إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الرهن [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • باب الرهن يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وهو مشروع وجائز بالكتاب والسنة والإجماع، وله حكم عظيمة، منها: حفظ حقوق الناس، وقلة الخصومات والمنازعات، وتسهيل المداينات، وإشاعة روح التكافل والتراحم والتعاطف بين الناس.. وله أحكام يذكرها العلماء في بابها.

    1.   

    الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن].

    هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن.

    والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين.

    والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر.

    ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر.

    وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه.

    فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها.

    وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله.

    وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً.

    إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد.

    ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه.

    مشروعية الرهن

    الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فقوله سبحانه: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز.

    كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس : (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية.

    أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك.

    وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.

    الحكمة من مشروعية الرهن

    المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه.

    ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً.

    فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال.

    ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة.

    ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير.

    ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع.

    وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

    أهمية معرفة أحكام الرهن

    يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟

    هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن.

    حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين

    وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله.

    الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته. أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد.

    فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.

    أركان الرهن وشروطه

    للرهن أركان:

    أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون.

    ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه.

    ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة.

    رابعاً: هناك صيغة. فهذه أربعة أركان:

    الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن.

    أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة. إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف.

    وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله!- جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف.

    كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن.

    إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف.

    كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف.

    أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت. فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول.

    والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها.

    إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن.

    وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول.

    وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي:

    ينعقد البيع بما يـدل على الرضا وإن تعاطى الكل

    ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد.

    إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال.. هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن.

    1.   

    صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه

    قال رحمه الله: [يصح في كل عين يجوز بيعها].

    قوله: (يصح) أي: أن الرهن يمكن أن يكون في أي شيءٍ يمكن بيعه، ويشمل هذا: العقارات، والمنقولات، والمثمونات، فلو قال له مثلاً في العقارات: أرضي رهنٌ، كأن يستدين مائة ألف ويجعل الأرض -مبنية أو غير مبنية، أو مزرعة- رهناً إلى السداد، فإنه يصح وينعقد؛ لأن الأرض يجوز بيعها، وكذلك أيضاً الطعام، فلو قال له: أعطني ألف ريال إلى نهاية هذا الشهر، وهذا الكيس من الأرز رهن عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ كان الرهن من جنس المطعومات، وهكذا بالنسبة للمنقولات: كالسيارات، والدواب، فلو قال له: أعطني عشرة آلاف ريال، وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فقال: قبلت، فإن السيارة يجوز بيعها، فيجوز رهنها، وقس على هذا غيره، سواءً كان الشيء المرهون له قيمة مرتفعة أو دون ذلك، فما دام أنه يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه.

    أما لو كانت العين لا يجوز بيعها؛ كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، فإنه بالإجماع لا يجوز رهنها، مثاله: لو قال له: أعطني ألفاً وهذا الحيوان المحنَّط الميت رهن حتى أسددك، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيع الميتات، فلا يصح رهنها.

    إذاً: الميتات، الخمر، الخنزير، والأصنام، ونحوها، كل هذه الأشياء لا يجوز بيعها، فلا يجوز رهنها.

    كذلك أيضاً لو قال له: أعطني عشرة آلاف وأرهن عندك بعيري الشارد، أو عبدي الآبق، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق، ولو قال له: أعطني ألفاً والسمك الذي في هذا الماء رهنٌ عندك، لم يصح؛ لأنه غير مقدورٍ على تسلُّمه، فكل هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها لا يجوز رهنها.

    جواز رهن المكاتب

    قال رحمه الله: [حتى المكاتَب].

    أي: حتى المكاتَب يجوز رهنه، فإن الشخص المكاتَب الذي كاتبَه سيده، وكانت قيمته مثلاً عشرة آلاف ريال، فقال لسيده: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف ريال، أدفع لك كل شهر ألف ريال، فقال له السيد: قبلت، ثم إن هذا السيد احتاج إلى دين مقداره عشرة آلاف ريال، فقال السيد لصاحب الدين: قد رهنت عبدي فلاناً، مع أن العبد مكاتب، قالوا: يجوز ذلك؛ لأن المكاتَب عبد حتى يتخلَّص من الرق بدفع آخر أنجم الكتابة، أما إذا لم يدفعها فإنه يسري عليه حكم المملوك؛ لأنه وما ملك ملكٌ لسيده حتى يتم السداد على ما اتفقا عليه، فعقد الكتابة في أوله جائز، ولكنه يئول إلى اللزوم عند تمام السداد.

