إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب إحياء الموات [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشريعة الإسلامية تسد كل باب يدعو إلى البغضاء والتنازع، وتنظم وترتب الأمور التي قد يحدث فيها تخاصم، فمن ذلك أنه من سبق الى مكان مباحٍ فهو أولى به، وإن سبق إليه اثنان ولم يمكن اشتراكهما فيه أقرع بينهما، وقد تكلم العلماء في أحكام السبق إلى مكان في المسجد، وحجز مكان فيه، وحكم من قام من مجلسه ثم رجع إليه، وهذا كله يدل على كمال الشريعة وحكمتها.

    1.   

    السبق معتبر في الإقطاع

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله:

    [ ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال ].

    هذه المسألة؛ ما فائدتها وتعلقها؟!

    المصنف رحمه الله رتب المسائل:

    فتكلم عن مسائل الإحياء وحقيقة الإحياء، ثم تكلم عن الإقطاع؛ لأن الإقطاع تكون الملكية فيه بعد الإحياء، فأثبت للمقطع الحق في السبق، ثم بين أنه لا يملك، وبين أن الإقطاع إما أن يكون للأرض من أجل أن تحيا، وإما أن يكون لأرض من أجل الجلوس، فبعد أن بين الإقطاع الأخف -وهو الذي للجلوس- شرع في مسألة المجالس، فمن يستحق المجلس ويقدم على غيره؟ ومتى يحكم للشخص بأنه أحق بهذا المكان الذي جلس فيه، بحيث لا يجوز لغيره أن يزاحمه فيه؟

    نتكلم عن هذه المسألة: فأولاً: نذكر الأحقية بالسبق، وثانياً: هل هذه الأحقية تثبت؟

    هناك أماكن إذا جلس فيها الإنسان وسبق إليها يبقى على الدوام، مثل أماكن البيع، مثلاً: شخص من عادته أن يبسط بسطته في أول الطريق، ما أقطعه أحد، لكن يأتي ويضع فراشه في هذا المكان، ويبسط بسطته، ويأتي البائع الثاني بجواره والثالث والرابع، فما دام قماشه موجوداً -كما ذكر المصنف- فهو أحق، فهو عادة يبسط بالنهار، فإذا غابت الشمس حمل متاعه وذهب وجاء في اليوم الثاني، فمن أهل العلم من يقول: كل مكان سبق إليه إنسان، وجرى العرف بجلوسه فيه لبيع أو غرض غير محرم شرعاً، فهو أحق به، وقد يكون هذا الغرض مما يتناوب، فالأماكن التي تكون ليلية ويأتي الشخص فيها ليلاً ويبسط قماشه فيها كل ليلة، ويداوم على ذلك المكان، فهو أحق به من غيره، فلو جاء في الليلة الثانية وقد سبقه جاره وجلس في مكانه فإنه لا يستحقه، فما دام أنهما في صنعة واحدة وفي عمل واحد وسبق هذا فيحكم له بالسبق ما داما في هذا المكان، ثم يفصل فيه على الأحوال، فإذا كانوا يبيعون في الليل فهو أحق به ليلاً، وإذا كانوا يبيعون في النهار فهو أحق به نهاراً، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله فيرون أن مداومته على المكان في هذه المدة المؤقتة تثبت أحقيته فيه.

    وهذا بالنسبة للأمور الدنيوية مثل: البسطات المعروفة في زماننا للبيع، وقد تكون بعربية يوقفها في هذا المكان، أو بسيارته يوقفها في هذا المكان، فالمسألة واحدة، ففي القديم كان القماش، وفي زماننا السيارة، والعربية، وأي شيء يكون به عرض السلع على حسب اختلاف المبيعات واختلاف الأعراف فيما تحمل به تلك المبيعات.

    السبق إلى المسجد

    هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلاً المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكاناً واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به.

    وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعياً وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجوراً عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعاً للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم.

    فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكاناً بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثماً من وجهين:

    الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل.

    الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكاناً في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد)، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته)، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحداً في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصباً للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكاناً وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها!

    فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام.

    اعتبار التخصيص شرعاً

    ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟

    فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟

    هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفاً من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماماً؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعاً للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين.

    القرعة بين سابقين إلى مباح

    قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا].

    (إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق،

    وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلاً- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضاً: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معاً، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به.

    1.   

    نظام الري من الماء المباح

    قال رحمه الله: [ ولمن في أعلى الماء المباح السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه ].

