إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الجهاد [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الغنائم ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهي خصيصة من خصائص هذه الأمة، فإنها لم تحل لأحد قبلها. وقد جاء الشرع ببيان هذه الغنائم من حيث كيفية تقسيمها، ومن هم الذين يستحقونها، وما هي مصارفها، وما هي المخالفات التي ينبغي اجتنابها فيها، والعقوبات المترتبة على هذه المخالفات، وهكذا الحال في الأموال التي تؤخذ من المشركين كالجزية والعشر والفيء.

    1.   

    أحكام الغنيمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    متى تملك الغنيمة

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى:

    [وتُمْلَك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب]

    (وتُمْلك الغنيمة): بالجهاد في سبيل الله.

    (بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وهذه مسألة خلافية: إذا غنم المسلمون في الجهاد في سبيل الله، فهل يشترط في قسمة الغنيمة حيازتها، أم أن الغنيمة تقسم في أرض العدو؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على جواز قسمتها بأرض العدو، والحنفية على أنه لا بد من حيازتها، والصحيح مذهب الجمهور لثبوت السنة به.

    المستحقون للغنيمة

    قال رحمه الله: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال]

    (وهي) أي: الغنيمة.

    (لمن شهد): (اللام) للاختصاص، أو للمِلْك؛ ولكن الظاهر أنها للاختصاص، أي: وهي مختصة بمن شهد الوقعة.

    (لمن شهد الوقعة): أي: شَهِد القتال، وهذا له أصل في السنة، حيث دلت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تُكُلِّم في بعضها.

    وعلى هذا: فإنه لا يستحق من الغنيمة المريض الذي تخلَّف ولم يشهد الوقعة، حتى ولو كان تخلفُه لمرضٍ أو كِبَر سن، مع أن نيته أنه لو كان صحيحاً لغزا؛ ولكنه مرض فامتنع من الغزو، فإنه لا يستحق، ووجود عُذْر لا يوجب أخذه للغنيمة، ولذلك يقول العلماء: مِن المواطن التي يفترق فيها أجر الآخرة والدنيا -أي: غنيمة الدنيا وأجر الآخرة- في الجهاد في سبيل الله: هذا الموطن، فإن المريض أجره في الآخرة كامل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، وشاركوكم الأجر) فهم في أجر الآخرة يشاركون الغازين؛ ولكنهم في أجر الدنيا -وهو الغنيمة- لا يأخذون منه، فالغنيمة مختصة بمن شهد الوقعة، إلا إذا كان هذا المريض له بلاء، كأن يكون خطط للمعركة، أو خطط للجهاد في سبيل الله، أو استعان به القائد، فأشار عليه برأي، فللإمام أن يكافئه وأن يدخله في الغنيمة؛ لأنه كالمجاهد، إذ برأيه وبمشورته كان له هذا البلاء.

    وكذلك النساء لا يأخذن من الغنيمة، فلا حق لهن فيها؛ وإنما يرضخ لهن، والرضخ: أن يأخذ الإمام شيئاً من الغنيمة ويعطيه لهن، إذا داوين الجرحى، وعالجن المرضى.

    كذلك أيضاً: المجنون والصبي، فإنهما لا يستحقان من الغنيمة، ولو شهدا الوقعة.

    فالمرأة، والصبي، والمجنون، هؤلاء الثلاثة لو شهدوا الوقعة فإنهم لا يأخذون سهماً من الغنيمة.

    وأما من تخلف عنها لعذر كما لو قال القائد لرجل: اذهب وانظر لي كذا وكذا، فأرسله لمهمة، وبسببها تعطل عن شهود المعركة أو شهود الوقعة، فإنه يأخذ من الغنيمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب سهماً لـعثمان رضي الله عنه في بدر؛ لأنه تغيب لعذر وثبت عنه عليه الصلاة والسلام إعطاؤه الحق للغائب بعذر، فقال العلماء: إن مَن تخلف بعذر من الإمام، كأن يرسله عيناً يتحسس الأخبار، أو يرسله لكي يحضر زاداً، أو يحضر عتاداً، أو يحضر الذخيرة، أو نحو ذلك مما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فهؤلاء في حكم من شهد الوقعة، ويأخذون من الغنيمة، فيعتبرون مستثنَون من الاختصاص في قوله: (لمن شهد الوقعة).

    اختصاراً: لا يعطى من الغنيمة:

    - النساء على أن لهن سهماً معيناً، وإنما يُعْطَين رضخاً.

    - ولا يعطى منها الصبيان.

    - ولا يعطى منها المجانين.

    - ولا يعطى منها كذلك المرضى، إلا مَن أرسل في حاجة لمصلحة الجهاد والقتال، أو في مصلحة الجيش، أو كان مريضاً وكان هناك نفعٌ من رأيه ومشورته، فهؤلاء لهم حق بالصفة التي ذكرنا.

    الخمس ومن يستحقه

    ثم بعد أن ينتهي من هذه الأمور، يقسم الغنيمة إلى خمسة أقسام، أو خمسة أجزاء متساوية، وهذا ما يسمى (بالتخميس) والخمس هو الواحد من الخمسة، وأول ما يبدأ به هو أن يحوز الخمس الذي لله ولرسوله ولليتامى والمساكين وابن السبيل ولذي القربى، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، فإن خمسها يساوي مائتي ألف، وتبقى ثمانمائة ألف، وهذه هي حظ المجاهدين، وهذا في المنقولات، أي: الحق المنقول؛ لأن الغنيمة في الغزو تنقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالمنقول هو الذي نتكلم فيه الآن، أما العقار فسيأتي حكمه، فيقوم بضم الخمس ويقسمه كالآتي:

    1- الخمس الذي لله وللرسول: والمراد بالخمس الذي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: أن يوضع في مصالح المسلمين، وتهيئة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، ويصرف في مصالحهم في الطرقات والأطعمة والمستشفيات، ونحوها مما يحتاج إليه من مصالح المسلمين العامة.

    2- ثم الخمس الثاني: لذي القربى، وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك بني هاشم وبني المطلب على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، وقد بينا فروعهم وأصولهم ومَن الذين يستحقون الخمس، وهم الذين لا يأخذون من الزكاة، وفصلنا هذه الأحكام في موضعها، وذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على هذه المسائل.

    3- وخمس لليتامى.

    4- وخمسٌ للمساكين.

    5- وخمسٌ لابن السبيل.

    وقد بينا هذه الأصناف كلها في كتاب الزكاة، فبينا مَن هم الفقراء؟ ومَن هم المساكين، ومَن هو ابن السبيل، وبيَّنَّا ضوابط كلٍّ، فيعطى هذا الخمس للأصناف التي نص الكتاب على قسمتها عليهم.

    وفي قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]: اختلف العلماء في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]:

    قيل: إن قوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، المراد به: الاستفتاح، فالله عز وجل مالك كل شيء، وإنما استفتح الله عز وجل بنفسه تشريفاً وتكريماً.

    وقيل: إن المراد بقوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]: هو السهم الواحد، الذي هو خمس الخمس.

    (وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم آل البيت.

    (وَالْيَتَامَى) اليتيم هو: الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، أما إذا فَقَدَ أباه بعد البلوغ فلا يسمى يتيماً، ويُعطى هؤلاء اليتامى على تفصيلٍِ عند العلماء:

    بعض العلماء يقول: يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم.

    ومنهم من يقول: يختص بفقراء اليتامى، فيشترط في اليتيم:

    - أن يكون دون البلوغ حين يفقد أباه.

    - وأن يكون محتاجاً، أي: فقيراً أو مسكيناً.

    (وَالْمَسَاكِينِ) وقد بينا أن المسكين هو الذي لا يجد تمام كفايته، وأن الفقير أشد منه حالاً، وعلى هذا يمكن صرف هذا السهم للفقراء؛ لأنه إذا أعطي المسكين فمن باب أولى الفقير؛ لأن الفقير فيه وصف المسكنة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحييه مسكيناً، واستعاذ بالله من الفقر؛ لأن الفقر أشد من المسكنة، فيمكن أن تصف الإنسان بكونه مسكيناً مع أنه يملك، كما قال تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79].

    (وَابْنِ السَّبِيلِ) ابن السبيل: هو المسافر المنقطع، واختلف العلماء في ضابطه -كما بيناه في باب الزكاة- هل يشترط أن يكون معدِماً في سفره وفي بلده، أم أنه يُعطى ولو كان غنياً في بلده؟ ذكرنا هذين الوجهين.

    كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين

    بعد هذا يقوم الإمام بصرف الأربعة الأخماس وتوزيعها على المجاهدين أو المقاتلين، وهذا ينبني على ما ذكره المصنف: [للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم].

    والفارس: هو الذي يقاتل على الفرس، ويكون له ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث ابن عمر وغيره (أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً واحداً) وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقضى به عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وكذلك قال به من أئمة التابعين: محمد بن سيرين والحسن البصري، وقضى به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبَين، وأهل الحديث، أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وأن للراجل سهماً واحداً؛ ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يكون له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، واحتج بحديث ضعيف.

    والصحيح: مذهب الجمهور؛ لدلالة السنة عليه.

    فإذا قلنا: للراجل سهم، ولكل فارس ثلاثة أسهم، فمن ناحيةٍ عقلية لا يخلو الجيش من ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون جميعهم فرساناً، فحينئذ تكون القسمة قسمة الفرسان، بمعنى أن تحسب عدد رءوس المقاتلين، فلو فرضنا أنهم ألف، فتضربهم في ثلاثة، فحينئذ يكون المجموع ثلاثة آلاف، فلو أن الغنيمة تسعمائة ألف، فمعنى ذلك أنك تقسمها على ثلاثة آلاف، فيكون كل سهم تسعمائة ريال، فتعطي كل واحد منهم ثلاثة أضعافها، فتضرب التسعمائة في ثلاثة، فيصير المجموع (3×900=2700)، فتصبح ألفين وسبعمائة لكل واحد منهم.

    وهذا القسم ثابت دلت عليه السنة.

    الحالة الثانية: العكس؛ أن يكون جميعهم من الرجَّالة، وهذه غالباً ما تقع في الدفاع عن الحصون، فإذا كانوا رجَّالةً وقاتلوا فإن الغنيمة تقسم على عدد الرءوس، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، وهم ألف مقاتل، فمعنى ذلك أن سهم كل واحد منهم يكون ألفاً.

    الحالة الثالثة: أن يكون فيهم من يقاتل على فرسه وفيهم من يقاتل راجلاً، ففي هذه الحالة يحسب عدد الرجالة ويُحسب عدد الفرسان، ثم تضرب عدد الفرسان في ثلاثة، فلو كانوا ألفاً نصفهم رجَّالة ونصفهم فرسان، فمعنى ذلك أن الفرسان خمسمائة، فتضرب الخمسمائة في ثلاثة؛ فيصبح المجموع ألفاً وخمسمائة، ثم تضيف عدد الرجَّالة فيصبح المجموع ألفين، فتقسم الغنيمة على ألفين، والناتج من ذلك تعطي الفارس ثلاثة أضعافه، وتعطي الراجل عين الناتج، فلو فرضنا أنهم غنموا مليوناً، فالمليون تقسمها على ألفين، فيكون الناتج خمسمائة، يكون منها للفارس ألفاً وخمسمائة، ويكون للراجل خمسمائة.

    وقد ذكر العلماء هذه المسائل وبينوها في كتاب الجهاد في الكتب المطولة، والمصنف -رحمه الله- بيَّن تراكيب قسمة الغنائم لتعلقها بكتاب الجهاد كما ذكرنا.

    فالمجاهد على فرسه، إن كان الفرس له، فقال بعض العلماء: يستحق للفرس.

    فلو كان معه فرساً ثانياً؟

    فبعض العلماء يرى أنه لا يعطى لأكثر من فرس.

    ومنهم من يرى أن الحد فَرَسان، فإن زاد عليهما لا يعطى، والسبب في هذا: أنه يقاتل على فرس، ويحمل متاعه وسلاحه على فرس آخر، فقالوا: إنه يعطى في حدود الفرسين، وفي هذا حديث تكلم العلماء رحمهم الله فيه، وعلى القول بثبوته فإنه يُعطى لكل إنسان في حدود الفرسَين، فإن كان عنده ثلاثة أو أربعة أفراس أو أكثر فلا يعطى عليها.

    وقوله: )ثم يقسم باقي الغنيمة؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه)

    هذا يستوي فيه الشجاع والجبان، ما دام أنه حضر القتال وقاتل، وفي زماننا إذا أعطي المجاهد راتبه فإنه لا يكون له حظ من الغنيمة؛ لأن هذا يسمونه (المرتب)، فإذا رُتِّب له عطاء فهو أشبه بالإجارة، وحينئذ لا يُستَحق، وتكون الغنيمة لبيت مال المسلمين إلا ما يكون منها رضخاً أو نَفَلاً، ولذلك يقولون: يشترط ألاَّ يكون الأجناد مرتبين، فإذا كانوا مرتبين فحينئذ لا إشكال، فتكون غنيمته لبيت مال المسلمين، وتصرف في مصالحهم.

    قال رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم]

    هذا من السنة، وهو مذهب الجمهور، فجماهير العلماء رحمهم الله يقولون: إن الجيش إذا بعثت منه سرية لأمر، كأن يبعث السرية لطلب أو لنجدة من يحتاجون إلى من ينجدهم ويسعفهم، أو يجعلونها كميناً للعدو، ثم فوجئوا بالعدو أمامهم، فلم تشهد السرية الوقعة -والأصل في الغنيمة أن تكون لمن شهد الوقعة- فحينئذ تشارك السريةُ الجيشَ في الغنيمة، فكأنهم حضروا؛ لأنهم غابوا فيما يعين على الوقعة، وفيما يقصد به حماية الجيش، والعكس، فلو أن هذه السرية ذهبت وقاتلت وغنمت، فإن الغنائم توزع على الجيش جميعاً، فيشارك الجيشُ سراياه، والسرايا تشارك الجيش فيما غنم.

    1.   

    الغلول وأحكامه

    قال رحمه الله: [والغال من الغنيمة يُحرق رحلُه كلُّه، إلا السلاح والمصحف وما فيه روح]

    الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو أشبه بالسرقة والعياذ بالله! فبعد أن بيَّن رحمه الله أحكام الغنائم؛ لأنها مترتبة على الجهاد، شرع في بيان الأخطاء التي تقع فيها، ومن ذلك الغلول، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] والغلول من كبائر الذنوب، فإنه -والعياذ بالله- ما غل عبدٌ شيئاً إلا اشتعل عليه ناراً في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- وعذبه الله به في برزخه، وفضحه به على رءوس الأشهاد، ويأتي يوم القيامة يحمل على ظهره ما غل، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً)، (يا محمد!) أي: كن لي، واشفع لي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: إنني أعذرت وبينت أن هذا لا يجوز، وأن هذا خيانة لله ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، ولذلك يُعَد الغلول من كبائر الذنوب، ونص العلماء رحمهم الله على فسق صاحبه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قُتِل رجل يوم خيبر، هنأه بعض الصحابة بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم (كلا والله! والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلَّها يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً) فهذا يدل على فظاعة أمر الغلول، نسأل الله السلامة والعافية!

    واستَشْكل العلماء رحمهم الله مسألةَ أن الشهيد يغفر له كل شيء، ومع ذلك تشتعل عليه الشملة؟

    قيل: إنه ترجم بهذا الأخذ عن قصده للدنيا، فتكون شهادته ناقصة وفيها شبهة؛ لأنه إنسان مريض القلب، وحظه الدنيا دون الآخرة، وقال بعض العلماء: لا تعارض بين عام وخاص، فالغلول له عقوبة خاصة، ولذلك يعتبر مستثنىً من الأصل، أنه يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدين.

    إحراق رحل الغال إلا ما استثني

    قوله: (يُحرَق رحلُه كلُّه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح)

    هذا الفعل يسمى بالتعزير، والغال -والعياذ بالله- له حالتان:

    الحالة الأولى: أن ينكشف غلوله في الدنيا، فحينئذ يعاقب بالعقوبات التالية:

    أولاً: يجب عليه ضمان ما غل.

    ثانياً: أنه يُحرق رحلُه.

    ثالثاً: يعزره الإمام بما يردعه ويردع غيره عن فعله.

    أما العقوبة الثانية: وهي حرق الرحل، فقد جاءت به السنة، واختُلِف في رفعِ الحديث ووقفِه، ولكن ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أحرقا متاع الغال، وهذا يسميه العلماء: العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، ومن الغرامات المالية ما ورد في السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وأخذه عليه الصلاة والسلام لضعفي الزكاة ممن منعها، فهذا كله يسمى بالعقوبات المالية، وهي تفعل لمن خالف، أو فعل أمراً فيه معصية، أو فيه تعريض لنفسه أو لغيره للخطر، وهذا يراه ويختاره جمع من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام ابن القيم في الطرق الحكمية، وغيرهم من العلماء، ذكروا أن السنة ثابتة بجواز التعزير بالمال، ومنه: إحراق رحل الغال من الغنيمة؛ وهذا الإحراق من باب الترهيب والمنع للغير أن يسلك سبيله، أو يرتكب جريمته.

    (إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح)

    (إلا السلاح) للحاجة إليه في الجهاد في سبيل الله، فلا يُحرق.

    (والمصحف) لأن له حرمة، فلا يحرق كتاب الله عز وجل، وبعض العلماء يجعل في حكم المصحف كتب العلم فلا تحرق؛ لأن إحراقها فيه ضرر؛ لأنه يفوت العلم الذي فيها.

    (وما فيه روح) فلا تُحرق دوابُّه، أي: ما كان في رحله من الدواب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، فلا يجوز قتل الحيوان بالحرق.

    1.   

    أحكام الخراج

    قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين)

    قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً).

    هذه الجملة قَصَد المصنف منها أن يبين أحكام الخراج، أي: الأراضي التي تُمْلَك بعد الجهاد في سبيل الله، وقد قلنا: إن الغنيمة تنقسم إلى قسمين:

    الأول: إما أن تكون منقولات، كالذهب، والفضة، والدواب، والأسلحة، والأطعمة ونحوها مما يكون في الجهاد في سبيل الله.

    النوع الثاني: العقارات، فإذا دخل المسلمون بلاد الكفار، فإنهم يغنمون أموالهم وديارهم، ولذلك أورث الله الصحابة وامتنَّ عليهم في كتابه بأنه أورثهم أموال بني قريظة وديارهم.

    فهذه الغنيمة التي غنموها وهي أراضي الكفار، تحتاج إلى نظر، فإن المسلمين قد قاتلوا العدو فاستحقوا هذه الأرض، فيرد السؤال: هل نقسم هذه الأرض بين المجاهدين في سبيل الله الذين شهدوا الوقعة فقط، مثلما نقسم الأموال العينية؟ أم أن هذه الأرض تبقى وتُسْتَصْلح ويقام عليها العدو من أجل أن يعمرها ويقوم عليها من باب الإجارة، فهل يجوز أن نبقيها في يده، ثم نأخذ مصالحها، ونضعها في بيت مال المسلمين؟

    هذا هو الذي يبحثه العلماء في مسائل الخراج، والأرض الخراجية.

    أقسام الخراج

    قال رحمه الله: [وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام]

    قوله: (خُيِّر الإمام) التخيير: النظر في خيري الأمرين، أن ينظر الإنسان في الشيء طلباً لخيري الأمرين فيه، والتخيير للإمام، أي: أن الإمام والقائد ينظر المصلحة، فإن كانت المصلحة أن يبقي الكفار في هذه الأرض لكي يستصلحوها ويزرعوها، ويكون نتاجها للمسلمين، ويعطيهم أجرتهم، فعل ذلك، وحينئذ تكون الأرض خراجية بالمقاسمة؛ لأن الخراج ينقسم إلى قسمين:

    النوع الأول: خراج المقاسمة وهو أن يقول لهم: ابقوا في هذه الأرض، وازرعوها، وقوموا عليها؛ لأنهم قد يكونون أعلم بمصلحة هذه الأرض، فيزرعونها ويقومون عليها، على أن لهم النصف وللمسلمين النصف، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بشطر مما يخرج من أرضها) وهو أشبه بالمساقاة، ولذلك بعض العلماء يعتبره أصلاً في المساقاة، ويُعْتَبر أيضاً إجارةً، ويعتبر خراجاً بالمقاسمة، فتُقسم الأرض أي: نتاج الأرض، أما الأرض بذاتها فتصبح ملكاً للمسلمين، فحينئذ ما ينتج منها يقسم نصفين، نصفها لهم ونصفها للمسلمين، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، وقد أخبرهم كما في كتاب العقد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يبقيهم فيها ما شاء الله، فلما جاء عمر أجلاهم عنها رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أن الأرض ملك لبيت مال المسلمين، ففي هذه الحالة تكون الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ويُبقي الإمامُ الكفارَ يعملون فيها لمصلحة بيت مال المسلمين، ويأخذون أجرة ما يقومون به من عمل، وهذا يحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في كل سنة يبعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، من أجل أن يخرص نخل خيبر، وينظر كم فيه، ثم يفرض عليهم النصف، فيأخذه إلى بيت مال المسلمين، وهذا هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: خراج المقاسمة.

    النوع الثاني: خراج الوظيفة: وهو أن يقال له: تبقى الأرضُ بيدِك وكلُّ جريد منها، أو كل هكتار، أو فدان، أو كل مساحة معينة عليك فيها -مثلاً- ألف درهم، أو ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال كل سنة، فهذا يسمى الخراج الوظيفي، وله ضوابط، وأصول، وله مباحث طويلة، تكلم العلماء رحمة الله عليهم عنها في كتب المطولات، وقد ألف الإمام القاضي أبو يوسف رحمه الله كتابه المشهور: الخراج، وتكلم عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه النفيس: الأموال، وكذلك ابن زنجويه في كتابه النفيس أيضاً: الأموال.

    وهذه ضوابط ترجع إلى تراكيب مالية تُعرَف في بيت مال المسلمين، فيُعطى فيها قدر معين يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، فهم الذين يحددون هذا القدر، ويكون القدر سنوياً.

    لكن الخراج الوظيفي وخراج المقاسمة مرتب على مسألة بقاء الأرض دون قسمة.

    تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج

    فإذاً: يقول المصنف رحمه الله: [خُيِّر الإمام] أي: ينظر الإمامُ الأصلحَ، هل المصلحة أن تبقى خراجية، ويؤخذ منها الخراج لبيت مال المسلمين، كما حدث مِن فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في الفتوحات، فكان هناك ما يسمى بالأرض الخراجية؛ والسبب في هذا الخراج أو الأصل فيه: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتح المشرق، ودخل المسلمون بلاد فارس وتوغلوا فيها، كان رأي عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يُبقي الأرضَ لكي ينتفع بها المسلمون في عصرهم ومن يأتي بعدهم، فترك أراضي الحيرة في العراق، وكذلك أراضي فارس، فأبقاها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين، حتى يبقى لبيت مال المسلمين خراج، يُدَرُّ عليه سنوياً، فيستقر بيت مال المسلمين، فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقد اختلف هو وبلال وعبد الرحمن بن عوف، وكان رضي الله عنه يقول: (اللهم أعني على بلال )، والسبب في هذا أنه كان بعيد النظر، فقد تأوَّل آية الحشر في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] فإن هذه الآية جاءت بعد آية الفيء: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:7] فهذه الآية: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10] يقول: إن الخَلَف الذين يأتون من بعدُ يترحمون على مَن قبلهم بما تركوا لهم من الخير في الجهاد في سبيل الله، فكان هذا من فقهه رضي الله عنه، فقضى بذلك، واستقر عليه العمل، ووافقه الصحابة بعد، ورجع بلال وعبد الرحمن إلى قوله.

    لأن بلالاً وعبد الرحمن لما فُتِحت العراق، وفارس، كانا يقولان: (اقسم على الجند أرضهم)، فامتنع عمر رضي الله عنه وأرضاه وأبقاها خراجية، فبقي حكم الخراج سنة عمرية، ومضت على ذلك جماعة المسلمين، فأصبح أصلاً عند العلماء رحمهم الله: أن الأرض يُرجَع فيها إلى نظر الإمام، فإن نظر أن من المصلحة أن تقسم قسمها، وإن رأى أن من المصلحة أن تبقى خراجية، أبقاها خراجية.

    وقد فعل عمر رضي الله عنه كلا الأمرين في فتحه بالمشرق، فإنه اختط الكوفة، وقسمها بين المجاهدين، والسبب في هذا: أنه ما كان يريد مخالطة المجاهدين للناس الذين كانوا بالعراق خشية أن تفسد أخلاقهم، فهذا يسمى بالإقطاع، وله أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قسمها وأخذ كل مجاهد -مثلاً- قطعة من الأرض فباعها أو تصرف بها فهي ملك له، كما أنه إذا ملك الماء إن شاء انتفع به لنفسه، وإن شاء باعه على الغير.

    (خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين)

    (بين قسمها) أي: على الجند وعلى مَن شهد الوقعة، بالطريقة التي ذكرناها.

    وبين (وقفها على المسلمين) أي: تبقى وقفاً لمصلحة بيت مال المسلمين، فتبقى خراجية إلى الأبد.

    (ويضْرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده) هذا على ما ذكرناه، ولذلك ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنَعَت الشام مُدَّها، ومَنَعَت العراق قفيزَها) وهذا يعتبره العلماء أصلاً في الخراج الذي يؤخذ على الأرض؛ لأن المراد بالمُدِّ والقفيز، الإشارة إلى الفتوحات، وما يكون منها من خراج، فلما قال: (وعدتم مِن حيث بدأتم، وعدتم مِن حيث بدأتم) أي: أنه في آخر الزمان ينقطع هذا الأمر، وقد كان ما كان، وهو من معجزاته -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

    قال رحمه الله: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام]

    أي: كم يكون مقدار الخراج والجزية؟

    وهذه مباحث ومسائل وأحكام تكلم العلماء عليها في كتب الخراج، وكتب الأموال، وهي تتعلق بمصلحة بيت مال المسلمين، ولا يمكن للإمام أن يقدم على مثل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإن كانت الأرض زراعية سأل عنها أهل الزراعة، وإن كانت الأرض تعمَّر أو يستفاد من عمرانها رجع إلى أهل المعرفة بذلك وهكذا.

    وكذلك الجزية: وهي الفريضة التي تفرض على أهل الكتاب إذا أبقاهم المسلمون في ديارهم، وسيأتي إن شاء الله بيان عقد الجزية وأحكامه ومسائله، والجزية تفرض بضوابط معينة على أشخاص معينين، من أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويكون مقدار هذه الجزية راجعاً إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهناك حد أعلى، وحد أوسط، وحد أدنى للجزية، مثلاً: لو فرضنا أن الحد الأعلى: ثمانية وأربعون ريالاً، فيكون الحد الأوسط: أربعةً وعشرين، ويكون الحد الأدنى: اثني عشر، فعلى هذا التقدير ينظر الإمام في حال الإنسان، فإن كان من أعلى الناس فرض عليه: ثمانية وأربعين، وإن كان من أوسطهم فرض عليه أربعة وعشرين، وإن كان من أدناهم فرض عليه اثني عشر، على تفصيل سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب الجزية.

    حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية

    قال رحمه الله: [ومن عجز عن عمارة أرضه أُجْبِر على إجارتها، أو رفع يده عنها]

    قال رحمه الله: (ومن عجز عن عمارة أرضه): إذا كانت الأرض خراجية فمعنى ذلك أن المطلوب تحصيل المصلحة منها لبيت مال المسلمين، وهذا يسميه العلماء: موارد بيت مال المسلمين، فلا بد أن تبقى موارد بيت مال المسلمين ثابتة، حتى يمكن الصرف من هذه الأموال على مصالح المسلمين، فهذه الموارد ينبغي أن يحافظ على بقائها، فإذا كان الذي أخذ الأرض الخراجية لا يستطيع أن يقوم عليها، لعجز، أو لكِبَر سن، أو لمرض، أو نحو ذلك، فيُجبَر على إجارتها لمن يعمرها، أو تنقل وتؤخذ منه إلى غيره ممن يقوم على استصلاحها ونفع المسلمين منها.

    (أُجْبِر على إجارتها) الإجارة: عقد على منفعة بعوض.

    والعقود المالية تكون أحياناً على الذات وأحياناً على المنافع.

    فأنت إذا جئت إلى رجل وقلت له: بعني هذه الدار أو هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإذا أخذ العشرة آلاف، فمعنى ذلك أنك تملك عين الدار التي هي العمارة، وعين الأرض، وتستطيع أن تسكن فيها، فالدار ومنافعها ملك لك، فإن شئت أن تنتفع بها في السكنى سكنت، وإن شئت أن تنتفع بأجرتها أجَّرتها على الغير وأخذت الأجرة، وإن شئت أن تهدمها فلا أحد يمنعك؛ لأنها ملكك، فقد ملكتَ العين والمنفعة.

    في الحالة الثانية: أن تقول: أجرني هذه الدار شهراً بألف، فمعنى ذلك أنك تملك المنفعة فقط وهي: السكنى فيها، فلا تستطيع أن تهدم هذه الدار، ولا أن تبيعها للغير، ولا أن تهبها، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الذي تملكه هو السكنى فيها فقط.

    فالإجارة هي المنفعة، فمعنى ذلك: أن الأرض الخراجية ملك لبيت مال المسلمين، لكن منفعتها من زراعتها وحراثتها والقيام عليها وما يكون منها من نتاج هذا هو الذي يستأجر، وإجارة الأرض للزرع فيها خلاف بين العلماء، وجماهير العلماء على جواز ذلك خلافاً للظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن ما كان بشيء معلوم فلا بأس) أي: في إجارة الأرض، فدل هذا على مشروعية إجارتها للزراعة مثل مسألتنا، لكن يشترط في إجارة الأرض للزراعة أن يكون فيها ماء؛ لأنه إذا استأجرها للزراعة ولا ماء فيها، فهذا من إجارة الغرر، وحينئذ لا يصح، إلا إذا كان يجلب الماء إليها، كأن يحمل الماء إليها، أو يجريه بقنطرة، أو غير ذلك.

    فالمقصود: أن الإجارة تكون على الأرض الخراجية، أي: أن يترك الغير ينتفع بها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين كما ذكرنا.

    (أُجْبِر على إجارتها أو رفع يده عنها)

    (أو رفع يده عنها) حتى تعطى للغير ويقوم باستصلاحها ونفع المسلمين منها.

    (ويجري فيها الميراث) فإذا كانت هذه الأرض خراجية، وقام عليها إنسان ثم توفي، وجاء ورثته وقالوا: نريد هذه الأرض لنقوم عليها مثلما كان أبونا يقوم عليها، وندفع ما كان يدفع، فإنهم يرثونها وينزلون منزلة أبيهم؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله.

    1.   

    الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين

    قال رحمه الله: [وما أخذ من مال مشركٍ كجزيةٍ وخراجٍ وعُشْرٍ وما تركوه فزعاً وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين]

    قال رحمه الله: (وما أخذ من مال مشركٍ)

    يريد المصنف أن يبين حكم الأموال التي تؤخذ في الجزية، وفي العشور والضرائب، وتؤخذ من الحربي ونحوهم، فهذه الأموال لمن تكون؟ فبعد أن بين أحكام الغنيمة وأحكام الخراج -وهذا مسلك الفقهاء رحمهم الله، أنهم يذكرون المسائل المشابهة في أماكن المناسبة- وأن الغنيمة فيها الخمس يرد إلى بيت مال المسلمين، وكذلك الفيء، إذا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فإنه يرد إلى بيت مال المسلمين، فيرد السؤال:

    كيف يكون حكم هذا المال؟

    فقال: (وما أخذ من مال مشركٍ) بعض العلماء يقول: يُمْلَك مالُ الحربي بمجرد أخذه، وهذا يميل إليه طائفة من العلماء من أصحاب الإمام أبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض العلماء: بل إنه يكون لبيت مال المسلمين، وبيت مال المسلمين تكون مصارفه مصارف الفيء، بمعنى: أنه يصرف في مصالح المسلمين، وهذا هو الذي عبر عنه المؤلف بقوله: (يصرف في مصالح المسلمين): المصالح: جمع مصلحة، مثل: بناء المساجد، وبناء القناطر للشرب، وإجراء المياه، وبناء المستشفيات للعلاج، ونحو ذلك من المصالح العامة بحسب ما يراه ولي الأمر مصلحة المسلمين.

    فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها، كأموال الغُيَّب، تُدْخَل إلى بيت مال المسلمين وتُصْرَف في عموم مصالح المسلمين، وهذا يعتبره العلماء رحمهم الله حينما يكون المال لغائب مسلم لا يعرف، فإنه يدخل إلى بيت المال، فكأن المسلمين كلهم لهم حق في ماله؛ لأن أخوة الإسلام نُزِّلت منزلة أخوة النسب، لأننا لا نعرف من صاحب هذا المال حتى نعطيه لقرابته، فحينئذ يشترك المسلمون في هذا المال، ويصرف في مصالحهم العامة.

    ففي بيت مال المسلمين ما يسمى بالموارد، وفيه ما يسمى بالمصارف، ويذكر العلماء في كتاب الجهاد، في باب الغنائم المسألتين:

    موارد بيت المال.

    ومصارف بيت المال.

    فهذا من باب ذكر الشيء عند مناسبته.

    فيبين رحمه الله مصارف الخمس (خمس الخمس الذي ذكرناه)، ومصارف العشور -العشور سيأتي بيانها- ومصارف الجزية، ومصارف أموال الغُيَّب التي لا يعرف مَن أصحابها، وبين أن كل هذا يصرف في مصالح المسلمين العامة.

    (وما أخذ من مال مشركٍ كجزية وخراج)

    الجزية

    (كجزية) الجزية: هي المال المقدر المفروض على الكافر إذا أقر في بلده على دينه من أجل حمايته، بقدر معين يحدده ولي الأمر، شريطة أن يكون من أهل الكتاب، وتكون مفروضة عليه في السنة، أي: الحول، ومن العلماء من يقول: تؤخذ منه مسبقاً، أي: في بداية الحول، ومنهم من يقول: تؤخذ عند تمام السنة، وهذا مذهب الجمهور: أنها تؤخذ بعد استكمال السنة، وهو أقوم.

    والجزية تفرض إذا دخل المسلمون إلى بلاد الكفار أو أرادوا غزو الكفار فيخيرون بين:

    أولاً: الإسلام، أي: أن يسلموا، فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

    ثانياً: أن يعطوا الجزية، فإذا قالوا: نعطي الجزية، فهذا له شروط وضوابط منها: أن يكونوا من أهل الكتاب؛ لأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الدين السماوي، فلو كانوا مشركين أو وثنيين لا دين لهم، فلا تفرض عليهم الجزية؛ لأنه أشبه بإقرار الشرك؛ بخلاف أهل الكتاب فإن فيهم شبهة من وجود الدين، وهذا من رفق الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، ففرَّق بين أهل الكتاب وبين المشركين والوثنيين.

    فإذا أخذت الجزية إلى بيت مال المسلمين، فقد بين المصنف أنها تصرف في مصارف المسلمين العامة، كما ذكرنا.

    الخراج والعشر وما تُرك فزعاً

    (وخراج) الخراج قد ذكرناه، سواء كان خراج مقاسمة أو كان خراج وظيفة، فإذا أخذ هذا الخراج فإنه يقسم أو يصرف في مصارف المسلمين العامة.

    (وعشر) العشر هو الواحد من العشرة، والعشر يؤخذ من الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين، إذا كانوا حربيين، فإن الكفار ينقسمون إلى أقسام:

    النوع الأول: الحربيون، أي: بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء يسمون عند العلماء بالكفار الحربيين، حتى ولو كانوا في هدنة مع المسلمين، فحكمهم حكم الحربيين على تفصيل في مسائلهم.

    النوع الثاني: الذميون، وهم الذين لهم ذمة من أهل الكتاب ممن تؤخذ عليهم الجزية، فهؤلاء لهم حكم خاص.

    النوع الثالث: المستأمَن، وهو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بالأمان، من أجل أن يتاجر أو من أجل إبرام عقد أو لمصلحة معينة، عامة أو خاصة، فيؤمِّنه ولي الأمر أو يؤمِّنه أي مسلم، فالأمان يكون من أي مسلم ممن هو أهل كما سيأتي، ويأخذ حكم أمان المسلمين كلهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ولذلك لما جاءت أم هانئ في فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب، وذلك حين أراد علي أن يقتل رجلاً من بني عمها، وكان من عادة العرب أنه إذا دخل المستجير إلى بيت إنسان فإنه يؤمِّنه كما يؤمِّن نفسه، وهذا من شيم الكرام، ومن علامة كمال الإنسان وفضله، أنه لا تُخْفَر له ذمة، ولكن بشرط ألا يكون مرتكباً لحدود الله عز وجل، ومرتكباً للحرمات؛ فمثل هذا -والعياذ بالله- لا يؤمَّن؛ لأن الشرع له حق عليه، فإذا أُمِّن أعين على الإثم والعدوان، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وكانوا في الجاهلية إذا دخل الرجل على الرجل ووطئ بساطه أو دخل بيته وقال: إني مستجير بك، أو مستعيذ، أو يطلب منه الأمان، فإنه لا يخفره؛ لأنه لما دخل بيته صار بمثابة الضيف، والضيف يُكرَم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع، فكان يؤمِّنه ويكون دونه في خير أو شر، فجاء الإسلام بتهذيب هذه الأمور، إن كان في خير فخير، وإن كان في شر فشر، فإذا كان في شر كان شريكاً له في الإثم والعياذ بالله! فالمقصود: أن المستأمِن إذا دخل إلى بلاد المسلمين واستجار بمسلم فأجاره، فإنه في جوار المسلمين كلهم.

    وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه من الشام: أن الروم إذا دخلوا بلاد المسلمين لم يأخذوا عليهم شيئاً، وإذا دخل المسلمون بلادهم متاجرين أخذوا عليهم العشر، فأمره عمر أن يأخذ منهم العشر إذا دخلوا، وهذا ما يسمى (بالتعشير)، فهي ضريبة تؤخذ للمتاجرة في بلاد المسلمين، معاملة بالمثل، ومثل ما يسمى في زماننا: (بالجمرك) فهذا يُعتبر كالضريبة على الكافر، كما يعامَل المسلمون إذا تاجروا في بلادهم، فتكون مقابلة بالمثل، ففعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفعله بعده الخلفاء الراشدون، وأصبحت سنةً مُجْمَعاً عليها: أن الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين أو كان لهم وكيل مسلم يورِّد سلعهم جاز أن يؤخذ عليهم كما يأخذون على المسلمين إذا ورَّدوا السلع إليهم، وهذا يسمى (بالتعشير) وله ضوابط معينة، وينظر فيه الإمام بضوابط المصلحة، فيفرض العشر على الحربي، ونصف العشر على الذمي، وربع العشر على المسلم إذا تاجر من بلادهم.

    (وما تركوه فزعاً): وهو الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهذا يعتبر فيئاً، ويؤخذ إلى بيت مال المسلمين، ويصرف في مصارف المصالح العامة.

    حكم خمس خمس الغنيمة والصفي

    (وخمس خمس الغنيمة) نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام، والخمس منها يقسم أيضاً إلى خمسة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41] قيل: هذا للاستفتاح، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] هذا تقسيم، فلما قال: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] كأنه يُحال من الغنيمة، وهذا يسميه العلماء: خمس الغنيمة، وهذا يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهو الذي عناه الله بقوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41] فللرسول عليه الصلاة والسلام خمسه، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم شيء يسمى (الصفي)، وكان من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا قاتلوا وكان لهم من يقودهم للقتال من شجعانهم، أنه يصطفي له ما شاء، ويأخذ من الأموال والنساء ما شاء عند الغنيمة، فهذا يسمى الصفي، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفي، والاصطفاء أن يأخذ من الأموال ما شاء، صلوات الله وسلامه عليه، ويضعه حيث شاء، ولذلك في غزوة بدر اختصم المسلمون في هذه الأنفال فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].

    قيل: إن سببها أنه لما انتهت وقعة بدر اختصم كبار السن وصغارهم، فالصغار قالوا: نحن الذين أبلينا، وقال الكبار نحن الذين كانت لنا حمايتكم، فهؤلاء حموا وهؤلاء قاتلوا، فكان الشباب يقولون: الغنيمة لنا، والكبار يقولون: بل لنا، نحن الذين أعناكم؛ لأن حماية الظهر في بعض الأحيان تكون أعظم من غيرها، فوقعت بينهم الخصومة فنزلت الآية.

    وقيل: إنهم انقسموا إلى قسمين: قسم منهم كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم منهم كان يقاتل، فكان الذين يقاتلون يقولون: الغنيمة لنا، والذين يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: الغنيمة لنا؛ لأن حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، فوقع بينهم الخلاف فنزلت الآية.

    وقد اختصم سعد رضي الله عنه مع رجل من الأنصار في سيف، فقال سعد : لي، وقال الأنصاري: بل لي، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ليس لك ولا له، إنما هو لله والرسول) فلما أخذه نادى سعداً ، وأعطاه إياه، وقال: (هو لي وهو لك) فأعطاه إياه، وكان سعد رضي الله عنه عظيم البلاء.

    ومن الصفي: صفية بنت حيي رضي الله عنها وأرضاها، فقد اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأعتقها وتزوجها.

    ومن الصفي أيضاً: أمواله في فَدَك بجوار خيبر، وهي من الحصون التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال بعض العلماء: هذه الأموال التي نُصَّ على أنها للرسول ترجع إلى بيت مال المسلمين.

    فأصبح لبيت مال المسلمين الخمس فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]، وقال بعض العلماء في قوله: وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]: إن المراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- وهو الصحيح، فالله حجب عنهم الزكاة وأعطاهم حظهم من خمس الخمس، وقال بعض العلماء: بل الخمس لقرابة الإمام، ويشكل على هذا فعل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنهم لم يصطفوا هذا الخمس لقرابتهم.

    ومنهم من قال -وهذا القول الثالث وهو الذي نريده- الخمس الذي للقربى يرد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين، فيصبح لبيت مال المسلمين كم؟ خُمُسان، فيكون في بيت مال المسلمين العشر، وهذان الخمسان يصرفان في مصالح المسلمين العامة.

    يقول رحمه الله: (ففيء يصرف في مصالح المسلمين)

    جواب الشرط، أي: حكمه حكم الفيء، يصرف في مصالح المسلمين كبناء المساجد، وعمارة الطرق، وغير ذلك من المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون.

    1.   

    الأسئلة

    سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد

    السؤال: إذا كان الجند يتعاقبون على ركوب الفرس فكيف تقسم الغنيمة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

    أما بعد:

    فالحكم في ذلك أن العبرة بالوقعة، فإذا كانت الوقعة شهدها آخر رجل منهم، فيكون سهم الفرس له، مثال ذلك: تعاقب على الفرس ثلاثة، والثالث منهم هو الذي قاتل عليه، فيكون السهم له، هذه صورة.

    الصورة الثانية: أن يتعاقبوا أثناء القتال، فهذه المسألة اجتهد بعض العلماء فقال: يعطى للفرس السهمان، ثم تقسم بينهم على حسب البلاء، والله تعالى أعلم.

    قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة

    السؤال: هل تقاس البغال والجمال أو غيرها من الدواب على الأفراس، وذلك بأن تعطى سهمان؟

    الجواب: لا يُعطى إلا للفرس، ولا يشمل هذا ما ذكر من الحمير والبغال، والسبب في هذا: أن للفرس والخيل معنى يخصُّها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالقتال عليها بركة، ولذلك خُصَّت، مع أنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانت الإبل والبغال موجودة، ولكن الفرس فيه شيء ليس في غيره من الدواب، وكأنه مهيأ للقتال، بخلاف البغال والحمير والإبل، فالفرس يكر ويفر ويتعرض صاحبه للخطر أكثر، ولذلك عَظُم بلاؤه أكثر من غيره، ومن هنا قال: (وللفارس) فخصه بالفرس، ولا يركب الخيل ويقاتل عليه إلا الشجاع القوي الذي يحسن الكر والفر، ومن هنا اشترطوا أن تكون من الخيول العربية الأصيلة التي يكون بلاؤها أعظم، حتى يكون أقرب للسنة، وإن كان بعض العلماء خفف في هذا الشرط، وأخذ بعموم قوله: (وللفارس ثلاثة أسهم).

