إسلام ويب

نداءات الرحمن لأهل الإيمان 46للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كتب الله عز وجل القتال على أفراد هذه الأمة وهو كره لهم، وذلك من أجل تبليغ رسالة هذا الدين من جانب، ومن جانب آخر من أجل الدفاع عن بيضة هذا الدين، والحفاظ على مقوماته، لذلك فقد كان للجهاد منزلة عظيمة، وأهمية بالغة، وقد وعد الله القائمين به الأجر العظيم، وتوعد من يفرون يوم الزحف، وعند التحام الصفوف بالغضب والعذاب الأليم، وذلك للخطورة البالغة التي يتعرض لها جيش المسلمين.

    1.   

    تابع وجوب الإشهاد على الوصية وجواز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله تعالى منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.

    معاشر المستمعين والمستمعات! النداء الثالث والأربعون بقيت منه فقرات، فقد دخل وقت العشاء أمس وما أكملناها.

    وإليكم أولاً خلاصة لهذا النداء، بعد أن تسمعوا النداء مرة أخرى.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108].

    خلاصة هذا النداء: أنه في صالح أموالنا وأعراضنا وحياتنا، فيا أيها المؤمنون! إذا مرض أحدنا في بلده .. في بيته .. على سرير مستشفاه؛ فإنه يتعين عليه أن يوصي إذا كان له ما يوصي به، وينبغي هذا؛ لأن الحقوق متعلقة به إذا مات، وهذه الوصية متعينة على كل مسلم ومسلمة إذا كان له شيء ينبغي أن يوصي به أو فيه. فالله يقول في هذا النداء: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المائدة:106]. وسوف يحضرنا كلنا، وليس هناك أحد لن يحضره. حِينَ الْوَصِيَّةِ [المائدة:106] وأنت تريد أن توصي في الوقت الذي تودع فيه الحياة اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]. فتشهد اثنين من ذوي العدل من المسلمين، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]، أي: من الكافرين، وهذا إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [المائدة:106] مسافرين فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]. كأن يسافر إلى إيطاليا أو أمريكا، وفجأة جاءه الموت في المستشفى، وليس معه مسلمون يشهدون، فأجاز الله تعالى له أن يشهد كافرين من النصارى أو اليهود أو غيرهم تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106]، أي: صلاة العصر. فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]. فإذا أشهدنا اثنين من المؤمنين ثم حصل شك في أن أخانا توفي، وأنه أشهد فلاناً وفلاناً، ونحن لا نثق فيهما وحصل ريب فنأتي بهما إلى المسجد بعد صلاة العصر، فيقومان فيحلفان لنا بالله الذي لا إله غيره أنه ما ترك فلان عندنا شيئاً، وقد أوصانا بأن كذا لكذا، وأن مال فلان لفلان، فإذا حلفا انتهيا، سواء كان الشهود مؤمنين أو كافرين إذا حصلت الريبة والشك. وستأتي القصة التي بسببها نزل هذا النداء توضح هذا المعنى. فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107] بعد أن حلفا وانتهينا، فإن عثرنا على ما يدل على خيانتهما كأن يكون شيئاً مدسوساً مخبأً وجدناه، أو وجدنا شيئاً باعوه في السوق ووجدناه يباع فهنا تحصل وتقع ريبة، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:107]. وحينئذ تثبت الخيانة على الشاهدين الأولين، وترد شهادتهما بشهادة أقوى في وجود الريبة، وهو العثور على شيء كما سيأتي. وقوله: ذَلِكَ [المائدة:108] أي: هذا الذي قننه الله أَدْنَى [المائدة:108]، أي: أقرب أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]. فإذا علم الشاهدان أنهما سوف يحلفان بعد العصر، ثم إذا ظهرت ريبة أنه سوف يحلف آخران ويلزماهما بما جحداه وأخفاه فهذه حال تجعل الشهود لا يستطيعون أن يلووا ألسنتهم أو يخفوا شيئاً. ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]. وأخيراً: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:108] أيها المؤمنون! فلا تخرجوا عن طاعته وطاعة رسوله. وَاسْمَعُوا [المائدة:108]، أي: اسمعوا وأطيعوا، وأطيعوا واسمعوا، وليس مجرد الطاعة فقط، بل اسمعوا لما يأمر الله ورسوله به. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108]، أي: الخارجين عن طاعة الله ورسوله، ولا يهديهم لإكمالهم وإسعادهم، ولا يهديهم لتزكية نفوسهم، ولا يهديهم لخيرهم ولا لكمالهم؛ لأنهم فسقوا عن أمره وعصوه وتمردوا عليه، فقد أمرهم فلم يطيعوا ولم يستجيبوا، فيضلهم. وهذا النداء العظيم لا يوجد إلا في القرآن الكريم.

    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ...)

    الآن مع القصة التي كانت سبباً في نزول هذا النداء الكريم بالمدينة النبوية، فقد درسنا الشرح.

    قال: [ وأخيراً: إليك أيها القارئ! والمستمع! حادثة حدثت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها نزلت هذه الآيات الثلاث ] في هذا النداء الثالث والأربعين [ فتأملها فإنها تزيدكم فهماً وفقهاً، ومعرفة لما تضمنته الآيات الكريمات: عن تميم الداري برئ الناس منها غيري ] أي: هذه الآيات برئ الناس منها إلا أنا وقعت فيها. وهذا اعتراف منه [ وغير عدي بن بداء ] فهذا وزميله الذي كان معه في السفر عندما حدثت الحادثة [ وكانا نصرانيين ] أي: كان عدي وتميم الداري نصرانيين مسيحيين قبل إسلامهما [ يختلفان إلى الشام ] للتجارة [ قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أغلى تجارته ] وهذا الجام هو عبارة عن كأس وإناء من ذهب، قال: فلا أدري يريد بها الملك يبيعها، أو يريد بها المُلْك في نفسه الله أعلم [ فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله ] أي: يأخذان النقود والأشياء التي معه ويوصلونها إلى أهله بالحجاز وهم بالشام [ قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ] من فضة، فقد اتفق مع زميله النصراني وباعاه في الشام بألف درهم [ واقتسمناه أنا وعدي ] خمسمائة لكل واحد منا [ فلما قدمنا إلى أهله فدفعناه إليهم ما كان معنا ] من ملابسه وأمتعته ونقوده [ وفقدوا الجام ] أي: إناء الذهب [ فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا ] لأنهم كفار [ وما دفع إلينا غيره. قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تأثمت من ذلك ] أي: شعرت بالإثم وما أطقته [ فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ] التي أخذها. وهذا هو مفعول الإيمان، فهو لم يطق أن يجحد هذا ويأخذ الخمسمائة، وأيام أن كان كافراً هان عليه، ولكنه أسلم ودخل في رحمة الله [ وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ] وملته، فإن كانوا يعظمون عيسى حلف بعيسى، وإن كانوا يعظمون شيئاً آخر يحلف به؛ لأنه يخاف أن يكذب ويحلف بالباطل، ونحن نريد أن يرد الحق إلى أهله [ فحلف ] بالباطل؛ ليدفع عنه التهمة والخمسمائة ردهم [ فنزلت ] هذه الآية: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106].. إلى قوله تعالى: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [المائدة:107]. فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء ] وأعطيت لهما [ رواه الترمذي وابن جرير ، وضعفه الترمذي ، وله شواهد، وهو موافق لما تضمنته الآيات. والحمد لله رب العالمين، الهادي إلى الصراط المستقيم. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] هذا النداء الثالث والأربعون. اسمعوه مرة أخيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106] إذا لم يكن هناك مؤمنون، وقد كانت الشام بلاد كفر، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ [المائدة:106] وشككتم، لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]. هكذا يقولون. فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107] كما عثروا على الجام، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا [المائدة:107] ويحلفان فيردان الأيمان الأولى ويؤخذ الحق لصاحبه، فإذا اتهموا حلف بدلهما وترد أيمانهما. وأهل الميت اتهموا اللذين جاءا بالمال وقالا: هذا الذي ترك والدكم، أو هذا الذي أوصى به، فيحلفان لهم، فإن حلفا برئت ذمتهما، فإن حصلت تهمة وعثروا على شيء كما عثروا على الجام فيردان أيمانهما ويحلف آخران منهما، وبذلك تنتهي المشكلة. هذه الثلاث الآيات من سورة المائدة هي النداء الثالث والأربعون.

    1.   

    حرمة الفرار من صفوف القتال في سبيل الله وأنه من الكبائر الموجبة لغضب الله وعذابه

    الآن [ النداء الرابع والأربعون ] وقبل الشروع أبشركم أن أحد المؤمنين جاء بمبلغ إلى المنزل اليوم وقال: خمسة آلاف نسخة علينا، فقد بلغت الآن عشرة آلاف نسخة، ولا ننتهي إلا وقد طبعنا منه مائة ألف، وهي لا تكفي، ولو وزعناها على الفنادق ما تكفي، فنريد أن نضع على كل سرير في الفندق عند رأس النزيل كتاباً. وهذا فضل الله علينا وعليكم جميعاً.

