إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اتفق العلماء على جواز الإجارة بالمدة القصيرة، ولكنهم اختلفوا في الإجارة بالمدة الطويلة، وبين العلماء شروط استئجار الأشخاص لأعمال ما، وكذلك شروط استئجار الدواب لركوب أو حمل متاع.

    1.   

    تحديد زمن الاستئجار بداية ونهاية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أجر الدار ونحوه مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح].

    شرع المصنف رحمه الله في مسألة مهمة من مسائل الإجارة، وهذه المسألة تتعلق بإجارة الدور والمساكن ونحوها، فإنه إذا استأجر من شخصٍ داراً ليسكنها فإن إجارة هذه الدار تفتقر إلى تأقيت حتى تنقطع الخصومة وينقطع النزاع.

    فإذا قال له: أجرتك بيتي، أو أجرتك داري، أو أجرتك عمارتي، وفي زماننا الشقق، أو غرف الفنادق، أو نحوها، فكلها تتأقت بالأزمنة، وإذا استأجرت الدور والمساكن بالزمان فإن إجارتها تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: ما كانت مدته قصيرة، كالساعة واليوم والأسبوع، ونحو ذلك.

    والقسم الثاني من الإجارات للدور: أن تكون مدته طويلة، كأن يستأجر أرضاً عشرين سنة، أو يستأجر داراً عشرين سنة، ونحو ذلك من المدد الطويلة.

    والأصل في الشرع: أنه إذا استأجر شيئاً أو أجره فإنه ينبغي أن يكون هناك تحديد حتى تنقطع الخصومة، ويعرف المستأجر ما له من ذلك العقد، فلو قال له: أجرتك داري زماناً، ولم يحدد المدة؛ لم يصح، ولو قال له: أجرتك داري مدة جلوسك في مكة؛ لم يصح؛ لأنها مجهولة، إذاً: لا بد من التحديد.

    ثم إن هذا التحديد ينقسم إلى أمد طويل وأمد قصير، فإذا أردنا أن نفصل في الأحكام المتعلقة بتحديد الإجارة بالزمان في الأمد الطويل والأمد القصير، فإن هذا يفتقر إلى ضرب الأمثلة، وسنحاول -إن شاء الله- بضرب أمثلة يعيشها الناس وخاصة في هذا الزمان؛ حتى يكون ذلك أبلغ في الفهم والوضوح.

    فالإجارة القصيرة كالساعة واليوم والأسبوع، ففي الساعات ما يجري في الاستراحات، يقول له: أجرتك هذه الغرفة الساعة بعشرة أو بخمسة ريالات؛ فهذا النوع من الإجارة لا إشكال في جوازه، ولكن ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة، وهي: أنه إذا قال له: أجرتك ساعة. فيحدد بداية الساعة ونهايتها، فلو كانت الساعة الثانية ظهراً وقال له: أجرتك هذه الدار ساعة بعشرة من الثانية ظهراً، صح العقد، لكن لو قال له: أجرتك هذه الدار ساعة. وسكت ولم يحدد بدايتها، فإن هذا يوجب الخصومة، فقد يكون مرادك أن يستأجر من الساعة الثالثة ظهراً أو الرابعة، وهو يقصد أن يستأجرها عقب العقد مباشرة.

    إذاً: لا بد من تحديد بداية الزمان ونهايته، وهو إن حدد ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع، لكن لا بد وأن يحدد بداية العقد ونهايته.

    وهنا مسألة وهي: إذا كان دخوله أثناء الساعة، كأن يأتي مثلاً الساعة الثانية والربع، الساعة الثانية والثلث، الساعة الثانية والنصف، فإذا قال له: أستأجر منك هذه الدار ساعة بعشرة من الساعة الثانية والنصف، نفهم أن العقد سينتهي عند الثالثة والنصف، ولو قال له: ساعتين بعشرين من الساعة الثانية والنصف، فإنه يعلم بداهة أن العقد ينتهي عند الرابعة والنصف، والعقد صحيح ولا إشكال فيه.

    الإجارة باليوم: ومن أشهر ما يكون في ذلك: إجارة الفنادق، فيأتي الرجل إلى الفندق ويستأجر يوماً بمائتين، فعند الفنادق ترتيب معين، بحيث يقولون مثلاً: مبيت الشخص بمائتين، فيفهم منه أن الشخصين بأربعمائة وأن الثلاثة بستمائة، فإذا حدد باليوم يقول: سأستأجر هذه الغرفة ثلاثة أيام، فتحدد من يوم السبت والأحد والإثنين، فتحدد البداية وتحدد النهاية؛ لأنه إذا أطلق العقد فعند ذلك تحدث خصومة، بحيث لا ندري هل مراده بعد العقد مباشرة أو متراخياً عنه.

    إذاً: لو سألك سائل: ما هو الشرط في إجارة الزمان؟

    تقول: تحديد قيمة المدة، كالساعة بعشرة، أو اليوم بخمسين، ثم تحديد بداية الاستئجار ونهايته.

    تحديد الزمن في استئجار غرف الفنادق

    لكن في إجارة الفنادق جرى العرف فيها أن اليوم ينتهي عند الساعة الثانية ظهراً، ويقولون: إذا جاءت الساعة الثانية ظهراً فقد انتهى أمد الإجارة، وانتهى العقد، فإذا جرى العرف أنه في الثانية ظهراً يغادر النزيل، فهذا عرف معتبر، وينبغي تنبيه النزيل قبل نزوله إلى أن اليوم في عرف الفنادق ينتهي عند هذه الساعة التي هي الساعة الثانية ظهراً، أما لو أطلق وقال: أستأجر منك يوماً كاملاً، ولم ينبهه ولم يكن هناك عرف، فإنه ينصرف إلى أربع وعشرين ساعة.

    عرفنا أنه باليوم لا بد من تحديد بدايته ونهايته، ما لم يكن هناك عرف بتحديد النهاية، فلو أن العرف أثر في نهاية اليوم كما أثر في البداية، أي: جرت العادة أنه إذا جاءت الثانية ظهراً ينتهي موعد التأجير، إذاً تبتدئ إجارته من اليوم السابق وتنتهي في الثانية ظهراً من اليوم اللاحق.

    لكن لو جرى العرف أن النزيل لو حضر بعد الساعة العاشرة صباحاً، أو بعد التاسعة صباحاً، فإنه لا يحسب ذلك اليوم، وإنما يحسب من الثانية ظهراً إلى اليوم الذي بعده، فحينئذٍ سيكون للنزيل يوم وزيادة، فما الحكم؟

    الجواب: لا بأس، وهو جائز إذا جرى العرف أن النزيل إذا حضر قبل الساعة الثانية ظهراً بساعتين أو ثلاث ساعات، وتسامح الناس وعرفاً بهذه الساعة أو الساعتين، أو جاء بعد صلاة الفجر وجرى العرف أنه لا يحسب اليوم كاملاً فإنه لا بأس بذلك، فلو جاء بعد صلاة الفجر وقال له: أحسبه لك يوماً كاملاً من الثانية ظهراً، ولكن حضورك بعد صلاة الفجر أحسبه نصف يوم. وقال: قبلت، فيجوز.

    إذاً: عرفنا أجرة الساعات، وأجرة اليوم، فتبقى عندنا أجرة الشهر وأجرة السنوات، أما أجرة الشهور، فهذه تقع في الغرف والشقق والعمائر والمساكن، فيقول له: أستأجر منك هذه الشقة شهراً بمائة، فإذا حدد الشهر وحدد بدايته ونهايته فلا إشكال فيه، ولكن نحتاج إلى تفصيل في مسائل متعلقة بالإجارة بالشهور:

    العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق

    المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناءً على ذلك: فالعبرة بالشهر القمري.

    المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً.

    أما الدليل على أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين، وعند عدم وجود رؤيته يتم ثلاثين يوماً.

    أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر تسعة وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً.

    فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال: الشهر ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق.

    والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) علم أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين.

    وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، والأيمان والنذور ومسائل في الطلاق، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله.

    فالأصل الشرعي الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي؛ على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين.

    لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟

    الجواب: يتم ثلاثين يوماً بالإجماع؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً.

    وتتفرع عليه مسائل كما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص.

    فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة.

    إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم، فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر الواحد، وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور.

    لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من أول ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة هذا بالنسبة للمدة القصيرة.

    اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة

    أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة.

    فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر.

    إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة:

    فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما:

    أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة.

    والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها.

    ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة.

    فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد ينعقد الإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح.

    إذاً: من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال: هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟

    إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا.

    وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان:

    قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها.

    والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز.

    والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه من الغرر، ومن تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.

    أدلة جواز الإجارة بالمدة الطويلة

    أما الجمهور لما قالوا بالجواز، فقالوا: دليلنا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم:

    أما دليلنا من الكتاب: قال الله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، قالوا: فأسند الإجارة إلى أكثر من عام، مع أن الثمانية الحجج قد يرتفع فيها سعر الإجارة وقد ينخفض، ومع ذلك أقر الشرع مثل هذا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا من حيث دليل الكتاب.

    أما دليل السنة فقالوا: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الإجارة من حيث الأصل العام لم تقيد بمدة ولا بزمان، فكل طرفين اتفقا على إجارة مدة معينة، وهذه المدة تبقى فيها العين ويحصل فيها النفع، فإنه يجوز ذلك العقد ولا بأس به. هذا بالنسبة لدليل الجمهور.

    والذي يظهر -والله أعلم- صحة مذهب الجمهور، أي: أنه يجوز إجارة الدور والمساكن والأرضين ولو أكثر من ثلاثين سنة بالشرط الذي ذكرناه وهو: غلبة الظن ببقاء العين، وحصول النفع فيها.

    وقد نبه المصنف رحمه الله إلى هذا القول الراجح حينما حكى غلبة الظن بقوله رحمه الله:

    بقوله: [وإن آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صحت].

    البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها

    وقوله: (مدة ولو طويلة)، (ولو) إشارة إلى خلاف، يعني: آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة، معنى ذلك: أنه لو أجرت مدة قصيرة فبالإجماع أنه لا بأس بذلك؛ لكن الخلاف إذا كانت المدة طويلة، لكن قال: (يغلب على الظن بقاؤها).

    (يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضاً: غالب الظن.

    والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبّدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور:

    الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة.

    الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة.

    الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة.

    الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة.

    الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح.

    فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف.

    فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذاً: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجهاً واحداً للعلماء.

    أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون داراً متهدمة نوعاً ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة)، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطاً نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز.

    وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن)، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق.

    وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة.

    وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها).

    وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور.

    وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعُد تطويلاً، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالاً، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس.

    1.   

    العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق

    المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناءً على ذلك: العبرة بالشهر القمري.

    المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً.

    أما الدليل على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين أو عدم وجود رؤية يتم بها ثلاثين يوماً.

    أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين وتلزم وبه المستأجر فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً.

    فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال الشهر: ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق.

    والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) على أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين، وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، وفيها الأيمان والنذور ومسائل في الطلاقات، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله، فالأصل الشرعي، جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي : على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين.

    فمسألة أننا نعتبر الشهر ناقصاً أو كاملاً في الصورة الأولى من إجارة الشهور، وهي: أن يسند الطرفان الإجارة إلى شهر مسمى، كأن يقول: أستأجر منك هذه العمارة شهر رمضان. فإننا نحتسب الشهر بتمامه وكماله، على التفصيل الذي تقدم، لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟

    الجواب: بالإجماع يتم ثلاثين يوماً؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثين يوماً.

    وتتفرع مسائل مثلما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص.

    فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة.

    إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم ينتقص به عدداً ولا يتعين فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور.

    لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من واحد ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة.

    1.   

    اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة

    هذا بالنسبة للمدة القصيرة، أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض أن يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة.

    فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر.

    إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة:

    فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما:

    أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة.

    والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها.

    ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة، فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد يكون بالإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح.

    إذاً: قلنا من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال: هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟

    إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا.

    وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان:

    قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإنما إذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها.

    والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز، فأصبح عند أصحاب هذا القول.

    والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه الغرر، وفيه من تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.

    1.   

    شروط استئجار الدواب لركوب أو عمل

    وقوله: [وإن استأجرها لعمل كدابة وركوب إلى موضع معين].

