إسلام ويب

نداءات الرحمن لأهل الإيمان 89للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله عز وجل حين يستنصر عباده المؤمنين فهو إنما يدلهم على سبب فوزهم وفلاحهم، فهو سبحانه الغالب الذي بيده مقاليد كل شيء، وهو العزيز المتين الذي له جنود السماوات والأرض، لا يفتقر إلى أحد من خلقه، وخلقه كلهم فقراء إليه، وسنة الله في هذا المقام جرت حتى على الأمم السابقة، فمن نصر الله منهم نصره الله وجعل الغلبة له.

    1.   

    وجوب نصرة دين الله وأهله ائتساء بمن دعوا إلى ذلك فأجابوا ففازوا بالنصر والغلبة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

    لقد درسنا ثلاثة وتمانين نداء، وقد أوشكنا على نهاية هذه النداءات، فهي تسعون نداءً. وهذه النداءات التسعون قد حواها كتاب الله عز وجل، وأول نداء فيها في سورة البقرة، وآخر نداء في سورة التحريم.

    وقد حوت هذه النداءات واشتملت على كل متطلبات الحياة، فقد حوت العقيدة والعبادة، والآداب والأخلاق، والقوانين العامة والخاصة في الحرب وفي السلم، وفي الاقتصاد وفي كل شئون الحياة.

    وقد يسر الله جمعها في هذه الورقات. والمفروض والمطلوب من المؤمنين أن يترجموا هذه النداءات إلى لغات إخوانهم من غير العرب، وعلى العرب أن يطبعوها ويوزعوها، أو يبيعوها؛ حتى تصبح في بيت كل مؤمن، بل ونود أن توضع على كل سرير في الفنادق الإسلامية، حتى يقرأ النزيل نداءً قبل أن ينام، ويسمع ما ناداه الله من أجله، فإن كان فعلاً استعد لفعله، وإن كان نهياً استعد لتركه، وإن كان علماً تعلمه، وإن كان بشرى سرته وفرح بها، وإن كان إنذاراً خاف، وعزم على أن يتجنب كل ما فيه خسرانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

    وهذا هو [ النداء الرابع والثمانون: في وجوب نصرة دين الله وأهله ] فهذا النداء يعلم المؤمنين والمؤمنات أن نصرة الله في دينه وأوليائه واجبة، وذلك [ ائتساء بمن دعوا إلى ذلك فأجابوا ففازوا بالنصر والغلبة ] فالله دعا خلقه وأولياءه إلى نصرته فأجابوا، فهيا نأتسي بهم، فقد دعانا نحن أيضاً إلى نصرته، أي: نصرة دينه وأوليائه، فلنأتس بالسابقين، ولننصر الله ورسوله والمؤمنين.

    [ الآية (14) من سورة الصف ] فهذا هو النداء الثالث في هذه السورة.

    الحث على التعلم وبيان ثمار ذلك

    على أهل القرية في جامعهم وأهل الحي في جامعهم أن يجلسوا جلوسنا هذا، وتكون النساء وراء الستار، والأولاد صفوفاً أمام النساء، والفحول أمام الجميع، ويجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، ويعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً طول العمر، فلا يمضي عليهم زمن- كسنة- إلا وأهل الحي كلهم علماء ربانيون، وإن كانوا لا يقرءون ولا يكتبون؛ لأنهم يتلقون الكتاب والحكمة والتزكية كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. فأصبحوا أعلم أهل الأرض بلا نزاع، وكان منهم من لا يكتب ولا يقرأ؛ إذ ليس هذا العلم علم صناعة، بل إنه علم روحيات، تزكو به النفس، وتطيب وتتهذب به الأخلاق، ويصبح عبد الله في مستوى عالٍ، ينظر إلى من دونه كأنهم أموات، وأنه هو الحي.

    ووالله ما وجدنا مانعاً من أن يجتمع أهل القرية في البلاد الإسلامية كل ليلة من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء كاجتماعنا هذا، ويتعلمون ليلة آية، ويحفظونها ويتغنون بها، وليلة حديثاً، فتنشرح صدورهم، وتطيب خواطرهم، وتطمئن نفوسهم، ويعلمون علماً جديداً، فيطبقونه حال خروجهم من بيت ربهم، وهكذا. ولن يبقى بينهم جاهل أو جاهلة. وإذا انتفى الجهل في تلك القرية، لم يبق بينهم لص يأكل أموالهم ويسطو عليهم، ولا يبقى والله بينهم عاهر ولا فاجر يفسد بناتهم، أو يفجر بنسائهم، ولا يبقى بينهم والله حسود يتألم لسعادة إخوانه، ولا يبقى بينهم والله صعلوك من رواد المقاهي بلا صلاة ولا ذكر الله. ويصبحون أولياء الله، فلو رفعوا أيديهم إلى الله وسألوه أن يزيل الجبال والله لأزالها.

    وليس هناك مانع من أن يجتمعوا هكذا، فهي ساعة ونصف فقط، لا يتعطل فيها شيء من شئون الحياة، فالدكاكين والمقاهي والمطاعم تغلق مدة ساعة ونصف أو ساعتين، ثم تفتح بعد ذلك. فليس هناك مانع من الاجتماع هكذا، وطلب العلم واجب وفريضة، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ). فكل من لم يطلب العلم والله الذي لا إله غيره فاسق خارج عن طاعة الله ورسوله، والذي لا يطلب العلم لن يتعلم، ولن يوحى إليه والله حتى يتعلم، بل لا يبقى إلا جاهلاً في ظلمة الفسق والفجور، والشر والفساد.

    وعلى الجاهل ألا يطمع في ولاية الله، ولا يمكن أن يكون ولي الله جاهلاً، فهذا والله ما كان ولن يكون أبداً، بل الجاهل عدو الله؛ لأنه لا يعرف ما يحب الله ولا ما يكره من الكلام، فقد يقول ما يكره الله فيغضب الله عليه، أو يترك ما يحب الله فيغضب الله عليه.

    والأفعال كالأقوال، فالله يحب أعمالاً شرعها فرضها، وأنزل فيها كتبه، وبعث فيها رسله. والجاهل لا يعرف هذا العمل الذي يحبه الله، ولذلك لا يفعله، فيغضب الله عليه، وكذلك لا يعرف الجاهل العمل الذي كرهه الله وحرمه، ولذلك يفعله، فيغضب الله عليه. ولهذا لا بد وأن نطلب العلم، ولن نعذر بالجهل.

    كيف نطلب العلم

    حتى لا يقول قائل: لا يمكن أن نطلب العلم؛ فنحن لنا أزواج وأولاد وأعمال، ونحن نكدح في الحياة من أجل القوت وطلب الرزق أقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً فعلينا أن نوقف دولاب العمل، ونغلق أبواب الدكاكين وأبواب المطاعم وأبواب المقاهي، ونحمل زوجاتنا وأولادنا إلى بيت ربنا، ونجلس معهم نتلقى الكتاب والحكمة وتزكية النفوس من المغرب إلى العشاء، وإن شئنا أن تشتغل بعد ذلك فلنشتغل. وكذلك نشتغل ونعمل في النهار من بعد صلاة الصبح - أي: من الساعة الخامسة- إلى السادسة مساء، وهذه (13) ساعة، وهذا يكفي.

    وإن أغلب المسلمين همهم أن يكونوا كالأوروبيين، ويحاولون أن يكونوا مثلهم في كل شي، حتى في تعرية الرأس وفي حلق الوجوه، وحتى في تكشف نسائهم وبناتهم، وفي الدخان والعبث. وأقول: لنقتدي بهم في هذه القضية الرئيسية، فقد علمنا أنهم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل، وبدلوا ثيابهم وملابسهم، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينماء، وإلى المراقص والمقاصف، ويسهرون إلى نصف الليل. ونحن نحاول أن نكون مثلهم في كل شيء، إلا في هذا لا نستطيع.

    وهناك من يقول: إن هذا الشيخ يريد أن يدوخكم. وأقول: والله الذي لا إله غيره إن لم نقبل على الله في صدق مثل إقبال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحبابه وأتباعهم فلن يرتفع عنا هذا الذل والدون، ولن نكمل ولن نسعد.

    والطريق إلى هذا هي: العلم.

    فضل العلم في المجتمع

    علينا أن نتعلم الكتاب والحكمة، وأن نتلقاهما في بيوت ربنا مع نسائنا وأطفالنا ورجالنا في كل ليلة وطول العمر، وبهذا لن يبقى بيننا جهل، ولا جاهل ولا جاهلة، ويومها والله تنتهي البغضاء والعناد، والحسد والكبر، والجرائم والتلصص، والظلم والخبث والفساد. وقد جرب هذا ونجح. ووالله ما عرفت الدنيا أمة أكمل ولا أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم من هذه الأمة في قرونها الذهبية الثلاثة.

