إسلام ويب

شرح زاد المستقنع تشييع الميت ودفنهللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للجنائز أ؛كام متعلقة بتشييعها وحملها، ومن ذلك: صفة المشي بها، وكيفية حملها، وما يسن في المشي بها، وما يكره أو يحرم، ونحو ذلك، وهناك أحكام متعلقة بالدفن، منها: كيفية إدخال الميت إلى القبر، وأيهما أفضل الشق أم اللحد، وغيرها من الأحكام.

    1.   

    صفة حمل الجنازة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول رحمه الله: [ فصلٌ: يُسَنُّ الترْبِيع فِي حَمْلِهِ ].

    في الواقع أن الحمل قد يسبق الصلاة؛ لأن الإقبال بالميت إلى المسجد يحتاج إلى حمل، وتأخير المصنف للحمل له وجه، فبعض العلماء يقدم أحكام الحمل على الصلاة، وبعضهم يؤخر أحكام الحمل عن الصلاة.

    فيكون وجه من قدم أحكام الصلاة على الحمل: أن الصلاة واجبة؛ فألحقت بالواجبات المتقدمة من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه؛ فألحقت بالنظير من جهة مرتبة اللزوم.

    ثم الحمل بعد ذلك؛ لأنه يكون بعد الصلاة.

    وحمل الميت فيه فضيلة؛ وذلك أنه عملٌ يقصد به القربة، ويعتبر من الحسنات، أي: أن الإنسان يثاب إذا قصد به وجه الله عز وجل، والعلماء رحمة الله عليهم يتكلمون عليه ويبينون أحكامه؛ لورود السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الميت، وكذلك الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اعتنى المصنف رحمه الله ببيان هذه الأحكام والمسائل، فقال رحمه الله: (يسن التربيع في حمله).

    التربيع في حمل الجنازة

    فقوله: (يسن التربيع): من المعلوم أن سرير الميت يكون على أربعة أعمدة يحمل الميت بها: عمودان في مقدمة الجنازة، وعمودان في مؤخرة سرير الجنازة؛ والأفضل والأكمل للإنسان أن يكون حمله من هذه الجهات الأربع، وفيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولكن فيه انقطاع، ولذلك يعتبر مرسلاً، لأن أبا عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    والتربيع: أن يبدأ بمقدمة الجنازة ويأخذ باليمين؛ لفضل اليمين وشرفها؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المؤخرة في نفس جهة اليمين، ثم بعد ذلك يرجع إلى المقدمة فيحمل بالأيسر، ثم يتأخر المؤخرة للأيسر، فيكون قد ربع. هذا هو الذي يقصده العلماء من التربيع. أي: أن يكون حمل الإنسان للجنازة من جهات السرير الأربع، ولا يقتصر على جهةٍ دون جهة؛ للحديث الذي ذكرنا، ولو صح لا شك أنه يعتبر دليلاً على الفضيلة، لكن الأمر واسع إن شاء الله تعالى، ولا حرج أن يحمل الإنسان من أي جهة، ولا شك أن أن يبدأ بجهة اليمين تأسياً بتفضيل اليمين.

    فإن شق عليه لمكان الزحام وضرر الناس، بحيث يصعب عليك أن تنتقل إلى جهة اليسار، أو صعب عليك أن تتقدم حتى تنال المقدمة فالأمر واسع.

    وقال بعض العلماء: الأفضل أن يحمل بعمودي السرير، أي: أن يكون وسطاً في مقدمة السرير، ويرون هذا في المقدمة لا في المؤخرة، وتوضيح ذلك: أنه في المقدمة يمكن أن يرى من أمامه، فيحمل بطرفي عضادتي السرير، وفي ذلك حديث وراد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمله لـسعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: إن هذا يدل على أن الأفضل أن يأخذ بهما.

    والذي يظهر أن الأمر واسع، خاصةً قي حال الزحام، ولأنه ربما أضر بغيره، وربما أجحف به، وربما لا يصل إلى الجهات على الطريقة التي ذكرناها إلا بأذية.

    أما بالنسبة للتثنية وحمل طرفي السرير من آخر السرير فهذا من الصعوبة بمكان؛ لأنه إذا حمل من مؤخرة السرير لا يأمن أن يطأ أحداً أمامه أو يؤذيه، وربما تكون هناك حفرة أو يكون هناك شيء لا ينتبه له؛ لأنه لا يرى الذي أمامه، فضيقوا في المؤخرة، بخلاف المقدمة فإنهم وسعوا فيها وقالوا: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر في المقدمة.

    يفرق بين التربيع وبين التثنية: أن التثنية تكون من مقدمة السرير دون المؤخرة، وأما التربيع فإنه لابد فيه أن يكون من الأربع الجهات.

    وفي التثنية لا يشترط أن يضع طرفي السرير على كتفيه، بمعنى: أن يجعل الطرف الأيمن على عاتقه الأيمن، والطرف الأيسر على عاتقه الأيسر، إنما يعتبر أن يحمل، فإذا حصل الحمل فهو المقصود؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لك إذا كان طرفا السرير متباعدين، فإن تيسر ذلك كما إذا كان للسرير حمالات ونحوها، فيمكن أن يضعهما على كتفيه؛ لكن هذا أمرٌ من الصعوبة بمكان، فيما لو كان السرير من الخشب كما هو موجود في حالنا ليوم، فحينئذٍ يخرج بطرفي السرير بيديه كأنه حامل، وينبغي عليه أن لا يؤذي الناس.

    التداول في حمل الجنازة

    وهناك مسألة وهي: لو أنك حملت على طرفي السرير، وجاء رجلٌ لكي يحل محلك، فهل تبتعد تمكيناً له من الفضل أو تصر وتبقى؟

    للعلماء في هذه المسألة قولان:

    كان بعض مشايخنا يقول: تبقى؛ لأنه لا إيثار في القربات، فتبقى ممسكاً به لفضيلة الحمل، ولا تتركه لغيرك حتى تعيا، أو لا تستطيع أن تقوى؛ فحينئذٍ تترك لغيرك؛ فيرون أن الأفضل أن يتمسك الإنسان به حتى يصيب أكثر الأجر ولا يؤثر غيره بالفضل.

    ومن هنا قالوا: لا يجوز أن يقوم الإنسان من الصف الأول إلى الصف الثاني ولو لكبير سن؛ واختلفوا في الوالد، وإن كان الأقوى والأصح أنه يجوز أن تتأخر لوالدك؛ لأنك إذا تأخرت نلت مرتبة البر، وهي أفضل، وهذا له وجه، يعني يستثنى في الإيثار في القرب والطاعات أن يكون فيه بر للوالد.

    فهنا: لو كان إنسان له حق عليك كالعم والخال ونحوه ممن له حق القرابة، فيمكن أن تؤثر لمكان صلة الرحم، وأما غيرهم من عامة الناس فلا، فيصبح الأمر أشد إذا كان المحمول والداً أو قريباً، فيكون من البر أن تصر على البقاء ما لم تضعف، فيكون فيه الوجهان: كونه من بالغ البر، وكونه أيضاً يحصل عظيم الأجر؛ فيبقى قدر استطاعته في ذلك المكان ولو زاحمه غيره فيه؛ تحصيلاً لهذا الأجر والثواب.

    قوله: [ويباح بين العمودين].

    فيه ما ذكرناه من حديث سعد .

    1.   

    صفة المشي بالجنازة

    قال المصنف رحمه الله: [ويسن الإسراع بها].

    الإسراع بالجنازة

    يعني: بالجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة) وهو حديث تكلم العلماء في سنده، وفيه مسائل:

    الأولى: أن قوله: (أسرعوا بالجنازة) فيه دليل على أن السنة أن يكون المشي بها رملاً وإسراعاً، وهذا هو الأفضل، وقد جاء حديث آخر صحيح يدل على أن الصحابة كانوا يرملون بالجنائز، وهذا أفضل من المشي.

    وفيه دليل على خطأ بعض العامة الذين ينكرون على الناس إذا أسرعوا بالجنازة.

    وفيه أنه يرمل بها تحصيلاً لفضيلة ما ذكرناه من التأسي وإصابة السنة.

    والمسالة الثانية: أن السنة ألا تبقى الجنازة وأن يبادر بها، ولذلك لا تؤخر إلا لأمر ضروري، أو وجود ما يدل على استثناء شرعي يجيز لنا أن نؤخر الجنازة، وإلا فالأصل أن يبادر بها، ولا يجوز للأهل أن يؤخروا الجنازة إلا لوجود عذرٍ شرعي؛ لأنه أُمِر بالإسراع بها.

    فقوله: (أسرعوا بالجنازة) يشمل الإسراع في تغسيله، بمعنى أن نهيئ تغسيله في أقرب وقت، وليس المراد أن نعجل أثناء التغسيل؛ لأنه ربما إذا عجل أثناء التغسيل أضاع حقوقاً واجبة، وإنما المراد أن يسرع بالتغسيل.

    ويشمل الإسراع في تكفينه، فلا يتركه بعد تغسيله ممدداً في الفناء، بل يعاجل بتكفينه، ثم يسرع في حمله ثم الصلاة عليه، ثم يسرع في دفنه، فهذا معنى الإسراع بالجنازة.

    والمراد بالإسراع في الحديث إسراع المشي؛ لأنه هو السنة، ولأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول: قدموني، قدموني. وهذا ثابتٌ في الصحيح، فكأننا إذا أسرعنا بالجنازة حققنا مقصود الشرع، وأرفقنا بالميت إن كان صالحاً.

    وإذا كان حديث: (أسرعوا بالجنازة) ضعيفاً، فإننا نقول: إن حديث الصحيحين (قدموني، قدموني) يدل على مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من التعجيل بها، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إلا لشرف تقديم المسلم من الأحياء على قبره والعجلة في ذلك.

    موقع المشاة والركبان من الجنازة

    قال المصنف رحمه الله: [وكون المشاة أمامها والركبان خلفها].

    قوله: (وكون المشاة أمامها) السنة أن يُمشى أمام الجنازة، وأن يكون الركبان وراءها، وفي ذلك الحديث المشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه.

    ويقولون: إن الركبان يكونون في الخلف حتى لا يؤذى الناس؛ لأنهم إذا كانوا في الأمام أضروا بالناس وأجحفوا بهم، وفي حكم الركبان المركبات الموجودة الآن كالسيارات ونحوها؛ لأنها إذا كانت في الأمام ربما عطلت الجنازة عن المضي؛ فتكون في الخلف ليمكن المشي بالجنازة؛ وهو الأفضل.

    فإذا كانت الجنازة محمولة في المركبات كالسيارات ونحوها فحينئذٍ لا إشكال فإن الحكم أن يكونوا وراءها، لأنه لا يتيسر للمشاة أن يرافقوها، وإنما يكونون وراءها، ثم يبادر بها على الصفة المعهودة الآن.

    قال: [ويكره جلوس تابعيها حتى توضع].

    فقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس حتى توضع، وهناك روايتان: رواية: حتى توضع على الأرض، ورواية: حتى توضع في القبر، فإذا خرجت في تشييع جنازة ودخلت المقبرة ثم وضع السرير، فعلى الرواية الأولى بل والثانية لا يجوز لك أن تجلس حتى يوضع السرير، وعلى الرواية الثانية: حتى ينزل الميت إلى القبر.

    والأقوى: أنه لا يجوز حتى توضع على الأرض؛ لأن رواية (على الأرض) أقوى من رواية (في القبر) ولأنه ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو حديث مشهور: (إن العبد المؤمن إذا احتضر حضرته ملائكةٌ بيض الوجوه معهم كفن من الجنة ...) إلى آخر الحديث.

    في هذا الحديث يقول البراء : (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة أنصاري، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلسنا حوله حتى يلحد له) أي: حتى يحفر القبر ويلحد، فدل على جلوس النبي صلى الله عليه وسلم قبل وضع الرجل في قبره، وهذا يدل على أنه يشرع أن يجلس من شيع الجنازة قبل أن يوضع الميت في القبر، فإذا وضعت على الأرض جاز لك أن تجلس.

    1.   

    حكم تسجية قبر المرأة والرجل

    قال: [ويسجى قبر امرأة فقط].

    أي: لأنه أمكن للستر، وأثر ذلك عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأنكر بعض الصحابة تغطية القبر للرجال.

    والتسجية: أن يؤخذ بغطاء الجنازة أو يؤخذ لحاف ثم يوضع فوق القبر، أي: يغطى أثناء عمل الملحد للميت وقيامه على شأنه. فالتسجية: أن يغطى القبر.

    والتسجية تكون على حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون للنساء، فالمرأة إذا دُليت في قبرها شرع أن تغطى؛ لأنه أدعى لسترها وحفظ عورتها، لأنها وإن كانت ملفوفة في كفنها لكن جرمها وجسمها واضح أمام الناس من جهة تقاطيع الجسم، خاصةً في الأكفان؛ ولذلك تدلى حتى ولو وضعت في سرير حتى يكون أبلغ في سترها، وأبعد عن الفتنة بها، فتدلى في القبر ويسجى القبر، أي: يغطى ويترك بقدر الهوي ونحوه، فيوضع الساتر ويمسك الناس بأطرافه، ولا حاجة أن ينظروا إليها أثناء وضعها في لحدها.

    الحالة الثانية: أن يسجى القبر لشدة الحر والظهيرة ونحوها في الرجال، أي: إذا وُجِد الموجب في الرجال، فإذا كان في شدة ظهيرة أو كان المطر نازلاً وأريد تسجية الميت، فإنها ليست لستر العورة وإنما هي لدفع الضرر، وحينئذٍ لا حرج أن تكون التسجية لمعنى؛ وبعض طلاب العلم لا يفرق فينكر ذلك إطلاقاً، والواقع: أن فيه تفصيلاً:

    فإن كانت التسجية بمعنى الرفق بمن هو داخل القبر، من دفع حر الشمس عنه، فحينئذٍ لا حرج أن يغطى، بمعنى أنه يستر حتى يقيه حر الشمس وضررها، وأما إذا كان بمعنى التسجية فإنه بدعة، وقد أنكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مع عهدنا ذلك إلا في النساء، فدل على أنه يشرع في النساء دون الرجال.

    1.   

    أفضلية اللحد على الشق

    قال المصنف رحمه الله: [واللحد أفضل من الشق].

    اللحد كان في المدينة، والشق كان بمكة، وللقبر صورتان:

    إما أن يلحد، وهو أن يوضع الميت ويحفر له في جانب القبر.

    وإما أن يشق وتحفر له الحفرة في وسط القبر، فيوضع فيها على جنبه.

    واللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما توفي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة هل يلحد له أو يشق، وكان أبو عبيدة يشق، وكان أبو طلحة يلحد، فأرسلوا إليهما فسبق الذي يلحد، فعلموا أنه اختيار الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان اللحد أفضل لذلك، لأنه أمكن في الستر.

    الشق يكون في الجدار ونحوها كالأماكن الصلبة التي يصعب فيها حفر اللحود؛ لأنه أرفق وكذلك إذا كان في كهف فيشق، فلو أن الأرض كانت جبلية وتوفي الميت، وليس هناك مكان يمكننا أن نحفره، فحينئذٍ لا حرج إذا وجد كهف أو شق في جبل -صدع- وأمكن أن يوضع ثم يرص عليه، فإنه يفعل به ذلك، ويعتبر بمثابة القبر.

    1.   

    مشروعية وحكمة الدفن

    والدفن واجب ولازم، وقد شرعه الله عز وجل بكتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].

    وهذه قضية قابيل وهابيل؛ فإن قابيل لما قتل أخاه هابيل، وهو أول قتلٍ من بني آدم وقع في الأرض، أرسل الله الغراب يبحث في الأرض، أي: يحفر ليدفن حاجته، كأنه يشير له إلى ما ينبغي أن يفعله لأخيه من ستر عورته، فقال: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [المائدة:31] فهذا دليلٌ على شرعية الدفن، وهي أول قضية دفن كما يقول المفسرون رحمة الله عليهم.

    وقال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] فدل على مشروعية القبر.

    وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بالقول والفعل.

    ويشرع قبر الموتى سواء كانوا كفاراً أو كانوا مسلمين، فلو أن كافراً مات فإنه يشرع أن يقبر، ولا يجوز أن تترك جثته هكذا؛ لأن الله كرم بني آدم فقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وهذا يسميه العلماء التكريم العام الذي يشمل المسلم والكافر، فمن إكرام الله للآدمي أنه إذا مات فإنه يقبر وتحفظ عورته، بخلاف البهائم والوحوش والسباع وغيرها، فإنها تنبذ بالعراء، ومن هنا قالوا: إنه يقبر ولو كان كافراً، لكنه لا يقبر على صفة المسلم، بمعنى: أنه لا يلحد ولا يشق، وإنما يوارى، فتحفر له الحفرة ثم تواريه دون أن تراعي في ذلك شقاً ولا لحداً؛ لأنه لا كرامة له.

    وإنما يشرع أن يقبر الميت مسلماً كان أو كافراً، لحديث قتلى بدر، فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقليب فرموا فيه، فووريت أجسادهم، وعلى هذا لا حرج أن يوارى الكافر إذا مات، وأما المسلم فإنه يوارى بالصفة المخصوصة التي ذكرناها.

    وفي القبر حكمٌ عظيمة منها: أن الله سبحانه وتعالى دفع ضرر الأموات عن الأحياء؛ فإن الأحياء يستضرون برائحة الموتى، ويستضرون برؤية قراباتهم وذويهم أمواتاً أمامهم، ويحصل لهم من الهول والفاجعة ما الله به عليم، فإن بقاء الأموات فيه فزع، ورؤية الأموات تحدث في النفوس الفزع والخوف والرعب، ولربما يتنكد عيش الإنسان خاصةً إذا فقد العزيز والكريم عليه فرآه أمامه عشيةً وصباحاً، ولذلك رحم الله الناس بهذا، وجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فجعل الأرض ستراً لهم، وفيها أيضاً رحمة بالأموات؛ لأن عوراتهم تحفظ وسوآتهم تصان، عندما ينزلون في القبور.

    والأصل أن الإنسان بالنسبة للقبر له أحوال:

    بالنسبة للأنبياء فإن قبورهم في أماكن موتهم، كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قبر عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة لما قبض فيها، أما من عداهم فإنهم يقبرون في مقابر المسلمين العامة التي أوقفت.

    والقبر في مقابر المسلمين أفضل من أن يكون الإنسان في موضعٍ خاص؛ لأنه إذا كان في موضع خاص لا يؤمن أن ينبش، وإذا كان في موضع خاص وكان ملكاً له كأرضه أو مزرعته ونحو ذلك، فلا حرج أن يحفر له قبر ويدفن فيه، أما إذا كانت أرضاً لغيره فلا يجوز أن يحفر له فيها قبر إلا بإذن مالك الأرض؛ لأنها في أصل الشرع ملكٌ لأهلها، فلا يجوز لأحدٍ أن يقبر فيها أحداً بدون إذن أهلها، ولذلك لو قبر الإنسان في أرضٍ يملكها الغير وشرع للغير أن يطالب أهله بإخراجه فإنه يحرم عليه ذلك لمكان الغصب كما يقول العلماء، وفي حكم هذا أن يقبر في مسجد، فإن المسجد لا يملكه أحد؛ لأنه لله عز وجل، ولا يجوز أن يقبر أحد فيه حتى ولو كان صاحب المسجد؛ لأنه لما أوقفه للصلاة فيه فقد خرج عن ملكه، ولذلك من أوقف مسجداً فليس من حقه أن يملك هذا المسجد أو يبيع شيئاً منه؛ لأنه خرج عن ملكيته.

    ومن هنا لا يجوز أن يدفن فيه، مع أن الأصل الشرعي يقتضي حرمة أن تتخذ القبور مساجد، أو يكون القبر في مسجد، وهذا مجمعٌ عليه بين العلماء وهو من كبائر الذنوب كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الكنائس التي كانت في الحبشة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يفعله النصارى بعظمائهم من البناء على قبورهم.

    1.   

    كيفية إدخال الميت القبر

    قال المصنف رحمه الله: [ويقول مُدخِلهُ: باسم الله وعلى ملة رسول الله].

    السنة المحفوظة أن يسل الميت، بمعنى: أنه ينزل إلى القبر من رأسه.

    فالمكان الذي فيه الميت إن كان لحداً أو شقاً فإنه يُسَل، فيدخل من عند رجل القبر إلى أن يصل إلى موضع الرأس، فينزل شيئاً فشيئاً، على هذا يكون أول ما ينزل أعلاه -لشرف الأعلى- ثم بعد ذلك أسفله.

    ولا يدلى: بمعنى أن تُنزل رجلاه قبل رأسه؛ فيجعل السرير أو النعش عن يسار القبر، ثم بعد ذلك يدلى.

    وهناك وجهٌ آخر: وهو أن يجعل السرير في القبلة، ثم ينقل بعد ذلك إلى داخل القبر، وكلاهما جائز، فيأخذه اثنان من النعش ويناولان من بداخل القبر، فهذه صورة ثانية؛ لكن الأفضل السلّ، وهو الذي وردت به السنة.

    فإذا أراد أن يضعه يقول مُدخله: (باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص؛ لأنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص، لا تشرع الزيادة فيه ولا النقصان منه.

    اسم الله بركة، وهو فاتحة الخير، ولذلك قال تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن:78] وهو أدعى لرحمة الله بالعبد، ومعنى: (باسم الله وبالله) أي: مستعينين بالله، فالباء للاستعانة.

    قال بعض الفقهاء: التقدير: باسم الله أنزلك، وعلى ملة رسول الله أخلفك، ونحو ذلك من التأويلات، وهذا كله لم يرد به وجه صحيح، لكنه ذكرٌ مخصوص مناسبٌ للمقام؛ أي أن الإنسان قد وضعه على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل الملل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، والملة التي لا يقبل الله ملة دونها ولا غيرها، وهي ملة الإسلام، وهي الحنيفية التي لا نجاة للعبد إلا بها.

    1.   

    كيفية وضع الميت داخل القبر وحال الناس من حوله

    قال المصنف رحمه الله: [ويضعه في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة].

    قبل أن ينزله في القبر يكون هناك على الأقل شخصان، وهذا أرفق بالميت: أحدهما يكون عند رجليه، والثاني عند رأسه.

    والسنة أن يوسع من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتوسيعه، فلا يكون اللحد ضيقاً بمقدار ما يسع جسد الإنسان، بل الأفضل أن يوسع الحفر في جانب القبر من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.

    ثم يوضع على شقه الأيمن مستقبل القبلة، ففي الحديث الصحيح عن البراء : (إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: باسم الله...) الحديث.

    قالوا: والنوم هو الميتة الصغرى، وأما استقبال القبلة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) فهذا يدل على أن السنة أن يوضع الميت مستقبل القبلة، وهذا بالنسبة لمن مات من أهل الإسلام.

    وأما بالنسبة للكافر فإنه يوضع على حاله، إلا إذا كانت المرأة كافرة وفي بطنها جنين، فإنها توضع على شقها الأيسر؛ حتى يكون جنينها إلى القبلة، على القول بأن أولاد الكفار على الفطرة، وحينئذٍ يكون جنينها في هذه الصورة على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأن الجنين يستقبل ظهر أمه.

    وأما غير ذلك من أحوال الكفار فإنهم يوارون، ولا يقبرون على الصفة التي شرف الله بها أهل الإسلام.

    وإذا فرغ من وضعه في قبره فإنه ينصب اللبن عليه كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ينتهي من نصب اللبن يمكن الناس من دفنه وإهالة التراب عليه.

    وينبغي للإنسان في هذه الحالة أن يكون أقرب إلى الاعتبار والاتعاظ، فإن بعض العلماء رحمهم الله يقول: إن ورود القيراطين على الصلاة وشهود الدفن كائن لما فيه من المصالح العظيمة من التذكير بالآخرة، وذلك لأن شهود الدفن يذكر الإنسان بحاله، ويدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار بغيره، فإذا وضع الميت في قبره فالأفضل للإنسان أن يكون قريباً من القبر، على خلاف ما ألفه بعض الناس من البعد عن القبر.

    الأفضل الاقتراب من القبر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن شهدها)، و(شهد) بمعنى: حضر. والأفضل أن ينظر إلى حال المقبور؛ لأنه أدعى لشفقتك عليه وترحمك عليه؛ فإن الإنسان إذا نظر إلى أخيه المسلم وهو يدلى في القبر، ونظر إلى قرابته كأبنائه وإخوانه وعشيرته، وما عليهم من الحزن وأمارات التفجع والتوجع؛ دعاه ذلك إلى أن يستغفر له وأن يترحم عليه؛ وتأثر تأثراً بليغاً حتى لربما تذكر أولاده من بعده وقرابته إذا نزل به مثل ما نزل بأخيه.

    فكونه يكون بعيداً عن القبر يفوت هذه المصالح العظيمة.

    وأما ما ورد من حديث البراء من كونهم تحلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس فيه أنه دفن؛ لأنهم كانوا يحفرون القبر، وفرقٌ بين حفر القبر وبين التدلية للقبر.

    ومن كان قريباً من القبر، ناظراً إلى حال الميت متفكراً معتبراً، فإنه يكون أكثر حضوراً للقلب، وأكثر خشوعاً وأكثر تأثراً، وأكثر دعاءً واستغفاراً للميت وترحماً عليه.

    والعكس بالعكس: فإنه إذا ابتعد عن القبر ربما جاءه إنسان من أهل الدنيا، وشغله بفضول الأحاديث، ولربما تكلم في شيء من الدنيا يخرجه عن المقصود من شهوده للجنازة، وعلى هذا فإن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان مطلعاً على القبر قريباً من القبر، ولو أدى ذلك إلى زحام لا ضرر فيه، بل حتى ولو كان فيه ضرر على الإنسان فإنه يصبر؛ لأنه باب المزاحمة على الخير، وهي مشروعة، أي: كون الإنسان يزاحم ولا يؤذي غيره ولكن غيره يؤذيه، فإنك إذا لم تؤذ أحداً وتضررت بالزحام أجرت؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه، يقف عند الحجر ولا يجاوزه حتى يقبله، ولربما يضرب من الناس ويرعف ثلاث مرات كما ورد في الروايات عنه رضي الله عنه.

    ولا شك أن الإنسان كلما أوذي في الطاعة كلما كان أعظم أجراً، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون مثل هذه المقامات التي يستوي فيها رفعاء الناس ووضعاؤهم.

    أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دنا إلى بئرٍ يريد أن يستقي، فقال له أصحابه: هلا كفيناك؟ فامتنع رضي الله عنه، فلما دخل في الزحام لكز وأوذي وضر في جسده وفي ثيابه، فلما خرج قيل له: ألم نقل لك: نكفيك هذا الأمر؟ قال: هكذا طاب لي العيش، دخلت وأنا ابن المبارك ، وخرجت وأنا ابن المبارك .

    فالإنسان إذا دخل بين الناس وشعر أنه كواحدٍ منهم، وتأذى في الطاعة أو في الخير، فإن الله يؤجره.

    فإن رؤيتك لهذه الحال صلاح لك في دينك وأجرٌ لك في آخرتك، ولقد قصر البعض، خاصةً من طلاب العلم في مثل هذه المواقف، ولربما تجد بعض العوام في بعض المواقف أبلغ تأثراً من طلاب العلم، فإنك تجد من العوام من يبكي على القبر ويتأثر برؤية هذه المشاهد، ولكن ربما تجد طالب العلم بعيداً عنها، وربما يقف بمنأى عن القبر، وينتظر حتى يفرغ الناس، ثم يأتي ويحثو الحثوات دون أن يتعظ ويرى هذه المشاهد المؤثرة، والإنسان الذي يشهد هذه المواقف ولا يتأثر بها؛ فلأنه لم يجد من نفسه ما يدل على صدق رغبته في التأثر، ولو هيأ نفسه لذلك فخرج وهو يشعر أنه كواحد من المسلمين ودخل في حطمة الناس، فإنه سيشعر أنه كواحد من عوامهم ولو كان عالماً.

    وإنك لتعجب عندما يطوف الناس وتسمع عوام الناس يبكون ويخشعون في طوافهم، حتى إن الإنسان في بعض الأحيان يبكي على نفسه في علمه عندما يجد في عوام الناس من الخشوع في العبادات ما لا يجده من خاصة طلاب العلم، ولكن نسأل الله برحمته الواسعة أن يرحم قلوبنا من قسوتها وغفلتها، وأن يجيرنا من هذا البلاء العظيم.

    فإن الإنسان إذا حرم التأثر بالطاعة فقد حرم خيرتها وبركتها، فإن أفضل ما يكون في الطاعة أن تتأثر بها، وأعظم الناس أجراً في شهود الجنائز من رجع منكسر القلب خاشعاً، وقد أثر فيه المشهد والمنظر كأن ذلك الميت قريبه، وتجد بعض الناس من كمال خشوعه أبلغ تأثراً من أهل الميت؛ وذلك لأنه لا ينظر إلى فقد هذا الميت ولكن ينظر إلى فقده وحاله الذي نزل به.

    فينبغي لطالب العلم أن يهيأ نفسه إذا شهد الجنائز أن يكون في منظره وسلوكه ودله وحاله ما يدل على صدق تأثره بما يرى؛ حتى يكون علمه مترجماً بالعمل، فإذا رآه العامي أحس بأثر العلم في عمله، وأثر العلم في عبادته، ولا ينبغي له أن يكون في بعدٍ عن الأسباب التي تهيئ من خشوع القلب وفي مثل هذه المواضع التي كلما كان الإنسان فيها خاشعاً كلما كان أعظم أجراً، وكان أدعى لقبول سعيه في طاعته لله عز وجل.

    فإذا قبر الميت وأهيل عليه التراب؛ فإن السنة أن يهيل من حضر عليه التراب، والسنة أن يحثُو عليه ثلاث حثيات إذا لم يشارك في دفنه؛ والأفضل أن تشارك في دفنه؛ وجميل من طالب العلم أو من العالم إذا ساوى عوام الناس وأخذ بالآلة ودفن معهم، خاصةً إذا كان المدفون من أهل العلم والفضل، أو من له حقٌ عليك كقريبك؛ فإن مثل هذه المواقف تدل على التواضع، وتدل على البساطة والبعد عن العلو، وتدل على الحرص على الخير؛ فإن الناس إذا رأوا طالب العلم يدعوهم إلى الخير، ورأوه في هذه المواقف يشارك الناس في حصول الخير وينافسهم ويحرص عليه؛ فإن ذلك أدعى لقبول دعوته وحبه والتأثر به.

    وقد يكون داعياً بفعله دون أن يتكلم، وهذه هي الدعوة الصادقة التي يجمع الله للإنسان فيها بين دعوة الكلام والفعل.

    ومن فعل ذلك أجر مرتين:

    الأجر الأول: على الطاعة والفعل.

    والثاني: على تأثر الناس واقتدائهم به في ذلك؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً، اقتتل الصحابة على ذلك الفعل من تأثرهم به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة.

    أما لو كان الإنسان عالماً وشغل بسؤال الناس، أو رأى أنه لو جلس فإنه يتأثر بالنظر وبحال الناس وهم يهيلون التراب عليه، وأنه أبلغ، أو كان به مرض يخشى أن يتضرر لو اقترب من الغبار، فهذا شيءٌ آخر، لكن انوِ في قلبك أنه لولا هذا البلاء لكنت مشاركاً لهم؛ حتى يبلغك الله منزلتهم؛ فإن الإنسان ربما يدخل الجنة بحسنةٍ واحدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] فلربما استوت حسنات الإنسان وسيئاته بسبب مظالم الناس، فأخذ من حسناته حتى تستوي الحسنات والسيئات، فتأتي حسنة واحدة وربما هو التراب الذي تهيله على الميت فتنجيك من النار؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبحثون عن رحمة الله في كل عملٍ صالح، من قول أو فعل، ظاهر أو خفي، فإن فاته الفعل نواه بقلبه، فإن الإنسان لا يدري لعل الله أن يجعل نجاته في حسنة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً مر على غصن شوك فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين. فزحزحه؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم) .

    نقول هذا لأن مثل هذه المواقف مهمة جداً، خاصة لطلاب العلم، وفيها تربية، فقد كنا نتأثر بعلمائنا ومشايخنا حينما نراهم مع عوام الناس، ونرى الرجل منهم يحضر جنازة العامي، ولقد رأينا من مشايخنا رحمة الله عليهم من يشهد جنازة الرجل الذي لا يؤبه به لفقره، أو ضعف نسبه، فتجد من الحزن والبكاء عليه كأنه واحدٌ من قرابته، وهذا لا شك أنه يدل على كمال الإيمان وصلاح القلوب.

    فنسأل الله بعزته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يزيدنا من فضله العظيم.. والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    عرض الأديان على الميت

    السؤال: ما صحة القول بعرض الأديان على الميت، وهل يحصل هذا العرض لكل شخص أثابكم الله؟

    الجواب: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة القبر تكون بالسؤال: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟).

    فعند أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب : (إن العبد المؤمن إذا احتضر نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان. فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فلا يدعونها معه طرفة عين حتى يضعونها في ذلك الكفن، فتخرج منها كأحسن نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض؛ ثم يصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون بنفرٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه إليه، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم ردوه إلى الأرض فإني منها خلقته وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارةً أخرى، فترجع روحه، فيأتيه ملكان فيقعدانه)

    ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الفتنة، وقال: يسألانه عن ربه، ويسألانه عن دينه، ويسألانه: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً قال: هو عبد الله ورسوله، وشهد بالإيمان، وإن كان منافقاً قال: ها.. ها.. لا أدري -وفي رواية- فيقال له: لا دريت ولا تليت ؛ لأن الإنسان ينال العلم بإحدى طريقتين:

    إما أن يدري لنفسه فيكون عالماً بالشيء، أو يتلو، فيتعلم، فقيل له: (لا دريت ولا تليت)، أي: ليس بك علم، لا بدراية ولا بتلاوة.

    قال: (ثم يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة فيسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس، ولو سمعوه لصعقوا)، أي: ماتوا من ساعتهم، وهذه هي الفتنة التي تكون في السؤال، وهي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.. والله تعالى أعلم.

    حكم التلقين على القبر

    السؤال: ما حكم التلقين على القبر أثابكم الله؟

    الجواب: تلقين الميت بعد قبره، فيه حديث معاذ رضي الله عنه: (إذا وضع أن يقوم على قبره الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، فيقول الملك: ما لك في رجلٍ يلقن حجته من حاجة، فيقومان عنه) وهذا الحديث ضعيف، وهو معارض لما هو أصح منه، فإن حديث البراء بن عازب ذكر المؤمن، ولا شك أن الله لا يظلم عبده، فإن المحسن سيجيب والمسيء لا يجيب ولو لقنه من في الأرض جميعاً، فمن مات على التوحيد والإيمان فإن الله هو الذي يثبته وهو الذي يلقنه، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    ثبت في تفسيرها كما جاء في حديث البراء أنه قول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، عند جوابه بهذه الأجوبة الثلاثة، فهذا من تثبيت الله؛ لأنه إذا رأى الملكين فزع، وهاله المطلع في مكانٍ لم يعهده ولم يألفه، وهي أول ساعةٍ وأول منظرٍ يراه؛ فيكون من أشد الهول على العبد، وهي أول منازل الآخرة التي يفزع فيها العبد، فإن كان مؤمناً ثبت الله قلبه، وذلك على قدر ما فيه من الإيمان والخير؛ فإن كان على كمالٍ من الإيمان وكمالٍ من الصلاح فإن الله سبحانه وتعالى يثبته تثبيتاً كاملاً، ولا يخذله، والله عز وجل يوفق عبده ولا يظلمه.

    فلا داعي أن يلقن الإنسان، فإن الله عز وجل سيلقنه حجته، ويبين له سبيله ومحجته؛ فإن الله سبحانه وتعالى لطيفٌ بأوليائه المؤمنين: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:62-64].

    فالإنسان الذي يموت على الإيمان لا يضيعه الله عز وجل، والله تعالى يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] فالمؤمن لا حاجة له إلى أن يُلقن.

    ولذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقن ميتاً؛ فيقتصر على هذا الوارد، وهو السنة المحفوظة.

    وأما حديث معاذ فضعيف كما تكلم العلماء رحمة الله عليهم على سنده وبينوا ضعفه.. والله تعالى أعلم.

    حكم قول الحاضرين عند إنزال الميت: باسم الله وعلى ملة رسول الله

    السؤال: هل يقول الحاضرون أيضاً مع مدخل الميت: (باسم الله وعلى ملة رسول الله)؟

    الجواب: المحفوظ أن يقوله من يدخله ومن يضعه في قبره، أما بالنسبة للحاضرين الذين يشهدونه فإنهم يسكتون، ويقتصرون على الدعاء له والترحم عليه، وسؤال الله التثبيت، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد دفن الميت: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولذلك كان الأفضل والأكمل بعد دفن الميت ومواراته أن يقتصر على سؤال الثبات في تلك اللحظة التي تلي الدفن، ويقتصر على سؤال الله له الثبات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ، فيستغفر له لأنه يبتلى بذنوبه، فإذا غفرت ذنوبه أمن من البلاء في قبره، وقوله: (واسألوا له التثبيت) من دعاء المناسبة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم؛ أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974826