إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الوصايا [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن الوصية بأكثر من الثلث أو تخصيص بعض الورثة بشيء من المال لا يجوز إلا بموافقة الورثة. ومنها: أنه يكره للفقير أن يوصي بشيء من ماله وعنده ورثة محتاجون، ومنها من مات ولا وارث له، فهل يوصي بماله كله أم أنه يقتصر على الثلث؟ ومسألة تزاحم الوصايا، وغيرها من المسائل التي فصل فيها الشيخ هنا.

    1.   

    حكم الوصية بما زاد على الثلث

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذاً].

    بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بيّنا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتُلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث.

    وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظُم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلاً على آخرته، فعندها لو مكّن الله الإنسان من جميع ماله لتصدّق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يَسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصَّلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلِّب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فُتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئاً، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين.

    قال رحمه الله: (ولا تجوز بأكثر من الثلث)

    أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواءً كان من النقود أو من غيرها، فمثلاً: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأموراً أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أَوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تُعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة،ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تُقوَّم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟

    فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليوناً، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيّته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يُعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلاً- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفاً، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذٍ تَصِح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟

    وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يُضايق بعضاً في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه.

    فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضاً في هذا، فيقول مثلاً: إن الوالدة قد وصّت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديوناً، وقد يكون معسراً، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يُصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها.

    وقد تترك الوالدة -مثلاً- حلياً، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفاً، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلّفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاماً، وما الذي ينفذ اختياراً، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور.

    توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة

    وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً(

    قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلاً: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذٍ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتفقوا.

    الحالة الثانية: أن يختلفوا.

    وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذٍ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملاً، في المائة الأولى استحقاقاً للميت، والمائة الثانية إما تنفيذاً وإما ابتداءً.

    وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدّق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أُوصي أن نصف مالي يُتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقاً لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئاً لحظ نفسه، وأيضاً الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعاً وتفضلاً، والوارث يراه لحظ نفسه واجباً وإلزاماً؛ فلو كان -مثلاً- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديماً لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي.

    فمثلاً: لو أنه ترك ابناً وبنتاً، فوصّى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أُجيز ما أمضاه والـدي، وقال الابن: لا أُجيز، فحينئذٍ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث.

    فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذٍ نمضي ألفاً ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين.

    وعلى هذا فإنه يُنظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث.

    1.   

    توقف إمضاء الوصية بما زاد عن الثلث على قبول الورثة

    وقوله: (ولا لوارث بشيء).

    فلا يصح أن يوصي لوارثه بشيء، فلو خص بعض الورثة وقال: أوصي بأن يُعطى فلان من أولادي الثلث أو الربع، أو يُعطى مائة ألف من التركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا ومنعه، حيث قال: (لا وصية لوارث)، وجاء في حديث ابن عباس -وقد سبقت الإشارة إليه- إلا أن العلماء اختلفوا في قوله: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، فهذا يدل على أن الوارث لا يُوصى له.

    والعبرة بالوارث هو ما يكون بعد الموت، فإذا كان غير وارث حين الوصية، ثم أصبح وارثاً بعد الموت، أو كان وارثاً حال الوصية ثم أصبح غير وارث عند موته، فهذا كل سيأتي بيانه إن شاء الله.

    أما من حيث الأصل فلا يجوز للميت أن يُوصي لمن يرثه، سواءً كان من الذكور أو من الإناث، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه من التركة، فينبغي أن لا تترك القسمة؛ لأنها هي العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

    فإذا جاء يوصي وقال: بناتي، أو أبنائي أريد أن أزيدهم، فكأنه يستدرك على الشرع، ولذلك قُطع من هذا ومُنع.

    كما أن الوصية للوارث توغر صدور الورثة بعضهم على بعض، وتوغر صدورهم أيضاً على مورثهم، سواءً كان من الرجال أو من الإناث، كما حرّم الله عز وجل تخصيص بعض الورثة بالعطيَّة دون بعضهم كما تقدم معنا.

    توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة

    وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً)

    قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين:

    الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه.

    الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقاً ويحتاج إلى المال أكثر، فخصّه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك.

    الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث

    وقوله: (تنفيذاً) إذا وصى لوارثٍ واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصّى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضَوه يُعتبر ابتداءً أو تنفيذاً؟

    بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذاً؛ فحينئذٍ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمانٍ، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلاً بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أُجِّرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذاً لما وصَّى به الميت؛ فحينئذٍ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وُصِّي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبُت بمجرد أن يجيزوا، فتثبُت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصَّى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتّبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وُصِّي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وُصِّي له.

    وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذٍ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وُصِّي له.

    وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطاً للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلاً لا تنفذ ولا تُعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورِّث الذي وصَّى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحَّت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلاً إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه.

    1.   

    كراهة وصية الفقير الذي وارثه محتاج

    قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج]

    تقدَّم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبيّنا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمرٌ عرفي، فيُرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يُكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج.

    إذاً: لابد من أمرين:

    أولاً: أن يكون المال الذي يتركه قليلاً، بحيث يُوصَف معه بالفقر والحاجة.

    ثانياً: أن يكون وارثه محتاجاً إلى هذا المال.

    فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروهاً أم لا؟

    أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتِها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عُتِق كل عضوٍ منه بما أَعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصاً لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتِها على الرق ووهبتِها لأخوالك فوصلتِ بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك. فجعل العِتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب.

    وبناءً عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذٍ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يُضيِّق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيراً له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجاً؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوعٌ من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك)، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس.

    1.   

    حكم الوصية بجميع المال لمن لا وارث له

    قال رحمه الله: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له].

    يرد هنا سؤال: لو أن شخصاً ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبراً بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟

    في المسألة قولان للعلماء:

    قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنيّة وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصَّى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصَّى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله.

    وأيضاً: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر.

    وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثُّلث، والزائد على الثلث يُرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا:

    أولاً: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين.

    ثانياً: أن بيت مال المسلمين هو الذي يُكفنه لو لم يترك مالاً، فلو أنه لم يترك مالاً فمن أين سيُكفَّن؟ ومن أين سيُقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين رداً.

    ويكون هذا أيضاً فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد : (يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟)، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث.

    وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذٍ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون رداً إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالاً للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء..) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة.

    1.   

    مسألة تزاحم الوصايا

    قال رحمه الله: [وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط]

    بعد أن بيّن لنا ما الذي يُشرع من جهة المقدار، وهو أن يكون في حدود الثلث؛ بيّن حكم ما زاد على الثلث، وحكم ما نقص عن الثلث أنه ماض، فورد سؤال: لو أن شخصاً وصَّى وازدحمت الأشياء التي وصَّى بها، وأصبح الثلث لا يسعها، فوصّى بمبلغ معين لشخص، ثم بمبلغ ثانٍ لشخص آخر من قرابته غير الوارثين، فأصبح ما وصّى به زائداً على الثلث، فازدحم الشخصان.. وللتوضيح أكثر: شخصٌ توفي وترك تسعة آلاف ريال -مثلاً- فمعنى ذلك: أن ثلث التركة هو ثلاثة آلاف ريال، وفي وصيته قال: أَعطوا محمداً -الذي هو المحتاج- ألفين، وأعطوا صالحاً -المحتاج الثاني- ألفين، فأصبح مجموع ما يُعطاه الشخصان يعادل أربعة آلاف ريال، والثلث ثلاثة آلاف ريال، فكيف نقسم الثلاثة آلاف ريال على أربعة آلاف ريال؟

    بيّن المصنف رحمه الله أنها تكون بالقسط، وهذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل:

    ازدحام الوصايا مع كونها متساوية

    أولاً: إذا ازدحمت الوصايا، فلا تخلو إما أن تكون مستوية أو أن تكون مختلفة، وازدحام الوصايا المستوية مثل أن تكون في حقوق واجبة، أو في أمور مستحقة استوت من جهة الاستحقاق.