    هذه المسألة متعلقة بالباب من جهة الاستحقاق، كما أن إحياء الموات فيه استحقاق كما ذكرنا في مسائل الإقطاع ومسائل الأمكنة ونحوها، فشرع المصنف في مسألة استحقاق في السقي بالماء، وهذه المسألة تحدث فيها الخصومات والنزاعات، حتى وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حينما كان الصحابة رضوان الله عليهم يستقون من شراج الحرة، إذا كان هناك نهر، أو سيل، أو عين جارية، وهذه يُستقى منها بالترتيب، والحكم فيها أن الأقرب يقدم على الأبعد، فيستقي من هو أقرب إلى العين حتى يصيب القدر الذي حدده الشرع، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يرسل الماء للذي بعده، ثم الذي بعده يستقي حتى يصيب القوام الذي حده الشرع، ثم يرسل الماء لمن بعده.. وهكذا.

    والأصل في هذه القضية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه مع الأنصاري عندما اختصما في بعض مياه شراج الحرة.

    وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في شراج الحرة -وفي رواية: في مهزور ومذينيب من شراج الحرة- أن يسقي الأعلى فالأعلى)، ومهزور ومذينيب كانا واديين يسيلان من شرقي المدينة إلى وسطها، ومن ثم إلى بطحان ومن بطحان إلى مجمع الأسياف، والحرة المراد بها الحرة التي تسمى اليوم: الحرة الشرقية، وكانت تسمى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: بحرة واقم، فالحرة الشرقية كان يقال لها: حرة واقم، والحرة الغربية كان يقال لها: حرة الوبرة، والحرة الشرقية كانت أغنى ماءً من الغربية، والغربية كانت فيها خيوف وعيون أيضاً، ومهزور ومذينيب واديان يأتيان من أعلى الحرة الشرقية ويفيضان إلى جهة مسجد بلال الموجود في زماننا، فيلتقيان مع قربان وادي رانوناء الذي ينزل من وسط قباء من أمام المسجد ووادي بطحان، وتلتقي هذه الأربعة السيول قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تفيض إلى السيح الذي سمي سيحاً لسوح الماء فيه وكثرته، فهذان الواديان كانا في أعلى الحرة، وكان الصحابة يحدث بينهم بعض الخصومة بسبب إرسال الماء وعدمه، فقضى عليه الصلاة والسلام في مهزور ومذينيب من شراج الحرة أن يسقي الأعلى ثم يرسل الماء إلى من دونه، فجعل الحق للأقرب إلى العين أو الأقرب إلى النهر، فيسقي مزرعته.

    وما هو قدر السقيا؟

    جاء أنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير وقد اختصما على الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير ! ثم أرسل الماء، فقال له الأنصاري: أن كان ابن عمتك! -فزل بذلك لسانه رضي الله عنه وأرضاه وقال هذه الكلمة- فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: اسق يا زبير ! حتى يبلغ الماء الجدار، ثم أرسل الماء) قال بعض الرواة: إنهم حزروا الجدار إلى قريب من الكعبين، وهذا الحزر -كما يقول بعض العلماء- محل نظر؛ لأن الجدار لا يصل إلى الكعبين، وهذا الحديث يحتمل أن يكون الأصل أنه يسقي إلى حد الكعبين كما أمره في أول الأمر، وكما جاء في بعض الروايات المنفصلة، فلما اعترض الأنصاري عزره النبي صلى الله عليه وسلم للاعتراض على الحكم، ولذلك يعتبر هذا من الجفاء، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من أساء الأدب مع القاضي فيجب على القاضي أن يعزره، ولا يسامحه القاضي؛ لأن الحق ليس للقاضي وإنما للشرع، قال الناظم:

    ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب

    (ومن جفا القاضي) أي: قال له: ظلمتني، أو قال: ما حكمت بالعدل، أو: ما هذا بعدل، ولا بإنصاف. فيعزره حتى ولو كان القاضي طابت نفسه أن يسامح فيسامح الحق لنفسه، لكن مجلس القضاء مجلس شرع، فالتهكم به والاستخفاف به يعتبر استهزاء بالشرع واستخفافاً به، ومن هنا قال بعض العلماء: الاستهزاء بالعلماء استهزاء بالشرع، ولذلك قال الله فيمن استهزأ بالقرَّاء: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، وهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أجبن عند اللقاء، وأكثر عند الطمع، وأقل عند الفزع، فأنزل الله هذه الآية؛ لأنهم استهزءوا بحملة كتاب الله عز وجل.

    فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزره لقوله: أن كان ابن عمتك؛ لأن الزبير ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها وأرضاها، فغضب عليه الصلاة والسلام وعزره بهذا.

    فبناء على ذلك: لا يسقي إلى الجدر؛ لأن الجدار فوق الكعبين بكثير، فالجدار قد يكون نصف قامة الإنسان، فالسقيا إلى هذا القدر كثير، لكن بعض العلماء رحمة الله عليه يقول: إن الزرع لا يمكن سقيه إلى الجدار الحقيقي فحزرهم بالكعبين مبني على أن الجدر تختلف، ففي بعض الأحيان تكون جدر -خاصة في الأماكن التي فيها العيون- صغيرة؛ حتى يتمكن الثاني من السقي بعد الأول، فيكون فيها منافذ للماء، فيكون قدر الكعبين مصمتاً ومغلقاً، وما زاد عن الكعبين فيه جدار، ولكن الماء يتسرب منه مثل الحجارة المرصوصة الموجودة إلى الآن في رياض الجبال ونحوها مثل الخيوف، فيخرج الماء من بين الحجارة، فهذا قد يكون فيه تحديد الكعبين وارداً.

    فدل هذا الحديث على أن الحق للأعلى، ثم يرسل إلى من بعده ولو قل الماء، فيسقي حتى يتم قوامه ثم بعد ذلك يرسل إلى من بعده.

    حكم الاستقاء من غير استحقاق

    بناء على هذا يرد السؤال: إذا كنا نقول: إن السقي من العيون يكون للأعلى فالأعلى، فتتفرع المسألة الموجودة في زماننا، فقد تكون هناك عيون، ويأتي شخص، ويسحب الماء من العين، بالوايت مثلاً، فتضعف العين ولا ترسل إلى من بعده، مع أنه ليس من أهل تلك الأرض، ولا يعتبر له استحقاق فيها، فإذا جاء ودخل فقد تخطى ترتيب الشرع؛ لأن ترتيب الشرع أن يسقي الأعلى فالأعلى، ولو فتح الباب للخارج عن هذه القسمة فمعنى ذلك أنه قد لا يصل الماء إلى الآخرين، خاصة باستخدام (المواطير) التي تسحب الماء بكثرة، فقد يأتي -مثلاً- عشرون أو ثلاثون (وايتاً) فما يبقى شيء من ماء العين، فلابد من بيان حكم الشرع في هذا.

    فيقال: إن المزارع والخيوف التي حول العين أحق ممن بعد؛ بدليل: أن الشرع جعل الثاني لا يسقي إلا بعد الأول، وجعل القرب من العين موجب للاستحقاق، فبناء عليه: لا يجوز دخول هذا الساقي من خارج إلا بتفصيل:

    إن كان هذا الساقي يريد الماء للشرب لإنقاذ الأرواح، ولم يجد مكاناً يستقي منه إلا هذا، فهذه حالات ضرورة تحتاج إلى المقارنة بين المزارع وسقيهم بالآلات وسقيهم بالعين، فإن كان عندهم بدل عن هذه العين وأمكنهم السقي بالنواضح وبالآلات ونحوها صرفوا إليها، وجاز لهذا أن يأخذ الماء منها؛ لأنه سينقذ الأرواح والأنفس، لكن هل يجوز له أن يتاجر بالماء، أو لا يجوز إلا من أجل إنقاذ الأنفس، هذا يحتاج إلى نظر.

    وقد تجد بعض أصحاب البيوت يسقي من العين مع وجود أنابيب توصل الماء إلى البيوت لكنها أكثر كلفة، فيملأ خزاناته من العين حتى يكون أربح له، فحينئذ يمنع؛ لأن الشرع جعل الاستحقاق للأقرب، وهو ليس بأقرب ولا في حكم الأقرب، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إذا كانت العين مرسلة، وكان أهل الزرع يستقون منها نهاراً، فيجوز لهذا المستقي أن يصرف إليه الماء ليلاً، فيأتي ويملأ (الوايت) في الليل ولا يملؤه نهاراً؛ لأن النهار تعلقت به مصلحة أصحاب الزرع، فيتوسط بين الحقين، لكن في بعض الأحيان يستقي أهل المزارع ليلاً ونهاراً، ولذلك لابد من التفصيل في هذا، وظاهر الحديث: أن الأقرب إلى العين أحق من الأبعد، فلا يجوز للأبعد أن يدخل على عين خاصة للبساتين تستقي منها، فيضر بمصالح المزارعين على الوجه الذي ذكرنا.

    1.   

    اتخاذ الإمام الحِمى

    قال رحمه الله: [ وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم ].

    وللإمام -على الاختصاص- حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم، والمراد بالحمى: أن يمنع الناس من الرعي في موضع مخصوص، ويجعل هذا الموضع لدواب المسلمين ولدواب الصدقة ولإبل الجهاد، فيتركها في ذلك المكان ترعى، فله الحق في ذلك، وهكذا في زماننا لو حمى الإمام أماكن يحتاج إليها لحماية الناس، أو مرتفعات من أجل حمايتهم، فتكون أماكن محمية؛ فلا بأس بذلك، وغير هذا لا حمى، فليس هناك حمى إلا ما حمى الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله)، فلا يجوز للإمام أن يحمي مكاناً إلا إذا تعلقت به مصلحة المسلمين في ذلك الحمى، فيمنعهم من الرعي فيه من أجل دواب المسلمين، ولا يمنعهم لذات المكان، أما أن يمنعهم لذات المكان حتى يصير جميلاً أو محلاً للنزهة أو نحو ذلك فهذا ليس له أصل، فالأصل أنه لا يحمى إلا ما فيه مصلحة للمسلمين، ولم يحدث عليهم ضرراً، فلا يجوز أن يحمي مكاناً فيه كسب لبعض الناس، مثل أماكن برية أو بحرية يصطادون فيها. فيضر بأرزاقهم، فهذا رزق جعله الله لهم، والسابق مالك له، فما يحمي الإمام شيئاً إلا إذا وجدت المصلحة للمسلمين.

    اعتبار المصلحة الضرورية

    والمصالح تنقسم إلى ثلاثة مراتب: مصلحة ضرورية، ومصلحة حاجية، ومصلحة تحسينية تجميلية كمالية.

    فيُحمى من أجل المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حياة الناس، فإذا كانت حياة الناس موقوفة على حمى هذا المكان وجب أن يحمى، كما إذا خيف الضرر عليهم، فتحمى تكون أماكن تحصن من أجل أن يدفع منها العدو حتى لا يدخل منها ولا تكون ثغوراً، فيقال -مثلاً-: هذه الأماكن لا تزرعوا فيها، ويوضع فيها شيء لحراسة ثغور المسلمين، فهذه الحراسة التي جعلت في أرض محمية من أجل الحفاظ على أرواح المسلمين؛ هي مصلحة ضرورية، فيحمى مثل هذا المكان.

    اعتبار المصلحة الحاجية

    والمصلحة الحاجية التي يكون فيها رفق بمصالحهم، ولا تصل إلى درجة الخوف على النفس، إنما يتضررون لو فاتت هذه المصالح، فمثلاً: الأماكن التي تلقى فيها النفايات، تبعد عن المدينة أو عن القرية ثلاثين كيلو متراً، فيقال للناس: هذا المكان محمي من أجل رمي الفضلات أو النفايات فيه، فلو لم نحم هذا المكان لا يموت الناس، ليست مصلحة ضرورية، لكنهم يتضررون؛ لأن الروائح الكريهة والنفايات لابد لها من مكان ترمى فيه، فلو عدم هذا المكان لأضر بالناس، ووقعوا في حرج وضيق، فصارت في مرتبة الحاجيات، فالضروريات هي الخوف على الأنفس أو الأطراف، والحاجيات ليس فيها خوف على الأنفس ولا على الأطراف، وإنما هي دون ذلك، بحيث يحصل الحرج والضيق إذا لم يمكنوا منها.

    اعتبار المصلحة التكميلية

    والمصلحة التكميلية الجمالية مثل الأشجار الجميلة، فهذه جمالية تحسينية، فالحمى يكون للضرورية والحاجية، وأما غير الضروري والحاجي فلا حمى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله)، فيختص الحكم بوجود الضرورة ووجود الحاجة، فإذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة فحينئذ يجوز الحمى، ويكون الحمى لا لذاته وإنما من أجل مصلحة المسلمين العامة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم التصرف في الأموال المؤتمن عليها

    السؤال: ما الحكم فيمن يتصرف في الأموال المؤتمن عليها، علماً بأنه لو جاء صاحب المال يطلبه أعطاه مباشرة ورد عليه ماله؟ فهل في ذلك حرج،علماً بأن أصحاب الأموال يعلمون من المودَع ذلك؟

    الجواب: لا يجوز للمودَع أن يتصرف في الوديعة إلا إذا أذن له ربها، فإن تصرف فهو آثم، ويلزمه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه، أما لو أخبرهم وأذنوا له ولم يمنعوه، فإن الوديعة حينئذ تكون قرضاً له، إذا أخذها يكون حكمها حكم القرض، فالأصل الشرعي يقتضي أن الودائع تحفظ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا إذا أذن له ربها، فمن تصرف فيها على غير هذا الوجه فعليه أن يرد مثلها كاملة إلى أهلها، ثم يطلب من أهلها السماح إذا كان لم يستأذنهم من قبل.