    صور الرهن

    قال رحمه الله: [مع الحق وبعده بدينٍ ثابت].

    قوله: (مع الحق وبعده) أي: يصح رهن كل شيءٍ يجوز بيعه مع الحق الذي هو الدين، أو بعده.

    والعلماء رحمهم الله يذكرون صوراً للرهن:

    فهناك صورة للرهن قبل الدين، وصورة للرهن مع الدين، وصورة للرهن بعد الدين، هذه ثلاث صور، والقسمة العقلية تقتضيها: فإما أن يعطيه الرهن قبل الدين، وإما أن يعطيه الرهن أثناء الدين، وإما أن يعطيه الرهن بعد أن يستدين منه.

    فأما الصورة الأولى -نبدأ بها لأنها هي الأصل والمشهورة-: فهي أن يكون الرهن مصاحباً للدين، كأن تقول لرجل: إني بحاجة إلى مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، وأعطيك سيارتي رهناً إلى أن أسددك. فإن رهنك للسيارة وقع مصاحباً لطلبك للدين، فحينئذٍ إذا أعطاك الدين أعطيته السيارة، فالرهن وقع مصاحباً للحق، وهذا بالإجماع جائز ومشروع.

    أما الصورة الثانية: فهي أن يكون الرهن بعد الدين، كما لو تأخر وتراخى، فقال له مثلاً: هذه مائة ألف، فقال: بعد يوم أو يومين: لقد أعطيتني مائة ألف، وهذه مفاتيح سيارتي أو عمارتي وهي رهن لسداد دينك عند العجز، وقد صح ذلك.

    أما الصورة الثالثة: وهي أن يكون الرهن قبل الدين، فمن أمثلتها قالوا: إذا كانت لك سيارة عند محمد، وقلت: يا محمد! خذ هذه السيارة أمانة عندك، فأخذها محمد أمانة عنده، ثم احتجت إلى مالٍ من محمد، فجئته وقلت له: ديّنِّي مائة ألف، فأعطاك المائة ألف وقال: بماذا تضمن لي حقي؟ فتقول له: السيارة التي عندك، أجعلها رهناً واستيثاقاً للدين. قال بعض العلماء: إن هذا جائز، وتنتقل اليد من يد الإيداع إلى يد الرهن، وذلك بمجرد الإيجاب والقبول، فتصبح رهناً بعد أن كانت وديعة، ولا يشترط التقابض مرة ثانية لإلغاء اليد الأولى.

    وسيأتي هذا في باب الضمان، وهو الانتقال من يد الأمانة إلى يد الضمان، وفيه تفصيل عند بعض العلماء رحمهم الله، لكن قالوا: إن هذا يجوز، وشدّد فيه بعض العلماء، كما درج عليه المصنف رحمه الله وقالوا: إنه لا يجوز سبق الرهن للدين، وفي بعض الصور يقوى مذهب المصنف، وخاصة في الصور التي فيها غرر أو فيها جهالة، ولكن إذا كان الأمر أقل غرراً، أو كان الغرر يسيراً، فإنه يصح أن يُقدِّم الرهن على الدين.

    عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر

    وقوله: (بدين ثابت) أي: مستقر، ومثال الدين الثابت: كأن يأتي ويأخذ منك مائة ألف، أما الدين غير الثابت، فهو كالحقوق التي تتوجه ولا تثبت إلا بعد شرط أو بعد صفة، فقبل ثبوت الشروط وهذه الصفة لا يجوز الرهن على مثل هذا الدين.

    مثال ذلك: لو أن شخصاً ضرب إنساناً مثلاً خطأً، أو صدم بسيارته رجلاً خطأً، فأتلف عليه أحد الأعضاء المثناة، أتلفها إتلافاً كلياً فحينئذٍ تستحق نصف الدية، كما سيأتي -إن شاء الله- في باب الديات، فإذا لزمت الجاني نصف الدية، فإن على العاقلة أن تتحمل فوق الثلث، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقلة: هم عصبة الجاني، فهؤلاء العصبة لا يثبت الدين والاستحقاق عليهم إلا بعد ثبوت الجناية، أما قبل ثبوت المطالبة على العاقلة، فإنه حينئذٍ لا يستقر الدين، ولا يثبت الحق، فلو أن شخصاً يعلم أنه إذا ثبتت هذه الجناية في المستقبل، أنه سيصير غارماً بعشرٍ من الإبل، أو خمسٍ من الإبل، فذهب إلى المجني عليه، وجعل الرهن لقاء هذا الدين، لم يصح للشخص المجني عليه أخذ الرهن لقاء حقه؛ لأن المجني عليه لم يثبُت حقه بعد، وحينئذٍ ليس من حقه أن يطالبك بالرهن إلا بعد ثبوت دينه، فإن العلماء يقولون: لا يكون الرهن إلا في دين ثابت مستقر، وعليه فإذا كان الدين غير ثابت وغير مستقر فإنه لا يصح الرهن؛ لأنه إيقاع للشيء قبل سببه، والأشياء لا تقع إلا بأسبابها، وذلك كما لو أدى الزكاة قبل الحول، وذلك فيما لو كان في غير التعجيل، فمثلاً: لو أن شخصاً قبل أن يحول الحول الأول الذي تثبُت به الزكاة قدَّم زكاته، لم يصح؛ لأن السبب لم توجد، وكذلك لو أخرج زكاة الفطر قبل غروب يوم السابع والعشرين من رمضان، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا أخرجها قبل وقتها الموجب فإنه لا يصح؛ لأنه إنما يعتبر الإخراج مجزئاً إذا تم الشرط المعتبر لصحة الإخراج.

    فهنا بالنسبة للرهن لا نحكم بصحّته إلا بعد صحة الدين وثبوته، فإذا كان الدين لم يثبت فإن الرهن يتركب من الدين، وعليه قالوا: إنه لا بد من وجود دينٍ مستقر، وإذا لم يكن هناك دين مستقر، وأعطاه رهناً فليس برهن، وإنما هو دينٌ آخر.

    فلو أن شخصاً ارتَهَن قبل ثبوت الدين واستقراره؛ فإنه في هذه الحالة يصير ديناً لا رهناً، ولا يجري عليه حكم الرهن.

    لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن

    قال رحمه الله: [ويلزم في حق الراهن فقط]

    ذكرنا فيما سبق مسألة العقد اللازم، والعقد الجائز، وبيّنا العقود اللازمة من أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال اللازمة في آخر الحال، والعقود الجائزة في الحالين.. بيّنا هذا في أول الكتاب عند بياننا لأحكام الخيارات.

    فقوله رحمه الله: (ويلزم في حق الراهن) هذا هو العقد اللازم، وقد قلنا: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، وأما العقد الجائز: فإنه يملك كلٌ من الطرفين فسخه ولو لم يرض الآخر، كالشركة مثلاً، فلو جئت في أي يوم من الأيام وقلت: يا فلان! افسخ الشركة التي بيني وبينك، فهذا من حقِّك، بخلاف البيع، فإنه لو باعك رجل داراً بعشرة آلاف وافترقتما دون خيارٍ بينكما، ثم جاءك وقال: لا أريد هذا البيع، فنقول: ليس من حقه أن يفسخ ما تم الاتفاق عليه بينكما؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، فهذا عقد لازم.

    فإذا دفع الشخص إليك الرهن وقبضته فإنه يلزمه، وحينئذٍ ليس من حقه أن يسترد هذا الرهن.

    فمثلاً: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف دَيناً إلى نهاية السنة، فقلت له: ماذا تعطيني رهناً؟ فقال: أعطيك سيارتي هذه، فقلت له: قبلت. وتم بينكما الاتفاق على هذا، فأعطاك مفاتيح السيارة وقبض منك المائة ألف، وبعد أن خرج وافترق إذا به يأتيك في اليوم الثاني ويقول لك: قد رهنتك سيارتي الفلانية، وهذه سيارة مثلها، أو أريد سيارتي وسأعطيك بدل السيارة العمارة، سواءً كانت مثلها أو كانت أكثر أو أفضل منها، فإنه ليس من حقه أن يسحب هذه العين، أو أن يُخليها من اتفاق الرهن الذي بينكما إلا برضاً من صاحب الدين.

    إذاً: معنى قوله: (يلزم) أي: أنه ليس له خيار، حتى يرضى الطرف الثاني، فلو أبيت وقلت له: لا أريد رهناً إلا هذه السيارة التي جئتني بها، ولا أقبل بدلاً عنها، فهذا من حقك، وليس من حقه أن يسحب هذه السيارة أو أن يأتي بعوض عنها، وتبقى مرهونة إلى أن يتم السداد.

    صحة رهن المشاع

    قال رحمه الله: [ويصح رهن المشاع].

    الأشياء المملوكة كالأراضي والسيارات والأطعمة والأكيسة ونحو ذلك، لا تخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون ملكاً لشخص واحد، كأرضٍ يملكها زيد، أو عمارة يملكها عمرو، فحينئذٍ لا إشكال، فاليد واحدة وهي ملك لصاحبها.

    الحالة الثانية: أن يشترك فيها اثنان أو أكثر، فإذا اشترك فيها اثنان أو أكثر، فهذا يسمى: المشاع، وفي بعض الأحيان هذا المشاع أو المشترك، يكون سبب الشيوع والاشتراك فيه: إما أن يكون من الطرفين؛ كأن يدفعا مبلغاً ويشتريا أرضاً، فلو أنهما اشتريا أرضاً بمائة ألف، هذا دفع خمسين وهذا دفع خمسين، فالاشتراك والمشاع جاء من جهة الطرفين، فقد دفعا المبلغ واشتركا.

    وإما أن تكون هذه الشراكة بدون اختيارك؛ كالإرث، مثاله: شخص توفي عنه والده وترك له ولأخٍ ذكر معه داراً، ولا وارث له غيرهما، فحينئذٍ تكون الدار بينهما، وهذا المشاع وقع الاشتراك فيه بدون اختيار من الطرفين، إنما هو بحكم شرعي، فالله عز وجل جعل هذه الدار ملكاً لهما، فلو أن ابنين اشتركا في دار والدهما، حيث انتقلت ملكية الدار إليهما بعد موت أبيهما، فاحتاج أحد الابنين إلى مبلغ ما، كمائة ألف، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقال: ليس عندي إلا إرث والدي، وهو نصف المزرعة، أو نصف العمارة، أو نصف هذه السيارة، أو نحو ذلك، فقال له: قبلت، فحينئذٍ هذا رهن المشاع، فكما يصح رهن غير المشاع، يصح رهن المشاع؛ لأن الحكمة والعلة تدور حول إمكانية رد الحق عن طريق الرهن، فهذا النصف الذي تركه الوالد للولد يمكن بيعه وسداد الحق منه، كما لو ترك له مالاً منفرداً.

    وكما أنك إذا ملكت الشيء لوحدك يمكن بيعه والسداد منه، فكذلك إذا كانت الأرض مشاعة بينك وبين إخوانك، فإنه يجوز الرهن؛ لأنه يمكن سداد الحقوق منها، كما يمكن سدادها من المملوكات التي لا اشتراك فيها ولا شيوع.

    1.   

    الأسئلة

    مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها

    السؤال: هل كتابة الدين حالاتها مثل الرهن، وذلك أن من يؤمن السداد منه لا ينبغي له أن يطالبه بالكتابة، ومن خشي عدم سداده فإنه يطالبه بالكتابة، أم أن كتابة الدين مسنونة، وتُشرع مطلقاً أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى شرع كتابة الديون؛ لأن هذا أمكن لأهل الحقوق، وأبعد عن الجحد والكذب، وكذلك النسيان، وقد يكون الرجل الذي تعامله أميناً ديناً صالحاً، ولكنه ينسى، وحينئذٍ قال العلماء: إنها تشرع، والأصل أنها مشروعة، ولا شك أنها سنة، فالسنة أن يكتب المديون الدين الذي عليه للناس، ويوثق هذا الدين بشاهدين عدلين ممن ترضى شهادته، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن يُرضى للشهادة.

    وأما بالنسبة لأحوال الناس من حيث الإنكار وعدمه، فكتابة الدين من حيث الأصل هي للاستيثاق، فإذا أمكن أن يستوثق لدَينه بكتابة المديون في وصيته ونحو ذلك فالأمر أخف، ولذلك قال بعض العلماء: تجب الوصية، ويجب أن يكتب وصيّته إذا كانت عليه ديون لم يستوثق أهله فيها.

    مثال ذلك: لو جئت إلى صاحب بقالة، وأخذت منه بريال، فإنه لا يجوز لك أن تبيت تلك الليلة إلا وقد كتبت أن لفلان عليك ريالاً؛ لأنك لا تأمن الأجل، وهذا الريال الذي يتساهل فيه الإنسان تتعلق نفسه به، كما ورد في الحديث: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وقال أبو قتادة رضي الله عنه في قصة الدينارين، حيث أُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ وعليه ديناران، أي: ديناً عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة رضي الله عنه: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام، فلمّا مضت الأيام قال أبو قتادة : فلم يزل يلقني عليه الصلاة والسلام ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته).

    فهذا أمرٌ عظيم، حتى إن قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) اختلف فيه بعض العلماء، فبعضهم يقولون: إنه يُرهن عن النعيم، بمعنى: أنه لا يُنعم، بل يُوقف عنه النعيم حتى يُسدد عنه، لأن قوله: (مرهونة) أي: محبوسة؛ لأن الرهن أصله الحبس والمنع، فإذا عبّر بالرهن فمعناه أنها محبوسة عن شيء، ونفس المؤمن لا تُحبس إلا عن خير، ولا تُحبس إلا عن فضل؛ لأن السياق سياق تخويف وتهويل، ولذلك قالوا: إنه يُمنع عن النعيم أو عن شيءٍ من النعيم.

    لكن ظاهر النص أنها مرهونة، أي: محبوسة في هذا الدَّين، بل قال بعض العلماء: جرّبت الدين فوجدت فيه البلاء وحبس النفس حتى في الدنيا، فإن الرجل يكون عليه الديون وعليه حقوق الناس، فلربما تأخر في السداد فدعا المظلوم عليه، ولربما سها في السداد، أو جاءته النفس الأمارة بالسوء، فأخَّر السداد وهو قادر، فدعا عليه صاحب الدين دعوة، وهو مظلوم؛ لأن مطل الغني ظلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، فإذا امتنع من السداد وهو قادر، فقد ظلم، والمظلوم مستجاب الدعوة، قال: فيدعو عليه دعوة قد تكون سبباً في حرمانه من كثير من الخير.

    وكان بعض يقول العلماء: وجدت في نفسي وجرّبت هذا أنني ما استدنت إلا وجدت غم الدين على قلبي، حتى أؤدي حقوق الناس، ويقول: إنني في بعض الأحيان لا أجد نشاطاً لطلب العلم، ولا أجد راحة في العبادة، لما تتعلق نفسي بحقوق الناس، ولكن ما إن أنفك منها وأسدد للناس حقوقهم، إلا وجدت الانشراح، ووجدت أنني في نعمة؛ فلا أحد يطالبني، وليس لأحد علي من حق. فالبعد عن حقوق الناس ما أمكن هذا أفضل وأكمل.

    وهذا لا يعني أن الدين مذموم أو محرّم، بمعنى: مذمومٌ ذماً يصل إلى التحريم، لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، وهو خير الأمة، واستدان أصحابه والصالحون من بعده، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (والله لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لكن إذا كان للغير عليك حق، وتعلم أنه لا سبيل لإثبات حقه إلا بالكتابة، فعليك أن تكتب في وصيتك، وهكذا إذا تعاملت مع إخوانك وأصحابك، فعليك أن تكتب ما لهم عليك من الحقوق، أو تستعير كتاباً من أخيك، أو تستعير شيئاً من أخيك، فتكتب أن لأخيك كذا وكذا، وإلا ضاعت حقوق الناس.

    وانظر إلى رجل يأخذ أموال الناس دَيْناً ولا يكتب دينه، حتى إذا توفاه الله عز وجل جاء أصحاب الدين يسألون حقوقهم، فقال لهم الورثة: لا نعرف شيئاً، ما ترك مورِّثنا وصيّة نعلم بها حقوقكم، فماذا سيقول أصحاب الديون؟ سيشتكون إلى الله عز وجل، وربما دعوا على الميت، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا لا شك أنه خطرٌ عظيم على العبد، فالواجب على المسلم أنه يحتاط لدينه ويستدرك، فإذا علم أن حقوق الناس لا سبيل لإثباتها إلا بالكتابة كتب، وإذا علم أن ورثته ربما أنكروا، أو ربما زيفوا الكتابة، أو امتنعوا من إعطاء الحقوق، كتب لكل صاحب دينٍِ كتاباً يستوثق به حقه إن جاء يطلبه يوماً من الأيام، والله تعالى أعلم.

    توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها

    السؤال: ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاثَ صور للرهن مع الدين، وذكرتم صورتين، وبقيت صورة: وهي الرهن بعد الدين، فما توضيح هذه الصورة أثابكم الله؟

    الجواب: الرهن بعد الدين كما ذكرنا: أن يتفق معه مثلاً على دين عشرة آلاف ريال، ثم من الغد يعطيه رهناً، فهو في أثناء الدين لم يأخذ منه شيئاً، وبعدها بيوم أو يومين أعطاه الرهن، فإن هذا جائز ومشروع، سواءً وقع أثناء العقد أو بعد العقد، وأما قبل العقد ففيه التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان الأصح والأقوى في غالب الصور مشروعية ذلك وجوازه، والله تعالى أعلم.

    حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين

    السؤال: من الذي يتصرَّف في الرهن عند استيفاء أجل الدين، هل هو الدائن أم المدين؟ وإذا كان الدائن هو الذي يتصرف، فربما لا يُحسن التصرُّف في الرهن كأن يبيعه مثلاً بأبخس الأثمان، فهل هناك من قيد لهذا التصرُّف أثابكم الله؟

    الجواب: الأصل أنه إذا أعطاه الرهن فهناك حالتان:

    الحالة الأولى: أن يقول له: هذه الدار رهنٌ عندك، فإذا لم أسددك فبعها، وخذ حقك منها. فهذا إذنٌ مسبق، وحينئذٍ من حقه إذا انتهى الوقت ولم يعطه حقه أن يبيعها مباشرة، وأن يأخذ حقه.

    الحالة الثانية: أن لا يأذن له، أو يسكت عن الإذن، فحينئذٍ يُنتظر إلى تمام المدة، ثم يُرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى من لهم معرفة وخبرة، ومن بعد ذلك يحكم، أو يأذن لنفس الشخص إذا كان عنده خبرة ومعرفة أن يبيع، وليست الأمور هكذا مفلوتة، فمثلاً: لو أنه عرض الأمر على القاضي، فإن القاضي يسأل أهل الخبرة: بكم تُباع هذه الدار؟ فإن قالوا: بمائة ألف، فيقول له: اذهب وبعها بمائة ألف، فيذهب ويبيعها، فإذا وجد أنها لا تباع إلا بثمانين، ألزمه بالمائة؛ لأن هذا قول أهل الخبرة، ويُعطى كل ذي حق حقه، فلا يُظلم المديون، ولا يُظلم صاحب الدين، وهذا هو شرع الله عز وجل، أنه يُعطى كل ذي حق حقه، لا يُظلم الإنسان في حقه إذا كان له على الغير، وليس من حقنا أيضاً أن نظلم أصحاب الديون المعسرين في ممتلكاتهم، فتُباع عليهم بالبخس، والله تعالى أعلم.

    جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده

    السؤال: هل اشتراط الرهن ينبغي أن يكون أثناء بذل الدين، أي: في نفس المجلس، أم للدائن أن يضيف شرط الرهن بعد ذلك، خاصة إذا خشي عدم السداد أثابكم الله؟

    الجواب: إذا اتفق الطرفان على الرهن في عقد الدين، فإنه لا بأس بذلك، وهو جائزٌ ومشروعٌ بالإجماع، وهكذا إذا سأله الرهن بعد أخذ الدين، وأراد أن يستوثق، فإن له ذلك، ولا بأس به؛ لأن الناس تختلف أحوالهم، فلربما أعطيت الرجل وأنت تظنه أميناً، ثم جاءك الثقة وأخبرك أنه مماطل، وأنه جحود، أو أنه متلاعب بالحق، فأردت أن تستوثق لحقك، فمن حقك أن تستوثق وتطالبه بالرهن.

    واشتراط وجود الرهن في الدين، سواءً كان في البيع أو كان في القرض، هذا كله من المصالح، ويُعتبر شرطاً شرعياً، فمثلاً: إذا نظرنا إلى ما يترتب على وجود الرهن من المصالح لصاحب الدين وللمديون، فإننا نرى مشروعية ذلك؛ سواءً كان أثناء عقد الدين، أو بعد عقد الدين، فالحكم واحد، والنتيجة واحدة، ولا شك أن الإنسان ربما وثق في أناس على ظاهرهم، ثم تبين له خلاف ذلك، فيريد أن يستوثق من بعد فيشترط الرهن، فهذا من حقه.

    أما لو وقع اشتراط الرهن أثناء عقد الدين، فإنه يعتبر ملزماً بالدَّين، والله تعالى أعلم.

    حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه

    السؤال: أشكل عليَّ كلام لأهل العلم رحمهم الله بعدم جواز مطالبة المدين بالدين عند حلول الأجل إذا عُلِم عُسره، فهل تباع داره أو دابته، أم أنها من الضروريات فيُنتظر إلى ميسرته أثابكم الله؟

    الجواب: الأصل الشرعي أن الله تعالى وسَّع على المعسر في عسره، فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، والمؤمنون رحماء بينهم، ولو أن المسلم نزّل نفسه منزلة أخيه المديون، الذي أصابته النوائب، وكثرت عليه البلايا والمستلزمات والحاجيات ونحوها، لو أنه أنزل نفسه منزلته لما رضي أن تُباع داره، ولما رضي أن يؤذى في ماله الذي لا بد له منه، إلا إذا كانت داره أكثر من حاجته، فلو أنه سكن في دارٍ قيمتها مائة ألف، والدين الذي عليه عشرة آلاف، ويمكننا بيع هذه الدار وأن يسكن في دارٍ بخمسين ألفاً، فإنها تُباع داره؛ لأنه زاد عن حقه المحتاج إليه بالمعروف بهذا القدر، فتُباع داره ويترك له ما يسكنه بالمعروف، وهذا مما يقضى فيه بالقاعدة المشهورة: (العادة محكّمة)، فإن كان الذي مثله يعيش في بيت بعشرين أو ثلاثين ألفاً، وذهب هو وسكن في بيت قيمته مائتا ألف أو مائة وخمسون ألفاً، أو حتى بستين ألفاً الذي هو الضعف، وجاء واستدان، ثم قال: أنا مُعسِر، وهو يسكن في هذا المسكن الفاره، أو عنده سيارة يحتاجها لنقل أولاده وعوائله، ولكن هذه السيارة يستطيع أن يستبدلها بما هو أرخص؛ فإنه لا يُعتبر معسراً، ولا يجوز دفع الزكاة إلى مثل هذا الذي يزيد في ماله ما يمكنه أن يُحسن التصرف به، ويسد به عجزه وعوزه، أما لو وجدت الحاجة والضرورة، وأصبح في عوز وشدة، فالحكم لا يخفى أنه يُنظر إلى الميسرة؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، والله تعالى أعلم.

    معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما...

    السؤال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)، شمل الحديث البيِّعان في بركة البيع ومحق بركته، فإن كذب أحدهما، فهل يشملهما أثابكم الله؟

    الجواب: المحفوظ عند أهل العلم رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر بالمتعاقدين على أن يأتي الخير منهما، أو الشر منهما، ومفهوم ذلك أنه لا يكون هذا من جهة، بحيث لو أن أحدهما كذب فإنه -والعياذ بالله- تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ولو أنه غش فإنه تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ومن هنا لو باع داراً مغشوشة، ودفع له مائة ألف، وسكنها المشتري، وهو لا يعلم بهذا الغِش؛ بارك الله للمشتري إن كان رضي بهذا الشيء؛ لأنه أعطى المال دون أن يغش البائع، ولكن تُمحق البركة من مال البائع، نسأل الله السلامة والعافية!

    فالذي يظلم هو الذي يتعلق به محق البركة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (..فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما)، هناك من أهل العلم من يقول كلاماً غريباً في هذا الحديث، يقول: إنه إذا كذب البائع، أو كذب المشتري، فمعنى ذلك أنه سيحدث العيب في البيع، والعيب يُستحق به الرد، وحينئذٍ تعلق البلاء بالطرفين، وبناءً على ذلك يكون الحديث على ظاهره، أي: يشمل الطرفين، لكن هذا الجواب لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه في بعض الأحيان يُغش الإنسان ويُدلّس عليه، فيرضى بهذا الغش ويرضى بهذا التدليس، ويبارك الله له في هذه الصفقة؛ بل إن الرجل يشتري الشيء الغالي، ويرى من غشّه وكذبه وبإمكانه أن يؤذيه ويضر به، فيترك أمره لله، فيبارك الله له في هذه الصفقة التي غُبِن فيها بأضعاف، والله عز وجل على كل شيءٍ قدير.

    ومن طلب العِوض من الله سبحانه وتعالى فيما ينزل به من المصائب أو يحل به من النكبات؛ فإن الله يعوِّضه، وفي الله عِوض عن كل فائت، والله يجبر الكسير، ويجعل له من الخلف ما لم يخطر له على بال، فمن مستقل ومن مستكثر، والناس في الرضا ببلاء الله على مراتب، فمن كمُل رضاه كمّل الله له الجبر، وكمّل الله له الخير والبركة. فالمقصود: أنه لا يمتنع أن تكون هناك بركة في البيع إذا كان أحدهما مظلوماً، وفوّض أمره إلى الله عز وجل، ورضي بما كان، والله سبحانه وتعالى يخلُف عليه بخير، والله تعالى أعلم.

    حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة

    السؤال: ما حكم تأخير توزيع الورث على الورثة مع الاستطاعة على التعجيل، أثابكم الله؟

    الجواب: لا يجوز لمن يقوم على أموال الموتى وإرثهم، كالإخوان الكبار والأعمام ونحوهم -ممن يلي الأموال والتركات- لا يجوز له أن يؤخر قسمة الأموال دون وجود عذرٍ شرعي، أو رضاً من الورثة، فإذا رضي الورثة، وقالوا: رضينا بأن نبقى شركاء في هذه العمارة، أو رضينا أن نبقى شركاء في هذه المزرعة، فهم ورضاهم، ولا بأس بإبقاء المال، ولو إلى سنوات، بل حتى ولو إلى أجيال، مادام أنهم رضوا بذلك فالمال مالهم، فكما يجوز لهم أن يشتركوا بالطلب، يجوز لهم أن يشتركوا بحكم الشراكة.

    أما لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو بقي محتاجاً مديوناً، ويبقى إخوانه يكتسبون ذلك منه مستغلين حياءه وخجله، فيمتنعون من قسمة المواريث، ورد الحق إلى صاحبه، وإعطاء كل وارثٍ ما تركه له مورِّثه، فهذا من الظلم، خاصة النساء، فإن النساء يُظلمن في هذه الحقوق كثيراً، وتغفل حقوقهن، ولربما أُكلت بالباطل، فلا يجوز مثل هذا، وعلى الأولياء والإخوان أن لا يجاملوا في هذا، ومن علم أن أخاه يريد حقّه، أو أن ظروف أخيه تحتاج إلى مساعدة، وتحتاج إلى مال، وأن من المصلحة بيع المال؛ فإنه يُباع، لكن هناك أحوال يؤخَّر فيها البيع، كأن يكون هناك ضرر على الورثة، كأن يكون السوق كاسداً، والمبلغ يسيراً، وفيه ضرر لو بِيع، ويُرجَّى بعد شهر أو شهرين -دون أن يكون هناك ضرر- أن يتحسن السوق، وأن يُباع بما هو قيمته، فحينئذٍ يجوز التأخير في حدودٍ وفي أحوالٍ معينة، فلا يجوز أن يُمنع الورثة من مال مورِّثهم، بل لقد رأيت من الناس من ترك له مورِّثه مالاً كثيراً، وهو والله يعيش كعيشة الفقير المسكين من تضييق إخوانه الكبار وأذيتهم له، ومحاولتهم احتوائهم للأموال، فإذا كان الرجل بالغاً رشيداً فهو أحق بماله، ومن منعه فقد ظلم، وظلم ذوي القربى أعظم من ظلم غيرهم، وعلى هذا ينبغي على أولياء الأموال أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتقوا الله في قرابتهم، وأن يقسموا بقسمة الله عز وجل التي قسمها من فوق سبع سماوات.

    حكم رهن الموصوف في الذمة

    السؤال: أشكل عليَّ معرفة المقصود من قول المصنف رحمه الله: (يصح في كل عين)، هل الموصوف في الذمة لا يصح الرهن فيه أثابكم الله؟

    الجواب: تقدّم معنا مسألة العين، ومسألة الذمة، وبيّنا أن المعيّن يكون العقد عليه ويفوت بفواته، وأن الموصوف في الذمة يصدُق على كل شيءٍ ينطبق عليه ذلك الوصف.

    ومسألة قبض الرهن نص الله عز وجل عليها بقوله: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، ولذلك فإن الأصل في الرهن غالباً أن لا يكون إلا بالحاضر، كأن يقول: أرهنك سيارتي هذه، أو أرهنك ساعتي هذه، فهذا رهن الأعيان.

    وأما إذا سبق قبض الرهن على الدين، فإنه يستقيم أن يكون في الموصوف، وحينئذٍ يكون الاستقبال والاستحقاق مستقبلاً لأخذ الدين وإعطاء العين من الرهن، وعلى هذا يكون في الذمة ابتداءً، ولكنه يئول إلى العين انتهاءً عند التعاقد، وحينئذٍ لا بأس، خاصة على مذهب من قال: إنه يجوز أن يتقدم الرهن على الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في المجلس الماضي، والله تعالى أعلم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756006913