إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [7]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعليق الطلاق بالمشيئة له صور: أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة غيره، وقد يعلقه بمشيئة منفردة أو بمشيئة مشتركة، وقد يعلقه بمشيئة منفردة فيشرك صاحب المشيئة معه غيره؛ وكل هذه الصور لها أحكام شرعية بينها العلماء رحمهم الله.

    1.   

    تعليق الطلاق بالمشيئة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى:

    [ فصلٌ: إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى ].

    بيّن المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل جملة من مسائل التعليق، وهذا التعليق مُختص بالتعليق بالمشيئة، يُعلق الطلاق على مشيئة امرأته أو أجنبي أو مشيئة الله عز وجل، فإذا تعلق الطلاق بالمشيئة فإنه ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يعلقه بمشيئة الله عز وجل.

    القسم الثاني: أن يعلقه بمشيئة غير الله عز وجل.

    فإذا علقه بمشيئة الله عز وجل مثل أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، فسيأتي الكلام عنها، وسيذكر المصنف -رحمه الله- هذه المسألة.

    وأما التعليق بمشيئة غير الله عز وجل فينقسم إلى قسمين:

    إما أن يعلق بمشيئة منفردة.

    أو يعلق بمشيئة مشتركة.

    مشيئة منفردة مثل أن يقول: بمشيئتكِ -يخاطب زوجته- إذا شئتِ، متى شئتِ.

    وإما أن يعلق بمشيئة مشتركة كأن يقول: إذا شئتِ وشاءت أمك، إذا شئتِ وأمك، إذا شئتِ وأبوك، وأخوك، أو غير ذلك.

    تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة

    وقد شرع المصنف بالكلام عن تعليق الطلاق بمشيئة غير الله عز وجل.

    فذكر تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة، مثل أن يقول لها: إن شئتِ، أو إذا شئتِ، أو متى شئتِ، وهذا يسمى بالمشيئة المنفردة؛ لأنه أسند وعلق الطلاق على مشيئة شخص واحد، هو الزوجة: إذا شئتِ ومتى شئتِ وإن شئتِ، وإذا أسند الطلاق إلى مشيئة واحد فإما أن يسنده مقيداً وإما أن يسنده مطلقاً، مقيداً كأن يقول لها: إن شئت الآن، فيقصد في الحال، فيتقيد بالحال، أو إن شئت هذه الساعة، أو خلال ساعة، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع، أو ما لم تغب الشمس، أو ما لم يطلع الفجر، فيقيد الطلاق بمشيئتها في هذه المدة، فلو أنها مضت عليها وانتهت، ولم تشأ الطلاق، فحينئذٍ لا يقع الطلاق إذا لم تشأ في هذه المدة المقيدة، أو قال: إن شئتِ ما دمت قائمةً، فيقيده بحال قيامها، فإن جلست انقطع الإسناد، والتمديد للطلاق كان معلقاً بالمشيئة حال قيامها.

    والمشيئة: أمر متعلق بالقلب، وهو أمر غيبي خفي، لا يمكن أن نعلمه إلا إذا أخبرت به، وهكذا لو كان الذي علق الطلاق بمشيئته أجنبياً، فقال: إن شاء زيدٌ، أو متى شاء زيدٌ، أو إن شاء أبوك، أو شاءت أمك، في هذه الأحوال ننظر إلى مشيئة من ينفذ الطلاق، فلا يخلو إما أن يشاء الطلاق أو يشاء عدم الطلاق، فإذا شاء الطلاق فإنه يحكم بالطلاق، فلو قال لها: إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ طلاقي، فإنها تطلق، أو قال لها: إن شاءت أمك، فذهبت إلى أمها فقالت الأم: أشاء الطلاق، وقع الطلاق؛ لأنه معلق على شيء يقع بوقوعه، وهو شرط بينه وبين الله عز وجل أنه إن وقعت هذه المشيئة فامرأته طالق، سواءً شاءت الزوجة أو أبوها أو أخوها أو أياً كان فمن علق الطلاق بمشيئته، ما دام أن هذا الشرط قد تحقق، وهو وجود المشيئة التي علق الطلاق على وجودها، فنحكم بالطلاق.

    وتقدم معنا أن الصحابة كانوا يعتبرون التعليق، وأجمع أئمة السلف على اعتبار التعليق من حيث الجملة، فلو قال لها: إن طلعت الشمس أو إن غابت الشمس فأنت طالق، فإنها تطلق وجهاً واحداً، وهكذا حينما قال لها: إن شاء أبوك، إن شئتِ، إن شاء عمك، إن شاء خالك، وقد شاء ذلك الغير مضى الطلاق ونفذ، لأن الذي اشترطه بينه وبين الله: أن امرأته طالقة إن وجدت هذه المشيئة.

    الحالة الثانية: أن لا تشاء الطلاق، تقول: لا ما أريد الطلاق، ولا أشاء الطلاق، أو لا أحب الطلاق، لا أرضى الطلاق، وتعذرت بأنها لا مشيئة لها بالطلاق، فحينئذٍ انتفى الشرط فلا يقع ما التزم به من طلاقها، وتبقى المرأة في عصمته، وهكذا لو قال لها: إذا شاءت أمك أو شاء أبوك، فذهبت وسألت أباها، وسألت أمها، فقالت أمها: لا أريد الطلاق، وقال أبوها: لا أريد الطلاق، فإنها لا تطلق.

    إذاً: إذا أسندت المشيئة إلى شخص سواءً كانت الزوجة أو غيرها، فإنه إن شاء الطلاق وقع، وإن لم يشأ الطلاق لم يقع، هذا حكم إسناد الطلاق إلى مشيئة منفردة.

    لكن في بعض الأحيان قد تدمج المشيئة إلى مشيئة آخر، فتركب المشيئة على المشيئة، مثلاً: يقول لها: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ إن شئتَ، قد تخشى من زوجها ولا تريد أن يكون الأمر إليها، فردت عليه وقالت: قد شئتُ إن شئتَ، أو تقول: قد شئتُ إن شاءت أمي، قد شئت إن شاء أبي، أو إن شاء أخي، أو إن شاء فلان، فإن قالت: قد شئتُ إن شاء أبي أو شاءت أمي، فأسندت مشيئتها إلى الغير فلا طلاق، ولو طلق ذلك الغير؛ لأنه فيما بينه وبين الله اشترط أن تكون لها مشيئة، فلما أسندت إلى الغير دل على أنها لا تشاء الطلاق لأنها لو شاءت الطلاق لقالت: شئتُ، وهو يقول: إن شئتِ، يعني: إن كان منك مشيئة وأردت الطلاق فأنت طالق.

    قوله: [إذا طلقها بمشيئتها بإن أو بغيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء] :

    لأنه اشترط فيما بينه وبين الله أنها طالق إن شاءت، ولم يقع ذلك الشرط فلا يقع المشروط.

    الخلاف في زمن المشيئة للمرأة إذا علق الطلاق على مشيئتها

    قوله: [ولو تراخى].

    (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئتِ، أو إن شئتِ فأنت طالق، فلها أن تشاء الطلاق مباشرة، بلا تراخٍ، فلو تراخت فإنه لا مشيئة لها، مثلاً: لو قالت بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات: قد شئت الطلاق، فلا طلاق، يعني: لا بد أن يكون جوابها مباشرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله، والجمهور أنه لا يشترط أن يكون جوابها على الفور، وأنه لو وقعت منها المشيئة ولو متراخية فإنه يقع الطلاق، ما لم يقيدها أو يرفعها.

    هناك قول ثالث للحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهما الله- يقولان: نعطيها مهلة مدة المجلس، فإذا قال لها: أنت طالق إن شئتِ، في مجلس، فإنه من حقها أن تطلق ويقع الطلاق إن أخبرت بمشيئتها في ذلك المجلس، فإن قامت عنه انقطع الإسناد ولا طلاق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور المصنف -رحمه الله- أنه لا يشترط الفور.

    الحكم إذا أحالت المرأة مشيئتها على مشيئة الغير

    قال رحمه الله: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئت فشاء لم تطلق] :

    إذا أسند الطلاق إلى فرد فإما أن يبت الطلاق، وإما أن لا يبت الطلاق، وإما أن يُسند للغير، هذه ثلاثة أحوال: أن يبت الطلاق فيقع، وأن لا يبت الطلاق فلا يقع، وأن يسند إلى الغير فلا يقع، على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، وفي وجه ضعيف عند الشافعية -رحمهم الله- أشار الإمام النووي وغيره إلى ضعفه قالوا: إذا أسندت إلى الغير تنتقل مشيئتها إلى مشيئة الغير، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه فيما بينه وبين الله شرط أن امرأته تطلق إذا وقعت منها المشيئة، فهي لما نفت أن عندها مشيئة للطلاق وأسندت للغير دل على أن قلبها خالٍ من المشيئة، وحينئذٍ لا طلاق.

    تعلق الطلاق بمشيئة مشتركة

    قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: إن شئت وشاء أبوك أو زيدٌ، لم يقع حتى يشاءا معا، وإن شاء أحدهما فلا] :

    هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأحكام، يبين أول شيء: مشيئتها، وثانياً: إذا أسندت مشيئتها إلى الغير، وثالثاً: إذا وقعت المشيئة مشتركة، يعني: أن يقول لها: إن شئت وشاء فلان؛ لأننا قلنا: إما أن يسند لمشيئة الله أو مشيئة غيره، ومشيئة غيره إما أن تكون مفردة كأن يقول: إن شئتِ، ثم تأتي الصورة الأخرى أن تقول: قد شئتُ إن شاء فلان، قد شئتُ إن شئتَ، فهي مركبة لكنها مبنية على الصورة الأولى، والصورة الثانية: أن تكون مشتركة، فيسند المشيئة لأكثر من واحد فيقول لها: إن شئتِ وشاء أبوك، إن شئتِ وأبوك، إن شئتِ وأخوك، وهكذا، فإذا أسند المشيئة إلى اثنين أو ثلاثة، فللعلماء وجهان: أصحهما وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقع الطلاق إلا إذا شاءا معاً، فتقول: قد شئتُ، ويقول الآخر: شئت، فإذا شاءا معاً فإنه حينئذٍ يقع الطلاق، وإن شاء أحدهما ولم يشأ الآخر فإنه لا يقع الطلاق، وهذا هو الصحيح؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فلما أسند المشيئة إلى شخصين فإنه لا يقع الحكم ولا يقع الذي اشترطه من الطلاق إلا بوقوع المشيئة من الاثنين معاً، فإذا وقعت من أحدهما فلا يعتد بمشيئة ذلك الواحد حتى تقع المشيئة منهما جميعاً على الوجه الذي اشترطه.

    تعلق الطلاق بمشيئة الله

    قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق وعبدي حرٌ إن شاء الله وقعا] :

    أصل التقدير: أنتِ طالق إن شاء الله وعبدي حر إن شاء الله، وهذا النوع الثاني من الإسناد بالمشيئة وهي مشيئة الله عز وجل.

    مشيئة الله عز وجل يختلف حكمها في الطلاق والعتاق والأيمان، يقول: أنتِ طالق إن شاء الله، أو: عبدي حر إن شاء الله، أو: والله لا آكل إن شاء الله، وهكذا.

    هذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء بمشيئة الله عز وجل، ووجه ذلك: أنه يستثني الطلاق ويجعله معلقاً على وجود المشيئة، يقول: امرأتي طالق إن شاء الله، ففي هذه الحالة اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يقع الطلاق أو لا يقع؟

    فيها قولان مشهوران، لكن قبل أن نذكر القولين نُنبِّه على مسألة وهي أن من قال: إن شاء الله، لابد أن يكون قاصداً للتعليق، فينوي في قرارة قلبه أنه معلق لطلاقه على مشيئة الله عز وجل، فلا يأتي يقول: إن شاء الله، بلسانه هكذا بالعادة أو نحوها، إنما يقصد ذلك بقلبه، فمن العلماء من يقول: لابد أن تكون عنده نية بالمشيئة، من قبل أن يقول أنت طالق، وهذا عند من يرى أن المشيئة مؤثرة، فيقول: لو قال لها: أنت طالق، ثم طرأ عليه، أن يقيد بالمشيئة لم ينفعه؛ لأنه لما قال: أنت طالق، وقع الطلاق، فلا يصح بعد ذلك أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من التلاعب ونوع من إسقاط ما وجب، وما وجب لا يمكن إسقاطه؛ لأن الشرع جعل كل من يتلفظ بالطلاق يُلزم به حتى في حالة الهزل، فلو فُتح الباب للناس لتلاعبوا بالطلاق، فيطلق الرجل ثم يقول: إن شاء الله، ولهذا يشترط لمن قال: إن شاء الله، أن يكون قاصداً بنيته تعليق الطلاق على مشيئة الله عز وجل، ومحل هذا التعليق قبل أن يتلفظ بالطلاق، وقال بعض العلماء: يمكنه أن ينوي الاستثناء أثناء الجملة ما لم يتم جملة الطلاق، فلو قال لها: أنت، ثم تذكر أن يستثني، فقال: أنت طالق، إن شاء الله، أجزأه عند هؤلاء، حتى لو قال لها: أنت طا، وقبل أن يتم جملة طالق نوى في قرارة قلبه أن يقيد بمشيئة الله؛ أجزأه، أما إذا استتم الجملة ففيه خلاف عند من يقول بأن المشيئة تؤثر، فمنهم من يقول: إنه لا ينفعه ذلك؛ لأن الطلاق قد مضى، ومنهم من يقول: إنه ينفعه ذلك، وأعجب من هذا أن بعضهم يقول: له أن يستثني ولو بعد مدة طويلة شهر أو أشهر، وهذا قول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض السلف، والذي عليه العمل عند من يقول بالاستثناء بالمشيئة: أن يكون في نيته أن يستثني قبل أن يستتم الجملة أو قبل أن يتكلم بها.