    وعلم أهلها لا يكفي؛ لأنهم قد يعلمون منه هذا ولا يحبونه ولا يرضون، لكن يكونون مضطرين للإيداع عنده، ويعلمون أنه سيتصرف به، فالعلم لا يعتبر موجباً لسقوط الإثم، فلابد أن يتحلل من مظلمتهم في ذلك، وسؤالهم أن يحلوه، والله تعالى أعلم.

    الانهزامية لدى بعض الآباء ونهيهم أبناءهم عن الخير

    السؤال: والدتي حلفت أني لا أحضر للدورة، وحلفت أيماناً في أكثر من مجلس في أوقات متفرقة، ثم وافقت، فهل عليها كفارة يمين واحدة أو كفارات؟ وهل أكفر عنها من مالي؟

    الجواب: في هذا السؤال عدة جوانب:

    الجانب الأول: على الوالدين أن يتقي كل واحد منهما ربه في الأولاد، وأن نعلم أن صلاح الدين والدنيا والآخرة في صلاح أبنائنا، فهذه الذرية إذا صلحت بالدين واستقامت عليه فإن ذلك الخير ليس لأهل البيت فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المجتمع، بل قد يتعدى إلى الأمة، فكم من شاب صالح نشئ نشأة صالحة وأصبح إماماً من أئمة المسلمين! فنفع الله به أمة.

    فلذلك: على الوالدين أن يتقوا الله عز وجل، وعلينا أن ننزع من قلوبنا هذا الشعور بالغربة تجاه الإسلام والدين، أصبح الدين عند البعض كأنه شيء بغيض، وهذا إن لم يكن عداء صريحاً فهو عداء ضمني، فإذا كان الرجل يخاف إذا ذهب ابنه إلى المسجد، وإذا ذهب إلى حلقة، أو ذهب إلى عالم!! فما هذا الشعور؟!

    هذه غربة.. غربة كاملة وتامة؛ حيث يصير الإنسان منهزماً إلى درجة -والعياذ بالله- أن يتخلى عن دينه، ويصبح عدواً لدينه حتى في معاملته مع أولاده!!

    بينما كان السلف رحمهم الله يفرح أحدهم الفرح الشديد إذا علم أن ابنه يذهب إلى حلقة علم، وإذا علم أنه يحفظ القرآن، أو يشهد مجالس الذكر، فيقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يذكر الله عز وجل، والحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.

    فما هذه الغربة التي يكون فيها الإنسان غريباً عن دينه إلى درجة أنه يخاف على ولده إذا ذهب دورة علمية! والسبب في هذا تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك تجدهم يحرصون دائماً على تصوير الإسلام دائماً في أبشع صورة؛ لأن قلوبهم مملوءة بالحقد على هذا الدين، وهذا الحقد على الدين ناشئ من أصل بينه الله عز وجل وهو: أن الكافر عدو لله عداوة بينة، فكل شيء قد يرضاه إلا الله، فما يريد شيئاً اسمه الإسلام، ولا يريد شيئاً اسمه الدين، ولذلك كل شيء يلصقونه بالدين، فالدين عندهم هو التخلف، والدين هو التحجر، والدين هو الهمجية، والدين هو الإرهاب، والدين هو كذا وكذا...، وهذا كله عداوة لله عز وجل: وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، فمن كفر الإنسان بربه -والعياذ بالله-، واعتدائه لحدوده؛ هذه الغربة التي أصبح فيها الحق باطلاً، والمعروف منكراً، فتجد الأم تحلف على ابنها أو تمنع ابنها، والأب يضيق على ولده.. لماذا هذا؟!

    سبحان الله! والله! إنك لتعجب من حلم الله على عباده! الله أكبر! يرى ابنه يذهب بالساعات والأيام والأسابيع بل والشهور مع قرناء السوء يمنة ويسرة وما يسأله يوماً واحداً: أين بات؟ وما إن يراه ذهب إلى مسجد إلا جلس يسأله: أين ذهبت؟ ومع من جلست؟ وماذا فعلت؟ وماذا قلت؟

    لماذا هذا؟ أما علمت أنه تصرف لا ينبغي للمسلم، وأن عواقبه وخيمة؟ فينبغي علينا أن نعتز بديننا وألا ننهزم، وألا نكون في الحضيض؛ لأنا أمة أعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة فيما سواه أذلنا الله، وإذا كان الإنسان يتخلى عن دينه وعن إسلامه حتى في أهله وولده! فهذه مصيبة عظيمة.

