إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (18)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما أسر المسلمون سبعين من المشركين في بدر رغب كثير من الصحابة بمفاداتهم بالمال حتى يعوضوا ما فاتهم من أموالهم عند المشركين بمكة، ورأى البعض قتلهم وعدم قبول الفداء فيهم، ومال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الأول، فلما تم الفداء أنزل الله آيات يعاتب فيها المؤمنين على أخذ الفداء، وأنه لا ينبغي لنبي أن يكون له أسرى حرب يفاديهم قبل أن يثخن في الأعداء ويرون منه البأس والقوة، ومع ذلك فقد أجاز سبحانه للمؤمنين ما أخذوا من فداء يوم بدر وأحله لهم أن يأكلوه طيباً.

    1.   

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الأنفال

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذا اليوم والذي بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنفال المباركة المدنية الميمونة، تلكم السورة التي احتوت على كل ما يتعلق بغزوة بدر التاريخية العظيمة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث في حكم الأسرى، فلنستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:67-69].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قبل الشروع في تفسير هذه الآيات الثلاث نعود إلى الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس بذكر هداياتها، قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: لا كافي إلا الله تعالى، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، أي: حسبهم الله، إذ لا كافي إلا الله تعالى، ومن ظن أن هناك من يكفي دون الله فقد أشرك في ربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى.

    قال: [ ثانياً: وجوب تحريض المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال:65] الآية.

    قال: [ ثالثاً: حرمة هزيمة الواحد من الواحد، والواحد من الاثنين ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، فلا يحل لواحد من المؤمنين أن ينهزم أمام اثنين من الكافرين، ولا يحل لمائة من المؤمنين أن تنهزم من مائتين من الكافرين، ولا الألف من الألفين، وهكذا، سواء في داخل المعركة أو خارجها، وما كان أكثر من هذا العدد فيعذر فيه العبد إذا فر أو انهزم، مع أن الواقع أن المؤمنين كان منهم من يقف في وجه المائة والمائتين، لكن هذا من باب التشريع، أما الفضل واكتسابه فلا حد له.

    قال: [ رابعاً: وجوب تثقيف المجاهدين عقلاً وروحاً وصناعة ]، وأخذنا هذا من قوله: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65]، فالجيوش الإسلامية يجب أن تكون أعلم من الجيوش الكافرة، وأن تكون أفقه وأعرف بأسرار الحياة كلها، وأعلم بالصناعات واستخدام آلاتها، ولا يقول أحد: بعدم وجوب ذلك.

    قال: [ خامساً: وجوب الصبر في ساحة المعارك، ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثني عشر ألف مقاتل ]، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة )، فإن غلبوا لمعنى آخر أو لسبب آخر فمعقول، أما من كونهم عدد قليل فلن يكون هذا، وقد عرفنا أن المؤمنين قاتلوا مائتا ألف وهم ثلاثة آلاف، وقاتلوا مرة أخرى مائتا ألف وهم خمسة وعشرون ألفاً.

    قال: [ سادساً: معية الله بالعلم والتأييد والنصر ]، معية الله عز وجل تكون لأصحاب الصبر والفقه والإيمان؛ لقول الله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65]، وفي أول الآية قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ [الأنفال:65]، أيها المؤمنون! فأصحاب هذه الصفات من الإيمان والصبر والفقه لا يهزمون في أي معركة من المعارك إلا أن يشاء الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض...)

    بعد أن انتهت معركة بدر وأسر المسلمون عدداً من المشركين، وقبل أن ينزل حكم الله تعالى فيهم، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه واستشارهم في هؤلاء الأسرى: أيقتلون أم يفادون؟ فبدأ بـأبي بكر رضي الله عنه فأشار عليه بالفداء، وثنى بـعمر فأشار عليه بالقتل، وانضم إلى عمر ثلاثة منهم سعد بن معاذ، والباقي انضموا إلى أبي بكر وقالوا: الفداء أولى، إذ نحن فقراء وأموالنا قد أخذها العدو، وقد خرجنا للعير ففاتتنا، فنفاديهم بآلاف الدينارات، فمال الرسول إلى الجانب الأكبر، إذ أكثر الأصحاب رغبوا في الفداء، وأبى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم وينضم إلى عمر وسعد ومن معه، واتفقوا على الفداء، وأخذوا يفادون، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات الثلاث، وهي قوله عز وجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، أي: لم يكن من شأن أي نبي من أنبياء الله ورسله الذين قاتلوا الكافرين والمشركين من أعداء الدين، أن يحصل على أسرى حتى يثخن في البلاد أو في الجيش اليهودي أو النصراني أو الكافر بالقتل والتمزيق والتشريد، والمعنى: ليس من حق أي نبي أن يفادي الأسرى وهو لم يقهر ويذل ويشتت شمل العدو؛ لأن العدو إذا قهر وأثخن فيه بالقتل والتشريد وانهزم، لا يصبح يفكر في عودة القتال لمن قاتله وهزمه وانتصر عليه، فليس من المعقول أو من المقبول أنكم لأول مرة والعدو أكثر منكم حصلت هزيمة بأمر الله تعالى ترضون بالمفاداة ولا ترضون بقتل العدو، فقتل هؤلاء الأسرى يجعل الآخرين يرهبونكم ويخافون من لقائكم، لكن إذا فاديتموهم وعادوا إلى بلادهم أحياء زادهم ذلك تغيظاً عليكم وتحزباً على قتالكم، وهذا الذي حصل، إذ إنهم رجعوا إلى أحد وقاتلوا المسلمين.

    مَا كَانَ لِنَبِيٍّ [الأنفال:67]، من الأنبياء فضلاً عن سيدهم وإمامهم، أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى [الأنفال:67]، جمع أسير، والأسير هو من أُخذ في الحرب، وسمي بالأسير لأنهم كانوا يربطونه بسير من الجلد، ويطلق على كل من انهزم وأخذ في الحرب، حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، أي: أرض العدو، وذلك قتلاً وتمزيقاً وتشريداً وقهراً، وحينئذ له أن يفادي ويمن ويطلق الأسرى مجاناً.

    وهذه الآية جاءت في سورة القتال، إذ قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، أي: إذا لقيتم الذين كفروا فشدوا واضغطوا عليهم بالحرب والقتل، فإذا انتهت المعركة والأسرى بأيديكم فأنتم حينئذ مخيرون بعد أن أثخنتم في العدو، أما اليوم فما هناك إثخان أبداً، إذ كل الأسرى سبعون أسيراً أو أقل، فهذا تعليم الله وإرشاده لرسوله والمؤمنين، ويبقى هذا الحكم إلى يوم الدين.

    ثم قال تعالى معاتباً لهم ولائماً عليهم: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67]، أي: أتريدون بالمفاداة بالمال عرض الدنيا؟ وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، فأي المرادين خير: مراد الله أو مراد الناس؟ الناس يريدون الدنيا، والله يريد الآخرة، والآخرة باقية والدنيا زائلة وفانية، والباقي خير من الفاني، وسمي المال عرضاً لأنه كالصفة تعرض وتزول، إذ ليس هو جوهر ثابت لا يتبدل.

    وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]، عزيز غالب لا يغالب ولا يقهر أبداً ولا يمانع في ما يريده، حكيم يضع كل شيء في موضعه، وهو يريد لكم أن تثخنوا في المشركين بالقتل والتدمير قبل أن تأخذوا أسراهم وتفادوهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)

    قال تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68].

    لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، أي: لولا كتاب من الله سبق في كتاب المقادير أن هذا سيتم كما حصل؛ لمسكم عذاب عظيم، لكن كتب في كتاب المقادير أن هذا سيقع، وكما كتب أن الله سيبيح لكم الآن وبعد الآن إلى يوم القيامة حلية المغانم، إذ كانت المغانم محرمة على الأنبياء، وأباحها الله تعالى لرسوله والمؤمنين، فسبق قضاء الله وعلمه الأزلي بأنه سيحل لأمة محمد غنائم أعدائهم إذا قاتلوهم في سبيل الله عز وجل، لَمَسَّكُمْ [الأنفال:68]، أي: العذاب، فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68].

    وهنا لما نزلت هذه الآية بكى رسول الله وأبو بكر، فدخل عليهم أصحاب رسول الله وهم يبكون فبكوا معهم، إذ لولا لطف الله عز وجل على ميلهم إلى الدنيا وإعراضهم عن الآخرة، وإيثارهم المال على الجهاد والقتال، والانتصار لله عز وجل ولدينه، لكان ينزل بهم عذاب عظيم، ويكفي قوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، فمن يقادر هذا العذاب؟ من يعرف عظمته؟ قد يكون بالفناء، وقد يكون بمسخ، وقد يكون بتسليط الأعداء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً...)

    قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:69].

    فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، فانشرحت الصدور وخف ذلك الألم، وعادوا إلى ما وهب الله عز وجل وحمدوه وشكروه.

    فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، والحلال هو الطيب، وكلمة (الطيب) للتأكيد فقط، إذ الحلال طيب والحرام خبيث دائماً وأبداً، ولا يوجد حرام طيب حتى ولو كان العسل واللحم، ولا يوجد حلالاً خبيثاً كذلك، فقوله: طَيِّبًا [الأنفال:69]، من باب التأكيد.

    فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ [الأنفال:69]، هذه الغنائم في بدر، حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، وَاتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:69]، أي: بعد اليوم، فلا تسارعوا ولا تبادروا ولا تميلوا إلى دنياكم، فاتقوا الله في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:69]، ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه عاتبكم وأباح لكم ما عاتبكم عليه، فأي مغفرة ورحمة أكثر من هذه؟!

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معاشر المستمعين! نستمع إلى شرح هذه الآيات لنزداد معرفة بها وتوثيقاً لما علمناه فيها.

    معنى الآيات

    قال الشارح: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة بدر، من ذلك: أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عمر وسعد بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال، وذلك للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها ]، أي: ما عندهم علم بأن المفاداة حلال أو حرام، إذ ما شرع هذا بعد ولا عرفوه، لكن فقط مالوا إلى رغبتهم، فكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها لهم أو تحريمها عليهم.

    قال: [ أما عمر رضي الله عنه فكان لا يعثر على أسير إلا قتله ]، أي: في المعركة، قال: [ وأما سعد فقد قال: الإثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال ]، أي: الإثخان في القتال أولى من إبقاء الرجال.

    قال: [ ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب، فيقول تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ [الأنفال:67]، أي: ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجاناً، حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، أي: أرض العدو قتلاً وتشريداً، فإذا عرف -بين الأعداء- بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر، أي: الإبقاء على الأسرى أحياءً ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال.

    وقوله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67]، هذا من عتابه تعالى لهم ولومه عليهم، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال.

    وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم ]، أي: بُعد ما بين المرادين، قال: [ تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي ] في دار السلام.

    قال: [ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]، أي: غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوض أمره إليه، حكيم في تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصر أعداءه، فعليكم أيها المؤمنون! بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى.

    وقوله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، أي: لولا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.

    وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما غنموا، وحتى ما فادوا به الأسرى، وهي منة منه سبحانه وتعالى.

    وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:69]، أمر منه عز وجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما.

    وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:69]، إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده، رحيم بالمؤمنين منهم، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه من مال الأسر، وفي الحديث: ( لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ]، فهذا معنى: (والله غفور رحيم)، وقد تجلى في هذا.

    هداية الآيات

    معاشر المستمعين! والآن مع هداية هذه الآيات فلنتأمل.

    قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية ]، وليس هذا خاص برسول الله أو بـعلي، قال: [ إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد ألا يفادوا الأسرى وألا يمنوا عليهم بإطلاقهم إلا بعد أن يثخنوا في أرض العدو قتلاً وتشريداً، فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم ]، وذلك مجاناً، وهذا باقي ببقاء أمة الإسلام، وبالتالي فلا يحل أبداً لقائد مسلم أن يفادي أسرى في أول معركة، بل حتى يثخن في تلك البلاد قتلاً وتشريداً وإرهاباً وإفزاعاً، وحينئذ يصبحون يرهبونه ويخافونه وترتعد فرائصهم عند ذكره أو ذكر جيشه، ففي هذه الحال لا بأس أن يفادي أو يمن عليهم.

    قال: [ ثانياً: التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، فلهذا التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.

    قال: [ ثالثاً: إباحة الغنائم ] مطلقاً إلى يوم الدين، والغنائم: جمع غنيمة، وهي ما نغنمه من العدو عند قتالنا له من بشر أو حيوان أو ذهب أو فضة أو غير ذلك، وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، وأمر الله بهذا هو للإباحة إلى يوم القيامة.

    قال: [رابعاً: وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي ]، فإذا أمرا بأمر وجب أن يطاعا، وإذا نهيا عن شيء يجب أن يطاعا، ويدخل في هذا أولوا الأمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ من يلي أمر المسلمين يطاع في ما يأمر وفي ما ينهى إذا كان على منهج الله الحق ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755961777