وبعد:
كثير من الإخوة اتصلوا يستفسرون حول ما قلنا من أن بيع علبة السمن بيع غرر، فنقول: إن العلماء وضعوا أسساً ومعايير وشروطاً للبيع الصحيح، وبيع الغرر بلا خلاف يحرم، وكذلك بيع الجهالة، وحتى تخرج من هذين البيعين فلك أن تشتري بالخيار، فتقول للبائع: أنا بالخيار، فإن ظهر بها عيب رددتها إليك. وهذا ليس مشكلة.
والبائع والمشتري بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما، وللمشتري أن يشترط فيقول: إذا وجدت فيها عيباً رددتها، وهذا لا يحدث، بل إنك إذا اشتريت علبة ثم وجدت فيها عيباً فإنه لا يمكن أن يأخذها منك، وهذا كثير، فيمكنك أن تشترط عليه؛ حتى تخرج بهذه الطريقة من المحذور الشرعي، فيكون البيع والشراء بالخيار.
وكلمة (نهى) تفيد التحريم، فالنهي يفيد التحريم، قال تعالى: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ونهاكم؛ أي: حرم عليكم. وقد نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، فالبيع لا بد أن يكتمل، والبيع بدون اكتمال لا يعد بيعاً، فإذا عاين السلعة واتفقا على الثمن ودفع الثمن فقد انتقلت الملكية إلى المشتري، ثم لا بد أن يتفرقا حتى يتم البيع، والفرقة تكون بالأبدان، ولذلك يقول الشيخ ابن عثيمين : لو أنك اشتريت سلعة في طائرة، ثم أقلعت الطائرة من المطار الساعة الثامنة مساءً، ووصلت إلى المطار الآخر صباحاً فإنك لم تفارق البائع، ولم تتم الفرقة بالأبدان.
وكذلك الخطبة، كما في حديث: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). وقاس العلماء عليهما الإيجار، أي: لا يستأجر أحدكم على إيجار أخيه؛ لأن العلة واحدة. والقياس: اشتراك شيئين في حكم شرعي؛ لاشتراكهما في العلة.
والعلة في النهي عن البيع على البيع أن فيه إيغار الصدور، وحقد المسلم على أخيه، وحمل شيء في قلبه لأخيه.
وهذا موجود في الإيجار على الإيجار، فإذا كنت مستأجراً لمتجر وجئت أنت تخبب المؤجر عليّ فإنك تغير بذلك صدري وتجعلني أحقد عليك ومعناه: أن الرجلين إذا تبايعا فجاء آخر إلى المشتري فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بأقل من الثمن الذي اشتريت به.
فلو أني اشتريت مسجلاً من تاجر الأدوات الكهربائية بمائة وخمسين جنيهاً، وقبض الثمن وأخذت السلعة، وبعد ذلك قابلني بائع آخر وسألني بكم اشتريته، فقلت: اشتريته بكذا، فقال: هو عندي بأقل من هذا السعر، فهذا معناه أنه يخبب على البائع الأول، وهذا منهي عنه شرعاً.
قال المصنف رحمه الله: [ أو قال: أبيعك خيراً منها بثمنها أو عرض عليه سلعة أخرى حسب ما ذكره، فهذا غير جائز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، فيكون حراماً، فإن خالف وعقد البيع فالبيع باطل؛ لأنه نهي عنه، والنهي يقتضي الفساد ].
وهناك كتيب بهذا العنوان (النهي يقتضي الفساد)، وطالما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشيء فهو فاسد، وهذا هو الراجح، ولذلك إن باعه بعد ذلك فالبيع باطل، يعني: لا ينعقد، أي: أن العقد ولد باطلاً.
وقد سألت أخت تقول: تقدم لخطبتي رجل فاضل فلم أعطه كلمة ولم أعده، فهل يجوز أن أقابل رجلاً آخر؟ أي: أنه تقدم إليها اثنان في وقت واحد، فلم تعد الأول وإنما رأته، فهل لها أن ترى الآخر؟ فقلت: نعم؛ لأن العبرة بأن توافق ويحدث القبول والإيجاب، وهنا لم يحدث قبول ولا إيجاب، وإنما الذي حدث رؤية، فلا مانع مطلقاً في هذا.
و( ابن حزم الأندلسي له كتاب طبعته دار الحرمين بعنوان البيوع المنهي عنها، وقد عد منها أكثر من مائة بيع، ونحن هنا نأخذ عينات من البيوع المنهي عنها التي انتشرت في حياتنا، والموسوعة الفقهية الكويتية أوردت أيضاً أكثر من مائة نوع من البيوع المنهي عنها. ونكتفي هنا بما أورده المصنف.
والحاضر هو من كان من أهل البلدة أو المدينة أو القطر، والبادي: القادم من البدو أو من خارجها، فهو لا يعلم حال المدينة ولا حال سوقها ولا حال العرض والطلب بها، فيلقاه الحاضر ويقول له: أنا أكفيك مؤنة البيع فاجلس أنت وأنا أتولى البيع، ويكون له سمساراً.
وقد نهي أن يبيع الحاضر للباد؛ لأن البادي إذا أتى إلى السوق فإنه لا يعلم حال السوق، فيبيع بالسعر الذي يناسبه، فإذا كان عنده مثلاً غنمة أنفق عليها 200 جنيه فإنه يأتي السوق وهو يأمل في أن بيعها بـ250 جنيهاً، وقد تكون نظيرتها في السوق بـ300 جنيه عند الحاضر، فإذا دخل البادي السوق وعرضها بـ250 جنيهاً فإنه يترتب على هذا أن ينزل الحاضر بالسعر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). وهذا من تشريع الإسلام لأحوال السوق ودفع الغلاء في بعض الأسواق.
قال المصنف رحمه الله: [ والبادي هاهنا هو من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء كان بدوياً، أو من قرية، أو بلدة أخرى.
قال ابن عباس : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد، فقلت لـ
وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). والمعنى في ذلك: أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص وتوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع أن يبيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد فيضر بهم، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ].
فلو أن الحاضر هو الذي تولى البيع لضبط السعر وحافظ عليه عند مستوى معين، فيضر بذلك الناس، فدخول البادي إلى السوق يتسبب في نزول السعر، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحاضر للبادي بشروط خمسة ذكرها المصنف.
قال المصنف رحمه الله: [ وعنه يصح -أي: رواية عن أحمد أنه يجوز- والنهى اختص بأول الإسلام؛ لما عليهم من الضيق في ذلك، والأول المذهب لعموم النهي ].
أي: أن الراجح هو الرواية الأولى.
أحدها: أن يحضر البادي لبيع سلعته ]، أي: أنه جاء ليبيعها لا ليهديها.
قال المصنف رحمه الله: [ فأما إن جاء بها ليأكلها أو يخزنها أو يهديها فليس في بيع الحاضر له تضييق بل فيه توسعة ]، أي: أنه إن جاء بها ليخزّنها ثم أخذها الحاضر وتولى بيعها بدلاً منه فهاهنا توسعة ولا يوجد تضييق، فالسلعة لم تكن في النية أن تباع فحوّلها إلى بيع.
قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أن يحضر ليبيعها بسعر يومها، فإن أحضرها وفي نفسه ألا يبيعها رخيصة فليس في بيعه له تضييق ]. فإن نوى البادي أن يبيعها بسعر أعلى من سعر يومها فلا تضييق.
قال المصنف رحمه الله: [ الثالث: أن يقصده الحاضر، فإن كان هو القاصد للحاضر جاز؛ لأن التضييق حصل منه لا من الحاضر، فأشبه ما لو امتنع هو من بيعها إلا بسعر غال
الرابع: أن يكون جاهلاً بسعرها، فإن كان عالماً بسعرها لم تحصل التوسعة بتركه بيعها؛ لأن الظاهر أنه لا يبيعها إلا بسعرها ]. أي: أنه إن كان عالماً بالسعر فالحاصل أنه لن يبيع إلا بالسعر، وأما إن كان جاهلاً فسيدخل السوق وهو جاهل، فيترتب على ذلك أن يخفض السعر، فإن خفض السعر عادت الأسعار إلى الانخفاض.
قال المصنف رحمه الله: [الخامس: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعته كالأقوات ونحوها؛ لأن ذلك هو الذي يعم الضرر بغلو سعره ].
أي: أن تكون السلعة من القوت، لا أن تكون سيارة، أو ثلاجة، أو مكيفاً، فهذه ليست من القوت، فلا بد أن تكون السلعة مما يقتاته الناس، والنهي عام لمصلحة المسلمين، فالنهي عن أن يبيع حاضر لباد ليتحقق انخفاض السلعة، فكل ما يدعو إلى الانخفاض فنحن معه، فإن ترتب على ذلك الارتفاع فلا يجوز.
قال المصنف رحمه الله: [ وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ].
وذلك مثل صاحب الخضار يأتي بخمسة أشخاص لا ينوون بيعاً ولا شراء، وإنما هدفهم أن يرفعوا السعر على المشتري، فيقول الأول: أنا أشتري بـ200، ثم يقول الثاني: بـ250، وهكذا حتى يأتي المشتري فيقول: أنا أشتري بـ500، فيستدرجونه إلى سعر عال، وبعد ينتهي صاحب السلعة من البيع يعطي المتسبب في رفع سعر السلعة نسبة من الثمن. وهذا هو بيع النجْش.
قال المصنف رحمه الله: [ ليقتدي به من يريد شراءها، يظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه، فيغتر لذلك ].
وهذا موجود كثير جداً في المزادات وفي المناقصات.
قال المصنف رحمه الله: [ وهو حرام، وقد روى ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجْش).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان) ].
وتلقي الركبان مثل أن يأتي رجل من خارج البلد ليبيع السلعة في السوق، وقبل أن يدخل بها السوق يقابله آخر خارج البلد ويشتريها منه بمائة جنيه، ثم يدخل بها السوق ويبيعها بخمسمائة.
قال المصنف رحمه الله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد)].
والنجش لا يجوز أبداً، حتى لو عرض سعراً أقل من قيمته، فلا بد أن يدخل وينوي الشراء، لا أن يغرر بالمشتري.
وإذا كانت السلعة سعرها نقداً بعشرة، وسعرها بالتقسيط بخمسة عشر، فلا يعد هذا من باب بيعتين في بيعة، وهذا إخبار فقط، وإنما معنى البيعتين في البيعة عند العلماء ألا يحدد البائع ولا المشتري بيعاً واحداً في عقد البيع، كأن يبيع نقداً بعشرة جنيهات وبخمسة عشر تقسيطاً، ولم يتفق مع المشتري على أي نوع منهما.
هذا هو الراجح من أقوال العلماء في معنى البيعتين في بيعة.
قال المصنف رحمه الله: [ وهو أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة ].
ولم يستقر المشتري على بيع، وإنما انصرفت الإرادة إلى النقدي والنسيئة.
قال المصنف رحمه الله: [ فهذا لا يصح؛ لأن: (النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة) حديث صحيح ]. وفي رواية أخرى عن أحمد أنه يجوز، ولكن الراجح أنه لا يجوز.
والنسيئة أي: القسط، ومنه ربا النسيئة، وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فالنسيء هو التأخير، فقد كانوا في الجاهلية يقدمون شهراً ويؤخرون شهراً على حسب أهوائهم، فالنسيء هو التأخير، وأما بيع النسيئة فهو بيع الأجل، أي: البيع بالتقسيط، ولذلك يسمى ربا النسيئة.
والبيع بالتقسيط جائز عند جمهور العلماء، وقد اختلف فيه العلماء بين الحل والحرمة، وكتب بعض العلماء رسالة خاصة في جواز البيع بالتقسيط، وبعضهم ردوا على الشيخ الألباني في هذه المسألة، ولا يجوز لنا أن نقلل من شأنه؛ لأنه مجتهد، فإن اجتهد فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وقد كان الشيخ يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، والتشهير بالعلماء لا يجوز.
وروي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب -أي: الركبان- فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبط بها الأسواق، فربما غبنوهم غبناً بيناً فيضروا بهم، وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم ]، أي: أنه إذا دخل الركبان السوق أثروا في سعره، فعندما تلقوا الركبان في خارج البلدة يحقق لهم الغرض فيمنع انخفاض السعر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان).
قال المصنف رحمه الله: [ وهؤلاء الذين يتلقونهم لا يبيعون سريعاً ويتربصون به السعر، فهو في معنى بيع الحاضر للبادي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في حديث ابن عباس : (ولا تلقوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد)، وعن أبي هريرة مثله متفق عليهما، فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح ]. لأنه ليس هناك في هذا فساد، وتلقي الركبان في بيعه صحيح.
قال المصنف رحمه الله: [ لأن في حديث أبي هريرة : (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار). هكذا رواه مسلم . والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة ].
وهذا هو ما يسميه العلماء بالبيع الجزافي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع الجزافي إلا في أنواع سأبينها، (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه). فلو اشتريت مثلاً ثلاثة أرطال من الحليب فلا بد أن أستوفي هذه الثلاثة الأرطال. هذا هو المقصود.
قال المصنف رحمه الله: [ وروى ابن عمر قال: رأيت الذين يشترون الطعام جزافاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون حتى يؤوه إلى رحالهم، وفي الحديث: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه). متفق عليهما.
ولـمسلم عن ابن عمر قال: (كنا نشتري من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه) ].
أي: حتى نستوفيه في رحالنا، وحتى ننقل السلعة معلومة المقدار إلينا.
قال المصنف رحمه الله: [ وأجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه ].
فإذا كان هناك سيارة محملة مائة بطيخة والمشتري لا يعلم، فهذا هو البيع الجزافي، وهو حرام، لأنه علم به طرف ولم يعلم الآخر.
الجواب: لا يجوز، وهذا البيع حرام؛ لأنه باع ما لا يملك، وقد ذكرناه قبل ذلك.
الجواب: القرض من النقابة حرام؛ لأنه بفائدة.
الجواب: لا يجوز حتى وإن أمرك الأب.
الجواب: يجوز أن ترفع في السعر ولا شبهة في ذلك.
نكتفي بهذا القدر، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر