخل يعتقد بطلان صلاة المنفرد في الصف فإنه مضطر ومحتاج لتصحيح صلاته.

    فحينئذٍ كونه يجذب فلا شك -من ناحية الأصول- أن له وجهاً، ولأن المحذور في سد الفرج أن يكون الشخص ممتنعاً منها مع القدرة دون وجود عذر، وهنا قد يوجد عذر وهو وتصحيح صلاة المصلي، فقالوا: إن هذا لا يعتبر انتهاكاً للحدود وانتهاكاً للمحارم كما لو امتنع من سد هذه الفرجة مع الاختيار، وإنما كان مضطراً إلى ذلك تصحيحاً لصلاة غيره.

    وعلى كل حال فمن جذب لا ينكر عليه، وأرى أن هذا له وجه، ولا بأس به ولا حرج عليه، وكون الشخص يبقى دون الصف منفرداً ولا يجذب أحداً ويصلي لا شك أن هذا من حيث الأصول أقوى، لكن صلاته ستبطل.

    وينبغي أن ننتبه لأمر، وهو أن بعض العلماء يقول: إن الناس ينظرون إلى بعض الأحكام أن فيها شدة، والأمر على عكس من ذلك، وفيها الرفق والأجر؛ لأنه إذا صلى صلاة تامة دون الصف فإنها لا يعتد بها صلاة حكماً، لكن الله يأجره الصلاة مرتين.

    وليس هناك مصل تصح منه الصلاة مرتين إلا إذا كان هناك عذر شرعي في التكرار، وهذا له نظائر، ولذلك من يحكم عليه ببطلان الصلاة يكتب له الأجر مرتين؛ لأنه في هذه الحالة دخل المسجد وألزم شرعاً بالدخول مع الجماعة، وحكم ببطلانها عبادة، ولذلك لا تعقل علة بطلان صلاة المنفرد خلف الصف.

    وفي هذا حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه في السنن وعند أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وهو دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل الصلاة؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، ومذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث كـإسحاق وغيره رحمة الله عليهم أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف إذا كان رجلاً. وبناءً على ذلك قالوا: لظاهر هذا الحديث يحكم ببطلان الصلاة من ناحية الإلزام الشرعي. أي أن صلاته يجب عليه أن يعيدها، لكن كونه قد قام بالصلاة وصلاها وركع وسجد وقرأ كتاب الله عز وجل فهذا العمل الذي أقامه مأمور به شرعاً؛ لأنه إذا دخل المسجد فالواجب عليه أن يدخل مع الجماعة، فهو صلى بأمر شرعي، وصلى صلاة شرعية وأداها على وجهها المعتبر، وهذا عمل يثاب عليه ثواب من عمل، لكن لا تعتبر صلاة حكمية، أي: لا تبرأ وتسقط الذمة بها، فيلزم بإعادتها.

    ولذلك يقولون: الأمر بإعادة الصلاة تعبديَّ. أي: لا يعقل معناه، فلو أنه كان أحدث قلنا: بسبب الحدث. ولو أنه ترك واجباً قادراً عليه عامداً متعمداً. قلنا: لترك الواجبات، فتبطل صلاته فلا أجر ولا ثواب؛ لأنه تسبب في إخلالها وإفسادها، لكن الفساد هنا ليس بيده وليس منه، وإنما هو بحكم شرعي.

    ولذلك يقولون: يكتب له أجر العمل لقوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمران:195]، فهو قد قام بعمل شرعي فيثاب ثواب العامل، لكنها لا تصح صلاة شرعية، بمعنى أن ذمته لا تبرأ، فيلزم بإعادتها مرة ثانية، ويكون له أجر العمل مرتين.

    وهذا على القول الذي يقول: إن الصلاة لا تصح خلف الصف للمنفرد. وبناءً على ذلك يحق له أن يجذب تصحيحاً لصلاته؛ لأنه مأمور أن يتعاطى الأسباب لتصحيح الصلاة.

    ثم إذا جذب يستحب بعض العلماء أن يكون الجذب من أطراف الصف؛ لأنه إذا جذب من طرف الصف يكون أخف من الجذب من وسط الصف.

    وبناءً على ذلك يقولون: إنه يجذب من الطرف. واختار بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن يكون جذبه من وراء الإمام، فيأتي من منتصف الصف ويجذب؛ لأنه إذا جذب من وراء الإمام وجاء شخص آخر سيتقدم هذا، وسيكون إكمال الصفوف من وراء الإمام توسيطاً للإمام، وهي مسألة من جهة المتسحبات، وليس فيها إلزام أن يكون من وراء الإمام أو من طرف الصف، لكنهم يستحبون دائماً أن يكون ابتداء الصفوف من وراء الإمام، ويتحرى أول من دخل في الصف بعد تمامه أن يكون وراء الإمام حتى يكون توسيطاً له. والله تعالى أعلم.

    حكم قراءة القرآن بغير العربية

    السؤال: هل تجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؟

    الجواب: لا يجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؛ لأن الله وصف القرآن بأنه بلسان العرب، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:194-195].

    فلا بد أن تكون القراءة بلسان عربي، ولا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن بغير اللسان العربي، وأما ترجمة معاني القرآن فلا تجوز القراءة بها؛ لأن بعضهم يأخذ هذه الترجمة ويقرأها على أنها قرآن يتعبد الله به، وهذا خطأ وينبغي التنبيه عليه.

    ولذلك في قرون الإسلام الأولى ما كانت توجد هذه الترجمات، ولا كانوا يترجمون معاني القرآن، وإنما كانوا يحرصون على كل من دخل الإسلام أن يعلموه اللغة العربية، حتى سادت اللغة العربية وانتشرت لغة القرآن، وأصبحت هي اللغة الأم لأهل الإسلام، وهي اللغة التي يرجع إليها بين المسلمين، وهي اللغة التي يعتزون بها.

    فكانت لها مقاصد شرعية عظيمة في جمع المسلمين وتآلفهم وقوتهم؛ لأن اللغة لها تأثير على الشعوب والأمم كما لا يخفى، وهذا معروف في التاريخ، وحتى في طبائع البشر والأمم والشعوب، لكن من ناحية قراءة القرآن لا تجوز قراءته إلا باللسان العربي.

    وأما نقل المعاني فلا بأس به؛ لأنه لا يمكن أبداً لأي لسان أن يأتي بالإعجاز الموجود في اللغة العربية، مثلاً قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] كيف تترجمه؟ وإذا ترجمته فكيف تدخل المعاني والأسرار العربية في الترجمة؟ لأن في كلمات وألفاظ القرآن معانٍ ونكت ولطائف لغوية لا يمكن أبداً أن تظهر مع الترجمة، وقوله تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] كيف يمكن ترجمته إلى لغة غير اللغة العربية؟

    وهذا من فضل الله عز وجل، وليس هذا من باب الافتخار باللسان أو نحوه، وإنما هذا من بيان فضل الله عز وجل الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى وضعها في هذه اللغة وهذا اللسان، فلا يستطيع أي لسان أن يأتي بالمعاني التي يتضمنها هذا اللسان والدلائل التي فيه.

    ولذلك لما ترجمت معاني القرآن وقع إحراج في نفس الترجمة، فإلى الآن لا تستطيع أن تجد ترجمة تستطيع أن تؤدي المعنى المقصود؛ لأن اللسان العربي يرمي بالكلمة الواحدة في بعض الأحيان إلى عدة معان.

    كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، القرء: هو الحيض، وهو الطهر، فيحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ولو قلت بالطهر فله وجه، ولو قلت بالحيض فله وجه، فكيف تترجمها؟ فإن جئت تترجمها بالحيض خالفك أنها تحتمل الطهر، وإذا جئت تترجمها بالطهر خالفك أنها تحتمل الحيض.

    وكذلك قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17]، فالعرب تقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية دخوله، وتقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية خروجه ودخول النهار، فتقصد به دخول ظلمة الليل وعند انتهاء الليل، وهذا ما يسمى بالمشترك.

    فإذا كان قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] مشتركاً -وإن كان في الآية قرينة تدل على ترجيح أحد الوجهين- فما هي اللغة التي تحتوي هذه الأسرار والمعاني؟!

    وصدق الله حيث قال: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52]، فأتى بـ(قد) التي تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون مرية، واللام المؤكدة (وَلَقَدْ)، ثم التعبير بالعظمة وفي قوله تعالى: (جِئْنَاهُمْ)، ففصله سبحانه وتعالى الذي أحسن كل شيء وأتمه وأكمله جملة وتفصيلاً سبحانه، فهو يقص الحق وهو خير الفاصلين.

    فهناك أسرار في هذا اللسان العربي لا يمكن أبداً لأي لغة أو لسان أن يحتملها، وخذ قوله تعالى:إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فالذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون ولي المرأة، ويحتمل أن يكون الزوج، وإن جئت تريد ترجمتها فعلى أي معنى ستترجمها؟ وعلى أي وجه من هذه الأوجه؟

    فعلى كل حال أسرار اللغة موجودة في القرآن، والآية الواحدة يجتمع عليها العلماء فيجدون فيها من النكت واللطائف ما لا يمكن أن يحصى كثرة.

    وانظر إلى آية الوضوء، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ... [المائدة:6]، فهذه الآية اجتمع عليها علماء الفنون، في اللغة واللسان، والقراءات، والفقه، وعلوم الحديث فاستنبطوا منها ألف مسألة.

    وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: اجتمع علماؤنا لكي يحصلوا الألف مسألة فما وصلوا إلا إلى ثمانمائة مسألة. وثمانمائة مسألة خير كثير في هذا اللسان البديع الغريب، وهذه قدرة من الله سبحانه وتعالى.

    بل إن الألسنة سوف تحار عندما تقرأ قوله تعالى: (الر) كيف تترجمها؟ وكيف تستطيع أن تدخل المعاني التي تراد من هذه الحروف فيها؟ ثم كيف تجعله يقرأ وهناك حروف في اللسان العربي ما هي موجودة في غيرها من اللغات والألسنة؟!

    مع العلم أن النقل بالمعنى اختاره بعض العلماء، كما قيل:

    والنقل بالمعنى على المنصورِ ورأي الأربعة والجمهور

    فيجيزون نقل القرآن بالمعنى، أي: ترجمة معنى القرآن، ولذلك لا يقال: ترجمة القرآن وينبغي إذا كتبت هذه التراجم أن يكتب عليها أنه لا يجوز للمسلم أن يقرأ هذه الترجمة معتقداً أنها قرآن، ولا يجوز الاستشهاد بها أيضاً على أنها من القرآن، وإنما يقال: إن هناك آية تدل على كذا. لأنه لا يجوز نقل القرآن بالمعنى، فلا يجوز أن يقال: قال الله تعالى فيما معناه. مثلما يقال في الحديث القدسي، إنما تأتي -إذا قلت: قال الله تعالى- بمنطوق الآية ونصها دون تغيير ولا تبديل.

    فالواجب على هذا أن يقتصر على اللسان العربي عند قراءة القرآن؛ لأن العلماء أجمعوا واتفقوا على تحريم الترجمة الحرفية لكتاب الله عز وجل. والله تعالى أعلم.

    حكم تغيير مكان الصلاة بعد الفجر لمن أراد أن يجلس حتى شروق الشمس فينال الأجر المعلوم

    السؤال: من وفق للجلوس حتى شروق الشمس، هل له عند صلاة الركعتين أن يتقدم إلى سترة أم يشترط في الركعتين أن تكونا في نفس المكان؟

    الجواب: لا شك أن الأفضل والأكمل أن تكونا في نفس المكان، وأما السترة فالقول الصحيح وجوبها، ومعنى ذلك أنه إذا تقدم تحصيلاً لهذا الواجب وامتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسترة فإنه يصدق عليه أنه صلى ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين).

    ومن العلماء من يقول بالاستصحاب؛ لأنه يقول: (قعد في مصلاه) أي: صلى ركعتين في مصلاه، فيستصحب حكم الأصل، والأصل أنه في مصلاه، وكأن مقصود الشـرع أن يصلي في نفس المكـان.

    ومن أهل العلم من قال: إنَّ العبرة بالركعتين أن تقع بعد طلوع الشمس، وأن يكون هذا الزمان الذي هو ما بين صلاته للفجر وطلوع الشمس مستغرقاً بذكر الله عز وجل، سواءٌ أصلى في نفس المكان أم غيره، بل قالوا: حتى لو أحدث وصلاها في البيت شمله الفضل؛ لأن المراد أن يصلي ركعتين بعد الزمان، ولا شك أن الأكمل والأفضل أن الإنسان يبقى في مصلاه، وأن يصلي في نفس المكان الذي هو فيه. والله تعالى أعلم.

    مضاعفة صلاة النافلة في الحرم النبوي

    السؤال: هل صلاة النافلة في الحرم النبوي تساوي ألف صلاة مثل صلاة الفرض؟

    الجواب: أصح قولي العلماء أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى تشمل الفرائض والنوافل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة) و(صلاة) نكرة، والقاعدة في الأصول: (أن النكرة تفيد العموم).

    أما الذين قالوا بالتفريق بين الفريضة والنافلة فدليلهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان أنه لما صلى الليلة الأولى ثم كثروا عليه في الليلة الثانية وامتنع من الخروج في الثالثة قال: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، ثم قال: (صلوا في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قالوا: إن هذا يدل على أن النافلة الأفضل أن تكون في البيت.

    وهذا مرجوح، والصحيح أن قوله: (فإن خير صلاة المرء...) لا يعارض قوله: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)؛ لأن الخيرية من جهة الإخلاص، ومن جهة إرادة وجه الله عز وجل، ومن جهة مباركة المنزل، وليس لها علاقة بالمضاعفة؛ لأن القاعدة (لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا اتحدا دلالة وثبوتاً)، والدلالة هنا مختلفة؛ لأن مورد النصين مختلف.

    فحديث يقول: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)، وحديث يقول: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، وما قال: إنها بألفين، أو: بثلاثة، فما تعلقت بمضاعفة الأجر، وإنما تعلقت بالخيرية، والخيرية ترجع إلى الإخلاص، وترجع إلى أنه إذا صلى في بيته كان أخشع وأرضى لله عز وجل؛ لأنه لا يراه أحد، ولا يصلي لأحد، ولا يغتر به أحد، ثم إن الصلاة تبارك له في بيته.

    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً) ومنع عليه الصلاة والسلام من أن تكون البيوت قبوراً، فهذه خيرية منفصلة، خيرية أخرى غير الخيرية المتعلقة بمضاعفة الصلاة.

    ولا يمكن أن نعارض بين النصوص مع اختلاف وجهاتها ومواردها، وإنما يحكم بالتعارض عند اتحاد المورد، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بأن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة)، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء. والله تعالى أعلم.

    الاستعجال في الوضوء

    السؤال: إذا أقيمت الصلاة فتوضأت بسرعة شديدة، فهل وضوئي صحيح؟

    الجواب: إذا توضأت وضوءاً شرعياً تاماً كاملاً فهو وضوء صحيح، لكن مسألة الإسراع في الوضوء لا شك أنها جائزة، فيجوز للشخص في الحالات الضرورية أن يستعجل.

    ولذلك ثبت عن أسامة رضي الله عنه أنه ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام لما دفع من عرفات إلى مزدلفة أنه توضأ وضوءاً خفيفاً، وخفة الوضوء تشمل الوقت وتشمل الحال؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يسبغ الوضوء ويتأنى في وضوئه.

    لكنه لما كان وراءه مائة ألف نفس وكلهم ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام تعجل، ومن حكمة الشريعة أن العبد الصالح يكون في صلاحه، لكن إذا رأى ما هو آكد وأهم قدمه وتعجل، فمثلاً: والدك يحتاجك في شيء، وأنت تريد أن تتوضأ وضوءاً لنافلة، أو تحب أن تكون على طهارة فلا شك أن بر الوالد آكد من الوضوء، فتخفف في وضوئك حتى تدرك فضيلة الوضوء وفضيلة بر الوالدين، أو فضيلة الصلاة.

    ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا دخل الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) قالوا: لأن العلم أفضل من العبادة.

    وهذا يدل على فضل العلم؛ لأنه عندما يجلس ينصت للخطبة يصيب علماً، والعلم أفضل من العبادة، وعندما يصلي يصلي لنفسه، لكن ربما يصيب علماً ينتفع به وينفع به غيره، ويصلح ويصلح به غيره، ويهتدي ويهدي به غيره بإذن الله عز وجل.

    ومن هنا إذا دخل -مثلاً- المحاضر، أو دخل الشيخ لدرسه وأراد أن يصلي تحية المسجد أو نافلة فالأولى أن يتجوز فيها؛ لأن هناك ما هو أفضل وأكمل وأعظم أجراً وهو نفع الناس؛ لأن العلم أفضل وأعظم، فإذا أردت أن تتوضأ وضوءاً خفيفاً، أو تستعجل في الوضوء فتنبه لإتمام أعضاء الوضوء.

    فالمهم أن تكون الأعضاء التي أمرك الله بغسلها أو أمرك بالمسح عليها قد نالت حقها وحظها من ذلك الوضوء الذي أمرت به، فإن فعلت ذلك بسرعة أو بأناة فالأمر في ذلك سيان، إلا أن الأناة أمكن وأكثر ضبطاً. والله تعالى أعلم.

    حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله

    السؤال: ذكر الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون:6] أن من عمل عملاً لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياءً، فما توضيح ذلك؟

    الجواب: هذا كلام صحيح ومعتبر؛ لأن الرياء يكون في ابتداء العمل، فيعمل من أجل أن يراه الناس، قال تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142]، فهو ابتداءً قبل التلبس بالفعل، وأثناء الفعل؛ لكن بعد الفراغ من الفعل تبقى مسألة التشوف والطلب والتحدث، فالأكمل ألا يتحدث بطاعته، وألا يطلع أحداً على طاعته.

    وتبقى مسألة خفاء العمل، وخفاء العمل لا علاقة له بالعمل نفسه؛ لأنه إذا صلى وقام بطاعته على أتم الوجوه وأكملها فقد أصاب الموعود عليه شرعاً لكن تبقى مسألة حبوط العمل بعد ثبوته، والحبوط قد يكون بغير الرياء، فقد يحبط عمل الإنسان -والعياذ بالله- بسبب ذنب.

    فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون -والعياذ بالله- سبباً في حبوط العمل، ونسأل الله السلامة والعافية، وقد يحبط عمل الإنسان بعقوق والديه؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه، فيغضب على عبده فيحبط عمله، إلا أن هناك أموراً بيَّن أنها من أسباب حبوط العمل والعياذ بالله.

    وقد يكون العمل صالحاً صحيحاً، لكن إن اطلع الناس على عمله فأعجب باطلاعهم فإننا ننظر في ذلك، فإذا كان يحب ذلك ويقصده ولم يتيسر له أثناء العمل، وكان يحب حصول ذلك له فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- يعمل للناس، فيكون قادحاً في إخلاصه وإرادته وجه الله عز وجل، ومؤثراً في عمله.

    ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يتحرون في الأعمال الصالحة الصواب والسنة، فلا يعملون أي عمل إلا إذا كان عندهم حجة ودليل، ويخافون من الأعمال أن تكون على غير نهج الكتاب والسنة؛ لأن أهم شيء الصواب في العمل حيث يكون موافقاً للكتاب وهدي السنة.

    وبعد الصواب تأتي الآثار الطيبة والعواقب الحميدة؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا إذا كان صواباً، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، ولا يحكم للعمل بالصلاح إلا إذا كان على وفق الكتاب وثبت بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقد كان السلف الصالح يحملون هم الصواب أولاً، ثم يحملون هم الإعانة على الصواب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك العزيمة على الرشد)، فكم من صواب تعلمته، وكم من حق دُللت عليه وأُرشدت إليه، ولكن ما أعنت عليه، فقيام الليل من منا يجهل فضله وعظيم أجره لكن من منا يقوم وصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس وغيرها من الأعمال الصالحة من منا يعمل بها؟ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله المعونة على الرشد، ولذلك قال الله عن أهل الكهف: وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

    وبعد أن يوفق للصواب ويعان على القيام بالعمل، يحمل هم الإخلاص فيه، فلا يفعل ولا يقول شيئاً إلا لأجل الله عز وجل، وأبغض شيء إليه أن أحداً يطلع على ما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يعرف لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وفضل المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أن أكمل العمل وأطيبه ما كان خالصاً لله عز وجل، ولا شيء أعظم في جلب الإخلاص من إخفاء الأعمال وسترها.

    ولذلك كان السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في هذا، حتى ذكر الإمام الحسن البصري رحمه الله أن الرجل ربما جمع القرآن في قلبه عشرين سنة لا يشعر به أحد.

    ولربما تجد الرجل من أصلح الناس وأكثرهم عبادة وقياماً، ولا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك، حتى لربما يسافر معه غيره وإذا به يترك قيام الليل أمامه حتى لا يشعر أحد بما بينه وبين الله عز وجل.

    وهذه مرتبة لا يعطيها الله إلا لخاصة أحبابه وأصفيائه الذين يريد لهم إرادة وجه، وذاقوا لذة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى.

    فإذا وفق للإخلاص حمل هم القبول، ويعمل للقبول أسبابه التي منها ألا يعلم أحد عمله، فأبغض شيء إليه أن يطلع غيره على عمله، حتى إنه يضيق صدره ويحزن ويتألم إذا اطلع أحد على حسنة أخفاها فيما بينه وبين الله عز وجل.

    ومما ذكر عن بعض الصالحين -وهؤلاء هم الأولياء الذين يُضرب بهم المثل، ولم يكن الأولياء بجر السبح، ولا بإطالة الأكمام والعمائم، وإنما كانوا أولياء لله بحق- أنه قال: صليت في المسجد الحرام صلاة الاستسقاء، فلم يفت الناس، حتى إذا انتصف النهار -وإني لجالس بالمسجد مضطجع- فإذا برجل مولى أسود دخل المسجد، فركع وسجد، وكان يظنني نائماً، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إن بعبادك وبلادك وبهائمك من الجهد والبلاء ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد.

    فلما تشهد إذا بالسحابة تنتصف السماء ويمطر الناس، قال: فعظم عندي الرجل، فتبعته، فدخل إلى أشبه ما يكون بالرباط فتبعته، فلما جلس واستقر سلمت عليه وقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: وما شأنك بي؟ قلت: إنه لم يخف عليّ مكانك بالمسجد. قال: أو قد اطلعت على ذلك؟ قال: نعم. قال: أمهلني وأنظرني، فصلى وسجد، وقال: اللهم انكشف ما بيني وبينك، فاقبضني إليك غير مفتون. قال: والله ما رفعته إلا ميتاً.

    فكانوا يخافون من ظهور أعمالهم حتى كان من أمرهم ما ذكر، وأويس القرني رحمه الله لما اكتشف أمره غاب عن الناس، وبسبب أنك تخفي ما بينك وبين الله من الأسرار والأعمال الصالحة يورثك الله بذلك حب العباد، ويضع لك بذلك القبول في السماء وفي الأرض.

    ولذلك كانوا يقولون: إن العبد يستوجب من الله محبة خلقه على قدر ما بينه وبين الله من الخوف، وكان الإمام مالك رحمه الله مهاباً، فإذا جلس لا يستطيع أحد أن يتكلم في المجلس، وإذا سأله السائل لا يستطيع أن يعيد سؤاله مما ألقى الله عليه من الهيبة، كما قيل:

    يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان

    يقول محمد بن الحسن : جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد -ثلاثة خلفاء من المحيط إلى المحيط سادوا الدنيا- فوالله ما هبتهم كهيبتي لما جلست بين يدي مالك .

    يقول سحنون رحمه الله: ولا نظن ذلك إلا بشيء بين مالك وبين الله، فإنك تعامل؟ تعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فماذا تريد منه اطلاع الناس على صلاتك وزكاتك؟ وماذا تريد عند الناس؟ لو أن الناس مدحوك اليوم ذموك غداً، وكم من عبد تقي نقي أخوف ما عنده وأكره أن يشعر الناس به؛ لأنه يعلم أنه لا أمن له إلا عند الله، ولا عز له إلا من الله، ولا كرامة له إلا من الله، فماذا نريد عند الناس؟ قال تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9].

    فأبغض شيء إليه أن يأتي أحد من الناس يثني عليه أو يظن به خيراً؛ لأنه يريد الشيء بينه وبين الله، فالذي للآخرة للآخرة، والذي للدنيا للدنيا، وأمور العبادة والطاعة ينبغي للإنسان دائماً أن يخفيها فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يطلع عليها أحداً، والمحروم من حرم، فإذا أراد الله أن يخذل عبده -نسأل الله السلامة والعافية- صرف قلبه إلى الدنيا، وتنصرف شعب القلب إلى الدنيا، حتى إن طالب العلم تنصرف شعب قلبه بمدح الناس له والثناء عليه والإشادة به، وبموقفه في الملأ ومحبته للاستشراف ومحبته للظهور، وهي والله قاصمة الظهر والعياذ بالله.

    فتؤخذ شعب القلب شعبة شعبة للدنيا لا للآخرة، وتؤخذ لغير الله لا لله، فتؤخذ شعبة شعبة، وتنقض كالبيت يهدم لبنة لبنة، حتى يمسي ويصبح وليس في قلبه مثقال ذرة -والعياذ بالله- من الإيمان، وعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.

    وعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يمقته الله مقتاً فتجمع القلوب على كراهيته، والنفوس على النفور منه، ولو كان أعبد الناس لساناً، ولو كان أصبحهم وجهاً وأحياهم منطقاً فإن الله يمقته.

    فالعبد يعامل الله لا يعامل أحداً سواه، وكم من إنسان أحب الناس فمدحوه، واستدرجه الله عز وجل، واجتمعت له القلوب، واجتمع له الناس، فجاء يوم ذم فيه بمذمة واحدة فانتشرت في الناس، فسبوه كما مدحوه، ووضعوه كما رفعوه، وأذلوه كما أعزوه، وأهانوه كما أكرموه، فتمنى أنه لم يعرفه أحد.

    فلا يلتفت الإنسان إلى الناس، وسلامة العبد فيما بينه وبين الله أن يفر من الله إلى الله لا إلى الناس، وأن يفر إلى الخالق لا إلى المخلوق، فلا يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه كما قال تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج:13] .

    فالله يناديك ويدعوك أن تكون معه، أن تكون له، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فتعبده بالإخلاص وتعمل الطاعة لله، فتتعلم وتتصدق وتركع وتسجد وتصلي لله وحده.

    فالواجب على المسلم دائماً أن يوطن نفسه لإرادة وجه الله، وما أطيب العيش ولن يطيب إلا بالله، وما أطيب الحياة وما أسعدها ولا يمكن أن تكون سعيدة طيبة إلا بالله، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97] فمضى: (وهو مؤمن) موحد مخلص يريد وجه الله سبحانه وتعالى، أي: والله لنحيينه حياة طيبة، وإذا وعد الله بالحياة الطيبة فإن الله لا يخلف الميعاد، ولا شك أن العبد إذا بلغ هذه المرتبة التي يقول فيها لله، ويعمل فيها لله، ويتمنى فيها أن عمله فيما بينه وبين الله لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد، ولا يحس به أحد أدرك هذا الأجر، وإني لأعرف علماء كانوا قوامين بالليل صوامين النهار، حتى إن الواحد منهم إذا أصبح تجده مع الناس لبساطته وتواضعه، ولا تشعر أنه ذاك العابد الصالح، وكله من الخفاء.

    وتجد الواحد منهم يجلس في خلوته فيبكي ويتفطر قلبه من خشية الله سبحانه وتعالى، فإذا دُخل عليه فكأنه جالس لأمر دنيوي، أو شيء من أمور الدنيا.

    وكان بعض السلف يبكي من خشية الله، فإذا هجم ودخل عليه داخل بغتة مسح الدموع من عينه وقال: ما أشد حرَّ اليوم. فهكذا كان الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهكذا كان المخلصون والطيبون الذين طابوا وطابت أقوالهم وأعمالهم.

    يقول تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196]، تولوا الله فتولاهم الله، فأمد لهم عونه وتوفيقه، فذاق الواحد منهم حلاوة المناجاة ولذة العبودية له سبحانه وتعالى، فكلما أصاب طاعة فتح الله له باباً أعظم منها، حتى تبوأوا الدرجات العلى من الجنة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا بالإخلاص لوجهه وإرادة ما عنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

    حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية

    السؤال: هل يجوز الدعاء في صلاة الوتر بغير اللغة العربية؟

    الجواب: الدعاء في الصلاة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله، فبعض العلماء يقول: إنه لا يجوز إلا بالعربية، ومنهم من يقول: يجوز أن يدعو بغير العربية.

    والصحيح أن الدعاء ما كان منه توقيفي كالأذكار من التحيات ونحوها، والتمجيد الذي ورد به النص بعينه، كالتكبيرات والتسميع ونحوه فهذا يتقيد فيه باللغة العربية، وأما الأدعية فإنه يجوز أن تكون باللسان العربي، وبغير اللسان العربي إلا أنه ينبغي للشخص ألا يدعو بغير اللسان العربي، إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية. والله تعالى أعلم.

    كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل

    السؤال: من توفيق الله للعبد أن يشغله بطاعته عند فراغه وإجازته، خاصة بالانكباب على العلم وتحصيله، ولكن تواجه طالب العلم مشكلة، وهي أن الأهل والأبناء يريدون منه ما يريدون من التوسعة أو كثرة الأسفار، فكيف يوفق في هذا الأمر؟

    الجواب: لاشك أن من أعظم نعم الله عز وجل على طالب العلم أن يسيطر على بيته، وأن يهيئ له أسرة تعينه على طلب العلم، فيجمع بين مرضاة الله سبحانه وتعالى في طلبه للعلم ومرضاته سبحانه وتعالى في إدخال السرور على الأهل والتوسعة عليهم، شريطة ألا يتوسع في هذا الأمر على حساب ما هو آكد وأهم.

    فطالب العلم يرتب وضعه، فإذا كانت هناك إجازة صرفها لما هو أهم، خاصة أن الأمة الآن محتاجة إلى طلاب العلم، وفرضية طلب العلم في هذا الزمان آكد من غيره؛ لأنه كلما تأخر الزمان كلما اشتدت الحاجة، وانقراض العلماء وضعفهم وحصول المشاغل لبعضهم يحتم المسئولية أكثر على طلاب العلم، فيجعل الواجب عليهم آكد.

    فلا شك أن طلاب العلم معنيون بهذا، ويجب عليهم أن يشتغلوا بطلب العلم، وألا يفرطوا في أي وقت يستطيعون أن يستنفذوه في طلب العلم، والاقتراب من العلماء، والحرص على الدروس المؤقتة أو غير المؤقتة، وعدم التفريط فيها.

    وكان الوالد رحمه الله إذا قلت له: أستأذنك من أجل أن أذهب لغرض يقول لي: يا بني! لا أستطيع أن آذن لك وألقى الله سبحانه وتعالى بإذني لك أن تترك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي لا أغضب عليك؛ لأني أعرفك أنك تحفظ، وأنت عندك عذر، ولكن بيني وبين الله لا أتحمل المسئولية.

    وطالب العلم إذا طلب العلم عند شيخ عنده مكنه من درس خاص أو عام فهو مسئول أمام الله عز وجل عن كل ثانية، فضلاً عن دقيقة أو عن ساعة، وستسأل عنها أمام الله عز وجل، وكل درس يهيأ لك تتخلف عنه ستحاسب عنه بين يدي الله عز وجل.

    وقد يوجد طالب علم ربما يكون هو الوحيد في قريته أو حيه أو حارته يتفرغ لقراءة العقيدة أو الحديث أو الفقه، وفي الساعة التي ينام أو يغيب أو يتأخر فيها عن مجلس العلم ربما تطرح مسألة، وتنـزل هذه المسألة بقومه وجماعته فلا يفتيهم، فيقف بين يدي الله مسئولاً عنها.

    فهذه مسئولية وليس بالأمر السهل، وهذا شيء جعل الله عز وجل فيه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فهذا الأمر يجعل طالب العلم في رحمة الله عز وجل.

    فأوصي أهل طالب العلم من زوجة وابن وبنت وأخ وأخت وأب وأم أن يعينوا طالب العلم على مسئوليته، وأن يعينوه على القيام بأمانته، وألا يفرط في أي مجلس من مجالس العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

    وكنا نجلس المجلس مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ممن نعرفهم فنأخذ من سمته ما يعيننا على طاعة الله عز وجل قبل أن يتكلم.

    وهذه أشياء فيها البركة والخير وفيها النفع، فمن جاء من أهل العلم أو من طلاب العلم يريد أن يطلب العلم ويلتصق بصفوة خلق الله عز وجل حملة الكتاب والسنة فقد أعطي شيئاً لا نظير له.

    ودعك من الدنيا، وما تسمع وما ترى من لهوها فزائل حائل، وانظر إلى أعز الناس في الدنيا من التجار والأغنياء يذهبون إذا ذهبت تجارتهم، ويذهبون بانتهاء أعمالهم، ولكن أهل العلم أبداً لا يذهبون، فهم وباقون في نفوس الناس وقلوبهم، باقون في أعمالهم وعباداتهم؛ لأنه لا يصلي ولا يعمل إلا إذا تعلم على يدي هؤلاء العلماء.

    فهم أمناء الله على الوحي، وهذه المنزلة الكريمة عليك أن تهيئ نفسك لها؛ لتنال من فضل الله العظيم الذي ليس هناك فضل بعد النبوة أفضل منه، وهو مقام العلم والعمل.

    فعلى طالب العلم أن يستشعر أنه لا يمكن أن يفرط في هذه المسئولية وهذه الأمانة على حساب أي شيء كائناً ما كان.

    ومن العجيب والغريب إن ملاذ الدنيا وشهواتها وملهياتها -ولا نقول هذا تزكية لأنفسنا، ولا نزكي أنفسنا على الله، لكن نقولها تمجيداً للرب سبحانه وتعالى، وبياناً لعظيم وفائه وكرمه- عرضت علينا لتحول بيننا وبين شيء من العلم، فتركناها لله فوجدنا من الله في حسن الخلف والعوض ما لم يخطر لنا على بال.