    فهذا أمر ينبغي على المسلم أن ينتبه له، إذ أن عواقبه وخيمة، فمن كفر نعمة الله آذنه الله بزوال نعمته وحلول نقمته؛ فإن الله غني عن العالمين، فالله ليس محتاجاً لأحد، والله في غنى تام كامل عن خلقه: كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلنستحيِ من الله، ولنتقِ الله عز وجل في أنفسنا، ولنملأ هذه القلوب محبة للدين؛ حتى نشعر -صغاراً وكباراً وشباباً وشيباً- أن هذا الدين عز لنا وكرامة وشرف، وليس بذلة ولا بخوف، الأمان كله في الدين، والعزة كلها في الدين، والرفعة كلها في الدين، والصلاح أجمعه في دين الله عز وجل، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فالعزة ما تأتي إلا بدينه وطاعته سبحانه وتعالى، والاستقامة على منهجه.

    وهذا أمر عظيم جداً، إذا كان المقصود من منع الأم مثل هذا الشعور، وقد أصبح موجوداً بين بعض الناس، والسبب في هذا: تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك يحرصون على جعل الإسلام في الصورة المشوهة، ألا شاهت وجوههم، وقطع الله دابرهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن الظالمين، فإذا كان الشعور نابعاً من هذا فينبغي علاجه، وينبغي علينا أن نعيد النظر في قلوبنا، فإنها محل النظر من الله سبحانه وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ولذلك عزت الأمة وسادت وبزت عندما كانت المرأة تعتز بدينها في أولادها وذريتها، ولم يكن ذلك بأن يتعلم الولد، أو بأن يصلي ويركع فقط، ما كان السلف رحمهم الله يعتزون فقط بالصلاة، لا، والله! بل كانوا يعتزون حينما تسيل دماء أبنائهم وذراريهم في سبيل الله عز وجل!

    فتقول المرأة: الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم، فكانت لا يقر قرارها حتى يشرفها الله عز وجل بشهادة أبنائها في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مقبلين غير مدبرين، صابرين مرابطين، فأين هذا من زماننا؟!

    فلذلك: ينبغي علينا أن نعيد النظر في هذا الشعور، وينبغي أن ينصح بعضنا بعضاً وأن يوجه بعضنا بعضاً، وأن يقول الابن لأمه ولأبيه: اتق الله عز وجل، ما يجوز هذا، ويذكره بالله عز وجل، وكراهية ذهاب الأبناء إلى حلق الذكر وطاعة الله عز وجل لا شك أنها عداوة لله عز وجل وعداوة لدينه، فلا يجوز هذا الشعور.

    الجانب الثاني: إذا كان منع الأم -وهي المسألة المهمة- لمصلحة متعلقة بها، أو خوف ضرر على الولد من أشياء موجودة في الطريق عند ذهابه، أو نحو ذلك من الأمور المبررة في حنان الأم وعاطفتها على ولدها؛ فلا بأس للأم أن تمنع ولدها، كأن يكون صغير السن وتخاف أن يتلقفه إنسان منحرف، فهذا شيء مبرر شرعاً وسائغ؛ لأن الله جعل الوالدين موجِّهين لولدهما فيأمرانه بما فيه الخير، وينهيانه عما فيه الشر، فإذا كان الدافع للأم الخوف على الولد من ضرر فنعم؛ ويحق لها منعه.

    كذلك -أيضاً- إذا وجدت مصلحة للأم أو مصلحة للوالد، كأن يكون عند الوالد عمل في تجارة أو دكان، ويتضرر بذهابك إذ لا يوجد من يساعده فهنا نقول: بر والديك، واجلس معهما والزمهما؛ فإن في ذلك خيراً كثيراً لك، فإن الذي أمرك بطلب العلم هو الذي أمرك ببر والديك، وانظر إلى أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتي من أكثر من ألف كيلو يقطعها مهاجراً إلى الله ورسوله، ويقول: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد - أي: من أجل أن أجاهد معك وأعلي كلمة الله- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، ولا أفضل ولا أكمل ولا أشرف من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم عنه، وهو يريد الجهاد، فجميع الفضائل يسرت له، ومع ذلك يقول له: (أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد).

