إسلام ويب

تفسير سورة مريم (10)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن ذكر الله عز وجل أولئك الصالحين من النبيين وذرياتهم، ذكر هنا أنه خلف من بعدهم خلف سوء، كان من شأنهم أنهم أضاعوا الصلاة، سواء بتركها بالكلية، أو تأخيرها عن وقتها، ثم بعد ذلك انهمكوا في حمأة الرذيلة والشهوات، وقد توعدهم الله عز وجل بغي، وهو واد في جهنم يعذبون فيه، إلا من تاب منهم وأصلح فإن الله يدخلهم الجنة ولا يظلمهم شيئاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة...)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ها نحن مع سورة مريم عليها السلام، وها نحن مع هذه الآيات نسمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:59-63].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق في الدرس الماضي تفسير قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، ثم قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59] أي: من بعد أولئك الذين ذكرهم في هذه الآية: من ذرية آدم إدريس.. من نوح، ومن ذرية إبراهيم بنو إسرائيل، ومن ذرية إسرائيل.. وهكذا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.

    قال تعالى مخبراً عن الواقع الذي تم وإنه والله لمشاهد عندنا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59] الخلْف خلاف الخلَف. الخلَف الصالح، والخلْف الفاسد فخلف من بعدهم خلَف أي: صالحين، لكنهم خلْف أي: فاسدين.

    فهناك فرق بين الخلَف وبين الخلْف.

    فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ [مريم:59] أي: جاء من بعدهم خلْف سيء، أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59] أولاً، أضاعوها: فرطوا فيها.. أهملوها.. تركوها، ما أدوها وما أقاموها على الوجه المطلوب، وكل هذا يصلح له أضاعوا الصلاة، ومنهم من تركها كفر، ومنهم من أهملها وأضاع بعضها ولم يأت بها على الوجه المطلوب فشقى وفجر.

    ومن ترك الصلاة بالمرة كفر، ومن عبث فيها وقدم وأخر وزاد وكذا فقد فجر.

    فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59] أولاً، فالذين لا يصلون لا يمكنهم قطعاً أن يستقيموا، فوالله ما يستقيموا! ولا بد وأن يفجروا بالزنا أو بغيره.

    وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59] فالذين تركوا الصلاة وأضاعوها وما أدوها على الوجه المطلوب لا بد وأن يتبعوا الشهوات التي تزينها النفس ويزينها الشيطان، والشهوات من الزنا.. إلى الخمر.. إلى الربا.. إلى غير ذلك، وهذا خبر الصدق، الذي أخبر به الله جل جلاله العليم الخبير.

    فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، وإضاعة الصلاة -والعياذ بالله تعالى- يكون بتركها ويكون بإهمالها والتهاون بها؛ لأن الذي لا يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب لا ينتفع بها، ولن تزكى نفسه ولن تطهر، ومن يؤخرها عن أوقاتها، ولا يتم ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئن في ركوع ولا سجود كالذي لا يصلي.

    أحد السلف صلى أمامه شخص فأساء الصلاة، فقال له: من كم عام وأنت تصلي هكذا؟ فقال: منذ أربعين سنة، فقال له: إذاً ما صليت ولا صلاة واحدة صحيحة، فهو لا يطمئن في الركوع ولا في السجود، ثم قال له: فصل من الآن وادخل في رحمة الله.

    وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] الويل: واد في جهنم كما عرفتم، كلمة تشير إلى عذاب متين، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] أي: الذين يخرجون عن أوقاتها ويسهون عنها، فلا يطمئنوا في ركوع ولا سجود ولا خشوع كالعابثين واللاعبين، فويل لهم.

    الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة

    قال تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] قال ابن عباس : الغي واد في جهنم تستمد جهنم الحرارة منه، ويلتقون به ويقعون فيه ويملكون به، هذا حكم الله.

    فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] وها نحن نشاهد اللاعبين بالصلاة والتاركين لها، حياتهم كلها أغاني، ولهو، ولعب، وكيرم، وعبث، وسخرية، واستهزاء حتى بالصالحين.. هذا واقعهم.

    فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] أي: عذاباً في جهنم في واد يقال له: الغي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً...)

    قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60]، باب الله مفتوح، ومهما فجرت وزنيت، أو كفرت..، إذا قلت: أتوب إلى الله، وصدقت في قولك وبكيت بين يدي ربك، وتخليت عن تلك الذنوب والآثام يقبل الله توبتك ويطهرك وينجيك ويسعدك.

    إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [مريم:60] قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري : الآية تدل على أن ترك الصلاة كفر؛ لأنه قال: (وآمن) أي: كان كافراً، ولا نشك في أن امرأ يعلم أن ترك الصلاة كفر ويستمر على تركها إلا وأراد الكفر عن الإيمان.

    قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره: الآية تدل على أن الذين أضاعوا الصلاة منهم الكافرون الذين تركوها، والذين أدوها عبثاً واستهزاء أضاعوها كذلك، والكل في جهنم وفي وادي الغي إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60] تاب: رجع إلى الصلاة وأداها على الوجه المطلوب وعمل صالحاً بعد ذلك ليزيل الأثر الفاسد والرائحة الكريهة من قلبه ونفسه، وتنمحي بالعمل الصالح فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [مريم:60] وهذا حكم الله الذي أخبر به، فأولئك الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ثم تابوا، فآمنوا وعملوا صالحاً هؤلاء يدخلون الجنة. اللهم اجعلنا من أهل الجنة لا من هؤلاء الذين فجروا وفسقوا وتركوا الصلاة، فنعوذ بالله أن نكون منهم.

    فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [مريم:60] والجنة هي دار السلام، دار الأبرار، فوق السماء السابعة وقد ارتادها نبينا صلى الله عليه وسلم ووطئ أرضها بقدميه الشريفتين، وشرب من مائها وشاهد أنهارها وقصورها وحورها، ونزل فيه ساعات أو دقائق.

    إذاً وَلا يُظْلَمُونَ [مريم:60] أي: من حسناتهم شَيْئًا [مريم:60]، فلن يقول تعالى: فجر وكفر وآذانا وعصا وأعرض عنا ثم تاب، إذاً ننقص له من حسناته، فمن تاب ويعمل فليبشر بأن أعماله كلها وافية، لا ينقص منها حسنة واحدة وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60] أي: من حسناتهم التي فعلوها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب...)

    ثم قال تعالى في بيان الجنة: جَنَّاتِ عَدْنٍ [مريم:61] والجنات: جمع جنة، كالبساتين: جمع بستان.

    جَنَّاتِ [مريم:61] سميت الجنة جنة؛ لأن الأشجار فيها تجن وتغطي من يكون تحتها كما نسمي الجنان كذلك عندنا، وعدن بمعنى إقامة دائمة ما بعدها رحيل ولا انتقال ولا تحول أبداً، يقول تعالى: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108].

    جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم:61] أي: تلك الجنة التي وعد الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه عباده المؤمنين بها بالغيب، ما شاهدوها ولا رأوها ولا أكلوا من ثمرها ولا.. ولا..، وعدنا بالغيب فآمنا وهي والله لكائنة موجودة، وحسبنا أن شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه ووقف على أرضها برجليه، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، ثم من بعد ذلك إلى دار السلام.

    يقول تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ [مريم:61] أي: إقامة دائمة، الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ [مريم:61] جل جلاله وعظم سلطانه، الرحمن بالرحمة التي ملأت الأرض والكون كله، وعد بها عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم:61] وما شاهدوا.

    إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61] أي: الوعد آت لا محالة، إذا وعد الله عز وجل لا يتخلف؛ لأنه قوي قدير، لو يعدك لن يتخلف ويؤتى وعده.

    إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61] أي: آت لا محالة، ونأتيه نحن ونظفر به إن شاء الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً...)

    ثم قال تعالى في بيان نعيم هذه الجنة: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا [مريم:62]، أما قال تعالى في صفات عباده المؤمنين الطاهرين: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3] وشرحنا هذا وبيناه فقلنا: التفكير، القول، العمل.. إذا لم يحقق لك حسنة لمعادك ولا درهماً لمعاشك، فهو والله اللغو، جالس يفكر وهذا التفكير إذا كان في جلال الله وكماله وإنعامه وإحسانه وإفضاله اكتسبت خيراً، وإذا كان التفكير في اللعب واللهو والباطل والحصول على الشهوات كان لغواً بالتفكير يجب أن يترك وأن نعرض عنه.

    والقول الذي نقوله كلمة أو ألف كلمة ما كان يحقق حسنة فهو خير وليس بلغو، وما كان يحقق سيئة فهو لغو، سواء العمل باليد.. بالرجل.. بالرأس.. باللسان.. العمل إذا حقق الحسنة أو درهم أو ريالاً فهو ليس بلغو، وإذا كان عمل اجتهاد وبذل كل ذلك ولا حسنة واحدة، كأنواع اللهو واللعب والعبث، فهو لغو.

    قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3] أي: لا يجتمعون حتى ربع ساعة أو ساعة كاملة في اللهو والباطل والغيبة والنميمة، وقال فلان وفعل فلان، فكيف بالذين يجتمعون على الكيرم، ويجتمعون أمام التلفاز والشاشات، ويضحكون والعواهر تغني، والفجار يرقصون ويتكلمون الساعة والساعتين، وهذا لا ينبغي مع الإيمان والصلاح، ولا يحل هذا، فإنه لغو والدليل على لغويته: هل الواقفون أمام تلفاز أو شاشة يحصلون على ريال واحد، أو حسنة مثلاً؟!

    فهذا والله إنه للغو، ولهذا الصالحون معرضون عنه.

    لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم:62] اللهم إلا السلام، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24] سلام الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:23-24] وسلام الرب تبارك وتعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] وهذا الذي يسمع، أما الأغاني والمزامير والطبل والعبث لا وجود له في دار السلام، كل لغو لا وجود له، اللهم إلا السلام عليكم.. السلام الكلمة التي هي نعمة من نعم الله تعالى نقولها لبعضنا البعض، الأمن والسلامة لكم، وهنا نعرف أو نذكر أن من مر بأخيه المؤمن وهو راكب يسلم عليه وهو الماشي، ومن مر بقاعد وهو ماشي يسلم على أخيه القاعد، ويسلم الصغير على الكبير، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السلام سنة، تركها يفوت أجراً عظيماً.

    وأما الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهو واجب إن تركته أثمت فأنت والله آثم، إذا سلم عليك أخوك واستكبرت وتكبرت وأبيت أن تريد السلام أثمت، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة النساء: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] قال: (إذا حييتم) ما قال: يجب أن تحيوا، إذا حييتم بتحية فردوها إما بمثلها أو بأحسن مثلها، والأحسن هو: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

    وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل تسليمة بعشر حسنات، وعليكم السلام عشر حسنات، ورحمة الله عشر حسنات، وبركاته عشر حسنات.. هذه ثلاثون حسنة.

    أيام كنا نمشي في باب المجيدي كنا نتخذ أياماً نقول: نسجل نمشي في الطريق إلى المنزل كل من سلم علينا سلمنا عليه نجد مائتين ثلاثمائة حسنة من السلام، الآن أصبحنا نركب على الدواب ما فيه سلام، من باب المجيدي إلى المنزل آخر باب المجيدي مائتين ثلاثمائة حسنة، كلها من السلام عليكم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

    لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا [مريم:62] من بعضهم البعض، من الملائكة من رب العالمين الرحمن الرحيم، ما فيه إلا السلام.

    ثم قال تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62].

    وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ [مريم:62] والرزق تعرفه حتى العجائز، وهو الطعام والشراب والفواكه والخضار وما إلى ذلك، ما يرتزقون به.

    رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] يعني: في زمان كزمان الصباح والعشي؛ إذ لا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، كلها أنوار فقط، لكن تأتيهم الملائكة في وقت الطعام صباحاً ومساء وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]؛ لأن هذا ما يعرف إلا في الدنيا الغداء والعشاء في الصباح والمساء، لكن إذا كان لا صباح ولا مساء الوقت كله واحد، إذاً الملائكة هي التي تدخل عليهم بطعامها، وبمجرد أن ترغب في الطعام فقط يحضر بين يديك، وإذا أردت أن يرفع ما تقول: ارفعوا خذوا القصاع، أو الصحاف، فقط قل: الحمد لله، دل على هذا قوله تعالى من سورة يونس عليه السلام: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [يونس:10] إذا أرادوا أن يطلبوا الطعام ما يقولوا أعطنا الطعام لا، قل: سبحانك اللهم فقط، دَعْوَاهُمْ فِيهَا [يونس:10] أي: طلبهم فيها سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10] أي: آخر ما يطلبون رفع الصحون والأواني بكلمة: الحمد لله رب العالمين، هذه الآية من سورة يونس.

    نعيد تلاوتها قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا [يونس:10] أي: في الجنة سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، اللهم اجمعنا هناك واجمع بيننا حتى نتذكر هذا الذي سمعناه الليلة كما هو.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً)

    قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63] الجنة تورث كما تورث الأموال في الدنيا، فمن مات مورثه ورثه في ماله الصامت والناطق، والجنة كذلك تورث بنص الآية الكريمة: نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

    أولاً: لما خلق الله الجنة وخلق النار، خلقها على قدر من يسكنها وينزل فيها بنظام، بلا زيادة ولا نقصان، إذاً فكل إنسان ككل جان، له منزلة في الجنة ومنزلة في النار، إن آمن واتقى نزل في منزلته في الجنة، وإن فجر وكفر نزل في منزلته في النار، كيف يتم التوارث، فمنزلة أبي جهل التي في النار ورثها ولده عكرمة ، ومنزلة عكرمة في النار من ورثها أبوه أبو جهل ، وهكذا، وهذا التوارث ترثني وأرثك، والمؤمن يرث الكافر والكافر يرث المؤمن، والمؤمن يرث الكافر في منزله الذي أعد له في الجنة لو آمن وعمل صالحاً، والكافر يرث منزلي أنا في النار لو كفرت وأشركت بالله عز وجل، هذا معنى قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ [مريم:63] أي: نورِّث مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، والتقي هو الذي يتقي جهده الكامل أن يغضب ربه بكلمة أو بنظرة، الذي يقضي حياته كلها يتقي سخط الله وغضبه عليه، فلا يخرج عن طاعته أبداً بترك فعل أوجب فعله، أو قول أوجب قوله، أو اعتقاد أوجب اعتقاده، مع اجتناب ما حرم من ذلك من الاعتقاد الفاسد القول الباطل والعمل السيئ، هؤلاء هم المتقون ورثة الجنة دار النعيم.

    وقد علمتم سر ذلك ألا وهو أن المتقي إيمانه وعمله الصالح يزكيان نفسه وبعده عن الشرك والمعاصي يبعدان عنها الخبث والذنب والإثم، فبذلك أصبحوا أهلاً لدخول الجنة دار السلام.

    التقي وارث في الجنة، لأنه اتقى الله فلم يعصه لا بترك واجب ولا بفعل حرام، وبذلك احتفظ بطهارة نفسه وزكاة روحه، وهذه النفس الزكية الطاهرة هي التي تحتل دار السلام وتدخل الجنة مع الأبرار، واقرءوا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] وهذا حكم الله، فمن هنا لا شريف ولا وضيع ولا سيد ولا عبد ولا ولا، وكل الخليقة على هذا المبدأ، من زكى نفسه أفلح، ومن خبثها خسر والعياذ بالله.

    بهذه الصيغة العامة: قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دساها، أي: نفسه.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    إليكم شرح الآيات من الكتاب:

    معنى الآيات

    قال: [ قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59] يخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59]فمنهم من أخرها عن أوقاتها، ومنهم من تركها وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59] فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور، وشهدوا الزور، وأكلوا الحرام، ولهوا ولعبوا، وزنوا وفجروا، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين، فهؤلاء الخلف خلف السوء يخبر تعالى أنهم فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] بعد دخولهم نار جهنم.

    والغي: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود : أنه واد في جهنم، والكل صحيح؛ إذ البئر توجد في الوادي وكثيراً ما توجد الآبار في الأودية.

    وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60] أي: لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي: حقق إيمانه وعمل صالحاً فأدى الفرائض. وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التائبون المنيبون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [مريم:60] مع سلفهم الصالح، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60] أي: ولا ينقصون ولا يبخسون شيئاً من ثواب أعمالهم.

    وقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ [مريم:61] أي: بساتين إقامة أبدية ] بساتين إقامة دائمة أبدية.

    [ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم:61] أي: وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.

    وقوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61] أي: كونهم ما رأوها غير ضار؛ لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبداً لابد من الحصول عليه، ومعنى مأتياً يأتيه صاحبه قطعاً ] بلا شك.

    [ وقوله تعالى في الآية: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم:62] يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي: في الجنة لغواً وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام، اللهم إلاّ السلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم، وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.

    وقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] أي: ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام والشراب، بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] أي: في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا؛ إذ لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما هي أنوار، وجائز ] من باب الجواز [ إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر، أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.

    وقوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم:63] يشير تعالى إلى الجنة دار السلام تلك الجنة العالية الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63] منهم، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي، كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجراً من الفجار، إذ هذا معنى التوارث: هذا يرث هذا وذاك يرث ذا، إذ ما من إنسان إلاّ وله منزلة في الجنة ومنزل في النار، فمن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة ونزل في منزلته، ومن كفر وأشرك وعمل سوءاً دخل النار ونزل في منزله فيها، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة ].

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات:

    أولاً: التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات ]، التنديد والتحذير والتنبيه إلى خطر ألا وهو من أضاع الصلاة واتبع الشهوات، وكلكم تعرفون إضاعة الصلاة إما بتركها وهو كفر، وإما بإخراجها عن أوقاتها وعدم أدائها على الوجه المطلوب فهو عبث فيها ولهو والعياذ بالله ... معناها صحيح، معناها أن النائم في المدينة ليس معناه نائم عن ترك الصلاة وعن العبادة والعمل، نائم النوم المطلوب له، يحصل على أجر الإقامة في المدينة والهجرة، فيحصل على أجرك الذي يحصل عليه من في دمشق أو القاهرة، كلام معقول هذا، لكن يحتاج إلى فهم، لكن هم فعلوه ما دمنا في المدينة نثاب إذاً ما نصلي ولا.. ولا..، والعياذ بالله تعالى.

    فقط كلمة حق أريد بها باطل، كونها حق: أن المقيم في المدينة يثاب على الهجرة على إقامته، كالنائم في بلده، فالنائم في بلده ما يثاب وهنا يثاب، لكن هم أرادوا بهذا ما دمنا في المدينة نشرب الخمر، نعبث، نلعب نلهو ونقول: ما يضرنا ذلك، وقالوا: النائم في المدينة كالعابث في غيرها، كلمة حق أرادوا بها الباطل، ولا نقولها ولا نسمعها من أحد.

    [ ثانياً: الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك ]، الوعيد الشديد القوي لمن يتهاون بالصلاة أو يتركها ويموت على ذلك، أما إن تاب نجا كما بين تعالى.

    قال الشارح غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين في النهر: [ قال ابن عباس رضي الله عنهما: غيّ: واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعدّ الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنا، ولشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا لا ينزع عنه، ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه ].

    [ قال ابن عباس رضي الله عنهما: غيّ: واد في جهنم ]، الغي: واد في جهنم.

    [ وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره ]، أودية جهنم تستعيذ به وتقوى منه.

    تستعيذ: تتبرأ منه، من خوفها منه.

    [ أعدّ الله تعالى ذلك الوادي ]، لمن أعد هذا الوادي؟

    [ للزاني المصرّ على الزنا ]، أولاً: الزاني الذي يموت على الزنا.

    [ ولشارب الخمر المدمن عليه ]، ثانياً: شارب الخمر أيضاً إذا مات على ذلك.

    [ ولآكل الربا لا ينزع عنه ]، ثالثاً: آكل الربا والعياذ بالله إذا مات بدون توبة.

    [ ولأهل العقوق ]، رابعاً: العقوق للأبوين والوالدين إذا ماتوا كذلك.

    [ ولشاهد الزور ]، خامساً: شاهد الزور مطلقاً كذلك من أهل هذا الوادي الغي.

    [ ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه ]، سادساً: امرأة تدخل على زوجها ولداً ليس منه، تفجر وتزني وتحمل وتقول: هذا ولدك والعياذ بالله تعالى.

    [ ثالثاً من هداية الآيات: باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب ]، وهذه حقيقة، فباب التوبة مفتوح، ما عندنا من نقول له: لن يتوب الله عليك، لا تقبل لك توبة أبداً، لو فجر ألف سنة كما قدمنا وكفر، ثم شهد أن لا إله إلا الله ودخل في الإسلام يمحى ذلك كله، المهم أن نموت على توبة، فمن مات على غير التوبة هلك.

    [ رابعاً: بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار ]، بيان نعيم الجنة كما علمنا، أكلهم وشربهم ورزقهم.

    [ خامساً: تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار ]، هذا علمناه، فهناك توارث بين أهل الجنة وأهل النار، أهل النار يرثون منازل أهل الجنة في النار، وأهل الجنة يرثون منازل أهل النار في الجنة، هذا معنى التوارث تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا [مريم:63] أي: نورث مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

    [ سادساً وأخيراً: بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء، وأن ورثة النار هم الفجار ].

    والله تعالى نسأل أن يتوب علينا، وأن يبعدنا عن الفجر والفجور، وأن يحمينا بحماه الأليم العظيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756277403