    عرفنا أن في إجارة الدور ينبغي أن تُحدد المدة والزمن، وبالنسبة لإجارة الأشخاص وإجارة الدواب ونحوها، فينبغي أن يحدد العمل الذي وقع عقد الإجارة عليه، فمثّل المصنف بأمثلة متعددة هي أشبه بالقواعد لغيرها، أو يلتحق بها غيرها مما هو في حكمها.

    فلما قال: (كدابة) أي: استأجر دابة لعمل، واللام للتعليل، أي: من أجل عمل معين، واستئجار الدواب مثال في القديم، فقد كانوا يركبون الخيل والإبل، وكانوا يستأجرونها، إما لحملهم أو لحمل متاعهم، وإما للاثنين معاً، فيستأجر منه الخيل أو الإبل لنفسه، كأن يركب من المدينة إلى مكة، أو يحج معه على دابته ومعه متاعه، أو يستأجره لنفسه فقط، كأن يقول له مثلاً: أريدك أن تنقلني من طرف المدينة الشرقي إلى طرفها الغربي، فهذا نقل للذات، أو يستأجره للمتاع وحده، فيقول له: خذ هذه البضاعة واذهب بها إلى وكيلي بجدة أو وكيلي بمكة، فأصبحت ثلاث صور في إجارة الدابة: إما للركوب، وإما لحمل المتاع، وإما لركوبه مع حمل المتاع.

    العلماء رحمهم الله في القديم وضعوا ضوابط يحفظ بها حق المستأجر عند المؤجر، فلا بد في العين التي تؤجر وتستخدم في الإجارة أن يحدد العمل المطلوب منه، فهو مثلاً إذا قال له: أريدك أن تنقلني إلى جدة، أو إلى مكة، لا بد وأن يحدد العمل المطلوب من الدابة على وجه يزول به الغرر، فإذا استأجرها للركوب فلا بد أن يحدد بداية الركوب ونهايته، فيقول مثلاً: تنقلني من المدينة إلى مكة من أجل الحج، أو لعمل المناسك، أو للقيام بأشياء معينة محددة.

    والسبب في هذا: أنه تقدم معنا في أول باب الإجارة أنه لا بد من تحديد العمل المطلوب دفعاً للخصومة ورفعاً للضرر، فإذا حدد له بداية العمل ونهايته، وحدد له ما يراد منه فلا إشكال في الجواز.

    لكن لو قال له مثلاً: أريدك أن تنقلني إلى بلد بمائة، لم يصح العقد، فإن البلد مجهول.

    أو قال له مثلاً: تنقلني إلى مكة أو جدة بألف، لم يجز؛ لأنه ردده بين موضعين، فلا ندري هل يذهب به إلى جدة أو يذهب به إلى مكة، وقد اختلفت مسافتهما، هذا بالنسبة للركوب.

    كذلك عليه أن يحدد الشيء الذي سيحمل على الدابة، فيقول: تحملني. أو يقول: تحمل متاعي. فإن كان من الطعام فيبيّن أنه طعام ويبين كذلك نوع هذا الطعام الذي يحمل، وإن كان من الكساء واللباس فيحدده أيضاً، فلا بد من التحديد دفعاً للضرر؛ والسبب في هذا: أن المحمول يختلف، فلربما قال له: انقل لي هذه البضاعة من المدينة إلى جدة، وتكون البضاعة مثلاً من الحديد، فحمل الحديد ليس كالقماش؛ لأن القماش أخف في العبء على الدواب أو على الآلة التي تحمله، فإذا لم يحدد المحمول ربما ظن صاحب السيارة أو صاحب الدابة أن المحمول خفيف وظهر له بعد ذلك أنه ثقيل؛ لأن المحمول الثقيل له أجرة والمحمول الخفيف له أجرة، فلا بد من تحديد نوعية المحمول.

    فإذاً: لا بد وأن يحدد المكان وأن يحدد المحمول هل هو الشخص بنفسه، أو متاعه، أو هما معاً، فإذا تم ذلك على وجه تام وليس فيه غرر فلا إشكال، وهذا في القديم.

    أما بالنسبة لعصرنا الحاضر، فإذا أراد أن يسافر وأراد أن يركب سيارة أو يستأجرها وقال له: احملني، فلا إشكال أن تقول له: أحملك بنفسك، أو راكباً آخر يقوم مقامك، فالحكم واحد، إلا إذا حصل هناك اختلاف من حيث الجنس بالذكورة والأنوثة، وأن يكون هذا الاختلاف موجباً لاختلاف القيمة وموجباً للتعب أكثر، كأن يكون المحمول مثلاً مريضاً، وهذا المريض سيشق على السائق؛ وربما تعب عليه في الطريق، أو ربما انتظر، فلا بد وأن يحدد حتى لا يكون هناك وجه للغرر، وكل ذلك بموجب الشروط التي ذكر العلماء أن القصد منها المحافظة على حق الطرفين؛ المؤجر والمستأجر.

    وقوله: [أو بقر للحرث].

    أي: أو استأجر البقر للحرث، فقد كانوا في القديم يحرثون الأرض بالبقر، فيوضع المحراث ثم يجر البقر المحراث، أما في العصر الحاضر فتوجد آلات معينة تقوم بالحرث، وهذه من نعم الله عز وجل على عباده، فإذا استأجر من أجل حرث الأرض، فلا بد وأن يحدد العمل الذي يريد منه في تلك الحراثة، لأن الحراثة درجات، ولها طرق معينة، فإذا كان لها أكثر من طريقة فلكل طريقة قيمتها، وينبغي أن يقول: تحرث لي مثلاً بالدرجة الأولى أو بالدرجة الثانية، أو تحرث لي حرثتين، فإذا اتفق معه على حرث فليحدد العمل. كل هذه الجمل يقصد المصنف منها تحديد العمل المفروض من المستأجر للأجير.

    وقوله: [أو دياس زرع].

    كانوا في القديم إذا حصدوا الحصاد كالحبوب مثلاً، فالواحد منهم يحتاج إلى أن يعرف الحبوب إذا يبست ويبس سوق الحب فتمر عليه الدواب وتدوسه، حتى تأتي الرياح وتأخذ القش ويبقى الحب.

    فإذا استأجر أحدهم الدابة فعليه أن يحدد العمل المطلوب منها.

    وفي زماننا لو كان هناك عامل التزم أن يقوم بتصفية الحب، فإنه ينبغي تحديد وقت العمل، فبعض الأحيان يحدد بالساعات، وبعض الأحيان يحدد بالأيام، فيقول له مثلاً: أريد أن أشتغل عندك يوماً في تصفية هذا الحب، واليوم بمائة، يجوز ذلك، فإذا حدد له بالزمان يصير لا إشكال، لكن يبيّن له ما الذي يفعله؛ لأن تصفية الحبوب درجات، فإذا كانت هناك درجات فيحدد له الدرجة التي يبدأ بها، فقد تكون تصفيته -مثلاً- بطريقة معينة يحددها له، فالمهم أنه أي عمل يتردد بين عملين فأكثر ينبغي أن يحدد للعامل حتى لا تقع خصومة بين الطرفين.

    وخذها قاعدة: أن الإجارة إذا ترددت بين شيئين اثنين متفاوتين في القيمة؛ فلا يجوز للطرفين أن يبرما العقد بينهما بهذا الأمر، فإن قيل: لماذا؟ قلت: الأمر واضح؛ لأنه إذا أبرم العقد على هذا الوجه فإنه سيؤدي إلى الخصومة وإلى الأذية والإضرار، فكل من الطرفين سيحرص على أن يأخذ بالأحظ لنفسه، وهذا لا شك أنه يفتح باب الشقاق والنزاع.

    ومن هنا: تستطيع أن تتحدث عن ميزة الشريعة في الفقه الإسلامي، فمن مميزاتها: أنها تحرص على أخوة الإسلام حتى في التعامل الدنيوي، ولذلك نهت عن بيع المسلم على بيع أخيه، ونهته أن يبيع أو يؤجر على وجه فيه غرر وضرر؛ لأن هذا يحدث الخصومة، ويوغر القلوب على بعضها، ويدفع أصحاب النفوس الضعيفة لاستغلال الفقراء والضعفاء في إجارتهم. فيقول له مثلاً: خذ هذا الحب وصفِّه، والحب إذا صفي بدرجة كبيرة زاد له مائة، وإذا صفي بأقل كان له خمسون، فيقول له: خذ وصفه بخمسين، فعندما يأتي يصفيه بدرجة معتادة يقول: إنما قصدت التصفية العالية، فإذا قال له: أنت أعطيتني خمسين فقط، قال: خمسون لكن شرط أن تصفيه بدرجة عالية. فيحدث بينهما النزاع والشقاق، ولذلك قفلت الشريعة هذا الباب.

    فلا يبرم العقد بين الطرفين على شيء متردد إلا بالتعديد والبت، فإذا بت الطرفان انقطع السبيل لحصول الخصومة والضرر.

    1.   

    شروط استئجار الأشخاص

    وقوله: [أو من يدله على طريق].

    كانوا في القديم إذا سافروا فإنهم يحتاجون إلى من يدلهم، فهذا يسمى (خريت) أو يسمى (بالدليل)، فيجوز أن تستأجر شخصاً لكي يدلك على طريق، وقد يستأجر الرجل شخصاً يدله على المشاعر والمناسك، فهذا لا بأس به، فهذه الدلالة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل -واسمه عبد الله بن أريقط - هادياً خريتاً)، ( أي: دليلاً في الأسفار، وكان يعرف الطريق بين مكة والمدينة فاستأجراه للهجرة.

    فاستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، ودفعا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فدل ذلك على جواز إجارة أشخاص من أجل الدلالة، فتقول لشخص: أريد القرية الفلانية، أو أريد مثلاً بئر فلان أو أريد الموضع الفلاني فدلني عليه، وتذهب معي حتى أصل إليه وتردني. فيقول: أذهب بك بخمسمائة وأردك بخمسمائة، فهذه ألف، فحينئذٍ تم العقد بينكما ولا إشكال، وهذا جائز، فإذا استأجر وقال له: أريد أن تدلني على الطريق إلى مكة، فينبغي عليه أن يحدد زمان الخروج، ويحدد الطريق الذي سيسلكه إذا كان هناك أكثر من طريق، مثلاً قال له: أريد طريقاً مختصرة، أو أريد طريقاً يسلكه الناس؛ لأنه ربما ذهب به إلى طريق مضر، فنص المصنف على أنه لا بد من تعيين العمل.

    استئجار الطبيب للفحص أو العلاج

    قال رحمه الله: [اشترط معرفة ذلك].

    مثلاً: الذي استأجر رجل من أجل الدلالة، لا بد وأن يعرف على أي الطرق التي سيسلكها.

    في زماننا نفرّع مسائل على هذه الأحكام التي ذكرها المصنف، فمن أشهر ما يوجد الآن مثلاً: الإجارة للعمل الطبي، كطيب للعلاج، فالطبيب إذا أراد أن يعالج وأراد المريض أن يتعاقد معه، فإنه ينبغي أن يحدد العمل الطبي الذي سيقوم به، فإن كان لفحص يقول له: أفحصك وآخذ مائة. وإذا قال له: أفحصك وآخذ مائة. فهنا يحدد نوعية الفحص، هل هو لعضو معين، أو هو لاكتشاف مرض معين، أو هو لفحص وقائي، فيحدد العمل الذي سيقوم به.

    ولا يجوز أن يقول له: أفحصك فقط؛ لأن الفحص فيه ما يسمى بالفحص الابتدائي، وهناك فحص أعمق كالتحاليل والتصوير بالأشعة والمناظير ونحوها، فلو قال: أفحصك، ربما ظن المريض أنه سيفحصه فحصاً تماماً كاملاً، فيتفق معه ويأخذ الأجرة، ثم يقول: أنا قصدت الفحص المبدئي. والفحص المبدئي لا يكشف كثيراً من الأمراض، بخلاف الفحص العميق الذي يسمونه بالفحص التكميلي، فيشترط في الفحص أن يحدد نوعية الفحص.

    وقد يكون هناك أكثر من وسيلة يفحص بها، فمثلاً: ضُرب على يده فشك أن يده مكسورة أو لا، فقال: أريد أن تفحص لي يدي، فقال له: أصورها لك بالأشعة. فلا بد أن يحدد الوسيلة، فلا يقل: أفحصها. ويسكت، وعلى هذا: لا بد وأن يحدد الوسيلة للفحص.

    ثم إذا أراد أن يستأجر لغير الفحص، بل للمهمات الطبية، فينبغي أن يحدد هذه المهمة، والحمد لله أن هذا موجود في كثير من المستشفيات، فتجد كل عمل يضعون أمامه الأجرة.

    فهذه الأشياء مهمة جداً، وهي تحقق مقصود الشرع من معرفة المستأجر بحقه، ويضمن بها حق المستأجر.

    بناءً على ذلك: لا بد من تحديد المهمات الطبية، والأجرة المدفوعة في مقابلها، وإذا حددت المهمة الطبية في بعض الأحيان يكون هناك تحديد على وجه فيه غرر، أي: في بعض الأحيان يكون عندنا تصوير بالأشعة وعندنا كتابة تقرير الصورة، إذا جرى العرف بأن تقرير الصورة تابع للتصوير فحينئذٍ إذا تعاقد معه بمائة عليهما وجب على خبير الأشعة أن يقوم بالتصوير، ثم على الطبيب الذي تعاقد معه أن يقوم بكتابة التقرير من خلال قراءة صورة الأشعة.

    وبالنسبة للمهمات الطبية التي فيها أعمال كقيامه بعلاج الجسم، فلا بد وأن يحدد الطبيب ذلك ويبنيه، فمثلاً: إذا كان يريده للجراحة واستئصال اللوزتين، أو مثلاً قطع البواسير، أو استئصال الزائدة، أو نحو ذلك، فلا بد وأن يحدد العمل الجراحي، وفي بعض المستشفيات يقوم الطبيب بشرح العمل الذي سيقوم به للمريض شرحاً تاماً كاملاً، فيقول له مثلاً: آخذ على هذا خمسمائة دولار أو آخذ عليها خمسة آلاف ريال أو نحو ذلك، فيحدد المهمة وما يقوم به وأجرته.

    أما أن يكون هناك تعاقد مبهم، ويأتي المريض ويدخل على الطبيب ولا يحدد ما الذي يريده؛ فهذا لا يجوز، بل ينبغي التحديد، حتى الطبيب عندما تدخل المستشفى فلابد أيضاً أن تحدد نوعية الطبيب، هناك طبيب الذي ستكشف عنده، فيختلف الكشف والعلاج عنده عن الذي دونه، فهذا له قيمته وهذا له قيمته، وهذا أكثر ما يقع في المستشفيات التي تكون بالأجرة.

    المستشفيات التي تكون بالأجرة، يكون فيها رجل استقبال واستعلام، فعندما تريد أن تفتح ملفاً يقول لك: أحيلك على طبيب أخصائي بسبعين ريالاً. فلا بد أن يجرب هل هو أخصائي أو استشاري، حتى يكون المريض على معرفة؛ لأنه ربما كان المرض الذي معه قد كشف عليه من قبل من هو بهذه المرتبة، فإذاً: لا بد أن يحدد للمريض من هو الطبيب ونوعيته ونوع العمل الذي سيقوم به حتى يكون على بينة ويكون العقد خالياً من الغرر والجهالة.

    وقوله: [وضبطه بما لا يختلف].

    وضبط العمل بما لا يختلف، فإذا كان العمل متردداً كما قلنا بين أكثر من شيء، فإنه ينبغي التحديد على وجه يزول به الغرر الذي يخشى وقوعه على المستأجر أو المؤجر.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تأجير المستأجر للعين المؤجرة قبل دفعه إيجارها

    السؤال: هل يجوز أن يؤجر المستأجر سلعة استأجرها قبل دفع قيمة الاستئجار لصاحب السلعة؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    هذه المسألة الحقيقة مفرّعة على مسألة: هل للمستأجر أن يؤجر ما استأجره؟

    أثبتنا في المجلس الذي قبل هذا المجلس أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر، وبينّا أن هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله:

    منهم من يمنع مطلقاً، ومنهم من يجيز، ومنهم من يفصّل بين كون المستأجر يؤجر بنفس القيمة أو بأكثر.

    لكن على كل حال فالذين قالوا: بجواز أن يؤجر المستأجر ما استأجره قبل أن يأخذ المنفعة، قالوا: بأنه بالعقد ملك المنفعة.