    فأقول للأبناء: إذا كان الوالدان بحاجة فاحرص على قضاء حوائج الوالدين، وعند أن يأتيك الشيطان ويقول: بدلاً من أن تجلس في ذكر الله تذهب وتجلس في دكان أو مزرعة في السخط واللغط والغفلة عن ذكر الله عز وجل! فنقول لك: متى ما شعرت أن الذي تعبده في المسجد هو الذي تعبده في سوقك وتعبده في متجرك وتعبده في دكانك؛ فإنك تتقي الله عز وجل، فإن كان يوجد فتنة فغض بصرك، لكن تحرص على رضا والديك، وتحرص على ألا يخرج والدك ولا والدتك من هذه الدنيا إلا وهما راضيان عنك، واحرص على أن تكون في خدمتهم وقضاء حوائجهم بنفس مطمئنة، ونفس مرتاحة مستجمة، وتكون مع والديك، ووالله! إني أعرف من طلاب العلم من كان يذهب إلى السوق وإلى أماكن لو أعطي عليها عشرات الألوف لا يذهب، لكن ذهب براً لوالديه وامتثالاً لأمرهما؛ وطاعة لله وللرسول؛ فعوضه الله عز وجل من الخير والبركة ما الله به عليم! وكان يخرج قبل الأذان الأول للفجر لقضاء مصلحة دنيوية، فمنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بقيام الليل وأعطاه من الخير ما هو سبحانه به عليم!

    ابدأ ببر والديك، ولو كنت في سوق تبيع وتشتري -ولو في أضعف الأشياء- وربما تحس أنها تنقص من حالك أمام الناس، فاصبر للوالدين، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ولو كان والدك في أبسط الحرف فكن مع والدك، واحرص أن تجلس مع والدك، وأنت تحس أنها رحمة، ما تحس بالغضاضة ولا بالاحتقار، بل ينبغي على الابن أن يكون معتزاً بوالديه، ومفتخراً بوالديه، مثلما اعتز بك والدك وهو يحملك ولعابك على فمك، ومثلما اعتز بك صغيراً يحملك أمام الناس فكذلك أنت تعتز به، وكم كنت في هموم وغموم فكشفها عنك! فتفي له كما وفى لك، وتكون ابناً صالحاً كاملاً في برك لوالديك، قد يبر الابنُ أبويه، ولكن يشعر في داخل قلبه أنه محتقر بسبب هذا البر! لا ينبغي هذا أبداً، البر الكامل ما ذكرناه، والله! أعرف أناساً أعطوا من مناصب الدنيا الشيء الكثير، ومع ذلك إذا جاء عند والده لا يجلس إلا عند رجليه، ومنهم من أبوه يبيع في السوق ويكون ولده عنده كأنه عامل في الدكان، ولا يشعر بأية غضاضة، وإذا كان غائباً يسأل عنهم، ويتصل بهم ويتفقدهم، ويدعو لهم، ويشعرهم بعظيم الود لهما، سواءً غاب أو حضر امتثالاً لأمر الباري تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24].

    فإياك إذا منعك الوالدان لمصلحة قد يريدانها، أو تعلم أنهما محتاجان إليك -ولو كان حناناً- أو الوالد كبير في السن ضعيف يريدك بجانبه، وقد يقول لك: لا تخرج، فعندئذٍ نقول لك: لا تخرج، اجلس معه، وتقرب إليه، يقول الوالد رحمة الله عليه: دخلت على أحد الجيران -وكان باراً بوالده- ووالده في مرض الموت، ورأيته بحالة مدهشة مع والده، فلما رأيتها بكيت، وتمنيت أني مكانه رجاء رحمة الله عز وجل ومرضاته.

    عن علي وعمر رضي الله عنهما أنهما رأيا رجلاً قد حمل أمه على ظهره، وهو يطوف بها ببيت الله، فقال علي لـعمر : هلم إلى الرحمة. أي: دعنا نطوف بجواره لعل الله سبحانه وتعالى إذا أصابه برحمة أن ننال منها.

    ولذلك البار ما كان في مكان إلا كان فيه خير، وتجده موفقاً مباركاً حيثما كان ببر الوالدين، فبر الوالدين مفتاح الخير، فليحرص الإنسان على برهما.

    أما مسألة الكفارة فالوالدة إذا رأت أن الخير أن تأذن لولدها فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، والكفارة: عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإذا عجزت صامت ثلاثة أيام متتابعات.

    وإذا أردت أن تخرج عن الوالدة هذه الكفارة فتستأذنها حتى تأذن لك؛ لأنه لا يصح التكفير عن الغير إلا بنيته، فإذا نوى الغير أن تخرج عنه صح الإخراج، وإلا فلا.

    وأما مسألة تكرار اليمين إذا كانت على شيء واحد ولم يكفر عن اليمين الأولى؛ فالكفارة واحدة، ولو تكررت مائة مرة، فالكفارة واحدة؛ لأنها على شيء واحد، ولو كان في مجالس متعددة، وهذا على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

    اشتراط المحرم وحكم المحصور

    السؤال: امرأة أحرمت بالعمرة من الميقات وهي مريضة، فلما وصلت مكة لم تستطع أداء مناسك العمرة، علماً أن مرضها لا يرجى برؤه، فما تفعل الآن؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم؛ أن يفرغ عليها الصبر، وأن يربط على قلبها وعلى قلب ذويها، وأن يعجل لها بالشفاء، وأن يتداركها برحمته وهو أرحم الراحمين.

    السنة إذا أرادت المرأة أن تحرم أو أراد الرجل أن يحرم وهو مريض غير واثق من نفسه من المرض أن يشترط، لحديث ضباعة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال عليه الصلاة والسلام: أهِلِّي واشترطي)، فهذه هي السنة، فإذا اشترطت المرأة فإنها تحل من إحرامها ولا شيء عليها؛ لأنها قد اشترطت، أما إذا لم تشترط ودخلت في نسك العمرة فعند العلماء خلاف: هل المريض محصر أو ليس بمحصر؟ وبعبارة أخرى: هل المرض يعد حصراً أم أن الحصر يختص بالعدو؟ فمن قال: إن المرض يكون إحصاراً خاصة في الأمراض الخطيرة، التي تعجز المرأة معها بالكلية عن إتمام عمرتها، فإنه في هذه الحالة يكون حكمها حكم المحصر، فتذبح شاة وتتحلل لقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فتذبح شاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أحصر عن مكة فنحر وتحلل من عمرته، والله تعالى أعلم.

    حكم صرف العملة في المسجد

    السؤال: هل الصرف داخل المسجد داخل في عموم النهي عن البيع في المسجد؟

    الجواب: الصرف داخل المسجد كذلك؛ لأن الصرف نوع من البيوع، فلو كانت معه مائة فقال: اصرفها لي، فصرفها، فهذا عقد بيع، ولا يجوز فعله داخل المسجد، والله تعالى أعلم.

    تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ولا ثالث لهما

    السؤال: هل من الذنوب ما ليس بصغائر ولا كبائر؟

    الجواب: الذنوب إما صغائر وإما كبائر، وإذا لم يكن كبيرة ولا صغيرة فليس ذنباً؛ لأن الله يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فجعل الذنوب منقسمة إلى كبيرة وصغيرة، ولذلك جمهرة أهل العلم رحمهم الله -وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـابن عباس وغيره- على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقال بعض العلماء: لا صغائر ولا كبائر، والذنوب لا يقال فيها: صغير وكبير؛ لأن الله أعظم من أن يقال في معصيته: صغيرة، لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما من لم يقل بالتقسيم فإنه لم يعرف الكبائر. يعني: لم يعرف ضابط الكبيرة من قال: لا يوجد صغائر وكبائر، والواقع: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بدليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب: فكقول الله سبحانه وتعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فوصف المنهيات بأن فيها كبائر، فقال: كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31]، وكذلك قال تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فالكفر خروج من الملة، ثم جعل من بداخل الملة إما فاسقاً وإما عاصياً، والفسوق: هو ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر حتى تصل إلى حد الكبيرة، والعصيان: صغائر الذنوب.

    أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله...) الحديث، فقال: (أكبر الكبائر)، فوصف الذنب بأنه كبير، وأن الكبائر فيها أكبر، بصيغة (أفعل) التي تقتضي اشتراك الاثنين في الصفة، وأن أحدهما أقوى وأكبر من الآخر.

    فهذه النصوص كلها تدل على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فالذنب إما صغيرة وإما كبيرة، وكل معصية لله عز وجل إما أن تكون صغيرة أو كبيرة.

    كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الصحيح: (الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فقال: (مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل الذنب مكفراً إذا كان صغيرة، بشرط: اجتناب الكبيرة. فدل على أن الذنب إما كبير وإما صغير، وضابط الكبيرة هو: (كل ذنب سماه الله أو رسوله كبيرة، أو شرع الله له حداً في الدنيا، أو توعد عليه بعقوبة في الآخرة، أو بغضب، أو نفي إيمان، أو لعنة، أو نحو ذلك)، فهذا ضابط الكبيرة، وهذا القول -أعني: ضابط الكبيرة- مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه، واختاره جمع من العلماء، كالإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله، وجمع من الأئمة المتأخرين، وهو -إن شاء الله- من أجمع الضوابط للكبائر، والله تعالى أعلم.

    نسأل الله العظيم أن يسلمنا من صغائر الذنوب وكبائرها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756177946