    وسبب ذلك: أنهم عرفوا محاب الله فأحبوها وفعلوها، وعرفوا مساخط الله فسخطوها وتركوها، فكملوا وسعدوا وسادوا. ولست واهماً، في ربع قرن - أي: خمس وعشرين سنة- وصل الإسلام إلى ما وراء نهر السند وإلى الأندلس، وغطى هذه المناطق كلها. ولم يكن هذا والله بالحيل والسحر، ولا بالمدفع والإكراه، وإنما كان بالدعوة الربانية، أي: بقال الله وقال رسوله، وليس بفلسفة أفلاطون ، ولا سحر نابليون . ونحن لا نعي هذا ولا نفهم، ولا أدري إلى متى سنظل كذلك.

    وحتى تفهموا أحلف لكم بالله على أن أعرفنا بالله هنا وأعلمنا به أتقانا له. وإذا كان أحدنا يكذب في الأسبوع مرة فالعالم لا يكذب ولا مرة في العام، بل ولا مرة في الحياة.

    وإذا كان فينا من يسرق في العام مرتين فالذي عرف الله لا يسرق أبداً طول حياته. ولا تطالبوا بعد هذا ببرهان، ولا بحجة تثبت هذا.

    فإلى الآن أتقانا لله أعلمنا به، وأجهلنا بالله أكثرنا شراً وفساداً. وقد علمتم أن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، وقد قرأتم في آيات الله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]. فالطعام يشبع، ولم تتبدل هذه السنة أبداً، والماء يروي، ولم يفقد هذه الخاصية بحيث أصبح لا يروي، فهذا لم يحصل، والنار تحرق، ولم تتغير بحيث أصبحت لا تحرق. فسنن الله لا تبدل. فإذا أخذنا بهداية الله والسير على منهاج الصالحين فلا بد وأن نعز ونكمل، ونسعد ونسود، ونصبح أولياء وأفضل من على الأرض، ولن تتأخر هذه السنة. وكذلك من مشى في الفجور والجهل والفسق والكبر والشرك والضلال هبط ولصق بالأرض. فهذه سنن الله.

    لا رفعة بدون الكتاب والسنة

    ألفت نظركم إلى وضعنا، فالله يقول الله تعالى لرسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176]. وهذه الآية عربية، والعرب ما يفهمون مراد الله منها. فهو يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:176] يا رسولنا! نَبَأَ [الأعراف:176]، أي: خبر الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:176]. التي أوحيناها على رسلنا، فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:176]. والانسلاخ معروف، مثل انسلاخ الإنسان من ثوبه، ومثل سلخ جلد الشاة، بحيث يبقى الجلد وحده، وهي وحدها، ومثل انسلاخ الحية أو الثعبان من ثوبه وتركه، والمشي بدونه. وكذلك معنى الانسلاخ من آيات الله بعد أن آتاه الله إياها، أي: تركها ومشى بدونها. ونحن وضعناها على الرفوف فقط، ولم نحكمها، ولم نتلوها، ولم نتأدب بآدابها، ولم نفهم مراد الله منها، بل وقرأنا القرآن يقرأ على الموتى، وتركنا الأحياء.

    والبرهان على هذا: أننا لم نجد من إخواننا من جلس تحت ظل شجرة؛ لأنه شغال، وقال: تعال يا ولدي! اقرأ علي شيئاً من القرآن، ولم نجد العمال عندما يفرغون من العمل ساعة للترويح عن أنفسهم يقول أحدهم: ليسمعنا أحدكم شيئاً من كلام الله، ولم نجد أحد جالساً في المسجد يقول: أي فلان! أسمعني شيئاً من القرآن لوجه الله. فنحن لم نفعل هذا. ومعنى هذا: أننا انسلخنا من آيات الله، ولما ذهبت عنا الحصانة والمناعة لما تركنا هذا النور الإلهي أصبحنا أتباعاً للشيطان. ولهذا قال تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]. وجرى وراءه واحتضنه، فأصبح من الْغَاوِينَ [الأعراف:175]. الوسخين في عقولهم وفهومهم، وأفكارهم وحياتهم. هذا معنى الغي.

    ثم قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا [الأعراف:176] والمتكلم بهذا هو الله. لَرَفَعْنَاهُ [الأعراف:176]. فهو قد انحط إلى الأرض. ولهذا نقول: إننا قد هبطنا، وإن أمتنا قد هبطت بعد كنا في علياء السماء، فهبطنا إلى الأرض.

    ثم قال تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]. واليوم مجالسنا ووزاراتنا بل وفهومنا وحياتنا كلها لا تهتم إلا بأكلنا وصناعاتنا، وهذا هبوط إلى الأرض، كما قال تعالى أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]. ولو اتبع عقله لفكر: أن هذه الحياة لا قيمة لها إذا لم نتزود منها؛ لنرقى إلى السماء وننزل بالملكوت الأعلى. ونحن همنا كله محصور ومقصور على هذه الحياة، ولم نفكر في الحصول على رضا الله عنا، ومحبته لنا، ولا أن نكون من أوليائه، ولا أن نقدم لغد، ولا أحد منا يقول هذا أو يفكر فيه، وإنما نفكر في الوظيفة والعمل، والنجاح وغير ذلك. ولا إله إلا الله! وقد ضرب الله المثل لمن هذا حاله فقال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]. وهذا الكلام كلام الله، وليس سبة شيخ. وقد شبهه بالكلب في حالة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] وتجري وراءه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ [الأعراف:176] تحت الشجرة والماء بين يديه فهو يَلْهَثْ [الأعراف:176].

    وهذا اللهاث والله لن ينتهي من العرب والمسلمين ولن تنتهي حيرتهم إلا إذا عادوا إلى هذا الكتاب، وهم اليوم يلهثون مرة خلف أمريكا، ومرة خلف روسيا، ومرة خلف الديمقراطية، ومرة خلف العلمانية، ومرة خلف الاشتراكية، ومرة خلف غيرهم. ولن ينتهي لهاثهم والله إلا يوم أن يعودون إلى كتاب الله، يقرءونه في صدق ويطبقونه، فيحلون ما يحل، ويحرمون ما يحرم، وينهضون بما يوجب ويلزم، ويتخلون عما ينهى ويحذر، وكل هذا في فهم وعلم، وهكذا لا يزالون يسمون ويرقون حتى يصبحوا أئمة الحياة الدنيا.

    وقد جرب العرب الاشتراكية، وكنا إذا تكلمنا يقولون: هذا عميل أمريكي. فهم مجانين، لا يفهمون حتى كلام الله.

    وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] دليل على أنه لا رفعة من هذه المحنة وهذا الهبوط إلا برافعة الله، وهي القرآن العظيم.

    فهيا ننشر هذه الفكرة في القرى والمدن، ولا يوجد مانع من هذا، ولا يمنع من هذا إلا حالة الحرب والرصاص والمدافع، وهذه الحرب أيضاً تنتهي بعد أسبوع أو عشرة أيام، ويعود الجو كما كان، والذين ليس في بلادهم حرب لا يوجد مانع من هذا، وليس هناك مانع أن يتعاهد أهل القرية ويتناصحون على أن يجتمعوا كل ليلة في بيت ربهم بنسائهم وأطفالهم معاً من المغرب إلى العشاء، يذكرون الله، ويتعلمون الكتاب والحكمة يوماً بعد يوم، وإذا تلك القرية والله كالكوكب في السماء، ويشع فيها نورها، لا يجوع فيها جائع، ولا يعرى عار، ولا يهلك هالك، ولا يظلم مظلوم، ولا يسب أحد ولا يشتم، ولا يعتدى على عرضه ولا على ماله، وكأنهم أنبياء، وهذا لأ أنهم عرفوا الله.

    وحسبكم ما سمعتم، وإن شاء الله تبلغون هذا.

    وهيا نتغنى بهذا النداء.

    قال: [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] ] ووالله ما استطاع أحد أن يرد أحد على الله في التاريخ وعلوم البشرية. فهو الذي أيد الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين منتصرين.

    سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين دون غيرهم

    [ الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم! ] أو المستمع المستفيد! [ أن الله تعالى لا ينادي عباده المؤمنين به وبلقائه وبرسوله، وما جاء به من الدين الحق، ويدعو إليه، لا يناجيهم إلا ليأمرهم ] بفعل من الأفعال؛ من أجل أن يكملوا ويسعدوا؛ لأنهم أولياؤه، وليس من أجل أن يرهقهم ويذلهم، تعالى الله عن ذلك.

    قال: [ أو ينهاهم ] عما يرديهم ويخسرهم ويشقيهم، ولا ينهاهم عما فيه سعادتهم، ووالله ما كان هذا [ أو يبشرهم ] بما يفرحهم ويثلج صدورهم [ أو ينذرهم ] ويحذرهم ليهربوا من الأذى الذي ينتظرهم؛ لأنه وليهم [ أو يعلمهم ما ينفعهم، وهذا مقتضى الولاية التي بينهم وبينه سبحانه وتعالى ].

    انتكاس المسلمين في معنى الولاية وسبب ذلك

    الله ولي المؤمنين، وليس لهم ولي سواه، فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. فلا خوف عليهم ولا حزن لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة.

    وأولياء الله ليسوا سيدي عبد القادر ، ولا سيدي محمود ، ولا سيدي مبارك ، وقد عاشت أمتنا قروناً تعتقد أن هؤلاء فقط هم الأولياء، وكنت لو دخلت إلى عاصمة من عواصمهم سواء القاهرة المعزية أو دمشق أو بغداد أو غيرها وقلت لأول رجل تلقاه في الطريق: يا سيد! أنا غريب الدار، وقد جئت من بلاد بعيدة، وأريد أن أزور ولياً من أولياء الله في هذه البلاد فإنه والله لا يأخذ بيدك إلا إلى قبر أو ضريح عليه تابوت من خشب، وستائر من حرير، ولا يفهم والله أن في تلك المدينة ولياً لله حياً؛ لأنهم يظنون أن الولي هو الذي مات، وبني على قبره قبة، ووضع له الذبائح والنذور، وحمل المرضى إليه، وعكفوا على قبره. والأحداث من أبنائنا لا يعرفون هذا، وأما نحن الشيوخ فقد عشنا هذا وعرفناه. وقد كان القاضي إذا حلف الجاني أو الخصم بالله يحلف سبعين مرة، وإذا حلفه بحق سيدي عبد القادر لا يحلف، فاعرفوا هذا، فأصبح القاضي مضطراً إلى أن يحلف الخصم بسيدي فلان.

    والذي فعل بنا هذا هو الثالوث الأسود، المكون من المجوس واليهود والنصارى، فقد حاربونا وتآمروا علينا، ولكنهم فشلوا، ثم إنهم تساءلوا عن سبب قوتنا هذه التي لم يستطيعوا بسببها أن يمرغوا أنوفنا أو يذلونا، فعرفوا أن سبب قوتنا في القرآن، فهو الروح الذي لا حياة إلا به، فالقرآن روح، وقد ذكر تعالى لنا ذلك، فقال في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. ولما علموا أن القرآن هو الذي حيت به هذه الأمة بعد أن اقتدت به، وأنهم لا يستطيعون أن يأخذوا منهم القرآن؛ لأنهم يحفظونه في صدورهم أبعدونا عن القرآن لنموت، وفعلاً ونجحوا بعد أن أبعدونا عن القرآن، فقد عملوا على تحويله إلى الموتى وإلى المقابر فقط، تمر في المدينة في أحيائها، وكنت إذا سمعت قرآناً يقرأ عرفت أن هناك ميتاً، فمات المسلمون وهبطوا والله. والدليل على موتهم وهبوطهم: أنهم استعمروا، وحكمهم الكفار من إندونيسيا إلى موريتانيا، ومن لم يصدق هذا فلينظر إلى آثار الحكم الأوروبي، فإنه مازال إلى الآن، ولازال المسلمون لا يحكمون بقال الله وقال رسوله، بل ما زالوا يحكمون بقوانين الغرب. وهذا دليل على أنهم كانوا محكومين.

    فهيا نعود. ولا تقولوا: لا نستطيع أن نغلق دكاكيننا ونعطل حياتنا، والناس لا يجتمعون إلا بعد المغرب؛ ليشتروا ما يشتهون. وضاعت العزائم؛ لأنه لا يستطيعون.

    وإذا كنت عازماً على أن تسكن السماء وتعلم أنه لا قيمة لحياتك إذا لم تنزل في دار السلام فوق السماء السابعة فتهيأ لذلك، فأنت لن ترقى مسافة خمسة آلاف وسبعمائة عام وأنت في لباسك وطعامك وشرابك، فهذا ليس معقولاً أبداً، ورواد الفضاء قبل صعودهم إلى الفضاء يتدربون، ويلبسون لباساً خاصاً، ويصنعون لهم طعاماً خاصاً؛ حتى يطلعوا إلى الفضاء، والذي يريد أن يخترق السبع الطباق لو قيل له: صم الدهر كله فعليه أن يصومه، ونحن لو قيل لنا: اجلسوا ساعة في بيت ربكم؛ لتطهروا أنفسكم، نقول: لا نستطيع.

    من مقتضيات ولاية الله عز وجل لعباده المؤمنين

    قال: [ فلذا لا يأمرهم إلا بما يزكي أنفسهم، ولا ينهاهم إلا عما يدسي ] ويخبث [ أنفسهم، ولا يبشرهم إلا بما يزيد في طاقة إيمانهم بعد شرح صدورهم، وذهاب الغم والهم عنهم، وإبعاد الحزن والخوف عنهم؛ إذ أولياؤه نفى عنهم الخوف والحزن في الحيوات الثلاث: الحياة الدنيا، وحياة البرزخ- وهي الحياة بين الحياتين الأولى الفانية والآخرة الخالدة- والحياة الآخرة، وهي ] الحياة [ الخالدة الباقية ] وذلك [ في قوله تعالى: أَلا [يونس:62] ] وقد أفرح بعض المؤمنين كلمة ألو، وهم لا يعرفون معناها، ويعرفها حتى البنت الصغيرة والابن الصغير الذي يحبو؛ لكثرة استعمالها، وأما ألا فلا يعرفون عنها شيئاً. وأما ألا فمعناها: انتبه أيها المستمع! وعي اسمع، واحضر أحاسيسك، واستعد لتتلقى ما أقول لك [ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] ].

    ومن مظاهر الهبوط: أن يقوم من يسأل في وقت الدرس، والمفروض أنه يبكي بين يدي الله، وكذلك يوم الجمعة والإمام يخطب الجهال يسقي بعضهم بعضاً الماء. وهذا من مظاهر الهبوط. فالله حرم علينا حتى الحركة لنتلقى الحكمة وما يتلى علينا، وجماعتنا يوزعون الماء في الصيف، ويقولون: الناس عطاش؛ بسبب الحر. وهذا ليس وعياً ولا بصيرة، فالناس يستمعون في الدرس وهو يلف ويدور، فقد هبطنا. وليس عسانا أن نقول إلا: يا رب! ارفعنا، وردنا إلى سماء كمالنا، ولسان الحال يقول: الرافعة بين أيديكم، وهي آيات الله، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:175-176]. ولا توجد رافعة غير القرآن والسنة والله الذي لا إله غيره. ولو وضعنا قوانين أو سحراً بكل ما يمكن على أن نطهر قرية واحدة؛ ليصبح أهلها ربانيين والله لن يكون كذلك، فضلاً عن مدينة أو أمة أو جيلاً كاملاً، ومستحيل أن يكونوا ربانيين إلا بالرافعة الإلهية، وهي القرآن والسنة، فهما كتاب الحياة والنور.

    قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وهم [ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:63-64] ] وليس أولياء الله عبد القادر ولا غيره من الموتى، والذي يشك في هذا فهو ميت، فالله هو الذي بين لنا وعلمنا من هم أولياؤه، فهو الذي قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. وكل كافر وفاجر لله عدو؛ لأن أولياءه لا يعاكسونه؛ حتى لا يغضب عليهم أبداً، بل إنهم إذا أحب الله الشيء أحبوه، وإذا كره الشيء كرهوه، وبذلك تتم محبتهم وولايتهم له.

    قال: [ وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بشرى الحياة الدنيا، وأنها الرؤيا الصالحة يراها ] العبد [ أو ترى له ] فقال عن البشرى أنها: ( رؤيا صالحة يراها ) ولي الله، (أو يراها غيره ). ويخبره بها في الحياة الدنيا.

    وكذلك إذا كان على سرير الموت وما زالت الروح في الصدر تحشرج، والعواد حول المريض تنزل أفواج الملائكة فوجاً بعد فوج يهنئونه ويبشرونه، واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31] ... الآيات. وهذه بشرى في الدنيا أيضاً، إذا كان صاحبها قد يئسوا منه، وحشرجت روحه.

    أولياء الله كل مؤمن ومؤمنة تقي. وأقول: إنهم حصروا الولاية في الأموات من أجل أن يستبيحوا فروج نسائنا، ودماء إخواننا وأموالنا؛ لأنه لا يقدر أحد ولا يستطيع أن يؤذي الولي، ولذلك قالوا: أولياء الله هم الذين ماتوا، وأما الأحياء فاذبحهم أو افجر بنسائهم، أو اكذب عليهم، أو اسخط عليهم؛ فإنهم ليسوا أولياء.

