أما بعد:
فلا زلنا مع كتاب الحج والعمرة، باب: (دخول مكة).
قال المصنف رحمه الله: [ ثم يصلي ركعتين خلف المقام ]، أي: بعد الانتهاء من طواف العمرة إن كان متمتعاً، أو طواف القدوم إن كان قارناً أو مفرداً، يصلي ركعتين خلف المقام؛ لقول ربنا سبحانه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
وقصة مقام إبراهيم أخرجها الإمام البخاري في صحيحه من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إبراهيم عليه السلام لما كلفه الله بأن يرفع قواعد البيت، وكلف ولده إسماعيل أن يعاونه، قام إبراهيم يبني وإسماعيل يساعده إلى أن بلغت الكعبة إلى طوله، فأتى له بحجر فقام عليه، وذلك ليرفع البناء، وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينفذ أوامر الله ثم يزيد عليها فوق طاقته، كالنوافل والمستحبات، فلما قام إبراهيم عليه السلام على هذا الحجر أمرنا الله أن نتخذ هذا المقام مصلى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
وهذه من موافقات عمر للوحي، فقد قال رضي الله عنه: (يا رسول الله لو اتخدنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]) ومعنى المقام: أن تصلي فتجعل المقام بينك وبين الكعبة.
وشيخنا ابن باز له فتوى وهي: أن الحرم كله مقام في حال الزحام، فلا يشترط أن تصلي إلى المقام مباشرة، فلو صليت في الطابق الثاني عند الزحام جاز، ولو صليت فوق السطح جاز، طالما أنك تجعل المقام بينك وبين الكعبة في حال الزحام الشديد، بينما البعض يصر على أن يصلي بالقرب من المقام فيعرقل الطواف، والناس قد تدوسه وهو ساجد، وهو يظن أنه بذلك يحسن صنعاً.
قال رحمه الله: [ روى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت)، قال محمد بن علي : ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد ، و: قل يا أيها الكافرون ، ومهما قرأ فيهما بعد الفاتحة جاز وحيث ركعهما جاز، فإن ابن عمر ركعهما بذي طوى، رواه البخاري وأحمد . ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه وليس بينهما شيء، وكذلك سائر الصلوات بمكة لا يعتبر لها سترة ]، وخالف في ذلك الشيخ الألباني رحمه الله فقال: لا بد من اتخاذ السترة في المسجد الحرام.
لكن اتخاذ السترة عند الطواف وبين المقام من المشقة البالغة، والمشقة تجلب التيسير، والواجبات -على القول بأن السترة واجبة- تسقط بالعجز، والطواف مقدم على الصلاة، قال تعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، فقدم الطواف على الركوع والسجود، وعليه فلا يمكن أن نأمر المصلي بأن يتخذ سترة عند الصلاة إلى المقام؛ لأنه يترتب على ذلك تعطيل الطواف، وهذه من المشقة التي لا يمكن التحرز منها كما قال العلماء.
ثم أخذت أمنا هاجر تبحث عن الماء -بعد أن نفد ماؤها- لتشرب هي ورضيعها، فأخذت تصعد إلى جبل الصفا، ثم تهبط إلى بطن الوادي فتهرول فيه، ثم تصعد إلى جبل المروة، وهكذا حتى أتمت سبعة أشواط وهي تنظر إلى ولدها إسماعيل لعله قد مات؛ لأنه كان يتقلب ظهراً على بطن من شدة الجوع والعطش، وبينما هي في الشوط السابع سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه، يعني: أنصتي، فإذا بجبريل عليه السلام يقوم بين يديها: من أنتِ؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم، ولم تقل: أنا زوجة إبراهيم، لأنه فرق بين أم الولد وبين الزوجة، فقال: لمن ترككما في هذا المكان القحط ولمن وكلكما؟ فقالت: وكلنا إلى الله، فقال: هو حسبكما، فضرب الأرض فانفجر ماء زمزم، فأخذت هاجر تحيط الماء حرصاً على عدم ضياعه، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله
ولا يشترط الوضوء للسعي بين الصفا والمروة، والذهاب من الصفا إلى المروة يعتبر شوطاً، ومن المروة إلى الصفا شوطاً آخر، لا كما يفعله بعض الناس، فيحسب الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة من المروة إلى الصفا شوطاً واحداً، فيسعى أربعة عشر شوطاً! والبعض قد يعقد لكل شوط دعاء، والبعض الآخر قد يلحن في قراءة القرآن، حتى تجد البعض يقول: ( فلا جناح عليه أن يتطوف بهما )، والناس تردد خلفه ولا تعلم الخطأ، فينبغي على العبد أن تعلوه السكينة والوقار، وأن يعيش هذه المناسك العظيمة.
ومن اللطائف في هذا المقام: أن ابن عباس كان يرى أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين من رمضان، فلما سئل عن ذلك قال: الطواف حول البيت سبع، والسعي بين الصفا والمروة سبع، وعدد السموات سبع، وعدد الأرضين سبع، والمسلم يسجد على سبعة أعضاء، ويسمى الولد في يوم سابع ولادته، وقال تعالى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ [الحاقة:7]، وقال في موضع آخر: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27].
قال: [ ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يكمل سبعة أشواط ]، ولا يشترط التتابع بين السبعة الأشواط، فله أن يستريح ثم يكمل طالما أنه ليس هناك فرق زمني كبير بين الشوط والشوط، لكن ليس من المقبول أبداً أن يسعى شوطاً ثم يخرج إلى الفندق وينام ثلاث ساعات، ثم يغتسل ويعود فيكمل! نقول له: أن يستريح لكن بالحد المعقول الذي لا يخرج عن المألوف أو عن انقطاع التتابع، وله أن يشرب أثناء السعي، وأن يقضي حاجته إذا أراد.
قال: [ يحتسب بالذهاب سعيةً وبالرجوع سعيةً، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة، هذا وصف السعي، قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى) ].
والهرولة لا تكون إلا للرجال دون النساء، فالمرأة تمشي بسكينة ووقار، والخطأ أن تهرول المرأة، لأنها بذلك تظهر مفاتنها فلا يجوز.
فالجواب: لا يجوز، وأما فعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ ما زاد على القبضة فمخالف لروايته: (أعفوا اللحى)، فتقدم الرواية على الفعل، ومثل ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، وكان أبو هريرة يغسله ثلاثاً، فنقدم روايته على فعله كما هو مقرر في علم الأصول.
أيضاً: جاء في البخاري : أن الصحابة كانوا يعرفون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر من اضطراب لحيته، يعني: أن لحيته كانت تهتز، وهذا يدل على أن لحيته عليه الصلاة والسلام كانت كبيرة وكثيفة، وحالنا اليوم أننا نأخذ من اللحية كثيراً ونحتج بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ونقول: إن ابن عمر رضي الله عنهما قد حج ستين حجة وكان يأخذ من لحيته على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم يثبت عن أحد أنه أنكر عليه، فكيف ذلك؟!
فالجواب: أولاً: غير صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما حج ستين حجة.
ثانياً: أن فعل ابن عمر هذا ليس حجة على غيره من الصحابة، فقد كان بعض الصحابة من تبلغ لحيته إلى سرته، وليس فعل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة الدليل، وهذا كلام الأصوليين.
ومثل ذلك: أن الكل يُجمع على أن الحجاب من الفروض الإسلامية، والعجيب أنهم يشترطون على المذيعة أو المضيفة حتى تحصل على عمل: أن تظهر نحرها وشعرها، ولم نر مذيعة أو مضيفة محجبة، وإلا فالفصل ينتظرهما، فهم بذلك يناقضون أنفسهم، وإلا فما دام أنه فريضة من الفرائض فلماذا لا يعمل به؟! وكذلك اللحية فهي فرض، ومع ذلك يعبثون بها!!
قال: [ ثم يقصر من شعره إن كان معتمراً وقد حل، إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل ]، أي: بعد انتهائه من السعي بين الصفا والمروة يحلق أو يقصر إن كان متمتعاً، ويجوز له كل شيء من محظورات الإحرام حتى النساء، وأما إن كان قارناً أو مفرداً أو متمتعاً قد ساق الهدي، فإنه لا يحل له أن يتحلل، وإنما يظل على إحرامه، فالقارن قد قرن بين حج وعمرة، والمفرد سيؤدي حجاً فقط، والمتمتع الذي ساق الهدي من بلده يلزمه أن يقرن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولتحللت).
قال: [ لما روى ابن عمر قال: (تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليحلل)، متفق عليه. والأحاديث في ذلك كثيرة لا نعلم فيها خلافاً ].
وقد جمع ووفق ابن عثيمين بين الروايات الثلاث التي تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج متمتعاً، وحج قارناً، وحج مفرداً، وكلها صحيحة، فقال رحمه الله تعالى: حج النبي صلى الله عليه وسلم قارناً لأنه ساق الهدي، وحج مفرداً لأنه أتى بأعمال الحاج المفرد والتي هي نفس أعمال الحاج القارن، فكلاهما لهما طواف واحد وسعي واحد، ما عدا الدم، فالقارن يلزمه دم والمفرد لا يلزمه، وحج صلى الله عليه وسلم متمتعاً لأنه أدى العمرة مع الحج، أي: في سفرة الحج، ولا شك أن التمتع هو أفضلها.
قال: [ وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً).
قال: [ وحيث نحره من مكة جاز -يعني: أن المعتمر لا بد عليه أن ينحر هديه في مكة- لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي مع حجته فكان يحل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر).
وحتى لا يلتبس الأمر: فالإحرام ركن من أركان العمرة أو الحج، والإحرام من الميقات واجب، فلو أن رجلاً أراد أن يحج، ولا يستطيع أن يدخل السعودية إلا بمهنة جزار أو خدمة الحجيج، فله أن يدخل بملابسه ويحرم منها أو من جدة، ويلزمه فدية؛ لأنه جاوز الميقات دون إحرام، لكن أصل الإحرام ركن، يعني: يعقد النية عند الميقات ويلبي، وإن لم يستطع الفدية صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده.
وآخر: رجل اعتمر في رمضان، ولما جاءت أشهر الحج لبى بالحج مفرداً من مكانه، فله أن يحج مفرداً وليس عليه دم؛ لأنه أوقع العمرة في غير أشهر الحج، بينما المتمتع هو من أوقع العمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، فمن اعتمر فيها يعتبر متمتعاً ويلزمه دم، قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196].
ثم قال: [ وإنما يجوز ذلك بشرطين أحدهما: أن لا يكون معه هدي، فإن كان معه هدي بقي محرماً حتى يفرغ من أفعال الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق معه هدياً)، رواه جابر وابن عباس وعائشة متفق عليه، واحتج أحمد بقوله عليه السلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، والأحاديث في ذلك كثيرة صحاح تقرب من التواتر والقطع.
الشرط الثاني: أن لا يكون قد وقف بعرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالفسخ قبل الوقوف ] يعني: من أراد أن يحول الطواف والسعي إلى عمرة مفردة فله ذلك بشرطين: الأول: أن لا يكون قد ساق الهدي، والثاني: أن لا يكون قد وقف بعرفة؛ لأن من وقف بعرفة فقد انتهى حجه.
قال: [ والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع؛ لأن الأصل في الرمل والاضطباع أمر الجلد -يعني: القوة- ولا يقصد في ذلك النساء؛ ولأن النساء يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرُّض للانكشاف ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر