إسلام ويب

شرح زاد المستقنع الشك في الطلاق [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مسائل الطلاق ما يقع الشك فيها، وذلك لأن المطلق معرض للنسيان والخطأ، والشك إما أن يكون في وقوع الطلاق أو شرطه أو عدد الطلقات، وقد بين الفقهاء أحكام ذلك، ومآخذ الأحكام التي حملتهم على ذلك. كما أنه قد يطلق الرجل لفظ الطلاق على زوجتيه أو أزواجه مبهماً للمطلقة غير معين لها، أو معلقاً له على شرط ثم يشك في وقوعه أو يجهله، وهذه مسائل قد تقع لأي مسلم، فكان من المهم أن يتعلم المسلم أحكامها وتفصيلاتها وأدلتها.

    1.   

    مسائل الشك في الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:

    فقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بمسائل الشكوك في الطلاق، فقال: [ باب الشك في الطلاق ].

    وقد تقدم بيان مقدمات الشكوك وما يعتري الإنسان من الوسوسة في الطلاق، وبينا هدي الشريعة الإسلامية في ذلك، وقد اعتنى أئمة الإسلام وفقهاؤه ببيان الأحكام المتعلقة بالشكوك سواء كانت في العبادات أو المعاملات.

    ومن أشهر المواضع التي تُبْحَث فيها مسائل الشكوك: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة عند بيان مسائل الشك في باب السهو، وكذلك أيضاً تذكر في باب الآنية جملةٌ من مسائل الشكوك، فتذكر في كتاب الطهارة والصلاة وجملةٌ من مسائل الصوم والحج، ثم في كتاب المعاملات تقع كثير مسائل الشكوك، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيانها في باب الطلاق، وتعم بها البلوى، ويكثر عنها السؤال، وتكثر منها الشكوى.

    وقد ذكرنا ما يتعلق بالشك في الطلاق إلا أننا ننبه أن الشك قد يقوى على الإنسان ويتسلط عليه إلى درجةٍ يفقد فيها التحكم بنفسه، وفي هذه الحالة ربما بلغ به الأمر أنه يتلفظ بالطلاق حقيقةً مع أن الله مطلعٌ على سريرته وقلبه أنه لا يريد الطلاق، وأنه لا يقصده؛ ولكن تهجم عليه الوساوس شيئاً فشيئاً حتى يتكلم ويهذي، وحينئذٍ فالأشبه أنه قد وصل إلى حالةٍ يسقط عنه فيها التكليف.

    ولذلك كان بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم يراعون درجات الوسوسة والشكوك في الطلاق، فهناك درجات في ابتداء الطلاق، وفي ابتداء الوسوسة، وابتداء الشكوك، ودرجات مستفحلة أشبه بالمرض، فمثلها ينبغي للفقيه ألَّا يتعجل في الفتوى فيها، وعليه أن يسبر حال السائل وألَّا يتعجل في الجواب، وهذا من فقه الفتوى؛ ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يحذر من الفتوى في مسائل الطلاق في الشكوك، ويتريث في جواب السائل، خوفاً من أن يفتيه بتحريم ما أحل الله له دون استبيان من حاله.

    1.   

    صور الشك في الطلاق

    قال رحمه الله: [ من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه]

    الشك في الطلاق له صور:

    الصورة الأولى: أن يكون شكاً في وقوع الطلاق.

    والصورة الثانية: أن يكون شكاً في حصول الشرط الذي رتب الطلاق على وقوعه.

    والصورة الثالثة: الشك في عدد الطلاق.

    الصورة الأولى: أن يكون الشك في وقوع الطلاق

    ففي الحالة الأولى: يشك في وجود الطلاق وعدم وجوده.

    أي: هل تلفظ بالطلاق أو لم يتلفظ؟! وحينئذٍ يُلْزَم شرعاً بالرجوع إلى الأصل، ويقال له: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود.

    ثم هناك أصلٌ ثانٍ: وهو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل: أن الزوجة زوجتك، وأنها امرأتك، وأنها حلالٌ لك بحكم الله عز وجل، فأنت باقٍ على هذا الأصل، وتستصحبه لعدم قوة المزيل.

    وعلى كل حال فلا تطلق عليه زوجته.

    مثال ذلك: لو أن شخصاً جاءه الشيطان فقال له: تلفظت بالطلاق. فقال: ما تلفظت، فحصل له شك وتردد، وأصبح في شك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، هل وقع منه الطلاق أو لم يقع، أو نبست شفتاه به وتحركت؟

    ففي جميع ذلك يقال له: الأصل أنك لم تتلفظ حتى يثبت أنك تلفظت وقلت الطلاق، هذا بالنسبة لوجود الطلاق، هل وجد منه طلاق أو لم يوجد؟

    فنقول: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود، ثم نقول: هذه زوجته؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.

    فالذي كان: أنها زوجته، والأصل بقاء ما كان وهي كونها زوجةً له، على ما كان، أي: على حال العصمة والزوجية وهو ما يسمى بـ(استصحاب حكم الأصل).

    الصورة الثانية: أن يكون الشك في الشرط

    أما النوع الثاني: وهو الشك في الشرط فمثاله:

    قال: إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق، ثم شك هل فعل أو لم يفعل؟

    أو قال في شرطٍ عدمي: إن لم أفعل فزوجتي طالق، وشك هل فعل فزوجته لم تطلق أو لم يفعل فزوجته طالق.

    للعلماء في هذا الشرط أقوال: فمنهم من قال: يفرق بين الشرط العدمي (إن لم أفعل، إن لم أقل) فلا يقع لأن الأصل العدم، وبين غيره وهو الوجودي.

    والصحيح: أنه لا فرق بين العدمي الوجودي، وأنه إذا شك في الشرط هل تحقق حتى يقع الطلاق أو لم يتحقق، فإننا نقول: تبقى على الأصل: أن لا طلاق حتى تتحقق من وقوع الشرط وثبوته، مثل ما تقدم معنا في مسألة وجود الطلاق وعدمه.

    وفي كلتا الصورتين الأولى والثانية، الشك في الوجود وعدمه، والشك في تحقق الشرط وعدمه، يكون التردد بين وقوع الطلاق وعدم وقوع الطلاق، فحينئذٍ يتردد بين الأمرين، أي: بين ما يوجب ثبوت وقوع الطلاق وبين ما يمنع من وقوع الطلاق ويدل على بقاء الزوجية.

    الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق

    في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة؟

    فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناوياً الطلاق ثلاثاً -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلسٍ واحد أو كلمةٍ واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزمٌ بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدةً أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع!

    فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدةً أو اثنتين بنى على واحدة؟

    إذاً الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق.

    وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنساناً إلا وقد ابتلاه الله بشيءٍ من حديث النفس في أمرٍ من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناءٍ وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

    وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له].

    هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثاً فإنه يبني على اثنتين قولاً واحداً عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثاً بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة.

    والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ..) الحديث.

    هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل.

    والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك.

    وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفاً أو مائة ألف نقول: أنت على يقينٍ أنك أخرجت تسعين ألفاً وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفاً حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله.

    وكذلك أيضاً في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شكٍ مما زاد، فيبني على الأقل.

    وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستاً، بنى على ستٍ حتى يتيقن أنه رمى السابعة.

    وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثاً قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغٌ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة.

    إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصلٌ وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولةٌ بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعاً أو ثلاثاً، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعاً، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله.

    كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثاً فهي بائنٌ منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك)، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث.

    وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

    1.   

    مسألة: إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق

    قال رحمه الله: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية، وإلا من قرعت].

    وهنا حالتان:

    الحالة الأولى: أن يميز من هي التي طلقها ويعينها في قرارة نفسه.

    والحالة الثانية: ألا يميز، بأن يقول: إحداكما، ويرسلها هكذا فإذا قال: إحداكما طالق ونوى واحدة منهما، فمثلاً: كان بين امرأتيه وأراد أن يخوف الثانية حتى تتأدب بطلاق الأولى فقال لهما حينما تمالأتا عليه وعلم أن إحداهما هي شر وهي البلاء فقال: إحداكما طالق، فأراد أن تخاف الثانية وأن توقع على نفسها احتمال أنها مطلقة فترتدع وتدخلها الرهبة، وهو قاصدٌ في قرارة قلبه أن المطلقة خديجة، وأن الثانية وهي عائشة ليست بمطلقة، فحينئذٍ إذا عين وقال: قصدت عائشة أو قصدت خديجة عُمِل بالتعيين إجماعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وفي التردد يرجع إلى النية، وهذا أصل في الشريعة.

    ولذلك إذا قال أحدٌ كلاماً محتملاً فلا يجوز أن يجزم بأحد الاحتمالين حتى يعين ويقول: قصدت كذا أو أردت كذا، أما إذا لم يعين ولم يبين فإننا لا نجزم؛ لأن كلامه محتمل، والله عز وجل لم يجعل المحتمل كالصريح، ولم يجعل الواضح البين كالمبهم، فكل شيءٍ قد جعل له ربك قدراً، فلا يجوز أن يرفع عن قدره ولا أن يوضع عن حقه.

    فعلى كل حال إذا قال: إحداكما طالق، وعين إحدى المرأتين؛ وجب الحكم بطلاق المعينة التي عينها. فيقال له: من قصدت بالطلاق؟ فإن قال: خديجة أو عائشة حُكِم بطلاقها، فاللفظ متردد ورُجِع في تعيينه وزوال إبهامه، وتردده إلى المتلفظ وهو الزوج.

    الحالة الثانية: ألا يكون هناك تعيين، ولها صور:

    منها أن يقول: إحداكما طالق ويموت.

    ومنها أن يقول: إحداكما طالق ولم يتمكن من مراجعة ومعرفة ماذا قصد حتى نسي، ولم يدر أهي فلانة أو فلانة، فجهل التعيين.

    فإذا جهل التعيين فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أننا تحققنا من وقوع الطلاق ولكن لا ندري أيتهما التي تطلق، فحينئذٍ يصار إلى القرعة، والقرعة أصلٌ شرعي في إثبات التعيين، فإذا قصد واحدةً ونسيها فإنه يعين بالقرعة، وقال بعض العلماء: لا تطلق لا هذه ولا تلك حتى يستيقن من التي عينها بالطلاق.

    فقوله: [وإلا من قرعت].

    أي: التي خرجت عليها القرعة كما ذكرنا، قالوا: لأن القرعة دليلٌ شرعي تثبت به الأحكام، دل على ثبوته الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء عملوا بالقرعة، ولذلك قال عن نبيه يونس: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وخرجت عليه القرعة فرمي في البحر.

    وكذلك: سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عمل بالقرعة.

    وكذلك: كان نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه يعمل بالقرعة كما في الصحيح: (أنه كان إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه صلوات الله وسلامه عليه، فمن خرجت عليها القرعة منهن سافر بها)، فهذا يدل على العمل بالقرعة، ولذلك عمل بها الصحابة رضوان الله عليهم وعمل بها أئمة السلف رحمهم الله أجمعين، وكذلك الخلف من بعدهم.

    فدل هذا على ثبوتها حجة، ولذلك يقولون: تثبت حجةً شرعاً وقدراً، فالحكم بها شرعي، وأما القدري فإن الله يقدر لعباده فإن خرجت القرعة على واحد، فإنه يكون هو المعين لما قصد من هذه القرعة في طلاقٍ وغيره.

    إذاً: إذا قال: إحداكما طالق. تحققنا أن إحدى الزوجتين طالق، فإن قلنا له: عيَّن، فقال: لا أتذكر ونسيت، حكم بالقرعة، أما لو قلنا له: هل تعلمها، فقال: نعم أعلمها؛ فإنه حينئذٍ يجبر على التعيين، فإذا امتنع من التعيين امتنعت كلتا الزوجتين من تمكينه من نفسها، فإذا بلغ أمره إلى القاضي أجبره على التعيين، وقال بعض العلماء: يعزر ويسجن حتى يحدد من هي الزوجة التي قصدها بهذا اللفظ، ولا يتساهل معه في هذا؛ لأن الطلاق تترتب عليه حقوق، ولأنه لو مات حصل الإشكال، حتى لو وجدت القرعة ربما خرجت على غير المطلقة، ولذلك يلزمه شرعاً التعيين، ومن مهمات القاضي إرجاع الحقوق إلى أهلها، فالطلاق له حقوق وتبعات، خاصةً مع وجود المرأة الثانية التي لم يقع عليها الطلاق، فهو بهذه الطريقة يعلم المرأة التي لم تطلق وحينئذٍ يجب عليه أن يعين.

    فإذا قال: نسيت؛ فحينئذٍ يحكم القاضي بالقرعة، فمن خرجت القرعة عليها فقد اختارها الله قدراً فينفذ الطلاق ويتعلق بها.

    قال رحمه الله: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها].

    أي: إذا قال: إحداكما طالقٌ ثلاثاً وكانت الزوجتان معقوداً عليهما لم يدخل بهما، فالطلقة الأولى طلقة بائنة.

    حكم طلاق الشك إذا تغينت المطلقة بعد القرعة بزمن

    قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم].

    هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملاً؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل.

    ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضاً الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبياً، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟

    أولاً: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذٍ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عُرّف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاحٍ صحيح ولا شبهة)، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة.

    ثانياً: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذٍ ينظر فيها:

    قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسدٌ تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل.

    قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغياً وترد إلى الأول.

    هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلاً ثانياً وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذٍ قد ألغينا نكاحاً ثابتاً؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة. فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجةً للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله.

    ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالةٍ واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالقٌ مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذٍ: عيَّن، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا. ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذٍ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضاً ديانةً فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا.

    وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم].

    أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصاً صريحاً قاطعاً في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائناً من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق.

    ولو فتح الباب لكل قاضٍ أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصاً من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعاً كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

    ويشترط في النص أن يكون صريحاً، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذٍ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحاً، فكلٌ يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية.

    فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبيةً وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشكٍ خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله.

    1.   

    مسألة: إذا علق طلاق زوجتيه على كون الطائر غراباً أو حمامة وجهل

    قال رحمه الله: [وإن قال إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق وإن كان حماماً ففلانة. وجهل؛ لم تطلقا].

    إذا كان عنده أكثر من زوجة فقال: إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق وإن كان حمامةً ففلانة، فإن جهل الحال لم تطلق فلانة ولا فلانة.

    وقال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة يجب أن يعين عن طريق القرعة.

    ودليل القول الأول: أنهما زوجتاه وفي عصمته ولم يحدث تعيين هل هو غرابٌ أو حمام، وقد لا يكون غراباً ولا حمامة، وحينئذٍ فلا ينبغي أن يجزم؛ لأن حال الطائر مجهول، فإذا جهل حال الطائر فإننا نجهل وقوع الطلاق فلا تستقيم القرعة؛ لأن الطلاق لم يثبت؛ بسبب جهل حال الطائر؛ لأن الطائر ليس منحصراً في الغراب والحمام فقط فقد لا يكون غراباً ولا حمامة، وقد يكون قمرياً أو حبارياً أو صقراً أو بازاً أو نسراً، فهذا كله محتمل؛ لأنه جُهِل حاله.

    وإذاً: لم يثبت الطلاق، ولا يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن الأصل أنهما زوجتاه، وقد علق على شرطٍ لم يتحقق وجود موجبه الذي يبنى عليه الحكم بالطلاق فتبقى المرأة في عصمته.

    1.   

    مسألة: إن قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق أو العكس

    [وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هند: إحداكما أو هند طالق، طلقت امرأته].

    في هذه الحالة: إذا كان هناك امرأة في عصمته وامرأة ليست في عصمته، فقال: إحداكما طالق، فننظر من هي التي يتعلق الطلاق بها، ولا شك أن الأجنبية لا يتعلق بها الطلاق فيصرف إلى زوجته، للقاعدة: (الإعمال أولى من الإهمال).

    فقد تلفظ بلفظٍ معتبر شرعاً، وهذا اللفظ لا يمكن إهماله؛ لأن الشريعة آخذت المطلق حتى في حال الهزل، فلا يمكن إهمال هذا اللفظ، وهذا لتعظيم حرمات الله وعدم اتخاذ آيات الله هزوا ولعباً، ولذلك قال الله في أمر الطلاق: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من كتابه سبحانه وتعالى، وقال : وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].

    والعلماء يقولون: (لفظ الطلاق مبنيٌ على الخطر) فهو يقول: إحداكما طالق، فإذا قال ذلك لزوجته وأجنبية، فالأصل شرعاً في اللفظ أن يُعمل به، ولذلك قالوا: ينصرف اللفظ إلى زوجته؛ لأنه يقول: إحداكما طالق، فقد جزم لنا بأنه مطلق لكن.. هل هو مطلقٌ للأجنبية أو لزوجته قالوا: ينصرف الطلاق إلى زوجته؛ لأن الطلاق صادف محلاً، والآخر ليس بمحل، فينصرف إلى ظاهر الشرع وهو أنه متعلقٌ بزوجته لا بالأجنبية، وحينئذٍ تطلق عليه زوجته وينصرف الطلاق إليها.

    وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أنه لا تطلق عليه زوجته، ولا يحكم بطلاقها؛ لأنه يحتمل أن تكون الأجنبية مطلقة، لكن إذا كان في قرارة قلبه طلاق زوجته وقع الطلاق.

    وكل هذا إذا لم يعين، أو مات بعد تلفظه بالطلاق على هذا الوجه؛ فإنه يحكم بالطلاق على ما اختاره المصنف، ودليله ما ذكرنا.

    قال رحمه الله: [ وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة ].

    هذا من المصنف رحمه الله احتياط للشرع، والعلماء الذين اختاروا وقوع الطلاق نصوا على أنه لو قال: أردت الأجنبية لم يقبل منه؛ لأنه يلغي ما ثبت، والإعمال أولى من الإهمال فنحن علمنا اللفظ، ولو صرفناه للأجنبية لأهملناه، والإعمال أولى من الإهمال.

    فالإعمال معتبر شرعاً ومقدمٌ على الإهمال، فإذا قال: أردت الأجنبية، فهو متهمٌ في قوله، والمتهم في قوله فيما بينه وبين الله ينفعه إذا كان صادقاً في قوله: إحداكما طالق فقصد الأجنبية؛ وله أن يعاشر زوجته ولو كانت الطلقة الثالثة.

    مثال ذلك: رجل اسمه محمد قال لزوجته عائشة وهي جالسة مع امرأةٍ أجنبية: إحداكما طالق، وقصد الأجنبية، وكان فيما بينه وبين الله أنها الأجنبية ولم يقصد زوجته، وقال: إحداكما طالق، بقصد أنها ليست في عصمته وليست بحلالٍ له؛ ففي هذه الحالة لو كانت زوجته قد طلقها قبلُ طلقتين: وقال لها: أنا قصدت الأجنبية، فصدقته، وهو معروف بالصدق والأمانة، فلها أن تعاشره ولا حرج عليه ولا عليها.

    لكن لو رُفِع الأمر إلى القضاء، فالأمر يختلف في هذه الحالة، فإنه لا يقبل منه إلا بقرينة، وقد فصَّلنا في هذه المسألة -مسألة الطلاق قضاءً وديانةً- وذكرنا أنه إذا كان صادقاً فيما بينه وبين الله، فإنه ينفعه القول في الطلاق، ويسقط عنه الطلاق ديانةً فيما بينه وبين الله؛ لأنه متحقق وجازم في قرارة قلبه والله مطلعٌ على سريرته، فهو لم يرتكب حراماً، وأما قضاء فلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِل سرائرهم إلى الله)، فهذا يدل على أن القضاء يجري على الظاهر، ولا حكم للباطن إلا في المسائل التي نص الشرع على اعتباره فيها، فالظاهر هو المحتكم إليه.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتختصمون إليَّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع) فالقاضي ظهر له أن الرجل تلفظ بلفظ شرعي مؤاخذ عليه، وهذا اللفظ الشرعي ما بين إعمالٍ وإهمال، وأصول الشريعة تقتضي أن الإعمال مقدمٌ على الإهمال، وأن الطلاق لا يتعلق بالأجنبية فصُرِف إلى من يتعلق بها الطلاق، ولا يقبل غير ذلك منه إلا بقرينة، فإذا وجدت قرينة إكراه، ودفع مظلمة، ودلت دلائل بساط المجلس على أنه لا يريد زوجته وإنما يريد الأجنبية، فحينئذٍ لا تطلق عليه زوجته وتعاد إليه، ويحكم القاضي باعتبار نيته.

    1.   

    مسألة: إن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق أو العكس

    قال رحمه الله: [وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق، طلقت الزوجة، وكذا عكسها].

    أي: كامرأة في عبائتها ظنها زوجته فقال لها: أنت طالقٌ.

    فالحقيقة أن مسائل الطلاق فيها باطن وظاهر، والظاهر هو اللفظ: أنت طالق، والباطن: النية والقصد؛ فإذا قال لامرأةٍ يظنها زوجته: أنت طالق، فللعلماء فيه وجهان:

    منهم من قال: لا تقع الطلقة على زوجته؛ لأنها لو وقعت الطلقة على زوجته كان مطلقاً بنيته لا بلفظه؛ فهو لما تلفظ خاطب معيناً؛ فلو كانت زوجته لطلقت، ولكن لما تبين أنها ليست بزوجته فإنه طلق وهي ليست بزوجة له فلا طلاق؛ لأن الطلاق لا يقع بالنية وحدها، وجماهير السلف والخلف وأئمة العلم على أن من نوى في قرارة قلبه أن يطلق زوجته ولم يتلفظ؛ أنها لا تطلق عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).

    فقالوا: لو خاطب امرأة أجنبية بالطلاق، فظاهره ليس بظاهر المطلق لكن باطنه باطن المطلق، فقالوا: لا نطلق عليه لأن هذا من الطلاق بالنية دون اللفظ.

    ومن أهل العلم من قال: تطلق عليه زوجته؛ لأنه لما قال: (أنتِ) قصد الزوجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فإنه قد قيد وقال: (ما لم تتكلم أو تعمل)، وهذا تكلم وقصد زوجته والذي اختلف إنما هو الشكل، والشكل ليس بمؤثر؛ لأن العبرة بالمعنى والمعنى موجود، فتطلق عليه زوجته كما اختاره المصنف ونص عليه رحمه الله.

    وقوله: (والعكس) أي: إذا قال لزوجته يظنها أجنبية: أنت طالقٌ طلقت عليه زوجته.

    وهنا تعارض، فالمصنف يقول: لو قال لزوجته: أنت طالق، وهو يظنها أجنبية؛ كأن جاءت امرأة وقرعت عليه الباب وظنها أجنبية ضيفة أو نحوها فقال لها: أنت طالق، وتبين أنها زوجته؛ فقالوا: إنه واجهها فقال أنتِ طالق. أي: بيني وبين الله أن هذه المرأة وهذه الذات مطلقةٌ مني، فلما صادف الطلاق محلاً طلقت، ولو كانت أجنبية لما طلقت إلا في مسألة إذا نوى. وقالوا: لأن الطلاق لم يصادف محلاً في الأجنبية، لكن هذه زوجته وقد صادف الطلاق المحل، فتطلق عليه.

    - المسألة الأولى: إذا ظنها زوجته وظهرت أجنبية: إذا قال لامرأةٍ من زوجاته يظنها أجنبية: أنت طالق، قالوا: فإنه في هذه الحالة قصد الطلاق ونواه في قرارة قلبه فتطلق عليه، وكونه يقول: (أنت) يخاطب محلاً أو يوجه لمحل كالذي يطلق وهي غائبة، فهو كمن يقول: زوجتي طالق، والطلاق لا يتوقف على أن تكون الزوجة أمامه، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالق، وقصد في قرارة قلبه إخراج امرأته من عصمته فيؤاخذ بهذا القصد وتمضي عليه الطلقة.

    المسألة الثانية: إذا ظنها أجنبية وظهرت زوجته فقال لها: أنت طالق، فصحيح أنه يعتقد أنها أجنبية، لكن اللفظ الذي خرج منه في الظاهر لفظٌ شرعي للطلاق، والمرأة التي وقع عليها الطلاق زوجته، فهو يقول: (أنت) فحينئذٍ يؤخذ بالظاهر، ففي الأول نظر إلى الباطن مع وجود المؤاخذة باللفظ، وفي الثاني اعتبر بالظاهر.

    ومن هنا قد يحصل إشكال ونوع من التعارض، فينبغي أن نقول إذا غلبنا الظاهر وظهرت أنها امرأته، ينبغي أن لا تطلق إذا خاطب الأجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الباطن، فينغبي أن لا تطلق في حال استئذان الزوج وهو يظنها أجنبية، فحينئذٍ قالوا: نعمل الأمرين، نُعمل الظاهر في حال قوته ونعمل الباطن في حال قوته، وكلاهما له وجه، والإشكال كله في مواجهتها بالخطاب (أنت)، فإنه لما قال لها: (أنت) في المسألة الثانية فقد واجه محلاً قابلاً للطلاق فوقع الطلاق عليه، وفي الأجنبية قال لها: (أنت) فكلمة (أنت) معلقة بالزوجة، وفي قرارة قلبه أنها زوجته؛ ولذلك قالوا: إنه ينفذ عليه الطلاق؛ لقوة قصده، ووجود المعنى من إرادة الطلاق ونيته.

    1.   

    الأسئلة

    حكم العدول عن القرعة عند الشك في الطلاق إلى الاختيار بحسن

    السؤال: هل للقاضي أن يعدل عن القرعة ويسأل عن أحسنهما عشرة مع زوجها فيبقيها ويحكم بطلاق الأخرى أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد..

    الأحكام الشرعية لا تدخلها العواطف والاحتمالات والآراء والأهواء، والقاضي إذا رُفعت إليه القضية لا يجتهد من عند نفسه، إنما هو ملزمٌ شرعاً أن يحكم بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي الموجود: أن من طلق زوجته طلاقاً واضحاً بيناً ينفذ عليه الطلاق، ومن طلق زوجته طلاقاً محتملاً متردداً رجعنا إلى الأصول الشرعية في تعيين المبهمات والمجهولات، وليست أمور الشريعة محل تخرصات وتحكيم للهوى، وليس لكل شخص أو طالب علم أن يقترح من عنده؛ لأن أمور الشرع عظيمة مبنية على أسس، والفتوى إذا لم تبنَ على الشريعة فإنها تهوي بصاحبها كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لأنه تقول على الله بدون علم.

    والشريعة ليس فيها عواطف ولا مجاملات: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52]، هذا الكتاب الذي فُصّل على علم هدىً ورحمة مبني على أصول لا يستطيع القاضي أن يجاوزها شعرة، فهذه امرأة وهذا زوج، فلا تحل العصمة ولا تزيلها من زوجها إلا بدليل، ولا تقول: والله أخلاقها طيبة، فكونها طيبة أو تؤذي أو لا تؤذي لا دخل لها.

    وهناك أمرٌ يسمى بالتعليم، والأوصاف المناسبة للتعليم، فهذه المسألة ليس لها علاقة، فقد يطلق الرجل زوجته وهي من أحسن الناس أخلاقاً، لكنها لا تريحه بالفراش ويريد أن يعف نفسه عن الحرام، وليست قضية جمال الأخلاق أو حسن العشرة مؤثرة في مسألة الطلاق من كل وجه؛ لأنه قد يقع الطلاق لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، فقد يفارق بلدها ويرى أنها لو جاءت معه لتعذبت، وربما رأى أنها تتحمل مشاق من أجله وأراد أن يريحها من كل هذه الأمور؛ فهذا ليس له علاقة بمسألة كونها حسنة العشرة أو لا.

    وأحب في هذه المناسبة أن ننبه ونذكر أنفسنا وإخواننا أن مسائل الشرع مسائل عظيمة، خاصة في هذا الزمان؛ فقد يتكلم الرجل في الفتوى ويبنيها على النص من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بنا نفاجأ بشخص يقول: عندي مداخلة، لي وجهة رأي، اسمح لي لو تفضلت.. لو تكرمت! ويأتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].

    إذا وقفت بين يدي الله قاضياً أفتيت بالقرعة فقلت: يا رب جاءنا في كتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فإنه أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فتستند إلى رأيك واجتهادك.

    واعلم أن الدين ليس فيه وجهة نظر ومداخلات، فهذه أمور دخيلة دخلت على الأمة، فشتتت شملها، وفرقت آراءها فأصابها الخور والضعف حتى في العلم والعلماء، فذهبت كرامة العلماء وكرامة العلم بسبب إدخال العواطف والآراء الشخصية، وقل أن تجد عالماً يتكلم في مجمع أو مناسبة إلا وجدت من يعقب عليه، ونرجو من الله تعالى أن يجعل هذا رفعة لدرجة العلماء ومقامهم في الدنيا؛ لأن هذا من غربة الإسلام؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ).

    أين مكانة العلماء فينا، كانوا إذا تكلموا أنصت الناس إلى كلامهم، وإذا أمروا ائتمر الناس بأمرهم، وإذا نهوا انتهى الناس عما نهوا عنه، أين مكانة العلماء من القبول والتكريم، يقول الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65]، هذه شهادة من الله من فوق سبع سماوات: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وليس وحدها الرجوع إلى العلماء. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا [النساء:65] (نكرة) أي: أياً كان هذا الحرج، (ليس هناك: عندي وجهة نظر، ولا عندي مداخلة، ولا اسمح لي).

    بل تسمع وتطيع، تقول: سمعنا وأطعنا، وتقبل من العالم ما دام أنه عالم رباني يقول بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الأيام نزعت الثقة من العلماء وذهبت مكانتهم، وبعض هذه المداخلات تُذهب هيبة العلم ومكانته وتسلط السفهاء على العلماء.

    وإذا كان المداخلة أو وجهة الرأي من طالب علم عنده عقلية أو ذكاء؛ فقد يأتي بعده من ليس عنده عقلية ولا ذكاء وإذا كان الذي يحاور العلماء عنده وجهة نظر ورزقه الله شيئاً من الأدب، فقد يأتي من لا أدب عنده، فهذا يجرئ الناس والرعاع على العلماء رحمهم الله، ولم نكن نعرف أن أحداً ينتقد على عالم رأياً أو هوى، فقد كان طالب العلم إذا جلس في مجلس العلم يسمع ويطيع ويحمل العلم ويقول: هذا الذي سمعت وهذا الذي بلغني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، الأمانة والضبط، وليس في العلم رأي، ومن أنت حتى تعطي رأيك أو اجتهادك؟

    فهذا الزمان زمان غربة العلماء، وإبداء الآراء حتى من طلاب العلم، وأنا لا أقصد السائل، فقد يكون السائل تأثر بغيره، فلا بد أن نتربى على احترام العلم واحترام العلماء، ولا يحسن لطالب العلم أن يفتح مثل هذا، وإذا وجدت شيئاً مبنياً على الكتاب والسنة فلا تقل: على القاضي أن يفعل أو لا، فلو كنت تعرف مكانة القاضي وتعرف أن القاضي قد نصّب نفسه حكماً بين الناس، ووقف على شفير نار جهنم فإما إلى جنةٍ وإما إلى نار، ما تكلمت؛ فهذا أمر ليس بالسهل.

    ولذلك ننبه على مثل هذه الأمور، لأنها مما عمت بها البلوى، فذهبت مكانة العلماء والعلم، والآن أبسط ما تراه -وقد يكون بسيطاً في نظر الناس لكنه عند الله عظيم- أنه عندما يطرح موضوع الصبر، أو الحلم أو موضوع من الموضوعات، كلٌّ يدلي برأي وكل يدلي بوجهة نظر، وقد يكون مسموعاً أمام الناس، وهذا ينزع الثقة من العلماء؛ لأنه إذا كان كل من هب ودبّ عنده مداخلة، وكل من هب ودب يكتب كلمتين ويأتي يصيح بها أمام الناس، وكل من هب ودب يستطيع أن يدلي بوجهة نظره؛ ضاعت مكانة العلماء؛ لأنه الناس يسمعون كلاماً كثيراً، وإذا سمعوا كلاماً كثيراً فلا يجدون العلماء والنور الرباني.

    وقد يخدعهم بليغ اللسان عذب البيان ويصرفهم عمن هو أتقى لله وأورع، وكم من عالم ورعٍ تقي نقي لا يقول الكلام إلا وقد عده لا تنصرف إليه الأعين ولا تصغي له الآذان؛ ولكنه عند الله ذو شأن.

    فهذه أمور تقوم على التسليم للشريعة، تقوم على الأدب والتسليم والخوف من الله، ويجب على طالب العلم أن يتعود أن لا يقول على الله بدون علم، وأن يتعود الحرص على الوقوف عند الكتاب والسنة، هذا هو هدي العلماء، ولا يمكن لطالب العلم أن يبارك له في علمه إلا إذا أقام نفسه على التسليم طالباً، ونفع الأمة معلماً، إذا وفقه الله عز وجل للتسليم خرج للناس وعاء من أوعية العلم.

    وكان بعض العلماء يقول: إن الوحي كالماء الصافي من الكدر. أي: إذا كان طالب العلم يملأ قلبه بالوحي صار هو الوعاء الذي يُملأ بالماء الصافي، يأتي بعد فترة وقد وعى وفتح الله عز وجل عليه فلا يتكلم ولا ينضح إلا بماء صافٍ من الكدر، والعكس، فالطالب الذي يبتدئ طلب العلم بالمداخلات والآراء، ولماذا لا يقول القاضي كذا! ولماذا لا تقولوا كذا، وهل وضعتم كيت كذا، ولماذا لم يشترط كذا، فهذا يدخل على نفسه الوساوس، وربما لم يحسن العالم الجواب ويكون ما قاله باطلاً فتقع في قلبه الشبهة؛ لأنه ما تأدب مع العلم، وقد تبقى في قلبه هذه الشبهة حتى يصير عالماً ويبثها بين الناس، فيحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين.

    العلم أن يتعلم الإنسان الانضباط والخوف والورع، فمن كان على ورعٍ فقد علم وعرف من هو ربه، وإذا كان طالب العلم لا يعرف من هو الرب الذي يتكلم عنه، وما هو الشرع الذي يدين الله عز وجل به، ويريد أن يلقى الله عز وجل به، فهذا على هلاك وحسرة إذا كان لا يعرف هذا كله، فطوبى ثم طوبى لمن رزقه الله البصيرة والأدب مع العلم والعلماء، وأنصت وعدل، ورد الأمر إلى أهله، وسلم بالقول إذا صدر عمن هو أهل.

    هذا الذي يسعنا، والله عز وجل يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (العلماء ورثة الأنبياء)، فكما أن الأنبياء لا نرد عليهم، فلا نرد على العلماء، ونحن لا نقول: إن العلماء معصومون، ولا نقول إن العلماء والجهال على مرتبة واحدة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، فالعلماء ليسوا بمعصومين، ولكن قد يرد عالم على عالم، أما طالب العلم فإنه يسلم للعالم ويتبع؛ لأن هذا هو الاهتداء الذي سارت عليه الأمة وبه استقام أمرها.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل، والله تعالى أعلم.

    الولد للفراش وللعاهر الحجر

    السؤال: في اختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعبد بن زمعة في الغلام: هل الحكم بالغلام لـعبد بن زمعة لم يبعد الشك، وذلك في قوله: (واحتجبي منه يا سودة ) أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله ولهم فيها اختيارات، واختيار الوالد رحمه الله: أن مسائل النكاح أضيق من غيرها، فمسائل الفروج والمحرمية ونحوها مما يتبع حكم النسب واللحوق يحتاط فيها، فقد يُبنى على الظن، وقد يعمل بالشكوك ويحتاط فيها صيانةً للأبضاع.

    ومن هنا لما جاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنها أرضعت الزوج وزوجته وبينت له، فانتشر بين الناس، فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي له من هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل)، مع أن (قد قيل) صيغة تمريض، لكنه بنى عليها عليه الصلاة والسلام كما في الحديث في صحيح مسلم وغيره: (كيف وقد قيل)، فأعمل القيل وأعمل التهمة.

    وكذلك في مسألة سعد وعبد بن زمعة رضي الله عنهما، خاصةً وأن الوطء كان في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعمل الأمرين، أعمل الفراش لقوله: (الولد للفراش)، فهذا يقتضي اللحوق ويكون لـعبد بن زمعة ؛ لأن الفراش فراش أبيه، والزنا وقع من أخي سعد وقد عهد إليه أن هذا الولد ولده، وأنه قد زنا بها، فنظر إلى وجود الشبه من أخي سعد ونظر إلى وجود الفراش، فأعطى كلاً منهما حظه، وبني الحكم على مراعاة الأمرين وعلى وجود المرجح وإن كان الأصل في الشريعة أن المسائل في الزنا مثل النسب وأحكام الولد تابعة للفراش، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

    فهذا كله من الجمع بين الظنون، خاصةً إذا لم يوجد المرجح، لكن قد يستثنى منها مسائل؛ مثلاً: لو وجد المرجح ودلّ الدليل على ترجيح أحد الاحتمالين وجب العمل به، وإذا لم يوجد المرجح من المرجحات وجود القاصد.

    ولذلك نص العلماء رحمهم الله: لو أن رجلاً تزوج امرأة وكانت قد حملت من الزوج الأول وتأخر حملها، وظن أنها ليست بحامل وهي حامل، فلما وطئها الثاني ظهر حمل وتبين أن هناك حملاً من الأول، فاختلط الماءان، فهل يلحق بالأول أو بالثاني؟

    الأول الأصل أن الفراش فراشه، والثاني أن الأصل طارئ، وهذا يسمونه تعارض الأصل القديم والجديد.

    فالأصل القديم يدل عليه أن الولد جاء قبل المدة التي في مثلها يكون الحمل، والثاني يقويه أن الفراش فراشه؛ لأنه تزوجها وأصبحت زوجةً له، ومن كانت المرأة فراشاً له، فكل ما تلده تابع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، ففي هذه الحالة لما كانت مدة الحمل قصيرة، لا يمكن لمثلها أن يحسب التخلق، فالغلام للأول من حيث الحكم، لكن لو حصل اشتباه فيستعان بأهل الخبرة وهم القافة، فيلحقونه بأقواهم شبهاً به.

    ومثل ذلك: لو أن رجلاً سافر مع رجلٍ آخر وكل منهما معه زوجته، فجاء أحدهما ووطئ زوجة الآخر ظناً منه أنها زوجته، فما الحكم في هذا الولد، هل يكون الولد له أم لزوج المرأة؟

    يرجح بالقيافة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقيافة وسيأتي بيان هذه المسائل إن شاء الله، أو بيان جمل منها إن شاء الله في أحكام النسب والله تعالى أعلم.

    حكم الخروج من المسجد بعد الأذان الأول للجمعة

    السؤال: هل الخروج بعد الأذان الأول من يوم الجمعة يشمله النهي أثابكم الله؟

    الجواب: الأذان الأول يوم الجمعة أذان شرعي، ولا يجوز لأحدٍ أن يتكلم فيه بأي وجهٍ كان، فهذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه أذان شرعي قضى به خليفة راشد أمرنا باتباع سنته، وانعقد إجماع الصحابة كلهم والأمة كلها على العمل به. ومن قال بأن هذا الأذان بدعة فقد أخطأ كائناً من كان؛ لأننا لا نستطيع أن نرد هذا الإجماع، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولا يمكن أن نرد الإجماع، فلا يتكلم في هذا الأذان.