    وأنا أريد أن أعجل بتبليغ ما في نفسي من علم، وأنا أعرف أنا أكثر من نصف المدينة لم يتأهلوا لهذا، وهو: أن القاعدة العامة: هي أن الله تعالى يقول في صحيح البخاري : ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). ولم يفهم المسلمون والمسلمات هذا، ولو فهموه لم يستطيعوا أن يؤذوا ولياً لله أبداً، لا بسب ولا بشتم، ولا بتعيير أبداً ولا بأي أذى.

    ثم إن العدو قال: ننقل الولاية إلى الأموات، ونسلبها من الأحياء؛ حتى يصبح المسلمون يخافون الأموات ويهابونهم، ويبجلونهم ويعظمونهم، ويزورونهم، وأما الأحياء فيسبونهم ويغتابونهم، وينمون بهم ويشتمونهم، ويسرقون أموالهم، ويفعلون بهم ما يشاءون. ونجحوا في هذا. وأصبح الولي في القرية هو صاحب القبة الخضراء أو البيضاء، الذي عليه تابوت من خشب وعليه الأزر الحريرية، وعنده الملازم أو الحاجب، والذي يأخذ الناس أبناءهم المرضى إلى قبره، وأما الأحياء فكلهم أعداء الله، فافعل بهم ما تشاء. ولا شك أن اليهود رؤساء الكنيسة يعرفون هذا الكلام، ولما يسمعونه يحزنون، ولكن العرب والمسلمين لم يفهموا هذا ولم يعرفوه أبداً.

    ولو عرفنا أننا أولياء الله لم يؤذ بعضنا بعضاً ولو بكلمة، لكن لما علمونا أن أولياء الله هم الذين ماتوا ولم يعودوا موجودين أصبح بعضنا يزني بنساء بعض، ويفجرون بأولادهم، ويلوطون بهم، ويخيفونهم، ويسلبون أموالهم، ويمزقون أعراضهم، ولو كانوا يعلمون أنهم أولياء الله والله ما فعلوا هذا، بل لارتعدوا وخافوا.

    الحث على نصرة الله وكيفية نصرته

    قال: [ وهيا بنا ] أيها المستمع الكريم! [ بعد هذا نستعرض ما جاء في هذا النداء الإلهي العظيم، إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:14] ] وقولوا: لبيك اللهم لبيك! ] فقد ناداكم الله به [ أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ] صلى الله عليه وسلم [ نبياً ورسولاً، فحيوا بذلك، وأصبحوا أهلاً للنداء، وما يؤمرون به وينهون عنه. كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14] ] هذا هو الذي نادانا من أجله، فقد نادانا ليقول لنا: كونوا أنصار الله، وانصروا الله، والله ليس محتاجاً إلى نصرتنا، ولكننا في دار ابتلاء وامتحان، وهذا شرعه وكتابه، والأعداء متكالبون عليهم، فانصروا الله في أوليائه، وقد قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. وقال هنا: كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]. وفي قراءة سبعية: ( كونوا أنصاراً لله ). والمعنى واحد [ أي: التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق، الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، التزموا بنصرته ] أولاً [ في دينه ] بحيث لا يهان هذا الدين ولا يعبث به، ولا يسخر منه ولا يستهزأ به، فانصروا الله في دينه؛ ليعبد به عز وجل ويبجل ويعظم [ ونبيه ] أي: انصروا نبيه، والتفوا حوله، وقاتلوا العدو دونه، ولا تسمحوا لمن يسبه أو يشتمه، أو يقول عنه سوءاً أو يطعن فيه. فانصروا الله في دينه ونبيه [ و] في [ أوليائه المؤمنين المتقين ] فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فإذا أوذوا فانصروا الله فيهم، وأذهبوا عنهم الأذى، وارفعوا عنهم السوء والباطل [ فقولوا كما قال الحواريون ] في هذا النداء، فهذا النداء لنا نحن، أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والحواريون هم حواريو عيسى، أي: أنصار عيسى [ لما دعاهم عيسى عبد الله ورسوله لنصرته قائلاً: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف:14]؟ أي: من ينصرني في حال كوني متوجهاً إلى الله أنصر دينه وأولياءه، فأجابوه ] ورفعوا أصواتهم [ قائلين: نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14]. فكونوا أنتم أيها المسلمون! ] أتباع محمد صلى الله عليه وسلم [ مثلهم ] هكذا. فالله يربينا بهذا الكتاب، ونحن عنه معرضون، ولا نسأل عنه، ولا نفهمه.

    وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير حوارياً، فهو ابن عمته وحوارييه، فالحواريون هم الأنصار بلغة العرب، وباللغة العبرية: الحواريون بمعنى: الأنصار.

    فليكن المسلمون مثل الحواريين [ في نصرة دين الله، ونبيه وعباده المؤمنين.

    وقد أجابوا ] أي: أصحاب الرسول [ رضوان الله تعالى عليهم ] وأحفادهم وأولادهم. وأما الذين أتوا بعدهم فكما قال تعالى: [ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:169]. فلم يجيبوا، ونحن مع الأسف منهم ] و[ وا أسفاه! وا حسرتاه! وا حزناه! على ما فرطنا في جنب الله ].

    نصر الله للمؤمنين من بني إسرائيل على الكافرين

    قال: [ وقوله تعالى في ختام هذا النداء: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14] ] أي: آمنت طائفة بعيسى، وهم الحواريون، وكفرت طائفة أخرى [ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ [الصف:14] ] وقويناهم [ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] ] منتصرين.

    قال: [ فقوله: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14] أي: بعيسى، وما جاء به من الحق والهدى، وهو أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس بإله ولا ابن الله، ولا بثالث ثلاثة مع الله، وليس هو بساحر ولا دجال، ولا مفتر كذاب، ولا هو بابن زنا. وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14] أخرى. فاليهود قالوا: عيسى ابن زنا، وقالوا: ساحر، وكفروا به، وبما جاءوا به، واحتالوا على المؤمنين الموحدين من أتباع عيسى، فأفسدوا عقائدهم، وحرفوا دينهم؛ مكراً بهم، وحسداً لهم على فوزهم بالدين الحق، والولاية الإلهية، حيث حرموا هم منها. والعياذ بالله.

    وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ [الصف:14]، أي: الكافرين. فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، أي: غالبين عالين منصورين ] فقد انتصر الحواريون ودخل معهم الروم، وعاشوا سبعين سنة على الدين الحق، واليهود أذلة مهانون كالكلاب أمامهم [ إلى أن احتال اليهود أعداء الله الحسدة على إفساد الدين الصحيح الذي جاء به عيسى عليه السلام، وهو الإسلام القائم على عبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات الروحية والبدنية، وحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك، وعلا الكفر والتثليث، وظهر الشرك في ربوع الأرض ] فقد عرف اليهود ما يصنعون، فتنصر من تنصر منهم، ومنهم بولس ، فدخلوا في النصرانية، وأفسدوا دين النصارى، فأصبحوا وثنيين يؤلهون ثلاثة.

    ومعنى قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] أي: الذين حاربوا عيسى وأرادوا قتله، وصلبوا من مثل لهم، وشردوا فترة من الزمن، فقد نصر الله أولئك المؤمنين، واحتضنهم الرومان، ودخلوا في دين الله، وأصبحوا أعزة ظاهرين على اليهود الأذلة مدة سبعين سنة. ثم عرف اليهود - وهم أمكر خلق الله- كيف يفسدون عليهم هذا الدين، ويجعلونهم يهبطون، كما فعلوا بنا، فدخلوا في النصرانية حيلة ومكراً، كما دخل رجال الكنيسة في الإسلام باسم الطرق وجماعات التصوف، ومزقوا أمتنا، فقد كان الواحد منهم يدخل بالمسبحة، ويلتف حوله المؤمنون، ويعطيهم الطريقة عشر سنين، ثم يعود إلى أوروبا ويلبس البرنيطة والله العظيم. وهكذا فعلوا بالمسيحيين، فقد أفسدوا الديانة المسيحية، فتحولت إلى وثنية، وأصبح أهلها يقولون: عيسى الله وابن الله وثالث ثلاثة، وتاهوا.

    قال: [ واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، فانضم إلى الإسلام من انضم من النصارى، فأصبحوا بالإسلام ظاهرين على عدوهم من المشركين المؤلهين لعيسى، الحيارى في تقويمه؛ إذ مرة يقولون: هو ابن الله، ومرة يقولون: ثالث ثلاثة مع الله. وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء، والجاهلون المقلدون من المرءوسين، كما فعل نظراؤهم في الإسلام، إذ حولوه إلى طوائف و]إلى [ شيع ] ولا حول ولا قوة إلا بالله [ إلا أن الإسلام تعهد الله بحفظه إلى يوم القيامة، فمن أراده وطلبه في صدق وجده سليماً صحيحاً صافياً كما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يرده ولم يطلبه، ورضي بالضلال والجهل والفسق والكفر فهو فيها إلى أن يهلك ويمسي في أصحاب السعير. ولا يهلك على الله إلا هالك.

    وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755997230