    وهذا النداء [ في حرمة الفرار ] والهروب [ من صفوف القتال في سبيل الله، وأنه من الكبائر الموجبة لغضب الله وعذابه ] وهذا النداء خطير، ففحواه ومضمونه وما يحققه: هو حرمة الفرار والهروب من صفوف القتال في سبيل الله، وأن هذا الهروب من الكبائر الموجبة لغضب الله تعالى وعذابه.

    [ الآيتان (15، 16) من سورة الأنفال ] وسورتا الأنعام والأعراف ليس فيهما نداءات؛ لأنهما مكيتان، وكان المؤمنون لم يكلفوا بعد؛ لأنهم قليل، وما كلفوا إلا بـ(لا إله إلا الله)، ولكن لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ التشريع والتقنين والدولة، فكل النداءات في السور المدنية، والسور المكية ليس فيها نداء. وقد رأينا النداءات السابقة في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في الأيام الماضية، وتجاوزنا الأنعام، وهي مكية محضة، وكذلك الأعراف، وها نحن في الأنفال فهي مدنية، ثم التوبة مدنية، ثم لا يوجد بعدها نداء إلى سورة الحج.

    وهيا نتغنى بهذا النداء ساعة [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16] ].

    وتوزيع الماء أثناء طلب العلم بدعة، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا جلسوا يتعلمون من رسول الله يقبلون عليه ويسكنون، حتى لو وضع الطير على رءوسهم لما خاف ولا طار، وهذا جبريل علمهم ذلك، فقد دخل فأسند ركبتيه إلى ركبتي الرسول، ووضع يديه على فخذيه وأقبل هكذا، ونحن نتلقى وأخونا يوزع الشاي على الناس. ولو تكلم أحد أثناء الخطبة فجمعته باطلة، فـ ( من مس الحصا فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له )؛ لأن هذه الخطبة تحتوي توجيهات من إمام المسلمين، وهو يلقيها كل أسبوع مرة لإنقاذ الأمة وإسعادها، فإذا عبثت فأنت لا تريد أن تسمع، فصلاتك باطلة.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. وهذا أمر عظيم؛ لأنه بهروبه فتح باباً للعدو لأن يهزم المسلمين ويكسر عظامهم، ويزهق أرواحهم، ويتحمل هذا الذي هرب وخاف الموت، فترك الجيش الإسلامي ينهزم. فهذه جريمة عظيمة. وقد ذكرت لكم ما ثبت عندنا أيام الفتح العثماني، فعندما كانوا يفتحون في أوروبا الشرقية كان الجندي العثماني يربط نفسه بالمدفع بسلسلة ويقاتل حتى تنفذ ذخيرته، ويبقى كالأسد ويقتل وهو على مدفعه؛ لأن إعطاء العدو الدبر هزيمة مرة، ولا تحل لمؤمن أبداً. ولما ضعف الإيمان وانتهينا فإننا نهرب حتى من أمام اليهود الجبناء.

    ومعنى (لا تولوهم الأدبار) أي: لا تعطوهم أدباركم فتهربوا وتتركوهم يضربونكم من ورائكم. وهذه عبارة أيضاً فيها ما فيها عند العقلاء، فالعبارة فيها الطعن في هذا المنهزم، فقد أعطاهم دبره والعياذ بالله. وهذا كلام الله. فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15].

    ولا يجوز إعطاؤهم الدبر إلا في حالتين: الحالة الأولى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ [الأنفال:16]. إذا أراد أن يرجع إلى الوراء ليجري وراءه الكافر فيقتله ويضربه. فهذه حيلة.

    والحالة الثانية: أو ضعف جانب المؤمنين، وبقيت فئة تقاتل فينحرف إليها ليشد من أزرها ويقاتل معها، وهذا التصرف ليس هزيمة ولا خوفاً من الموت، وإنما هو لصالح المعركة، وقد استثناه الله عز وجل، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ [الأنفال:15-16] أي: رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]. فالاستثناء في قوله: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ [الأنفال:16] ما زالت قادرة وصامدة، فيقاتل معها. هذا في الجهاد من أجل إعلاء كلمة (لا إله إلا الله)، ومن أجل أن يعبد الله وحده.