    الفرق بين الغنيمة والفيء

    السؤال: هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد؟

    الجواب: الغنيمة والفيء بينهما عموم وخصوص، فالفيء أحياناً يدخل تحت الغنيمة وأحياناً ينفرد عنها، فالفيء يكون من غير قتال، كأن يأتي المسلمون إلى موضع فيه كفار فيسمع الكفار بالمسلمين فيفرون، ويتركون أموالهم وديارهم، فهذا يعتبر من الفيء، كما وقع في جلاء بني النضير وغيرهم، بخلاف الغنيمة، فإنها لا تكون إلا من وقعة، والغالب أنها تكون بالجهاد ومقابلة العدو وقتاله، فالغنيمة هي نتاج الغزوة، وبعض العلماء يقولون: الغنيمة تشمل الفيء، فكأن الغنيمة أعم من الفيء، فإن أصل الغنيمة من الغُنْم، والغُنْم: هو أخذ الشيء بلا بدل، والغنيمة: أخذ الشيء بلا عوض، فقالوا: يشمل بهذا المعنى ما كان بقتال، وما كان بدون قتال، فهو غنيمة؛ لأنه بغير بدل.

    وعلى هذا ينفرد الفيء بحكم خاص وهو: مصارفه وأحكامه الخاصة، وتبقى الغنيمة على الأصل العام.

    لكن أيَّاً ما كان فالمعروف في كتب الفقهاء رحمهم الله أنهم يجعلون الغنيمة أصلاً عاماً لهذا كله، والفيء فرع من الغنيمة، وعلى هذا دَرَج مصطلح الجمهور رحمهم الله.

    لكن الفيء له أحكام خاصة غير أحكام الغنيمة، منها أن له مصارف الخمس التي ذكرناها، بخلاف الغنيمة فإنها تخمَّس، فللمجاهدين أربعة أخماس، والخمس الأخير هو الذي يصرف في مصارف الفيء فقط، فمن هنا يقول بعض العلماء: إن بينهما عموماً وخصوصاً من هذا الوجه.

    المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط)

    السؤال: ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر بعض الأعمال الفاضلة فقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وهل يعادل أجر الرباط في الجهاد؟

    الجواب: مادة: ربط، دائماً تكون للملازَمة، ولذلك إذا ربطت الشيء وعقدته، فإن هذه العقدة يُلزَم بها الشيء ويبقى، ومنه تقول: ربطت الفرس، وربطت الدابة، فإنها تلزم هذا المكان ولا تنفك عنه.

    والرباط له معنيان:

    رباط عام: وهو الرباط على الطاعة.

    ورباط خاص: وهو رباط الثغر في الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    فأما الرباط العام على طاعة الله فهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم بكتابي ورسولي صلى الله عليه وسلم (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) والمصابرة: غاية الصبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، غاية الصبر، (وَرَابِطُوا) أي: إذا صبرتم فابقوا على هذه الطاعة ورابطوا عليها، واجعلوا هذا دأباً لكم، فإن من صبر ظفر، وقد قرن الله عز وجل الخير بالصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: ما أعطي عبد عطاء خيراً وأفضل من الصبر، وهذا يدل على أن الرباط على الطاعة من أعظم الأعمال، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).

    فالصبر على الطاعة والثبات عليها لا يكون إلا لأهل الكمال ولأهل الفضل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: (ما كان ديمة، وإن قل) أي: ما دام عليه الإنسان، وإن كان شيئاً قليلاً.

    فالمرابطة على الطاعة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.

    ولما كانت الصلاة هي أعظم الطاعات، وأجل القربات بعد توحيد الله عز وجل، فلا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها إلا سعيد موفق في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قرن بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وصلاح حال العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهي كذلك عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وكانت ولا زالت من أعظم ما يتمسك به الإنسان في دينه، فمن حفظها حفظه الله، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فاعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً من أحبها ورابط عليها، وتتفاوت مراتب الناس في صلاتهم:

    فمنهم من لا يصلي مع الجماعة وإنما يصلي لوحده، فهذا من أحرم الناس لأجرها.

    ومنهم من يصلي مع الجماعة؛ لكنه يأتي قبل التشهد بقليل.

    ومنهم من يصلي مع الجماعة فيدرك الركعة أو الركعتين أو الثلاث، فيدرك نصف الصلاة أو ربعها أو ثلثها، ولَمَا فاته منها خير من الدنيا وما فيها.

    ومنهم من لا يؤذن إلا وهو في المسجد.

    فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فالحفاظ عليها والصبر عليها من أعظم الرباط، فإذا ملأ الله القلب الزكي التقي النقي، وأحب صاحبه وأراد أن يوفقه في الدنيا والآخرة، جعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية سؤله ومطلبه، فأصبح لا يفكر إلا في هذه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فإذا صلى -مثلاً- صلاة العصر، قال: إلى أين أخرج؟! إلى دنيا فانية، مليئة بالأمور اللاغية، فالخير لي أن أجلس، فنظر في دنياه ونظر في آخرته، فإن خرج ربما خرج إلى أمر يفوت به دينُه، وقد يخرج إلى فتنة، فقال: سأنتظر صلاة المغرب، فجلس بعد صلاة العصر ذاكراً لله، ومثنياً عليه، محباً ومؤثراً لمرضاة الله عز وجل، فإذا به قد رابط على خيرٍ مِن أحَبِّ الخيرِ وأعظمِه أجراً عند الله سبحانه وتعالى.

    فلما كان هذا النوع من الصبر على الطاعة، دخل في مسمى الرباط، فقال صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) ثم انظر فإنه لم يقل: (ذلك) وإنما جاء بصيغة الجمع، ولم يقل: (هذا) أو: (هو الرباط) بضمير الغائب، لا. وإنما قال: (فذلكم) فأولاً: استخدام (ذلكم)، و(ذا) إشارةٌ إلى البعيد، وإذا أدخلت عليها الكاف، قلت: (ذاك) للبعيد، فعبر بصيغة البعيد؛ لعلو المرتبة والشرف، ومنه قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] إشارة إلى علو مكانته وعظيم منزلته عند الله جل جلاله.

    فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلكم)، ثم قال: (الرباط) ما قال: (ذلكم رباط)، أو: (مِن الرباط)، إنما قال: (الرباط) و(ال) هنا تدل على الكمال، أي: أنه أكمل الرباط وأعظمه؛ لأنه في أكمل الطاعات، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي الصلاة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يلهمنا فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات.

    ونسأل الله العظيم أن يَمْنُنَ بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، وأن يختم بالسعادة آجالَنا.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756365211