    ولو قال قائل: وجدت الآن الأجهزة والآلات -مكبرات الصوت- فهذا يُرد عليه بأنه في الزمان القديم كانت هناك قرى صغيرة لا يحتاج إليها الأذان الأول، ومع ذلك فالسلف لم يفرطوا فيه، وأتحدى أن يوجد واحد من علماء السلف ومن بعدهم ذكر أن هذا الأذان بدعة؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن نبدع سنة راشدة، وأن نقول إن هذه الأمة كلها على ضلالة، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، وإنما أقصد أن هذا القول لا يجوز لمسلم أن يقول إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه يرد سنة راشدة أجمعت الأمة كلها على قبولها والعمل بها، وإذا قال: إن الزمان اختلف نقول: إن هذا باطل؛ لأن العلماء رحمهم الله وأئمة الإسلام كلهم قبلوا هذا الأذان وما فرقوا بين القرى الصغيرة والكبيرة. والقرى الصغيرة التي كانت أيام السلف ليست بحاجة إلى هذا الأذان، وإنما احتاجه عثمان لما كبرت المدينة، وهم يقولون: احتاجه لما كبرت المدينة، فلما زال السبب أصبح بدعة.

    وأوصي طلاب العلم أن يتقوا الله عز وجل وأن لا يتعصبوا إلا للحق؛ لأن هذا أمر ليس بالسهولة، ومشايخنا كانوا يشددون في هذا الأمر، ويضيقون على أحد أن يتكلم في هذه المسألة؛ لأنها مسألة إجماعية، ولا يعرف عن أحد من أئمة السلف ولا من الخلف التابعين لهم أنهم قالوا: إنه بدعة، والبدعة أمرها عظيم، ومعناها أن من يؤذن آثم، والمسجد الذي أذن فيه مسجد بدعة، والمصلون الساكتون ساكتون عن بدعة،.. إلخ.

    فقول بدعة ليست بالهينة، وينبغي لطالب العلم أن يحذر.

    وعلى كل حال: فالأذان الأول يعتبر سنة كما ذكرنا، فللعلماء فيه وجهان:

    بعض العلماء يقول: يطرد فيه حكم الأذان مطلقاً، وإذا قلت باطراده فإنها تتفرع عليه مسائل:

    منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الخروج بعد الأذان)، فلا يجوز أن يخرج، على ظاهر هذا الحديث؛ لأنك احتسبته أذاناً شرعياً، وإن قلنا: إنه آخذ حكم الأذان، فيجوز أن يصلي بعده الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وقصد أنه بعد الأذان تفتح أبواب السماء، وهذا مطلق، ولذلك قال بعض العلماء: يشمل هذا الأذانَ الأولَ والثاني من الفجر، فإن الأذان الأول والثاني تستحب بينهما الصلاة، وهو داخل في هذا العموم.

    ومن أهل العلم من قال: يقال إنه أذان شرعي؛ لكن لا يأخذ وصف الأذان من كل وجه، فلا يتنفل على قصد بين كل أذانين، وإن كان التنفل بين الأذان الأول والثاني جائزاً عند الشافعية، كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري أن من الشافعية رحمهم الله من قال: يشرع أن يتنفل قصداً لما بين الأذانين، وهناك فرق ما بين القصد وبين كونه يتنفل نافلةً مطلقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه (صلى ثم جلس وأنصت)، فأخبر أن الذي خرج للجمعة جلس يصلي ثم جلس ينصت للخطبة.

    والوقت الذي قبل الزوال يوم الجمعة محلٌ للصلاة بإجماع العلماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا طلعت الشمس فصلِّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار، ثم أمسك عن الصلاة ...)، هذا حديث صحيح، يدل على أن ما بين طلوع الشمس وبعد ارتفاعها قدر رمح إلى الزوال محلٌ للصلاة حتى يدل الدليل على المنع والتحريم، فلو صلى بين الأذان الأول والثاني من الجمعة؛ فإن الأذان الثاني لا يكون إلا بعد الزوال، فقد وافقت صلاته المحل المأذون به شرعاً.

    ولا يقال: إنه بدعة، فليس هناك أحد من العلماء قال إنه بدعة، وأنا أقول هذا عن علم، والذي يأتيني بأحد من أئمة السلف ودواوين العلم المتقدمين أنه يقول: الصلاة بين الأذان الأول والثاني بدعة، فإني أعتبره قد أهدى إليَّ هديةً عظيمة، ومستعد أن أرجح عن هذا القول، وهذا أمر لا أعرفه، ولقد تعبت كثيراً كي أجد عالماً واحداً يقول: الصلاة ما بين الأذان الأول والثاني بدعة، فما وجدت أحداً يقول بهذا القول، وأقولها أمانةً وإنصافاً؛ لأن هذه مسئولية وأمانة، الأذان الأول والثاني بينهما صلاة بعموم الأحاديث الواردة في الصلاة فيما بين طلوع الشمس وزوالها، وهي أحاديث صحيحة لا غبار عليها، فإذا جئت تمنع من الصلاة حَرَّمْت، وإذا قلت: إنها بدعة أَثَّمْت، ومن يصلي في هذا الموضع أثم، إنما الذي ضُيِّق فيه أن يعتقد لهذا الوقت مزية الفضل، فإذا اعتقد ذلك فإنه يُمنع منه.

    أما لو أنه أخذ بقول من يقول: (بين كل أذانين صلاة)، فقد تمسك بحديث نبوي، وبعموم ثابتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فعلى كل حال: المسألة محتملة، ولا ينكر على من فعل هذا؛ لأن له وجهاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أذن المؤذن الأذان الأول فلا يخرج إلا إذا وجدت الحاجة والضرورة، والله تعالى أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956180