    والآن مع شرح الآية الكريمة، أو النداء الكريم: [ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] وهو كل مؤمن؛ إذ ينبغي عليه أن يقرأ نداءات الرحمن، ويعرف ما أراد الله مولاه وسيده منه، وقد وناداه، فلا يناديك سيدك وتقول: لا أسمع، ولكن الغفلة عمت، وكذلك الجهل، وإلا فيجب على كل مؤمن أن يسمع ما نداه الله من أجله، وسبب مناداته. وقد كنا شبه معذورين؛ لأنها موزعة في القرآن من البقرة إلى الناس، ولكننا الآن جمعناها في كتاب نداء بعد نداء، حتى أصبحت تسعين نداء، ولو أن مؤمناً قرأها وحفظها وفهمها وعمل بها والله لأصبح سيد الناس طهارة وصفاء وعلماً وكمالاً ومعرفة، ولا يحتاج بعد ذلك إلى علم؛ إذ أنها احتوت على كل ما تتطلب حياة العبد المؤمن، والرؤساء والمسئولون أولى بهذا؛ لما فيها من السياسة الحكيمة الرشيدة.

    كبيرة الفرار من قتال الأعداء

    على هذا القارئ الكريم أن يعلم [ أن المؤمن - كما عرفت- حي ] بسبب [ بإيمانه، قوي بولاية ربه له ] ومن والاه الله لا يضعف، ولن يهزمه أحد [ لذا نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين قائلاً لهم: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [الأنفال:15]، أي: زاحفين إليهم لتقاتلوهم في سبيل الله. فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، أي: لا تنهزموا أمامهم فتتولوا هاربين مولينهم أدباركم. وهذا عيب كبير ] والله. بل أعطه وجهك حتى تموت، ولا تعطيه دبرك، ومن فعل هذا ليس جباناً فقط، بل [ ومعرة لا ينبغي للمؤمن ولي الله عز وجل أن يتصف بها، والنهي هنا للتحريم؛ ليربي الله أولياءه على الإقدام والشجاعة؛ حتى لا يضعفوا عن قتال المشركين الكافرين، ولما كان الفرار من العدو له آثار سيئة لاسيما عند المواجهة والزحف ومن تلك الآثار السيئة: انتصار العدو الكافر على المؤمنين.

    ومنها: إصابة المؤمنين المقاتلين بالجروح والقتل.

    ومنها: استيلاء العدو على معدات المسلمين من سلاح وغيره.

    ومنها: وقف الدعوة الإسلامية وعدم انتشارها وانتصارها. لهذه ولغيرها كان التولي يوم الزحف كبيرة من كبائر الذنوب، ويكفي في كونها كبيرة قوله تعالى في الآية الكريمة: فَقَدْ بَاءَ [الأنفال:16] ] أي: رجع [ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16] ] وهذ ا الجزاء العظيم يدل على أنه كبيرة [ وفي الحديث الصحيح: أن التولي يوم الزحف من الموبقات، أي: المهلكات، ففي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا) ] أي: اتركوها جانباً [ ( السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )] فلو أن مؤمنة طاهرة نقية في بيتها يشاع عنها أنها فجرت وزنت وأنها كذا وكذا كذباً فهذه جريمة لا تطاق كالتولي يوم الزحف، وهذا قتل لهذه المؤمنة ومسخ لها، وهذا لتعرفوا قيمة المؤمنات، فمن يقذف مؤمنة بالفاحشة كاذباً بدون إثم فجزاءه ما عرفتم.

    قال: [ فيكفي في كون التولي يوم الزحف كبيرة ذكره مع أعظم الكبائر، وهي: الشرك والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ] ويكفي في التولي أنه كبيرة أنه ذكر مع أعظم الكبائر، وليس هناك أعظم من الشرك وقتل النفس.

    الحالات التي يجوز فيها للمجاهد التولي عن الزحف

    قال: [ وقوله تعالى في الآية الثانية: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16]، أي: ومن يعطي دبره العدو فارًّا هارباً يوم الزحف، أي: ساعة المواجهة وزحف الطائفتين على بعضهما، طائفة العدو الكافر وطائفة المجاهدين المؤمنين، وقبل: ذكر الجزاء - أي: جزاء الشرط- وهو قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16]. قال تعالى مستثنياً حالتين إذا فر منهما المؤمن المجاهد لا إثم عليه فيهما ولا حرج؛ لأنه تحرف لنصرة الإسلام وأهله، لا فرارًا من الموت، وهل الموت يدفعه الفرار؟!

    فالحالة الأولى: أن يفر المؤمن بين يدي مقاتله الكافر مكيدة له حتى إذا جرى وراءه عدوه وبعد عن صفوف إخوانه كرّ عليه المؤمن وقتله. هذه صورة من صورتين يفرّ فيهما المجاهد، ولا إثم عليه فيهما.

    والصورة الثانية: أن يميل جانباً عن صف المجاهدين؛ ليرى غرة من العدو فيصيبها. هذا ما دل عليه قوله تعالى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ [الأنفال:16] ] أي: ينحرف من أجل القتال، لا من أجل النجاة من الموت.

    [ والحالة الثانية: أن يرى ضغطاً شديداً من العدو، فيرى أنه من المصلحة الجهادية أن ينحاز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها؛ ليقوّيها ويقوى هو بها. هذه صورة من صورتين جاز فيهما للمجاهد أن ينحاز من وجه العدو لينضم إلى إخوانه؛ ليقويهم ويقوى بهم.

    والصورة الثانية: أن يكون الانحياز إلى قائد المعركة، وإمام المسلمين؛ ليتقوى به ويقويه. فهاتان الصورتان دل عليهما قوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ [الأنفال:16] ].

    حكم التولي عن قتال الأعداء

    قال: [ أما إذا لم يكن فراره للحالتين - الأولى: وهي التحرف للقتال، والثانية: وهي الانحياز إلى فئة مؤمنة أو إلى القيادة- فإن صاحب الفرار قد ارتكب كبيرة، إذا لم يتب منها دخل النار والعياذ بالله تعالى؛ ذلك لقوله تعالى في جواب الشرط: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال:16] ] والشرط هو وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16] [ أي: رجع من المعركة مغضوباً عليه من الله عز وجل، ومأواه الأخير جنهم، وبئس المصير جنهم، يصار إليها. إن بعض السلف قالوا: هذا الفرار المتوعد عليه كان خاصًّا بغزوة بدر ] وهذا ليس بصحيح، وقد اجتهدوا، فهو ليس خاصاً بغزوة بدر، بل والله إلى اليوم، فإذا قاتل المسلمون الكافرين فالذي يفر وينهزم هذا جزاءه [ وخالف الجمهور، وقالوا: الآية عامة وإن نزلت في غزوة بدر، والدليل على عمومها: حديث البخاري الذي تقدم وهو الحق والصواب ] وقالوا: التولي يوم الزحف عام، ويقع في أي زحف إلى يوم القيامة [ والله يتوب على من تاب. فمن فرّ يوماً استوجب العذاب لو مات، أما من تاب فإن الله يتوب الله عليه، ويغفر له كبيرته بتوبته.

    والحمد لله التواب الرحيم، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

    وخلاصة هذا النداء: أن الهزيمة والفرار من وجه العدو وقد زحفنا وزحفوا من كبائر الذنوب، وعرفنا أنها كبيرة من الوعيد الشديد، فقد قال: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [الأنفال:16]. وليس هناك كبيرة أعظم من هذه؛ لما يترتب على هذا الانهزام من موت المسلمين وقتلهم، وغنم أموالهم وغير ذلك، فهو أراد أن ينجو بنفسه، ولكنه يخسر أمة بكاملها.

    من أحكام قتال البغاة

    إذا قاتلت فئة مسلمة فئة مسلمة أخرى فنقاتل المسلمين الذين قاتلوا ظلماً وعدواناً، وهؤلاء يسمون بالبغاة، ويقاتلهم المسلمون، ومن فر منهم وانهزم له هذا الجزاء، واقرءوا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى [الحجرات:9]. ورفضت الصلح، كما حصل في حرب الخليج فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].

    والبغاة صنفان: الذين يخرجون عن إمام المسلمين من أجل السلطة والاستيلاء على الحكم، والذين أيضاً يظلمون المسلمين ويعتدون على أموالهم وأعراضهم ظلماً وعدواناً. فهؤلاء البغاة على المسلمين أن يقاتلوهم مجتمعين؛ حتى يخضعوهم لأمر الله. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16] الجزاء فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]. وهناك حالتان استثنائيتان، قال تعالى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ [الأنفال:16] من فئات المؤمنين. والحمد لله.

    والآن لو دخلنا في معركة مع اليهود أو النصارى فلا ننهزم على شرط أن يقودنا إمام المسلمين. كفانا الله شرهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756210802