    وهذا شيء نشهد به لله عز وجل، في أمورنا الخاصة، وفي أمورنا مع عامة الناس، وفي أمورنا المالية، وفي الأمور الاجتماعية، فما كان طالب العلم يظن أنه إذا ضحى لهذا العلم أن الله سيخلفه أبداً.

    ولكن قال الله: إني معكم. فأنت معك أشرف شيء وأعظم شيء، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من نعمة عظيمة، لكن طالب العلم بحق الذي يقرأ العلم قبل مجلس العلم، ويقرأه في مجلس العلم، ويرجع إلى بيته فينكب على العلم يقرأه قائماً وقاعداً، ويتفكر فيه جالساً وراقداً، يجد كيف يفي الله عز وجل له، فإذا وفى لله كاملاً وفى الله له كاملاً.

    فنقول: إذا اعترضت طالب العلم الأمور التي تتعلق بالأهل والأصحاب والأحباب وغيرها من الملهيات فعليه أن يحاول قدر المستطاع أن يصرفها بالتي هي أحسن، وبطريقة لا تشوش عليه؛ لأن الأهل لهم حق، والصديق له حق، والرفيق له حق.

    لكن إذا أمكنك جعل الأهل يذهبون إلى نزهة مع أكبر الأولاد فأعطهم مجالاً ليذهبوا وتتفرغ أنت لطلب العلم، أو تذهب معهم ساعة أو ساعتين ثم ترجع، أو تذهب معهم وترتب أوقاتاً لا تتعارض مع أوقات تحصيلك ولا أوقات مراجعتك، فتنظم نفسك تنظيماً صحيحاً وترتب نفسك ترتيباً كاملاً، ولكن إياك وأي شهوة أو لذة أو سكرة من سكرات هذه الدنيا تأتيك فتنصرف عن العلم من أجلها، فهي ليست أعز من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن يكون عندك هذا الشعور.

    وإذا استغنى العبد عن ربه فإنه حينئذٍ يكون كما قال تعالى: وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن:6]، وكما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] نسأل الله العافية، فيزيغ الإنسان عن الكمالات وعن المراتب العلى حينما يعتقد أن شيئاً أفضل مما عند الله عز وجل.

    ولا أعتقد في قرارة قلبي أن أحداً أعز من طلاب العلم في بيت من بيوت الله إلا أحداً يعمل عملاً صالحاً أفضل مما هم فيه، فلا أشرف من العلم ولا أفضل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة...)، فالملائكة تتنزل، وانظر إلى شرف العلم وفضله، فإنه إذا كان يوم الجمعة جلست الملائكة على الأبواب وكتبوا المصلين والسابقين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الخطيب) -أي: جلس على المنبر- طووا الصحف وأنصتوا للخطبة)، وما قال: انصرفوا. فانظر إلى شرف العلم وفضله عندهم، فالعلم مقامه كبير ومنزلته عظيمة، ويبارك الله به في وقتك ويبارك به في عمرك، وتكفى ما أهمك، وهذا الفضل لا يدانيه السرور مع الأصحاب.

    ومما أعرفه أ، بعض طلاب العلم كان في أثناء طلبه للعلم يأتيه الأصحاب بأنواع الشهوات والملهيات، وكان أبي رحمه الله يثبته على طلب العلم، ويقول له: يا بني اصبر، وسيأتي اليوم الذي تحب أن تراه. وذهبت الأيام وتتابعت، فذاق أولئك من ملذات الدنيا وشهواتها وملهياتها، ثم لم يمت حتى رآهم يأتونه يسألونه عن العلم.

    فأولئك الذين كانوا في عزهم وكرامتهم، وكانوا في نعمة ورغد من العيش يرجعون إليه، فما تركت شيئاً لهذا العلم إلا أبدلك الله خيراً منه وأفضل منه وأكثر بركة، ولو كنت مرقع الثياب حافي القدم فأنت أغنى الناس بالعلم.

    فلا تفرط في هذا العلم لأي شيء، لكن لا يمنع أنك تجعل لأهلك وقتاً.

    فالتوسعة على الأهل أمر مطلوب؛ لأن الأهل إذا ارتاحوا مكنه ذلك من العلم وفرغ قلبه أكثر؛ لإنه أعطاهم حظهم من الدنيا وسرورها ولذاتها.

    فالواجب على طالب العلم أن يرتب وقته، ويدخل السرور على أهله وولده ويلاطفهم، وأي شيء فيه إحسان إلى الولد فإنه مكتوب أجره، وهذا من رحمة الوالد بولده، حتى إن القبلة من الوالد لولده يؤجر عليها إذا قصد بها وجه الله وقصد بها رحمة.

    فعلى كل حال نوصي طلاب العلم أن يحسنوا إلى أهليهم وزوجاتهم، لكن بشرط ألا يكون على حساب العلم، وألا يتوسع أكثر من اللازم، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن، وعلى كل امرأة وزوجة أن تصبر وتحتسب إذا رزقها الله طالب علم يفرغ لحمل هذه الأمانة والقيام بهذه الرسالة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756314627