    فمثلاً: لو أن رجلاً وصَّى أن يُحج عنه، والحج كان واجباً عليه فماطل وتأخر، فوصَّى أن يُخرج من ماله ما يحج به عنه، وأيضاً وصَّى بكفارات، وهذه الكفارات عِدْلُها -مثلاً- ألف ريال، والحج عنه يكون بألف ريال، والثلث ألف ريال، فحينئذٍ لا يمكن للألف ريال التي هي ثلث ماله أن تستوعب الوصية بالحقين، والحق الأول واجب، والحق الثاني واجب كذلك، فازدحم حقان واجبان لله عز وجل.

    ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة

    الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يُوصِي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلاً: أخرجوا من الثلث ما يُحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يُحج عنه وتُخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة.

    وهذه كلها تُعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه يُنظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره.

    وبعض العلماء يقول: لا يُنظر إلى مثل هذا، وإنما تُقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديوناً فالحج يسقط، فحينئذٍ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حياً وأراد أن يسأل لقلنا له: أدِّ الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقُدِّمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى.

    أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي.

    فمثلاً: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصّى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصّى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقُها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد.

    هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمراً ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟

    في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستوٍ، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتُعطي كل واحدٍ منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب.

    وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصّى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمداً ألفين وزيداً ألفاً وعمراً ألفاً، فحينئذٍ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمرٍ الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيدٍ ألف ولعمرٍ ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث.

    ومسألة أن تجزِّئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العَوْل في الفرائض، ومسألة العَوْل في الفرائض حُكِي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما تُوفِّيت وقد تركت أختين وزوجاً، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تُعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذٍ ماذا يُفعل؟

    لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويُقدِّم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحداً أبداً، فيبدأ أولاً بأهل العلم فيُشاورهم، فإن وجد عندهم حلاً أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم.

    فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها).

    ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويُجزأ، ويكون النقص داخلاً على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلاً من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذٍ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض.

    وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلاً عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلاً -أيضاً- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعيّن وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذٍ نُدخل النقص على كل واحدٍ بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرّع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام.

    1.   

    حكم من كان وارثاً أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله

    قال رحمه الله: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث؛ صحّت، والعكس بالعكس].

    قوله: (إن أوصى لوارث) نستطيع أن نمثل لهذه المسألة بمثال يكون أصلاً لغيره، فمثلاً: الأخ لا يرث مع وجود الابن الذكر؛ لأن كلاً منهما يرث بالعصبة، فعصبة الأخوة بعد البنوة.

    فإذا أردت أن تجعله في حال الوصية وارثاً، وتجعله عند الموت غير وارث، فتجعل الرجل بدون ابن، ثم يوصي لأخٍ، فحينئذٍ الأخ وارث، فإذا وُلِد له الولد صار غير وارث عند الموت، فإذا وَصَّى لأخٍ على أنه وارث، مع أنه كان وارثاً أثناء الوصية، ثم وُلِد له ابن ذكر، وتُوفِّي، فقد أصبح الوارث -وهو الأخ- غير وارث بعد الموت، فتصح الوصية؛ لأن العبرة في الوصية بما بعد الموت، ولذلك يستطيع أن يُلغيها ويستطيع أن يرجع فيها، ولا عبرة بالقبول قبل الموت، وكل شيء موقوف فيها على ما بعد الموت، فنحن لا ننظر إلى ما كان عليه هذا الشخص، وهو أن الأخ قبل الموت وأثناء كتابة الوصية أو التلفظ بها كان وارثاً، لكن المهم هو ما كان عند الموت، فلما توفي الرجل إذا به قد أصبح غير وارث، ويكون هذا عند حال الشك، فتكون زوجته مثلاً حاملاً فيوصِي، فإذا كانت أنثى فالأخ له الباقي؛ لأنه عصبة، وإذا كان ذكراً، فحينئذٍ ليس للأخ من شيء.

    وفي بعض الأحيان الأفضل للأخ أن يكون ذكراً، وبعض الأحيان يكون العكس، فمثلاً: قد يكون وارثاً ويوصي له، مثل الأخ، فقد يكون غير وارث ثم يصبح وارثاً، فقال: أَعطوا أخي فلاناً عشرة آلاف ريال من ثلثي وصية، وعنده ولد ذكر، فالأخ غير وارث مع وجود الولد الذكر، فأخذ الموصي بالسنة فوصَّى لقريب لا يرث، فشاء الله أن تكون منية الابن الذكر قبل أبيه، فتوفي بحادث وجاء الخبر لوالده فمات، فحينئذٍ الأخ الذي لم يكن وارثاً أصبح وارثاً؛ لأنه لما توفي الابن في هذه الحالة تقدمت درجة الأخوة، وأصبح الأخ في هذه الحالة من الوارثين، لكنه عند الوصية كان غير وارث، فالعبرة بما بعد الموت، فحينئذٍ تكون وصية لوارث، وعلى هذا فيكون الحكم واحداً؛ لأنه من حيث الأصل هو الذي وصِّي له، وهو الذي يرث المال، بمعنى: هو الذي يوصي له، وهو الذي يكون مسئولاً عما زاد إذا لم يترك غيره.

    وقوله: (والعكس بالعكس).

    أي: إن كان غير وارث فأصبح وارثاً، أو وارثاً ثم أصبح غير وارث، فالحكم بما بعد الموت، ولا تأثير لما تقدم على ذلك.

    1.   

    الإيجاب والقبول من أركان الوصية

    قال رحمه الله: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله].

    الوصية لها أركان وهي: الموصي، والموصى إليه: وهو الوصي، والموصى به: وهو الشيء أو محل الوصية، والصيغة. فهذه أربعة أركان للوصية: فالشخص الذي يوصي، والشخص الذي يوصى إليه، والمحل الذي يوصي به (الشيء الذي يوصي به) والصيغة.

    والصيغة: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب بالنسبة للميت الذي كان حياً حينما وصّى، ويشترط فيه شروط سيأتي إن شاء الله بيانها، والذي يُوصَى إليه أيضاً يُشترط فيه شروط لابد من توفرها، فلا بد من وجود الصيغة من هذا الشخص الذي وصّى.

    إذاً: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصي، والقبول من الوصي أو الموصَى إليه، وإذا وقع الإيجاب فإنه ينقسم إلى قسمين:

    الأول: أن يكون الإيجاب باللفظ.

    الثاني: أن يكون بغير اللفظ.

    فالإيجاب يكون صريحاً إذا كان باللفظ، مثل قوله: وصَّيت بعشرة آلاف لفلان، فهذا لفظ صريح، ويعتبر إيجاباً واضحاً في الدلالة ليس فيه أي احتمال.

    والألفاظ الضمنية التي تدل على الوصية ضمناً ما جرى به العرف من الألفاظ المعروفة، كقوله: أعطوا فلاناً من ثلثي كذا وكذا، فنعتبرها وصية، رغم أنه ما قال: وصية مني، بل قال: أعطوا فلاناً، لكن (أَعطوا) تدل ضمناً على أنه يريد الوصية، فهذا هو اللفظ الصريح واللفظ غير الصريح.

    وهناك أمور أخرى تدل على الوصية من الأفعال، مثل الكتابة، فلو كتب وصيته وأشهد عليها عدلين صحت الوصية، لو كان أخرس لا يتكلم لكن عنده إشارة مفهومة ومعروفة؛ فالإشارة في هذا تنزل منزلة العبارة، أو كان يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام، فقيل له: هل تريد أن توصي؟ فأشار برأسه أن نعم، فقيل له: السنة ألا تزيد على الثلث، فهل تريد أن توصي بالثلث كله؟ فهز رأسه بنعم، أو قال: لا، فقيل له: الخمس مثلاً، فأشار بنعم، فهذه إشارات ليس فيها لفظ فتُعتبر من الصيغة الدالة على الوصية، فالإيجاب يكون من الوصي، والقبول يكون من الشخص الذي وصَّى إليه.

    ومن حيث الأصل عند العلماء رحمهم الله لا بد من وجود الصيغة؛ لأنها ركن الوصية، وإذا وقعت الصيغة يكون الإيجاب فيها والقبول.

    والعقود تنقسم إلى قسمين:

    هناك عقود يُشترط فيها أن يقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، بحيث لو دخل بين الإيجاب والقبول أي فاصل مؤثِّر فإنه يسقط الإيجاب ولا يُعتد بذلك القبول، مثل: البيع، والإجارة، والصرف، والسلَم، والنكاح.

    فلو قال شخص لشخص: زوّجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف، فسكت ولم يُجب، ولم يفعل أي فعل دالٍ على القبول، ثم ذهب إلى الغرفة ورجع، وبعد أن افترقا قال: قبلت، فهذا الفاصل يقطع الإيجاب الأول، ولا يصح العقد بهذا، فلابد من إيجاب جديد؛ لأن القبول وقع متراخياً مع وجود فاصل مؤثِّر، والفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال.

    ولو قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال له: كيف حالك؟ عساك طيب، فتكلم بكلام أجنبي، فهذا الكلام الأجنبي يُخرج الإيجاب؛ لأنه لو كان قابلاً لقال مباشرة: قبلت، فلما قال: كيف حالك؟ كيف فلان؟ كيف الوالد؟ كيف مريضك؟ فمعناه: أنه خرج بالكلية، وأعرض عن الإيجاب، فسقط الإيجاب ولم يُعتبر.

    إذاً: العقود تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: عقود لابد فيها من وجود القبول مترتباً على الإيجاب بدون فاصل.

    القسم الثاني: عقود يُغتفر فيها الفاصل.

    ومن العقود التي يُغتفر فيها الفاصل: عقد الوصية، فإذا قال: أعطوا فلاناً عشرة آلاف ريال -من ثلث ماله- فهذه وصية، وفلان مسافر، وتوفِي الرجل، ولم يأت إلا بعد عشر سنوات، فقيل له: يا فلان! إن فلاناً قد وصّى لك بعشرة آلاف من ثلثه، فقال: قبلت، فهنا صحَّت الوصية ونفذت، مع أن القبول كان بعد فاصل طويل جداً، فلو طال الزمان فإنه يصح القبول.

    إذاً: القبول في الوصية لا يُشترط فيه أن يكون تابعاً للإيجاب، وهو ما يسمى بالقبول المنجَّـز، فالوصية تخرج من القبول المنجَّـز، لكن النكاح والبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها من العقود لابد أن يكون القبول فيها منجَّزاً.

    وقوله: (ويعتبر القبول بعد الموت) القبول إما أن يقع في حياة الموصي، وإما أن يقع بعد موته، فإذا وقع في حياته فلا عبرة به؛ لأن الوصية لا تكون لازمة على الميت ويجب تنفيذها إلا بعد وفاته، أما قبل وفاته فإنه يستطيع أن يرجع عنها أو أن يبدل أو يغير فيها، وعلى هذا فإن العبرة بموت الموصِي، فالقبول لا بد أن يكون بعد الوفاة، فإذا قال: قبلت، وكان ذلك بعد وفاته؛ صحت الوصية إذا كانت على الوجه المعتبر.

    حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها

    وقوله: (وإن طال(، أي: وإن طال الزمان الفاصل بين الإيجاب والقبول.

    لكن هنا مسألة وهي: لو أن شخصاً وصَّى لشخصٍ فقال: أعطوا فلاناً عشرة آلاف ريال من ثلث مالي، ثم توفي الرجل الذي وصَّى، فجئنا إلى الموصى له وقلنا له: إن فلاناً وصى لك بعشرة آلاف من الثلث، فلم يقل: نعم، أو قبلت، أو رضيت، ولم يقل: لا أقبل، فلم يقبل ولم ينف؛ بل سكت، أما إذا قبل فإننا نعطيه وتنفذ الوصية بالشروط التي ذكرناها، وإذا لم يقبل فحينئذٍ نرد المال للورثة ويقسم كإرث؛ لأننا لا نستطيع أن نجبر أحداً على أخذ المال، لكن لو سكت، فلم نعرف قبوله من رفضه، فهل يُجبر على أن يقبل أم لا يُجبر؟

    قال بعض العلماء: إذا امتنع حكمنا بأنه لا يريد، ونرد المال إلى الورثة، فيكون امتناعه عن الرد وعن الإجابة موجباً للحكم عليه، كما يقول الشافعية والحنابلة رحمهم الله، ويعتبرونه موجباً لصرف المال للورثة، فيُرد المال؛ لأنه لو كان قابلاً لقال: قبلت، فيقولون: نعتبر دلالة الحال كدلالة المقال؛ لأنه لو كان راضياً لقال: قبلت، فكونه لم يقبل ولم ينص على القبول؛ فإن في هذه دلالة على أنه لا يريد، وحنيئذٍ يُرد المال إلى الورثة ويُقسم عليهم.

    وقوله: (لا قبله(، أي: لا قبل الموت.

    ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت

    قال رحمه الله: [ويثبت الملك به عقب الموت]

    قوله: (ويثبت المُلك -والمِلك والمَلك- به) أي: بالقبول، بشرط أن يكون عقب الموت، ويكون المِلك بعد موت الموصِي، فتثبت ملكية العقار وملكية النقد والأثمان على ما هو معلوم في الوصايا.

    وإذا ثبتت الملكية بعد القبول فتتفرع المسألة التي ذكرناها، وهي: أن المدة التي ذكرناها فاصلة، فبعض العلماء يقول: المال لا يستحق نماءه من وُصِّي له، فلو مرض مثلاً فقال: أعطوا فلاناً ناقتي الفلانية وصية من الثلث، فحددها وقال: الناقة الفلانية تُعطى من ثلث مالي لفلان، والناقة في مرض موت الموصي كانت حاملاً ثم وضعت، ثم بعد وضعها مباشرة توفي الرجل، وقبل من وُصِّي له، فإذا جئنا ونظرنا إلى وقت الوصية، فلو قلنا: يثبت الملك بمجرد ما وصَّى، فما دام أنه قبَِل الوصية فلنرجع إلى الزمان الذي تلفظ به الموصي، فيكون بذلك ولد الناقة تابعاً للناقة، ومن ثم سيملكه، فقال المصنف: (يثبت الملك به)، أي: بالقبول بعد الموت لا قبله، وحينئذٍ لا يستحق هذا النماء المنفصل، وإنما يكون للورثة، فيكون ولد الناقة ملكاً للورثة؛ لأنه مستحق على مال مورثهم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم

    السؤال: لو لم يكن للمورث إلا ابناً من الرضاعة، فهل يرث أم للمورِّث أن يوصي له بماله؟

    الجواب: الابن من الرضاعة ليس له ميراث، فليس هو من الوارثين بإجماع العلماء رحمهم الله، فالرضاعة لا تُوجب الميراث، وبناءً على ذلك يجوز أن يُوصِي له، وعند العلماء رحمهم الله أن الشخص إذا أراد أن يُوصِي لغير الوارث فيبدأ بالأقرباء الذين لا يرثون، فأخوه من النسب مقدَّم على أخيه من الرضاعة، فلا يذهب ويوصي بثلث ماله لإخوانه من الرضاعة وإخوانه من النسب موجودون؛ لأن الإخوة من النسب إذا لم يكونوا وارثين؛ فإن الأجر فيهم أعظم والصلة بهم أبر؛ فيبدأ بهم.

    ثم بعد النسب تأتي الرضاعة، وبعدها المصاهرة والرحم، فيوصي لقرابته من جهة الرضاعة، كأمه من الرضاعة، وأخته من الرضاعة، وبنته من الرضاعة، وابنه من الرضاعة، فيوصي لهم ويراعي قربهم، وهذا لا شك أن الله عز وجل يثيبه عليه، ثم المصاهرة، والمصاهرة مثل أن يوصي لأم زوجته، ووالد زوجته، وذي الرحم منه، فيصل رحمه، فهذا مما يكون فيه الأجر والمثوبة.

    قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)، فهذا نوع من الرحم، فقرابة الزوجة ذو رحمٍ منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) يقصد: مصر؛ لأن لهم رحِماً من جهة إسماعيل؛ لأن أمه هاجر ، ولهم رحم من جهة مارية ؛ لأن ابنها إبراهيم ؛ فهذا يدل على أن القرابة من جهة الزوجة لهم حق، وإذا أراد الإنسان أن يصلهم فإنه يراعي مرتبهم في الصلة، ولا شك أن الله يأجره على ذلك، والله تعالى أعلم.

    مسألة رفض الموصى له للوصية

    السؤال: أشكل عليّ في مسألة رفض الموصَى له أخذ الوصية أنها ترجع إلى الورثة، ولم نصرفها في وجوه البر، خصوصاً أن نية المورث في بذل الخير وأنه أراد الصدقة؟

    الجواب: أشققت عن قلبه؟! بعض الأحيان قد يُوصِي لشخصٍ محاباة، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص من باب المكافأة له على معروفٍ بينه وبينه، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص لدفع ضرره عن أولاده وذرِّيته من بعده.

    وأياً ما كان السبب، فغير مسلَّم أن نقول: إن هذا مُتعيّن أن قصده البر والصلة، فليس كل الناس يوصي لأشخاص معينين وقصده البر والصلة، وعلى هذا فالحكم الشرعي أن من أَوصى لمُعيّن وفات المعين؛ فاتت الوصية بفواته، على تفصيل عند العلماء في مسألة ما يشترط له القبض وما لا يشترط له القبض؛ لكن الكلام إذا لم يقع القبول وتوفي ولم يمكن إنفاذ الوصية، ففي هذه الحالة يرجع المال إلى الورثة، فهم أحق به وأولى، والله تعالى أعلم.

    يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين

    السؤال: أدركت الإمام بعد فراغه من قراءة الفاتحة وقبيل التأمين، فهل إذا أمن أؤمِّن معه، أم أن التأمين يكون لمن أدرك الفاتحة؟

    الجواب: يُشرع التأمين لمن أدرك موضع التأمين، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتأمين لكل من حضر موضع التأمين، وعليه فإنه يُلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك هذا الموضع، والله تعالى أعلم.

    حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث

    السؤال: إذا غلب على ظن الوالد أن أبناءه سيصرفون الإرث فيما لا يُرضي الله، فهل له أن يوصي بأكثر من الثلث؟

    الجواب: باب الوصية باب عظيم، وفيه أمور مهمة جداً، والناس مأمورون بشرائع هي سنن الهدى، قد دلَّت عليها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عليهم إلا أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، ويتركوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا أمر من يوصِي ألا يتجاوز هذا الحد، وعليه أن يلتزم بذلك وألا يجتهد، وما يدريه فلعل هؤلاء الذين ينظر إليهم أنهم فاسدون أن يكونوا من خيار عباد الله الصالحين بعد موته، فكم من أناس كانوا على ضلال ثم اهتدوا بعد موت والدهم أو بعد موت والدتهم! وكم من أناس فُجِعوا بموت الأقرباء فأصبحوا من الأخيار والسعداء: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] قالوا: ومن هذا أن تأتي المصيبة لعبدٍ فيقلب الله حاله من حال الشقاء إلى حال السعداء، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يتدارك بها عبده.

    وقد ترى الرجل كأسوأ ما أنت راءٍ في عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فما أن يموت والده حتى يتفطر قلبه ويكون من أرحم أولاده به بعد موته، وقد يكون الولد من أبرّ الناس بوالده في حال حياته، ثم يفتح الله عليه الدنيا بعد موت أبيه، أو يفتح الله عليه من الفتن فينشغل بأولاده وزوجته، حتى إنه لربما مر عليه اليوم والأسبوع وربما الشهر لا يذكر والده برحمة أو دعوة إلا قليلاً، مع أنه كان من أبر الناس بوالده في حياته.

    فالأمور لا يعملها إلا الله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو المطلع على السرائر وعلى الضمائر، وهو الذي قدر كل شيء وفصله: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12]، فمسألة أن الإنسان يرى أولاده عصاةً اليوم؛ فيريد أن يوصي بالمال كله حتى لا يعصوا الله تعالى به، فهذه أمور منوطة بالغيب، ولذلك فما عليه إلا أن يلتزم الأصل الشرعي، وهو الالتزام بالثلث، وما زاد على الثلث فلا يجاوزه؛ التزاماً بالشرع، وتسليماً لحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

    فضل قيام الليل

    السؤال: في قوله تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] هل يُشترط قضاء وقت الليل بالصلاة للدخول في هذا الوصف؟ ولو عكف طالب العلم معظم الليل على طلب العلم فهل يدخل في هذا الوصف؟

    الجواب: هذه الآية الكريمة اشتملت على خصلة جليلة عظيمة جعلها الله للأنبياء والأخيار والصالحين، فما من عبدٍ يفتح الله عليه باب قيام الليل إلا فَتح له أبواب الرحمات، فهو شأن الصالحين، ودأب أولياء الله المتقين، كما ذكر الله في كتابه المبين، حتى إن الله سبحانه وتعالى لما أَراد أن يبيِّن عظيم منزلة قيام الليل، وأنه مفتاح كل خير للعبد، أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في صبيحة الوحي بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، وهذا يدل على أن قيام الليل فيه أمور عظيمة تكون سبباً في سعادة العبد في دنياه وآخرته.

    لقد جعل الله عز وجل في قيام الليل سداد اللسان، وإذا استقام اللسان استقامت الجوارح والأركان، قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].

    وجعل الله قيام الليل سبباً في هبات الآخرة، مع أنه سبب في صلاح دين العبد في دنياه، فإنه سبب في هبات الله ونعمه وخيره للعبد في الآخرة: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فجعل الله المقام المحمود مقروناً بقيام الليل، وهذا يدل على عظيم ما في قيام الليل، حتى إن بعض العلماء يقول: عجبت من الليل كيف جعل الله عز وجل فيه هذه الخيرات العظيمة! حتى إن فرضية الصلاة والإلزام بها وتقديرها وبيانها الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام جعل ذلك كله في الليل، فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وجعل الآيات العظيمة لنبيه عليه الصلاة والسلام في ذلك الليل، فأُرِي عليه الصلاة والسلام من الآيات ما امتلأ قلبه بها إيماناً وتوحيداً لله جل جلاله، فالله أعلم حينما أصبح رسول الهدى بذلك الإيمان واليقين بعد أن أُرِي آيات الله العظيمة، وكل ذلك جعله الله عز وجل في الليل.

    ومن ذلك قال العلماء: إن قيام الليل من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال بعد الطاعات والمكتوبات قال: (وركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الآخرة)، فهذا يدل على فضل قيام الليل.

    لكن ما ورد في آية الذاريات من قوله: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] ثناءٌ من الله عز وجل بذكر خاص بعد عام، والخاص هو الاستغفار؛ لأن قيام الليل يقوم على الذكر عموماً، ومن أشرفه وأفضله: كثرة تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتمجيد والتوحيد لله عز وجل بالثناء عليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك: الاستغفار، فجعل الله عز وجل الاستغفار سبباً في الرحمة: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، فهذا الوقت استحب العلماء رحمهم الله فيه لمن أصابه أن يُكثر فيه من الاستغفار، وأن يسأل الله عز وجل فيه العفو والمغفرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختاره فينزِل الله فيه جل وعلا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، ويبسط لعباده الخير والرحمة، ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله وعظمته، فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) عَلِم سبحانه شدة حاجة عباده وفاقتهم إليه؛ فجعل لهم هذا الوقت المبارك للرحمة والعفو والمغفرة، والله أعلم في تلك الساعة كم من رقاب عُتقت! وكم من ذنوب غُفرت! وكم من درجات رُفعت! وكم من فضائل ونوائل ورحمات أبوابها فُتِّحت!

    فقيام الليل باب من أبواب الرحمة، وعلى العبد أن يحرص على السحر والاستغفار فيه، ولذلك سهام الليل في الأسحار، فما من عبد يدعو دعوته في السحر ويلازم دعاء السحر إلا شرح الله صدره.

    وقد كان العلماء رحمهم الله والأئمة يوصون أهل الذنوب والذين كانوا في بداية هدايتهم وصلاحهم بلزوم الأسحار بكثرة الدعاء والاستغفار فيها، وهكذا من تغير حاله فضاقت عليه الدنيا، وأصابه الكرب والهم والغم، فليلزم الأسحار؛ لأنها ساعات رحمة؛ لثبوت السنة والخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتعرض لنفحات الله ورحماته التي يرحم بها عباده.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من ذلك أوفر حظ ونصيب.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756347760