    إذا ثبت هذا فللعلماء في هذه المسألة قولان:

    القول الأول: يقع الطلاق إذا علقه بمشيئة الله عز وجل مطلقاً، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقع عليه الطلاق ويؤاخذ به، وهذا القول قال به: قتادة وسعيد بن المسيب من أئمة التابعين، ويُروى عن عطاء بن أبي رباح وقال به الثوري والأوزاعي وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم.

    القول الثاني: أنه لا يقع طلاقه، وهو قول بعض أئمة السلف من التابعين وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

    وهذا الخلاف إذا كان قوله: إن شاء الله، بقصد التعليق بخلاف ما لو قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر الله عز وجل؛ لأن اسم الله مبارك فيقول: إن شاء الله أفعل، إن شاء الله أقول، ولا يقصد التعليق، ولا ينوي في قلبه التعليق، وكذلك مسبوق اللسان، مثل من عادته أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله، فجرى بها لسانه دون أن يكون قاصداً للتعليق بقلبه، وكذلك إذا قصد التحقيق، فيقول لها: أنت طالق إن شاء الله، تحقيقاً وإثباتاً للأمر، في هذه الصور كلها يقع الطلاق وجهاً واحداً عند العلماء، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، ولم ينو في نفسه التعليق وإنما قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر اسم الله عز وجل، أو قاله تحقيقاً للوقوع كما يقول لك: آتيك إن شاء الله، بقصد التحقيق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: تحقيقاً للحوقه وموته عليه الصلاة والسلام؛ فهذا كله يقع فيه الطلاق؛ لأنه ليس بتعليق ولا في معنى التعليق.

    استدل الذين قالوا بوقوع الطلاق بقولهم: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فعندنا لفظان:

    اللفظ الأول: قوله: أنت طالق، أو زوجتي طالق، أو امرأتي طالق.

    واللفظ الثاني: قوله: إن شاء الله، الذي هو التعليق.

    فوقع لفظ الطلاق المعتبر من الشخص المعتبر على الصفة التي لا يشك في وقوعه فيها، وعلق في الجملة الثانية على أمر لا يمكننا علمه، فلا نعلم هل شاء الله أو لم يشأ؟ قالوا: واليقين أنه مطلق، والتعليق نشك في تأثيره وبناءً على ذلك يُلزم بقوله، لأن الشريعة لم تفتح باب التلاعب في الطلاق أبداً، حتى أن الهازل إذا تلفظ به تؤاخذه، مع أنها قد عفت وسامحت في كثير من الأمور إلا هذا اللفظ، فما دام أنه قال: أنت طالق، والله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كلاهما حكم بأن من طلق فإنه يلزم بطلاقه، فنلزمه بالطلاق، وهذا اللفظ معتبر من الشخص ولا يؤثر فيه التعليق؛ لأنه أُسند إلى ما لا يمكن علمه، فلما أسند إلى ما لا يمكن علمه فمعناه: أن التعليق غير مؤثر؛ لأنه ما ثبت أن الله لا يشاء طلاقه، فنبقى على الأصل ونؤاخذه بلفظه، فيقع عليه الطلاق.

    وبعض أئمة السلف له وجه ثانٍ من الاستدلال على وقوع الطلاق: وهو ما يلي:

    إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فنقول له: قد شاء الله طلاق امرأتك؛ لأنه أذن بالطلاق، فنعتبرها طالقاً، وهذا قول عطاء بن أبي رباح كان إذا سُئل عن هذه المسألة يقول له: (قد شاء الله طلاق امرأتك) لأنه أذن بالطلاق، فلما تلفظت به فإنه شاء تطليقها، وهو محكوم به شرعاً، فتلزم بطلاقها، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن قول الرجل: أنت طالق إن شاء الله، قال: (من قال: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق)، ويروى عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى التعليق -يعني: بالاستثناء بالمشيئة- في الطلاق والعتاق) أي: أنه لا يؤثر في الطلاق ولا يؤثر في العتق، ولذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في قوله: أنت حر إن شاء الله، فلم ير تأثيره في الطلاق، ولم ير تأثيره في العتق، وقولهما رضي الله عنهما: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشبه بالإجماع، ولذلك قالوا: لم يحفظ لهم مخالف، وهو حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، يمضي عليه الطلاق.

    واستدل أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها لا تطلق، بقولهم: اليقين أنها امرأته، وهو علق الطلاق على مشيئة الله، ولم يثبت ما يدل على أن الله قد شاء طلاقها، قالوا: فلو علق الطلاق على مشيئة عبد لتوقفتم في الحكم عليه حتى ننظر هل يشاء أو لا يشاء؟ وهنا قد علق المشيئة على الله سبحانه وتعالى، وليس عندنا دليل يثبت أن الله قد شاء طلاقها، ومن هنا قالوا: لا تطلق عليه.

    والقول بالوقوع من القوة بمكان؛ لأن أصحاب القول الثاني بنوا على القياس على من استثنى في اليمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) أخرجه الترمذي وحسنه، ومن العلماء من يقول: إنه صحيح لغيره، هذا الحديث يدل على أنه لو قال في اليمين: والله لا أفعل إن شاء الله، والله أفعل إن شاء الله، أنه لو لم يفعل أو فعل ما حلف على عدم فعله لم يحنث؛ لأنه علق على المشيئة، قالوا: والطلاق واليمين بابهما واحد، ولكن هذا ضعيف، فالطلاق يخالف اليمين، فإنه إذا قال: والله لا أفعل إن شاء الله، ولم يفعل، علمنا أن الله قد شاء أنه لا يفعل، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا إن شاء الله، فإنه إذا فعله فقد شاء الله عز وجل أن يفعله، ويمكننا العلم بمشيئة الله عز وجل، وبهذا فرق العلماء بينهما، وباب الطلاق من باب الإنشاء، وباب الإنشاء أضيق من أن يعلق، ولذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق، فقد طلق، ثم قوله بعد ذلك: إن شاء الله لا يمكن علمه، والأصل مضي الطلاق على كل من تلفظ به، فنلزمه بالطلاق، فالقول بوقوعه من القوة بمكان.

    وأحب أن أنبه على أنني في المسائل الخلافية إذا قلت: الراجح كذا، والذي يترجح في نظري كذا وكذا، فلا شك عندي على غالب ظني أنه الراجح، لكن إذا قلت: أقواهما وأولاهما بالصواب، فهذا لا يستلزم الترجيح من كل وجه، بل القول الثاني يكون له وجه، وله قوة؛ تمنع من البت بالراجح في هذه المسألة.

    فمن قال من العلماء: إن الاستثناء بالمشيئة مؤثر فإنه لا يوقع الطلاق، ومن قال: إنه غير مؤثر فإنه يوقع الطلاق، وإذا قلنا: الاستثناء بالمشيئة مؤثر، فبعضهم يقول: لا يؤثر إلا إذا تلفظ به وأسمعه للغير، فيقول: زوجتي طالق إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، بصوت يسمعه الغير، ومن أهل العلم من يقول: لو حرّك بها لسانه دون أن يُسمع الغير بل لم يسمع غير نفسه فإنه يجزئه، وهذا القول الثاني هو الأقوى، يعني: لو قلنا بتأثير الاستثناء بالمشيئة فإنه لابد وأن يتلفظ بذلك في الحكم والقضاء، ويجزئه أن يكون اللفظ بقدر يسمعه هو.

    لكن لو قال أمام الناس: زوجتي طالق، وسمعه الناس يقول: زوجتي طالق؛ ثم قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، ثم رفع عند القاضي، فإن القاضي يطلقها عليه قضاء، ولا تطلق عليه ديانة وفتوى، وهذا عند من يرى أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر، لأن الذي سمعه الناس وقامت عليه البينة هو قوله: أنت طالق، فلو فتح الباب لتلاعب الناس، وأصبح كل رجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: استثنيت، وقلت: إن شاء الله، فمن قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، فإنها تطلق عليه قضاءً، ولكنه بينه وبين الله يجزئه، ويؤثر ديانة، ولا يؤثر قضاءً وحكماً.

    تعليق الطلاق على مشيئة الله مع شيء آخر

    قال المصنف رحمه الله: [وإن دخلتِ الدار فأنت طالق إن شاء الله، طلقت إن دخلت] :

    هنا تعليقان: تعليق الطلاق على الدخول، ثم تعليق وقوع الطلاق بالدخول على المشيئة.

    لو علق الطلاق على مشيئة مخلوق؛ كأن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء فلان؛ ففي هذه الحالة ننتظر أمرين: دخولها الدار، ثم نسأل فلاناً الذي علق الطلاق على مشيئته: هل يشاء أو لا يشاء، إن دخلت دار أبي بدون إذني فأنت طالق إن شاء أبي، من باب أن يعاقبها، إن دخلت على أمي مرة ثانية أو آذيتِ أمي مرة ثانية فأنت طالق إن شاءت أمي، فحينئذٍ لا إشكال فننتظر الأذية وننتظر مشيئة الأم، ولا يمكن أن نحكم بوقوع الطلاق بمجرد وقوع الأذية، فنتقيد بالمشيئة، ولم يذكر المصنف هذه المسألة لظهورها، لكن ذكر التعليق بمشيئة الله عز وجل، فلو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، عند من يرى أن (إن شاء الله) مؤثرة، فحينئذٍ لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على مشيئة الله عز وجل، والتعليق بمشيئة الله يسقط الطلاق، وأما على المذهب الذي اختاره المصنف -رحمه الله- وهو مذهب الإمام أحمد في الرواية التي اختارها أكثر من واحد من أصحابه رحمة الله عليهم: أنه إذا علق بالمشيئة فالمشيئة لا تؤثر، وبناءً على ذلك: إن دخلت الدار فإنه يُحكم بطلاقها، وما قال: نكفر كفارة يمين؛ لأن اليمين شيء، والطلاق شيء آخر، حتى ولو قصد منعها، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء -رحمهم الله- فيها وأن جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه إذا علق على الدخول أو الخروج ونحوها من الصفات كما حكاه ابن المنذر وغيره بالإجماع أنه إذا وقع هذا الذي علق الطلاق عليه وقع الطلاق.

    فحينئذٍ نحكم بوقوع الطلاق إن دخلت في الدار، ولا ننتظر العلم بمشيئة الله؛ لأن هذا يتعذر، ويحكم بمضي الطلاق ونفوذه.

    حكم قوله: (أنت طالق لرضا زيد)

    قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق لرضا زيد أو لمشيئته طلقت في الحال] :

    أنت طالق لرضا زيد أو لمشيئة زيد، أنت طالق لرضا أمي، أنت طالق لرضا أبي، أنت طالق لمشيئة أمي، أنت طالق لمشيئة أبي، اللام هنا إذا قصد بها التعليل فيقع الطلاق فوراً، يعني: طلقتك من أجل رضا أمي، أنت طالق لرضا أمي، يعني: من أجل أن أمي راضية بالطلاق، لكن إذا قصد باللام التعليق؛ فننتظر حتى يرضى من علق الطلاق عليه، ففرق بين المسألتين: اللام إذا قصد بها التعليل بأن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: طلقتك لأن أمي راضية بطلاقك، فحينئذٍ يمضي الطلاق، وإن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، فطلاقك معلق وموقوف حتى ترضى أمي، فإنه حينئذٍ نتوقف حتى ترضى أمه، وهكذا لو علقه على رضا غيرها أو مشيئته.

    قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: أردت الشرط قبل حكماً] :

    (قبل حكماً) يعني: يُقبل حكماً، وإذا قبل حكماً قُبل ديانةً، والحكم هو القضاء، ومراده هنا: أنه لو رفع عند القاضي وأراد القاضي أن يحكم عليه فقال: أنت قلت: أنت طالق لرضا أمي، فقال: قصدت بقولي: لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، وأمي لم ترض، فالقاضي يقبل منه قوله، ويحكم بعدم وقوع الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة جاء بلفظ محتمل، والقاعدة: (أن الألفاظ المحتملة لا يلزم المتكلم فيها بشيء حتى يبين مراده) ولا يمكن أن يلزمه بأحدهما ما دام أن اللفظ يحتمل الأمرين.

    1.   

    تعليق الطلاق برؤية الهلال

    قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق إن رأيت الهلال، فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه وإلا طلقت بعد الغروب برؤية غيرها] :

    (أنت طالق إن رأيت الهلال) إذا قصد أن تراه حقيقة فهذه مسألة، وإن قصد دخول الشهر، أي: أنت طالق بدخولك في الشهر، فقوله: إن رأيت الهلال، يعني: إن دخل عليك الشهر الثاني؛ فهذه مسألة ثانية، فإن قصد الرؤية البصرية بأن تراه بنفسها فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا رأت الهلال، ولعل الله أن يجعل لها فرجاً فيأتي الغيم ولا ترى الهلال فلا تطلق!! وذكر عن بعضهم أنه قال لامرأته هذا القول، وكانت تكرهه، فأمسكها وعصب عينها ومنعها من الظهور على سطح الدار خوفاً من وقوع الطلاق؛ لأنه علقه على رؤية الهلال، ولو رأت الهلال لمضى عليها الطلاق، لكنه ندم ورجع عن هذا، وهي كانت تريد أن يجعل الله لها فرجاً ومخرجاً.

    فقوله: (أنت طالق إن رأيت الهلال) إن قصد أن تراه، فلا يقع الطلاق إلا برؤيتها، وإن قصد دخول الشهر الثاني فإنها تطلق برؤيتها وبرؤية غيرها، وكأنه يقول: بنهاية هذا الشهر فإن طلاقي عليك واقع، فحينئذٍ لا يُشترط أن ترى الهلال، وتطلق عليه بمجرد أن يدخل الشهر الذي يلي الشهر الذي هي فيه، حتى ولو رآه غيرها؛ لأن قصده ما ذكرناه، أما لو قصد أن ترى بنفسها فلا يقع إلا برؤيتها البصرية.

    1.   

    الأسئلة

    مدة نفوذ مشيئة المرأة عند تعليق الطلاق بمشيئتها

    السؤال: هل يشترط إذا أسند الطلاق إلى مشيئة المرأة أن تكون مشيئتها مقيدة بذلك الوقت، أي: لو شاءت بعد زمن، هل تطلق؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فذكرنا هذه المسألة، وأنه يقع تراخياً، وأن بعض العلماء يرى أنه لا بد وأن يكون في المجلس، وبعضهم يرى أنه لابد وأن يكون بعد الكلام مباشرة كما هو مذهب الشافعية، لكن الصحيح: أنه إذا أطلق يبقى مطلقاً وإذا قيد يبقى مقيداً، إذا قال لها: إن شئت، يبقى على إطلاقه، وحينئذٍ يستوي أن يكون بعد كلامه مباشرة أو بعده بفاصل.

    استئذان المرأة من زوجها عند خروجها في كل مرة

    السؤال: إذا طلبت الزوجة من زوجها أن يأذن لها إذناً عاماً، فهل الأفضل لها أن تستأذنه في كل خروج تعظيماً لحقه وإشعاراً لمكانه؟

    الجواب: لا شك أن المرأة الصالحة إذا أحسنت التبعُّل لزوجها، وكانت على أتم أحوال الأدب؛ فهذا أكمل لدينها، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) المرأة الصالحة الدينة دائماً تخشى الله عز وجل في حق بعلها، فحينما تجده يكرمها أو يأذن لها في أمر واحتاجت إلى هذا الأمر مرة ثانية مع وجود الإذن المسبق، وعلمت أنه لا يضجر، وإنما أرادت أن تجله وتوقره؛ فإن هذا قربة، ولها المثوبة من الله عز وجل على ما فعلت، وهكذا كل من له حق وفعلت فعلاً معه إجلالاً له؛ لأنك ما فعلت هذا إلا تعظيماً وإكراماً، فالمرأة أُمرت بإكرام زوجها، والله عز وجل يقول: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189] المرأة سكن للرجل، والزوج إذا نظر إلى امرأته وفيّة، كريمة، صالحة، كلما مكنها من أمر تأدبت معه، وكانت على الكمال في الانتفاع بإذنه؛ فإن هذا يزيد من محبتها، ولا شك أن كل زوجة ستعاشر زوجها سيشهد أمام الله بخيرها وشرها.

    وهذا كمال وفضل، ولا تفعل هذا إلا المرأة الصالحة الدينة الكاملة الفاضلة، تستأذن زوجها مع وجود الإذن، لكن بشرط أن لا يضجر الزوج من ذلك، ولا يحدث عنده نوع من الكراهية، والمرأة فطنة تدرك هذه الأمور، ويذكر بعض مشائخنا -رحمة الله- عليهم مثلاً في تأدب طلاب العلم مع مشائخهم، وتأدب الصغار مع الكبار، وتأدب الولد مع والده أنه إذا وثق الوالد في ولده فأسند إليه أمراً، فرجع الولد إلى والده وسأله كيف يفعل؟ وماذا يأتي؟ وماذا يصنع؟ أعظم والده ذلك منه، ودله على كمال عقله وفضله ونبله، مع أنه يمكن أن يقوم بالأمر، لكنه قصد من هذا إشعار والده أنه ما زالت له ولاية عليه، وأنه وإن كان يثق أنه سيقوم بالأمر فإنه لا يزال محتاجاً إليه، هذا هو الشعور النفسي، وهو مرتبة الكمال والفضل، ولا يحرص على معالي الأمور ومكارم الأخلاق على أتم وجوهها إلا مؤمن صالح ومؤمنة صالحة.

    المرأة تحرص غاية حرصها على طلب مرضاة الله عز وجل بمثل هذا، وهذه أمور قد يراها الإنسان يسيرة، ولكنها عند الله كبيرة، الأدب لا يضر صاحبه، بل ينفعه ويكرمه ويجله، وخاصة مسائل تعظيم شعائر الله عز وجل.

    المرأة المؤمنة حينما يأذن لها زوجها، وترجع مرة ثانية وتأخذ منه الإذن مع وجود الإذن العام، أو تعلم أنه يرضى بالشيء، ومع ذلك تأتي وتقول له: هل أفعل أو لا أفعل؟ حينما تفعل هذا أمام أولادها ماذا سيكون له من الأثر؟

    ولذلك كم من امرأة صالحة كانت تحت يد أم تخاف الله عز وجل وتتقيه وتحسن الأدب مع زوجها؛ وصلت إلى مراتب الكمال بما رأت من تصرفات أمها مع أبيها، وهذا هو البيت المسلم الكامل الفاضل.

    والمسائل النفسية مهمة جداً، المرأة لما تستأذن من زوجها له آثار طيبة، حتى كان بعض العقلاء الحكماء من كبار السن يوصي أولاده بقوله: لا تأذن إذناً عاماً، وقل لامرأتك: إذا أرادت أن تستأذن أن تستأذن أمام أولادها وبناتها، حتى يتعلم أهل البيت الاستئذان، والإجلال لذي الحق، وما عرفنا بيوت المسلمين إلا على هذا الأثر، ولا قامت بيوت المسلمين إلا على هذا الإكرام من النساء الصالحات، وهذا والله لا ينقص المرأة أبداً، وأعداء الإسلام يحرصون كل الحرص على قطع مثل هذه المعاني، ويقولون: المرأة حرة في نفسها فلا تستأذن الرجل، وهذا كله اعتداء لحدود الله، وتمرد على الشريعة، وتمرد على مكارم الأخلاق الفاضلة؛ لأنهم يريدون المرأة كالرجل سواء بسواء والله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] وما أخبر الله عنه -وهو أصدق القائلين- فلن يستطيع أحد أن يرده كائناً من كان، فإن الرجل ليس كالأنثى، ولو شاب الغراب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا حكم في أمر لا يمكن لأحد أن يعقب حكمه، يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].

    فالمرأة حينما تأتي أمام أولادها وتقول: هل أخرج؟ يتعلم كل من في البيت أنه لا يخرج إلا بإذن الوالد، ولذلك كم من أطفال صغار نظروا إلى أمهاتهم وهن لا يخرجن إلا بالإذن، فأصبح الابن يتربى على الإذن، فنشأ البيت كله تحت قيادة الأب، ورعاية الأب، مع أم صالحة دينةٍ وفية كريمة ذات خلق وذات فضل، فصلحت الأسرة، وقد كانت بيوت المسلمين على هذا، وقوة الأمة الإسلامية تكون بقوة البيت المسلم وتماسكه واعترافه بقيام الرجل على المرأة.

    وهذا الأدب فيه سمو وعلو للمرأة؛ لأن المرأة بفطرتها وخلقتها لا يمكن أن تصلح إلا بهذا، ولتنظر إلى أي بيت تكون فيه المرأة راعية لنفسها متمردة على بعلها تجده -والعياذ بالله- أشقى البيوت، تجده بيتاً مدمراً، والله لو جلسوا على المتاع الوفير، وأحسنوا فيما هم فيه من نعيم الدنيا؛ لكن صدورهم في ألم وشقاء وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ لأن المرأة إذا رأتها ابنتها لا تستأذن، وتخرج متى شاءت، خراجة ولاجة متى أرادت، متمردة على بعلها؛ تمردت هي على أبيها غداً، وتمرد الابن على أبيه غداً، وأصبح البيت بدون قائد وبدون راعي، والله عز وجل جعل الرجل راعياً في بيته، وجعله قائماً على أهله وولده قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] ولذلك تجد المرأة المسلمة تربي أبناءها وبناتها من الصغر ومنذ نعومة أظفارهم على الأدب، فلا يخرج الولد من عند الباب حتى يستأذن والده، وحق لها أن لا تموت حتى ترى حُسن الأثر لمثل هذه الآداب والأخلاق في أولادها؛ لأن المرأة لو ربت أولادها على هذا الشعور النبيل الفاضل استقام أمر البيت، وتجد الآن -ما شاء الله ولا قوة إلا بالله- رجلاً كاملاً في رجولته، لكن ما إن يدخل بيت أبيه إلا عاد على حاله أيام الصغر، وفاءً وحفظاً للعهد الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، فيدخل البيت وإذا به تحت والده، حتى أن بعضهم يقول: والله إنه كبر والدي، وهو في آخر عمره، وما زالت فيَّ هيبة والدي التي أعرفها في الصغر؛ لأن الأم كانت ممسكة بزمام البيت، وكانت محافظة على فرض هذا الشعور، ولله درها من أم، ولا يمكن أبداً أن تستقيم أمور البيوت ولا الحياة الزوجية إلا بمثل هذا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد - يعني: وهي تذهب إلى الصلاة لا بد أن تستأذن- فلا يمنعها) ويقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فإذا كانت في الطاعات تستأذن، فكيف في أمور الدنيا؟ فلا شك أن خروج المرأة لا بد فيه من الإذن، ولا بد أن تراعي الأكمل والأفضل في هذا.

    والإنسان إذا حرص دائماً على مراتب الكمال، كمّل الله عز وجل أموره في كل شيء، حتى وأنت في إدارتك ووظيفتك مع من هو أكبر منك وأعلى منك، تتأدب، فإذا بالقلوب تجمع على محبتك، والظنون السيئة تبتعد عنك؛ وهذا من حسن ما جعله الله لأهل الإيمان من الود، فإنه لما كملت أخلاقهم وكمل إيمانهم بحسن الخُلق جعل الله لهم المحبة في الخلق، وذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم الود، وهو: خالص الحب، لكن بماذا؟ بفضله سبحانه ثم بالإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وأكملهم خلقاً، والمرأة المؤمنة إذا كمل خلقها كملت محبتها، وعندها تصبح المرأة ناجحة، وتصبح المرأة ممسكة بزمام الأمور، بعد كبر الأبناء والبنات؛ ترى حسن العاقبة والأحوال.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بهذه الأخلاق، وأن يهدي شباب المسلمين وشاباتهم إلى التمسك بها والعمل بها، والله تعالى أعلم.

    كيفية الإيجاب والقبول لمن تولى طرفي عقد الزواج بالوكالة

    السؤال: إذا تولى رجل طرفي عقد الزواج -كأن يكون ولياً للمرأة ووكيلاً للزوج- فكيف يكون الإيجاب والقبول؟

    الجواب: هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، بعض أهل العلم يرى أنه يمكن أن يكون شخص واحد كافياً في طرفي العقد، وحينئذٍ لا يشترط الإيجاب والقبول؛ لأن العقد يقوم على الصيغة قولاً وفعلاً، فإذا انتفى وتعذر أن تكون الصيغة بالقول بأن يخاطب نفسه ويقول: بعت واشتريت، انتقلت إلى الفعل؛ لأنه بمجرد أن يأخذ الشيء المبيع ويقبضه، فقد انتقل إلى ملكه، مثلاً: يأخذ العشرة آلاف ريال ليشتري بها سيارة من الأيتام، فيضعها في رصيد الأيتام ثم يقبض السيارة فحينئذٍ قد تم العقد، فيكون الفعل منزلاً منزلة القول، فإذا تعذر القول انتقل إلى الفعل، كما هو الحال في المعاطاة ونحوها، والله تعالى أعلم.

    حكم جمع المسافر للصلاة بدون قصر

    السؤال: هل يجوز للمسافر أن يجمع بدون قصر؟

    الجواب: المسافر لا شك أن الله عز وجل رخص له قصر الصلاة، فإذا أتم الصلاة أمكنه أن يجمع، مثلاً: جاء إلى مكة مسافراً، وطاف بالبيت، وأقيمت صلاة الظهر وهو يريد أن يسافر إلى الطائف، فلما صلى الظهر مع الإمام أربع ركعات؛ أقام صلاة العصر وصلاها ركعتين، فإنه أتم الصلاة الأولى، أو العكس، يتم الصلاة الثانية، مثل أن يقيم لصلاة الظهر ويصليها قصراً، وبعد سلامه يصلي العصر مع الإمام، فقد أتم الثانية، أو يدخل مع جماعة فاتتهم صلاة الظهر فأتموا، ثم تأتي مجموعة ثانية تصلي الظهر تامة فيصلي معهم بنية العصر، فصليت مع الجماعة الأولى الظهر ثم أردت أن تصلي العصر فجاءت جماعة ثانية فصليت معهم لتكسب أجر الجماعة، هذا كله لا بأس به، فتكون جمعت بين الصلاتين ولم تقصر لا الأولى ولا الثانية، أو جمعت بين الصلاتين فقصرت الأولى ولم تقصر الثانية أو العكس كله جائز، لكن لو يقصد ذلك وهو مسافر، فيتم الظهر ويتم العصر فهذا خلاف السنة، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت في السفر وزيدت في الحضر).

    فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وعليه التزام السنة، والحرص على صلاة العصر والظهر والعشاء مقصورة، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يوجد العذر، مثل أن يصلي وراء مقيم متم، والله تعالى أعلم.

    تقديم الحضور مبكراً للصف الأول على صلاة السنة في البيت

    السؤال: من كان يؤدي ركعتي الفجر في بيته ولا يأتي المسجد إلا على الإقامة حرصاً منه على السنة، ولكن يفوته الصف الأول في الغالب، فهل في ذلك حرج؟

    الجواب: لا، الأفضل أن يبكر إلى المسجد، ويصلي تحية المسجد، وينال فضيلة الصف الأول؛ لأن القاعدة عند العلماء أن فضائل الفرائض مقدمة على فضائل النوافل، فصلاة النافلة في البيت هذا بالنسبة لفضيلة النافلة (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا الوجه الأول للتفضيل.

    الوجه الثاني: أن الفضيلة المنفصلة عن ذات الصلاة والفضيلة المتصلة بذات الصلاة إذا تعارضتا قُدمت الفضيلة المتصلة بذات الصلاة، والصف الأول فيه فضيلة المكان للصلاة، فتقدم على الفضيلة المنفصلة عن الصلاة، ولذلك قالوا: لو كنت عند ركوبك للسيارة تدرك الصف الأول، وتدرك تكبيرة الإحرام أو تدرك التأمين، ولو مشيت على قدميك لا تدرك ذلك، فاركب السيارة وهذا أفضل؛ لأنك تدرك فضيلة الصف الأول وفضيلة التأمين وهما فضيلتان متصلتان بالصلاة، بخلاف فضيلة المشي للصلاة فإنها فضيلة منفصلة عن الصلاة، وإذا تعارض المتصل والمنفصل قدم المتصل على المنفصل، فهذه كلها قواعد للتفضيل أشار إليها العلماء في كتب القواعد، فأنت تُقدم في هذه الحالة ما تَقَدَّم، لكن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا أنك تريد الصف الأول وفضيلة الصف الأول لصليتها في بيتك حتى يكتب الله لك أجر السنة، والله تعالى أعلم.

    حكم تحجيج الزوج لزوجته

    السؤال: إذا كان الزوج مستطيعاً فهل يلزمه أن يحجج زوجته؟

    الجواب: ليس على الزوج أن يحجج زوجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك، فإن حج الزوجة ليس من الأمور المتعلقة بالزوجية، ولكن لا شك أنه إذا احتسب الأجر عند الله عز وجل وحججها فإن الله يأجره، وينبغي للأزواج أن يحرصوا على ذلك، وأن يعينوا أزواجهم على الحج وعلى ذكر الله وطاعة الله عز وجل لما في ذلك من زيادة الخير والبر لهم، وإذا صلحت المرأة أصلح الله بصلاحها أمور البيت وصلحت لبعلها، وكان أول من يرى أثر صلاحها زوجها وأولادها، فعلى الزوج أن لا يُقصر في مثل هذا، وعليه أن يحتسب الثواب عند الله وليحمد الله جل جلاله أن رزقه امرأة تريد منه أن يعينها على طاعة ربها، فإذا فعل ذلك شكر الله عمله وبارك ماله وأحسن له العاقبة، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين: (عام مخصوص) و(عام مضاف إلى الخصوص)

    السؤال: هل هناك فرق بين عام مخصوص وعام مضاف إلى الخصوص؟

    الجواب: عام مخصوص أي: دخله مخصص، ودخله التخصيص، أي: جاء نص خاص يخص هذا العموم، تقول: هذا عام وهذا خاص، سواءً اختص بصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أو اختص بشخص آخر توفرت فيه الصفات، مثلاً يقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] لما قال الله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وقال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ دل ذلك على أن الأصل في الشهادة العدد؛ فلا يقبل الشاهد الواحد، ومع ذلك قبل عليه الصلاة والسلام شهادة خزيمة وحده، فعندنا عام وعندنا خاص، فهذا العام الذي ورد من الشرع خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فجعل شهادته كشهادة رجلين، فهذا لا نعتبره لكل الأمة، فلا تكفي شهادة واحد في الأحكام، ولا يقبل القاضي شهادة الواحد وحده، وإنما يقضي بشهادة رجل مع امرأتين، أو شهادة رجل مع رجل، أو شهادة رجل مع اليمين في أمور الأموال، وما يتعلق بها كما سيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء، فنقول: قضية خزيمة خاصة، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، ولكنه عام دخله التخصيص على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فهذا تخصيص يختص بعينه.

    وهناك تخصيص عمومي في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، مثلاً: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتحية المسجد، وورد عنه أنه نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر، والجمهور يرون أن الأمر بتحية المسجد عام، والنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر خاص تعلق بالوقت والزمان، فيقولون: يصلي تحية المسجد في سائر الأوقات إلا في الأوقات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عام دخله التخصيص، فيقولون: هذا العموم يُفعل في كل وقت إلا في هذه الحالة الخاصة التي استثناها الشرع.

    أما بالنسبة لعام أُريد به الخصوص، فيأتي اللفظ عاماً في كتاب الله عز وجل لكن المراد به الخصوص، فيختلف عن الأول، الأول عام شامل لجميع الأمة، فلما أمر بتحية المسجد فهو أمر لجميع الأمة بصلاة تحية المسجد، لكن قد يأتي أمر لا يريد به الله عز وجل العموم، وإنما يريد به طائفة معينة مثل: قوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32] أَنكِحُوا كلنا مأمور أن ينكح، لكن هل أنا مأمور بهذا الأمر؟ إنما يؤمر به من عنده هذا الشيء، فحينئذٍ نقول له: أنكح الأيامى الذين عندك والصالحين من عبادك وإمائك، فعنده رقيق وانطبق عليه هذا الأمر، فهذا عام أُريد به خاص، وأُريد به طائفة مخصوصة، ولا يراد به العموم لكل الأمة؛ لأنه لا يمكن أن يكون لكل أحد عبدٌ أو أمة حتى ينكحها أو ينكحه.

    فيكون النص عاماً ويراد به الخاص، ويكون خاصاً ويراد به العموم، ويأتي عام فيدخله التخصيص، ويأتي عام مراد به طائفة معينة خاصة، والنصوص يعمل بها على حسب ما دلت عليه الأدلة، ما لم تقم القرينة أو الدليل على التخصيص أو إرادة العموم، والله تعالى أعلم.

    حكم طلب الزوجة الطلاق لأدنى مشكلة

    السؤال: بمجرد حصول أدنى مشكلة بين الزوجين تطلب المرأة فوراً الطلاق، فهل يجوز لها ذلك؟

    الجواب: لا يجوز للمرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير ما بأس، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك كما في الصحيح، وورد فيه الوعيد الشديد وهو أن (الجنة على المرأة حرام إذا سألت الطلاق من غير ما بأس) -نسأل الله السلامة والعافية- فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل.

    وأما بالنسبة للمشاكل الزوجية فالواجب على المرأة أن تصبر، وأن تحتسب عند الله عز وجل الثواب، وكل إنسان إذا ضاع حقه وأهينت كرامته، وأذل في عزه، واعتدي على ماله؛ فليحتسب أمره عند الله عز وجل، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، والمرأة لا يرد حقها الطلاق، ولا يرد حقها هدمها لبيتها وأذيتها لأطفالها، فلتعلم المرأة أنها إذا سألت زوجها الطلاق أنها تهدم بيتاً من بيوت المسلمين، ولتعلم أنها إذا سألت الطلاق أنها تدمر أسرة من أسر المسلمين، والله سائلها عن ضياع أبنائها وفلذات كبدها، وعليها أن تكون قوية تستعصم بربها، وكم من صعاب ذللت وهموم تبددت ومشاكل وغموم أزيلت بالثقة بالله جل جلاله، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، خاصة للمرأة لأنها ضعيفة، وضعفها موجب لرحمة الله عز وجل لها، ولعظيم شأن المرأة، ولكثرة المظالم التي تقع عليها؛ أخبر الله عز وجل أنه يسمع شكواها من فوق سبع سماوات، وهذا ليس خاصاً بالمرأة، بل هو سبحانه يسمع كل شكوى، ويجيب ويكشف كل بلوى، فهو سبحانه وتعالى منتهى الشكوى، وكاشف الضر والبلوى، جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم).

    وعلى المرأة أن تعلم أنها مهما فعلت مع زوجها فأجرها على الله، وكل إنسان يضع هذا الاعتقاد وهذا الشعور في قلبه يزول عنه عناء الدنيا ونكدها، إياك أن تفعل أي حسنة وتنتظر من أحد ثواباً أو جزاءً عليها غير الله جل جلاله، وطِّن نفسك على ذلك، ليس لك إلا ربك، ولا أرحم بك من الله جل جلاله، عوّد نفسك على ذلك فتستريح من هموم الدنيا كلها، كل هذا ثقة بالله وحده، ولذلك ما من أحد يُعلق قلبه بغير الله إلا عذبه الله بذلك التعلق.

    ومن هنا قد تجد المرأة تكافح وتكابد وهمها أن ترضي زوجها دون أن يكون ف يبالها رضا الله عز وجل، فيأتي اليوم الذي يوليها ظهره فيكفر معروفها وينسى فضلها فتصدم بذلك، ولكنها إذا وطّنت قلبها بالاستعانة بالله وأصبحت في جميع حركاتها وسكناتها تلتمس أول ما تلتمس مرضاة الله، وإذا أحسنت لبعلها تفكر أول شيء هل هذا الإحسان الذي تريد أن تقوم به والسرور الذي تدخله عليه هل هو يرضي الله أو لا يرضيه؟ فإن كان يرضي الله فعلته، وإن كان لا يرضي الله تركته، ولا تبالي بأحد كائناً من كان، ووالله ما وطّنت نفسها على ذلك إلا جعل الله ضيق الدنيا عليها سعة، وأسعدها في نفسها وولدها وبعلها، ولو طلقها زوجها أو فارقها أبدلها الله خيراً منه.

    ولا يمكن أن تستقيم حياة المرأة بل حياة كل عبد إلا بهذا الأساس، ولذلك أي إنسان يقوم بشيء يجامل به أهل الدنيا أو ينتظر به من أهل الدنيا شيئاً إلا عذبه الله به، وبكى طويلاً وبكى مريراً وتقرح قلبه وشقيت نفسه؛ فمن يريد غير الله عز وجل فقد خاب وخسر، فإن كان يطلب الغنى أذله الله بالفقر، وإن كان يطلب الكرامة ألبسه الله المهانة، فلا كرامة إلا بالذلة بين يدي الله، ولا عزة إلا بالذلة بين يدي الله عز وجل، ولا استغناء إلا بالله الذي لا تنفد خزائنه، فعلى المرأة دائماً أن توطن نفسها على ذلك، وليس عند كل مشكلة تصيح في وجه زوجها: طلقني طلقني، هذا ليس من العِشرة بالمعروف، وليس من شيمة المرأة المؤمنة.

    الطلاق لا يذكر في بيت مؤمنة، أبداً، بل تصبر وإن رأت خيراً حمدته، وقالت: الفضل كله لله، قيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما ابتليت ورأت الشدة والكرب وضاقت عليها الأرض بما رحبت في أعز شيء تملكه المرأة بعد دينها وهو عرضها، قذفت وأوذيت رضي الله عنها وأرضاها، فلما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام ببراءتها، وبشرها عليه الصلاة والسلام بذلك، وبدت أسارير وجهه تبرق عليه الصلاة والسلام من الفرح بنصر الله لوليته المؤمنة؛ وبعد أن انتهت الآيات قيل لها: اشكري رسول الله، قالت: لا والله، بل أشكر الله، أول شيء وجهت وجهها لله سبحانه الذي كان معها نعم المولى ونعم النصير، فرسول الأمة جلس بين يديها وقال: (يا عائشة -كما في الصحيح- إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه) فتنة عظيمة، وشهر عظيم مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الأسى والبلاء مما يجده عليه الصلاة والسلام في عرضه؛ لأنه أمر ليس بالهين، ومع ذلك ثبتت أم المؤمنين ذلك الثبات العظيم، الذي دل على أنها موقنة بربها، والشيء من معدنه لا يستغرب، فأبوها صديق الأمة رضي الله عنه وأرضاه، الذي باع نفسه وماله وأهله كله لمرضاة الله جل جلاله، وهذا كله لا يكون إلا بكمال التوحيد وكمال الإخلاص وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] من يعتصم من الرجال أو من الإناث أو من الأقوياء أو من الضعفاء ومَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] سلوة الدنيا وسرورها وبهجتها وحبورها كله مطلوب بالثقة بالله جل جلاله، فالمرأة دائماً تعود نفسها على هذا، فإذا جاءت المشاكل وواجهت زوجها بما يكره هنا تزداد المشكلة، فالمرأة تحسن التبعل لزوجها وتقوم على خدمته، وبعض الأزواج -أصلحهم الله- قد يكون فظاً، وقد يكون غافلاً عن بيته، وعلى كل مؤمن أن يتقي الله ويفكر في زوجته وهي بين أربعة جدران تغسل ثوبه، وتكنس بيته، وترعى صغيره، وتقوم على شئونهم؛ حتى يستطيع أن يعاملها بما تستحقه، وأن يكافئ معروفها، فيكون براً وفياً لها، فإذا كان الرجل جاهلاً بهذه الأمور فصاح في وجهها واستفزها وآذاها، فخرجت منها هذه الكلمات، فلا ينبغي لها هذا؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها تعامل الله سبحانه وتعالى ولا تعامل زوجاً فقط، فإذا فعلت ذلك أنعم الله عيشها وأقر عينها وأسعدها في نفسها وبيتها، وجعل لها حسن العاقبة.

    وعلى الرجل المؤمن دائماً أن يقوي صلته بالله جل جلاله، فإذا فعل ذلك فقد نعم عيشه وطابت حياته ولما ينتظره عند الله عز وجل أعظم وأجل؛ لأن القلوب إذا عاملت ربها أعظم جزاءها كما قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان به، وصدق الالتجاء إليه، وصدق المحبة والرغبة فيما عنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016588