    وفي الحقيقة هذه المسألة مهمة جداً؛ لأنك إذا استأجرت -مثلاً- شقة بعشرة آلاف ريال، وقلت: إن المنفعة التي هي سكنى الشقة بعشرة آلاف سنة، فعندنا عشرة آلاف، فهذه هي القيمة، وعندنا عوض عن العشرة آلاف وهو السكن سنة، فالمنفعة وهي السكن سنة يقابلها عشرة آلاف ريال، فإذا قلنا: إن المنفعة يملكها المستأجر بمجرد العقد فيجوز أن يبيعها، ويجوز أن يؤجرها على شخص آخر، وهذا بيع المنفعة، وبناءً على هذا القول: يترتب عليه قول آخر، وهو: أن المؤجر يكون المال ملكاً له ويحتسب زكاته، بحيث إنه لو تركه عند المستأجر وأخذه في نهاية السنة لزمته الزكاة؛ لأن المال دخل على ملكه الذي امتنع عن قبضه.

    وقد قرر وأشار ابن رشد رحمه الله وغيره من العلماء: أن المنافع وإن كانت معدومة أثناء العقد لكنها منزّلة منزلة الموجود.

    فسخ الإجارة

    السؤال: متى يكون الفسخ بالإجارة؟

    الجواب: الفسخ في الإجارة فيه تفصيل سيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل، وهي مسألة تحتاج إلى نظر؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف الموجبات والأسباب.

    وهناك أسباب شرعية وأسباب حسية، فقد تفسخ بسبب شرعي، مثل: ما إذا استأجره للحج، ثم جاء عذر شرعي يمنع من الحج، كتعطل في الطريق حتى ذهب يوم عرفة ولم يمكنه إدراك الوقوف، فحينئذٍ تفسخ الإجارة؛ لأن مقصود الشرع من الإجارة ذلك.

    ومن أمثلة ذلك: إذا استأجره لقلع ضرس فيها ألم وزال الألم، فالشرع يمنع من قلع الضرس إلا عند وجود الألم والضرر، وقرر الطبيب أنها طبيعية ويمكن أن تبقى على حالها فلا يجوز القلع.

    وقد يكون السبب عادياً مثلاً: استأجر داراً للسكنى لمدة سنة، فانهدمت الدار أو سقطت، فحينئذٍ تنفسخ الإجارة؛ لأنه سبب حسي عادي، والاستفادة من المنفعة متعذرة.

    وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسائل وبيانها. والله تعالى أعلم.

    حكم تبييت نية الصوم في كل ليلة

    السؤال: هل يجب تبييت نية للصوم في كل ليلة؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وأصح أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور: من وجوب تبييت النية في الليل لكل يوم؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له)، وهذا يدل على أنه يجب أن يبيت النية بالصوم لكل ليلة بحسبها. والله تعالى أعلم.

    حكم من رأت دم الحيض بعد صلاة المغرب

    السؤال: امرأة رأت شيئاً من دم الحيض بعد صلاة المغرب ولم تعلم هل كان ذلك قبل الغروب أم بعده، فما الحكم بالنسبة لصلاتها وصيامها؟

    الجواب: إذا رأت الدم وغلب على ظنها أنه سابق للغروب، فلا إشكال أن صوم ذلك اليوم لاغٍ ويلزمها قضاؤه، وأما إذا كانت قد غلب على ظنها أن الدم طري وأنه حادث بعد المغرب فلا إشكال في صحة صومها ولزوم صلاة المغرب إذا طهرت فإنها تقضيها وتصليها.

    وأما إذا ترددت وشكت فالقاعدة عند العلماء رحمهم الله تقول: (ينسب لأقرب حادث)، فالأصل صحة الصوم حتى يدل الدليل على عدم صحته، والأصل أنها صامت يوماً كاملاً، وذمتها بريئة حتى نتحقق من وجود هذا المؤثر، فحينئذٍ يحكم بصحة صومها، وأما الدم فلا يؤثر في ذلك اليوم، وتبقى المسألة عكسية، لأنك إذا قلت: يصح صومها لزمها قضاء المغرب، وإن قلت: لا يصح صومها لم يكن هناك قضاء المغرب، فإن سلمت من الصوم لزمها قضاء المغرب؛ لأن دخول الوقت موجب لشغل الذمة بالنسبة للحائض، ولا يكون معتداً بآخر الوقت كما يقوله فقهاء الحنفية وبعض أصحاب الإمام أحمد .

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756306978