إسلام ويب

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [18]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوسل إلى الله تعالى بعمل قلبي مشروع أو بعمل من أعمال الجوارح؛ كأن يتوسل بحبه للرسول أو اتباعه له أو نحو ذلك جائز ولا محذور فيه، وإن كانت طوائف من أهل البدع وقعوا في لبس واضطراب في هذه المسألة، وهكذا التوسل بالحقوق المشروعة كحق الرحم وحق القرابة وحق الصلة فهي جائزة، وليست من التوسلات البدعية ولا من الإقسام على الله تعالى.

    1.   

    حكم السؤال بحق الأنبياء

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به.

    فقول المنازع: لا يُسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق ممنوع.

    فإنه قد ثبت في الصحيحين حديث معاذ الذي تقدم إيراده، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

    فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين:

    أحدهما: في حق العباد على الله.

    والثاني: في سؤاله بذلك الحق.

    أما الأول: فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6]، فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47].

    فهذا مما يجب وقوعه بحكم الوعد باتفاق المسلمين.

    وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال كما تقدم.

    قيل: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك.

    وقيل: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده.

    وقيل: هو أوجب على نفسه وحرّم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه كما تقدم ].

    فيما يتعلق بالأقوال الثلاثة فإن من القول الأول فرع عن القول الثالث، فالقول الأول مجمل والثالث مفصّل، فالقول الأول فيه نقص، وهو قوله: قيل: لا يجب لأحد عليه -أي: على الله عز وجل- حق بدون ذلك، أي بدون ما أوجبه الله على نفسه، وهذا هو الصحيح، لكن التفصيل الذي جاء في القول الثالث أبين وأوضح، وهو قول جمهور السلف.

    أما القول الثاني وهو قول المعتزلة، وقد أنكر عليهم السلف القول بإيجاب شيء على الله عز وجل هذا أمر.

    الأمر الآخر: أن كلمة الوجوب هنا لا تعني وجوب التكليف؛ لأن الله عز وجل لا مكره له، وهو سبحانه الحي القيوم القائم على شئون عباده، بيده مقاليد السماوات والأرض ليس لأحد عليه أمر، فهو الآمر الناهي، وهو المشرّع، وهو سبحانه المكلّف لعباده، لكن تساهل بعض الناس فأطلقوا على ما يلزم في حق الله عز وجل عبارة الوجوب، بمعنى أن ما ألزم الله به نفسه أو ما كان من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل، أو ما قرر الله عز وجل أنه كائن أو يكون، سواء في ذلك الأمور الكونية والأمور الشرعية، فإن هذا قد يعبر عنه بأنه لازم، يعني بمعنى أنه من سنن الله الكونية والشرعية، وهذا اللزوم أطلق عليه البعض الوجوب، لا وجوب التكليف وإنما هو وجوب اللزوم أو الالتزام، ومع ذلك فإن العبارة لا تليق، لكن قد يلجأ إليها بعض العلماء عند البيان أو عند الرد، أو في مثل هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ.

    إذاً: فيما يتعلق بالقول الأول والثالث يقصد بالوجوب اللزوم.

    1.   

    امتناع الظلم في حق الله ومعنى ذلك

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا في الظلم الذي لا يقع، فقيل: هو الممتنع، وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذي يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه ].

    هذا الأمر فصّل فيه الأشعري في مقالات الإسلاميين، وذكر أقوال الناس في ذلك، لكن مما ينبغي فهمه وهو ما أشار إليه الشيخ هنا، وهو أنه لا ينبغي أن يقال في حق الله ذلك، فإنا نعلم جزماً بأن الله عز وجل ليس بظلّام للعبيد، وليس في أفعاله ظلم، وأن الله فعّال لما يريد، وأن ما يفعله الله كله حق وعدل؛ ونظراً لأن الله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء فإن كل ما يفعله في عباده فهو عدل وليس بظلم.

    وهذا مؤدى كلام الشيخ في قوله: فقيل: هو الممتنع، وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً..

    إذاً: أفعال الله عز وجل كلها ليست ظلماً، هذا أمر بدهي، فينتج عن ذلك أن كل ما يفعله الله عز وجل لا يمكن أن يكون ظلماً؛ لأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، وأفعاله كلها على مقتضى الحكمة والعدل.

    فإذاً: الظلم منفي في حق الله عز وجل، ولا ينبغي للمسلم أن يخوض في هذا الأمر، لكن أهل الأهواء خاضوا في ذلك، فالسلف يضطرون إلى الكلام عن ذلك من باب بيان الأقوال وبيان الأخطاء في ذلك، لا من باب التقرير.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقيل: بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه.

    وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112].

    قال المفسّرون: هو أن يُحمل عليه سيئات غيره ويُعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته ].

    يعني يُنقص منها.

    قال رحمه الله: [ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [هود:101] ].

    1.   

    سؤال الله بحق العباد عليه

    ذكر الشيخ قبل قليل قال: (فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين)، يعني الكلام فيما يتعلق بما سبق ذكره من سؤال الله بأسمائه وصفاته، وهو يذكر ما يتعلق بقول المنازع: لا يسأل بحق الأنبياء فإنه لا حق للمخلوق على الخالق، الشيخ يقول: إن هذا فيه تفصيل، وأن في هذه القاعدة تفصيل ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: ما يتعلق بحق العباد على الله.

    وذكر أنه لا يجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه، والوجوب هنا بمعنى الالتزام، لا بمعنى تكليف، هذا المقام الأول.. فهذا حق يمكن أن يُعبّر عنه بأنه حق للأنبياء أو حق للخلق، وهو مما أوجبه الله على نفسه، أو وعد به عباده أو بعض عباده.

    والمقام الثاني في هذه القاعدة، وهو ما سيذكره الشيخ الآن.

    السؤال بحق هو سبب لإجابة السؤال

    قال رحمه الله تعالى: [ وأما المقام الثاني فإنه يقال: ما بيّن الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو حق، لكن الكلام في السؤال بذلك، فيقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حسُن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه ].

    لأن الله عز وجل وعد أن يستجيب دعاء العابدين والسائلين، فكونه يجب لعابدي الله عز وجل وسائليه بمعنى أن الله وعد به، فهذا بمعنى اللزوم، وأن الله عز وجل وعدهم، فهذا الوعد يتحقق بإذن الله عز وجل وبوعده.

    السؤال بحق لا علاقة له بإجابة السؤال

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما إذا قال السائل: بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق أن لا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم، كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه، فليس في استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسّره الله له من الإيمان والطاعة، وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك، فليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا ].

    هذا صحيح، فالحق للشخص متعلق به هو لا بغيره، فإذا كان هناك رجل صالح عمل من الصالحات فإن ذلك ينفعه، وقد يتعدى نفعه هو بدعائه لغيره، أو بالأسباب التي يعملها تنفع غيره كأن يتسبب لوالديه ببرهما أحياء وأمواتاً، فهذا الأمر -أي: الفعل- متعلق بالشخص نفسه سواء كان مما يرجع ثوابه عليه أو يتعدى نفعه إلى غيره، فإن هذا راجع إلى عمله هو، لكن لا يجوز لغيره أن يستعمل حقه أو يأخذ من حقه فيطلبه من الله عز وجل؛ لأن حق هذا الإنسان متعلق به لا بغيره، فالعبد الصالح أو الرجل الصالح لا يمكن للغير الانتفاع بعمله، أي أن يرجع ثواب عمله أو أن يستشفع أحد بعمله إلا في صورة واحدة، وهي أن يطلب منه الدعاء، أما ما عدا ذلك فإن عمله له ولا يتعدى لغيره، فهذه الصورة إذاً ممنوعة، فقوله: (وأما إذا قال السائل بحق فلان)، فحق فلان له وليس لغيره؛ لأن الله عز وجل جعل لكل إنسان جزاء ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

    السؤال بدعاء المخلوق وشفاعته وهو قادر على ذلك

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن قال: السبب هو شفاعته ودعاؤه، فهذا حق إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب ].

    هذا فيما يتعلق بصورة واحدة؛ لأن الشيخ في المقطع السابق أجمل في قوله: (وفي حق فلان)!

    نقول: فلان هل هو حي أو ميت؟ إن كان فلان حياً فإنه لا يجوز ولا يمكن أن تسأله إلا ما يستطيعه، إذا جعلته سبباً وجعلت أعماله سبباً فإن كان السبب الذي تتوسل به هو شفاعته ودعاؤه وهو حي قادر فهذا جائز، تقول: يا فلان اشفع لي، أو أتوسل بك إلى فلان، أو أتوسل بك إلى الله عز وجل.. فهذه صورة صحيحة، أما أن يكون معنى أتوسل بك: أجعلك وسيلة بذاتك وبعملك دون أن تتسبب بالدعاء، فهذه صورة ممنوعة كما هو معلوم.

    إذاً قال: (وإن قال السبب هو شفاعته)، أي التوسل بشفاعته وبدعائه فإن هذا جائز؛ لأنه حي قادر يستطيع أن يدعو، وهذه الصورة لا تكون في حق الأموات، لأنه لا يمكن لميت أن يدعو لحي، فإذاً هذه الصورة محصورة في حق الحي القادر كما هو معروف في الصور التي ذكرها الشيخ وفصّل فيها من قبل.

    السؤال بالمحبة الإيمانية للمخلوق

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن قال: السبب هو محبتي له وإيماني به وموالاتي له، فهذا سبب شرعي وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله وطاعته لله ورسوله.

    لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه.

    وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور ].

    هذه المسألة تضمنت صورة جائزة، وهي ما إذا كان سأل المستشفع أو المتوسل بعمل قلبي مشروع أو عمل من أعمال الجوارح.

    فإذا توسل المسلم بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا توسل بعمله هو لا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلو قال إنسان: اللهم إني أسألك بحبي لرسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو اللهم إني أسألك باتباعي لنبيك صلى الله عليه وسلم.. فإنه بهذا توسل بعمله هو المتعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بعمل غيره.

    إذاً هذه الصورة قد تشتبه على كثير من أهل البدع الذين استدلوا على من أجازها بجواز غيرها، وهي من الصور التي قد تخفى على كثير من الناس، ومن هنا فإن أكثر الذين ردوا على أهل السنة والجماعة، وعلى شيخ الإسلام بالذات في هذا المقام جهلوا هذه القضية، وظنوا أن شيخ الإسلام لا يجيز التوسل بالإيمان أو بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ظناً منهم أنه ينفي كل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من التوسلات، في حين أن الصحيح الذي عليه جمهور السلف أن هناك من صور التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو جائز كالتوسل بدعائه وهو حي، التبرك بآثاره وهو حي، وكالتوسل بحبه وبالإيمان به وباتباعه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم..

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين ].

    يعني بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالعمل الصالح.

    قال رحمه الله تعالى: [ تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره ].

    يقصد بهذا أن التوسل الجائز له صورتان:

    الصورة الأولى: كون المتوسل يريد بذلك الثواب والجنة، حيث يتوسل الإنسان بأعماله الصالحة ويدعو الله عز وجل ويعبده طلباً لثوابه وجنته، فهذا هو الأصل وهو المطلوب من جميع العباد، وهو أصل العبادة وأساسها.

    والصورة الثانية: أن يتوسل بالعمل الصالح للوصول إلى غرض آخر، فهذا أيضاً جائز كما في قصة أصحاب الغار الذين توسل كل منهم بعمل صالح لتحقيق غرض وإن كان دنيوياً من جلب نفع أو دفع ضر، فهذا أيضاً جائز بل من الصور المشروعة التي ليس عليها خلاف.

    معنى ما جاء عن السلف من التوسل

    قال رحمه الله تعالى: [ فيُحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم على أنه أراد: إني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، ونحو ذلك.

    وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع.

    قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ].

    ولذلك نجد أن أكثر أهل البدع لا يريدون هذا المعنى، فسائرهم لا يقصدون التوسل بالإيمان به ومحبته إلى الله، إنما يقصدون التوسل بذاته، ولذلك ينادونه ويدعونه من دون الله، فهم فسّروا توسلهم بفعلهم وقولهم، فمن هنا لا يحتاج أن نتكلف أن أغلب أهل البدع لم يريدوا هذا الوجه الصحيح وهو التوسل إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وباتباعه وطاعته فإن هذا أمر مشروع، لكنهم لا يقصدونه؛ لأن فعلهم لا يدل على ذلك، ولو قصدوه لجاز هذا كما ذكر الشيخ.

    قال رحمه الله تعالى: [ قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف كما نُقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره، كان هذا حسناً، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع، ولكن كثير من العوام يُطلقون هذا اللفظ ولا يُريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ ].

    إذاً: تحصّل عندنا أن للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم صورتين جائزتين تتفرع عنهما ألفاظ وطرق:

    الصورة الأولى: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذه انتهت بوفاته.

    الصورة الثانية: التوسل إلى الله بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبحبه، واتباعه، والجهاد في سبيل دينه، واقتفاء أثره، وطاعته.. كل هذه الأعمال الإيمانية التي تتعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم الديني الشرعي يتوسل بها المسلم بقدر ما يعملها.

    إذاً تنحصر التوسلات بالنبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الصورتين وتتفرع عنهما ألفاظ وصور عدة، لكن هذا من الأصول التي تجمع التوسل الجائز بالنبي صلى الله عليه وسلم.. توسل بدعائه وقد انتهى، والتوسل بما يتعلق بحقوقه واتباعه صلى الله عليه وسلم وهذا جائز، والمسلم يتوسل بقدر ما يعمل.

    1.   

    حكم السؤال بحق الرحم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره: بحق الرحم، قيل: الرحم توجب على صاحبها حقاً لذي الرحم كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرحم شجنة من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله).

    وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته).

    وقد روي عن علي أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه أعطاه لحق جعفر على علي .

    وحق ذي الرحم باق بعد موته كما في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم! الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما).

    وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي.

    فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره ].

    يقصد الشيخ بهذا أن هناك عبارة يستعملها كثير من الناس قديماً وحديثاً، وتشتبه بالتوسل البدعي في ظاهر لفظها، وهي كأن يقول إنسان لأحد أقاربه: أسألك بحق الرحم أن تعطيني، أو أن تزورني، أو بحق الرحم أن تفعل كذا وكذا.. فهذا أولاً ليس بقسم ولا استشفاع إنما هو سؤال بحق مشروع، وهو حق القرابة التي فرضها الله عز وجل بين ذوي الرحم من وجوب الصلة والعناية فيما بينهم، فإن الله عز وجل شرع للأقارب حقوقاً، والأقربون أولى بالمعروف، فمن هنا يسأل بهذا الحق ما كان من مصالح العباد فيما بينهم، ولا يسأل به شيء من أمور الآخرة ولا من الثواب وغيره، وليس هو من باب القسم، بل هو حق شرعه الله، فلذلك أجازه كثير من أهل العلم؛ لأن المقصود به العمل بما شرعه الله من الحقوق بين ذوي الأرحام، فمن هنا هذه العبارة في الغالب أنها جائزة وليست من باب التوسل البدعي ولا من باب القسم بغير الله.

    الفرق بين السؤال بالمخلوق والإقسام على الله به

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم ].

    استطرد الشيخ في هذه المسألة، قوله: أن أبا حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء قالوا: من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، تكلم عنه الشيخ قبل قليل من وجه، وهو ما قصده في بداية الدرس في قوله: فيقال للمنازع..

    وقصده أن هؤلاء العلماء منعوا هذه العبارة بإطلاق، مع أنها تحتمل معنى صحيحاً، هذا وجه من التفصيل في هذه العبارة، والوجه الثاني أيضاً ما سيذكره الآن من أن هذه الكلمة تتضمن شيئين:

    قال رحمه الله تعالى: [ أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم ].

    لأنه حلف بغير الله على القول بأنه يمين، ومن ناحية أخرى أنه من باب التألي على الله عز وجل، وهذا لا يجوز.

    قال رحمه الله تعالى: [ كما يُنهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء.

    والثاني: السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس ].

    أي: السؤال به على التفصيل السابق، فإن كان المقصود به بعمله أو بذاته فإن هذا لا يجوز، وإن كان السؤال بحبه له وهو ممن يُحب في الله عز وجل بأمر مشروع، كالسؤال بحب النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بطاعته ونحو ذلك، فهذا جائز، ولذلك سيذكر الشيخ هذه الصورة استطراداً في تفصيل المسألة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يُظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة.

    وحديث الأعمى لا حُجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه في)، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يُعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولو توسل غيره من العُميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله.

    ودعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر رضي الله عنه والمهاجرون والأنصار رضي الله عنهم عن السؤال بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السؤال بـالعباس رضي الله عنه ].

    هذه الحجة ظاهرة، وهي من أقوى الحجج على أهل البدع، فإن القصة قصة استشفاع الصحابة وتوسلهم بـالعباس دليل ظاهر في منطوقه ومفهومه وفي فحواه على أنه لا يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، أي التوسل بذاته أو دعائه؛ لأنه لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به بعد وفاته جائزاً فلا يمكن للصحابة رضي الله عنهم أن يعدلوا عن الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستشفاع بغيره كائناً من كان وهو بين ظهرانيهم، ما كان هذا الاستشفاع في مكة حتى نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، هذه القصة حصلت في المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الصحابة أي في قبره، ومع ذلك نظراً لأنه لا يجوز التوسل به بعد وفاته؛ لأنه لا يمكن أن يتمكن من الدعاء فإن الصحابة رضي الله عنهم استشفعوا بـالعباس .

    ثم ألفاظ عمر أيضاً: اللهم إنا كنا نستشفع بنبيك، ثم عدل بعد ذلك إلى الاستشفاع بعم نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا دليل قاطع على أنه لا تجوز الصورة الأولى التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وشاع النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ].

    قوله: (خاص ببعض العباد) أي: الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من العباد من لو أقسم على الله لأبره) وهذا قليل، فالقسم على الله الأصل فيه عدم الجواز، لكنه قد يحدث من بعض الناس إما لجهلهم بالحكم أو عند ضرورة يتجاوزون بها هذا الحد من باب التأوّل أو الترخّص، أو نحو ذلك مما حدث من بعض الصحابة وغيرهم.

    1.   

    الأسئلة

    المراد بتعلق الرحم بحقوي الرحمن

    السؤال: ما المراد بحديث الرحم وأنها تعلقت بحقوي الرحمن؟

    الجواب: المقصود بحديث الرحم الاهتمام بالرحم وهي القرابة، فللقرابة حق، وأما قوله: (وأنها تعلقت بحقوي الرحمن) فهذا من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، من الأمور التي عبّر السلف عنها بقولهم: (تمر كما جاءت)، لكن لا شك أننا نفهم من هذا التعبير تعلقها بحقوي الرحمن، وهذا يثبت لله عز وجل كما يليق بجلاله؛ لأن هذا الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أخبر به عن ربه، فلا يجوز لنا أن نتأوّل أو نتردد في إثبات ما ثبت، ومع ذلك لا يكون هذا من الصفات، فهذا كالملل وكالاستهزاء، فلا يقر ولا يُثبت إلا بسياقه أو بما يدل على السياق، بحيث لا يكون صفة مستقلة.

    بيتان لابن تيمية في الحق على الله تعالى

    السؤال: لشيخ الإسلام ابن تيمية بيتان في قضية الحق على الله عز وجل:

    يقول:

    ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع

    إن عُذّبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

    الجواب: هذا حق.

    كيفية التعامل مع زملاء العمل من الرافضة

    السؤال: عندنا في العمل رافضة وهم ينشرون عقيدتهم بين الزملاء، فكيف نتعامل معهم، هل نهجرهم أو نقاطعهم؟

    الجواب: إذا كانوا ينشرون عقيدتهم فلا بد من اتخاذ إجراءات نحوهم، بإبلاغ الجهات المسئولة والمشايخ بأسمائهم، ولا يجوز السكوت عنهم، أما إذا كانوا كعادتهم يستعملون التقية ويجاملون فيُعاملون معاملة عادية كمعاملة المنافقين.

    في الحالة الأولى إذا كانوا يدعون إلى بدعتهم لا بد من هجرهم والحزم معهم.. ولا أقصد بالدعوة مجرد المحاورة، فبعضهم قد يحاور وإذا حاور فينبغي أن تقام عليه الحجة ويستعد له أمثل من حوله من المعلمين أو الموظفين.. يستعد للمحاورة ويراجع الكتب، ويراجع طلاب العلم أو يحيله إلى طالب علم، فيجادل بالتي هي أحسن، أما إذا كان يدعو إلى بدعته دعوة طلب الاستجابة لهذه البدعة، بمعنى أنه ينشر عقيدته الفاسدة فينبغي هجره وتعنيفه، وينبغي الوقوف ضد هذه البدعة وهذا العمل بحزم.

    حكم التوسل بالعلماء في حياتهم

    السؤال: هل يجوز التوسل بالعلماء في حياتهم؟ وذكر السائل بعض المشايخ الأحياء!

    الجواب: هذا الأمر لا بد أن يرجع فيه إلى القواعد السابقة التي ذكرها الشيخ أكثر من مرة، وهو إن قصد بالتوسل طلب الدعاء منهم فلا حرج، إذا سلّمت على الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله والشيخ ابن جبرين حفظه الله فلا مانع من أن تقول: ادع الله لي يا شيخ، فليس في هذا حرج وهذا من التوسع الجائز، وأما توسل التبرك أو قصد اتخاذ ذواتهم وسيلة عند الله عز وجل، وأن يتخذهم شفعاء بدون أن يطلب الدعاء منهم، فهذا لا يجوز، وهو الصورة الممنوعة، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755902748