إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [4] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

    1.   

    وجوب العمل بشروط الواقف

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك]

    قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف.

    فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها.

    ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة.

    ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا : ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً.

    وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته.

    فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة.

    ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل.

    قوله: [في جمع وتقديم]

    الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان.. زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني.

    لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها.

    وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق.

    قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة.

    قوله: [وضد ذلك]

    أي: ضد الجمع التفريق.

    قوله: [واعتبار وصف]

    أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء.. على المساكين.. على طلبة العلم.. على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف.

    قوله: [وعدمه]

    أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى.

    قوله: [وترتيب]

    أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده.

    فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله.

    فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته.

    قوله: [ونظرٍ]

    أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته.

    فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف.

    قوله: [وغير ذلك]

    أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت).

    وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.

    1.   

    الوقف المطلق

    من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف.

    وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر.

    بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل.

    ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف.

    وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد.. وهكذا.

    كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد

    إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية.

    فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي.

    ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله.

    بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه.

    قوله: [وضدهما].

    استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث.

    وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله.

    وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].

    فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء.

    فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش.

    لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس.

    فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

    ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية.

    والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.

    من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق

    قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه]

    من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد.

    لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه.

    بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه.

    فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم.

    فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال.

    لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    مسائل الوقف على الأولاد

    قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه]

    فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية)

    فيه مسائل:

    المسألة الأولى: إذا قال على ولدي.

    المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان.

    المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.

    اشتراك الذكر والأنثى

    فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

    فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد.

    فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول.

    والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة.

    وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

    دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق

    لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل:

    المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟

    هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه.

    وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول.

    وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم.

    والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات.

    هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه.

    وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

    اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف

    المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد السؤال: متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟

    فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟

    والجواب: أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق.

    فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول.

    فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة.

    إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة.

    إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه.

    فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم.

    وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

    اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث

    يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث.

    فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له.

    بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

    ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض.

    كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن.

    إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة.

    وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم).

    فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].

    ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.

    لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول

    قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين].

    بقي سؤال: لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلاً لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف.

    إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرّك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه.

    [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية]

    أي: ما لم يُفضِّل فلو قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، فقد فضل.

    قال: [ثم ولد بنيه دون بناته]

    هذا البطن الثاني.

    إذاً لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم يُنجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوِّي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.

    حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم

    [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه]

    يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي.

    لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول.

    مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية.

    ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم.

    فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول.

    إذاً: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.

    اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بنيّ أو بني فلان)

    قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم]

    فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم)

    بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شَرَع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بَنِيّ، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذٍ يَختَص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن.

    إذاً فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله.

    لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العُرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله.

    قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مُطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرّك، وهذا مُقتضٍ لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام.

    فالبنوة تُطلق على القبيلة ويُراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بَنِيّ، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معاً، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويُتجوّز فيه فيعم الذكر والأنثى.

    دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة

    قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن].

    وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.

    دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم

    قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجد أبيه]

    أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقفٌ على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث.

    يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأُبدلت الهمزة هاءً.

    وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول.

    وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يَخُص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده]

    أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد)، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلّل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع.

    فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73]، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73].

    فأهل الإنسان تطلق على الزوجة فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، تُطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتُطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة.

    وقوله: (وأولاد أبيه): وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومَن علا.

    قال: [وجد أبيه]

    أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته.

    قال رحمه الله: [وإن وُجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها]

    يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقفٌ على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل.

    وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأُنثى إذا طُلِّقت أو مات عنها زوجها خُشي عليها.

    فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طُلِّقت أو أصبحت أرملة خوفاً عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يَخُص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولاً، فيجوز أن يعطيه ما لا يُعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضّل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلاً جعل للذكور حظاً، وجعل للإناث حظاً، فأوقف على الذكور داراً، وأوقف على الإناث مزرعةً وعدل بينهم، فهذا له وجهه.

    الشاهد أنه إذا قيّد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحاً، فقال: للمطلقة.. أو للأرملة إذا رُمِّلت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيداً بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زُوِّجت ثم بعد ذلك طلِّقت، ويُراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.

    1.   

    الوقف على جماعة يمكن حصرهم

    قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي]

    وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه.

    فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف.

    فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله.

    لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد.. أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده.

    فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم.

    ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع.. فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله:

    [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم]

    أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

    1.   

    الأسئلة

    تعيين حصة لناظر الوقف

    السؤال: لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثـل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا.

    لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة.

    وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟

    مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر.

    فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم.

    لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر ، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف.

    ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف.

    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل.

    لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

    السؤال: ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟

    الجواب: لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف.

    فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

    الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

    السؤال: أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث.

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية.

    الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة.

    وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به.

    ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله.

    فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت.

    البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.

    استخلاف المسبوق في الصلاة

    السؤال: إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟

    الجواب: هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).

    أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟

    إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم.

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام.

    هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً.

    تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به.

    والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها.

    وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل.. الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد.

    يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم.

    ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع..، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به.

    فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها.

    فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته.

    وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون.

    وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755975045