إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة.

    1.   

    مسائل في الجماع في نهار رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة].

    فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم.

    وبقي السؤال: لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟

    الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة

    فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).

    هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.

    أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.

    فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.

    فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.

    وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات:

    أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.

    الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.

    فيكون هناك عدة إخلالات:

    أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.

    وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.

    وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان

    قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].

    الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.

    وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.

    وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.

    فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.

    قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].

    خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.

    قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].

    وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.

    ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.

    حكم من جامع دون الفرج

    قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل].

    هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر.

    وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: (إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان. وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه.

    بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط.

    وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع.

    المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.

    وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة.

    فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع.

    المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا.

    قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة].

    هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.

    إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان

    [أو كانت المرأة معذورة].

    إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام.

    ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا.

    فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.

    حكم جماع من نوى الصوم في سفره

    قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة].

    رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً.

    لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟

    جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك. أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة.

    فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان:

    منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه.

    ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.

    كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان

    قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان].

    جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان.

    وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر.

    مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع.

    من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم.

    [أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان].

    قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح.

    والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد.

    والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم.

    والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه.

    قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية].

    الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.

    حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم

    قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع].

    كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.

    حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر

    قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط].

    بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد السؤال: لو تكرر الجماع ما الحكم؟

    فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها.

    ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟

    فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه.

    وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية.

    لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة.

    أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.

    الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة

    قال رحمه الله: [ ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان ].

    فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان. فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر.

    فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان.

    ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه.

    والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.

    1.   

    أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان

    قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].

    عتق الرقبة وما يشترط فيها

    [وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل.

    وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين:

    صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة.

    وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (أتجد رقبة أو أعتق رقبة) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان:

    منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة.

    واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).

    فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة.

    وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي.

    فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده.

    وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج.

    ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال.

    فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة.

    وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة.

    وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين.. لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير.

    إضافة إلى أن النص يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها.

    وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري.

    وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة. وفي رواية: أتجد رقبة؟) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق.

    وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟

    فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة.

    فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته.

    لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي.

    والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب.

    وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة.

    وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار.

    صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه

    [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].

    الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين. وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور.

    والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات.

    ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل.

    فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي : (من استحسن فقد شَرَّع). وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم) وبدليل قوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.

    أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة.

    وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد.

    قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].

    فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين.

    والشهران لهما صورتان:

    الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة.

    الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة.

    بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: (يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم.

    فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد.

    لكن بقي السؤال: لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟

    الجواب: لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟

    فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء.

    فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم.

    والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض.

    لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟

    وجهان للعلماء في ذلك:

    قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر.

    وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته.

    والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض.

    قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين.

    قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة : (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.

    إطعام ستين مسكيناً

    قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً].

    فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام.

    (إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: (أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا). فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به.

    والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.

    حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به

    قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت].

    ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: (يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا).

    اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد ، وفيها قول قيس الرُّقَّيات :

    فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ

    الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.

    لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم. فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل.

    أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي. فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.

    1.   

    الأسئلة

    وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي

    السؤال: في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به.

    هناك مسلكان للأصوليين فيه:

    مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها.

    وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه.

    وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع.

    ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء.

    فإن قلت لهم: سكت.

    يقولون: السكوت عفو.

    والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها.

    فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز. وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع.

    وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة... لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال. أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم.

    يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع.. هذا معنى القاعدة.

    ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة. ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه.

    فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك.

    فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل.

    هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح (فدين الله أحق أن يقضى) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل.

    فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان:

    الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار. وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة.

    على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة.. في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة.

    فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه.

    وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.

    كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان

    السؤال: هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟

    الجواب: بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة. والله تعالى أعلم.

    العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة

    السؤال: من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟

    الجواب: إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال.

    فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر. فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده.

    وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده.

    أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756273692