إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [12]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لعن الله الذين يكتمون العلم الذي أنزله في كتابه، ولعن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، وأعظم العلم: لا إله إلا الله والكفر بها هو أظلم الظلم وأجهل الجهل، ففي ما خلق الله آيات ودلائل تدل على أنه الإله الحق الواحد، لكن الذين كفروا صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى..)

    الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا لقاء مبارك نستكمل ونستأنف فيه ما كنا قد تكلمنا عنه في سورة البقرة، وانتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جلا وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

    أما اليوم فسنبدأ بقول الله جلا وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] .

    قال أهل العلم رحمهم الله في بيان هذا: أصل سبب نزول الآية أن نفراً من الصحابة ذهبوا إلى أحبار يهود يسألونهم عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عنه صلوات الله وسلامة عليه في التوراة، وكان أولئك الأحبار يعلمون ذلك جيداً، قال الله جلا وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أولئك الأحبار كتموا ذلك العلم الذي علمهم الله جلا وعلا إياه وأبانه لهم جلا وعلا في التوراة فأنزل الله قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، ولذا ذهب بعض العلماء إن المقصود بالكتاب هنا: التوراة، والصواب أن يقال: إن أولها عن التوراة وآخرها في القرآن، وليست الآية محصورة في فرقة بعينها، فكل من كتم علماً دخل في الوعيد الذي تتضمنه الآية، والأصل في ذلك أن الله جلا وعلا أحيا الناس وأحيا قلوبهم بالعلم الشرعي، فإذا أوتي أحد علماً شرعياً فبخل به على الناس وكتمه فإنما تسبب في موت الناس وإفسادهم، وهذا مستحق للعنة.

    واللعن عند العرب هو الطرد والإبعاد، لكنه في عرف الشرع الإبعاد عن رحمة الله، وعند العرب كان كل شيء يدعو إلى الوصف بالقبيح يسمى لعناً فكانوا يخاطبون ملوكهم ووجهائهم بقولهم: أبيت اللعن أي: لا تفعلوا فعلاً تستحقوا عليه اللعن، وإنما أنت تفر عن كل سبب موجب لذنبك وقدحك وشينك.

    ويوجد فرق بين لعنة الله وبين ما يعير به الناس من باب العرف والتقاليد، فليس ذلك كما يعيرون به من باب الشرع.

    كتمان العلم من أعظم الإفساد في الأرض؛ ولهذا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو راوية الإسلام الأول لما كان يكثر من نقل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في عصره جيل لا يعرفونه حق المعرفة وقالوا: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه: (تقولون: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم! الله الموعد -أي: القيامة بيني وبينكم- وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً بشيء أبداً) ثم تلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] .

    ثم تأمل سنن الله جلا وعلا في خلقه كيف تتقابل على التالي:

    العالم الذي ينشر علمه ويدعو إلى الخير ويعرف الناس بربهم تبارك وتعالى يصلي عليه كل أحد، ويستغفر له حتى الحوت في بحره، ومقابل هذا من أوتي علماً وكتمه ولم يبينه للناس وأوقع الناس في ضلال مبين دون أن يسعى في إخراجهم مما هم فيه فهذا يلعن قال الله جلا وعلا:أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] ، وكلمة اللاعنون عامة ولم تحدد.

    وذكر بعض العلماء كما في طريقة الشنقيطي في التفسير أن ما بعدها أن الله تفسرها قال: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، لكن الصواب أن يقال: كل من يتضرر من كتمان العلم هو مندرج في لعن من كتم ذلك العلم، هذا في ظني أصوب ما يمكن أن يقال في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا..)

    إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160] .

    هنا ثلاثة أفعال كلها واقع في صلة الموصول: تابوا وأصلحوا وبينوا، تابوا بمعنى: أقلعوا عن الذنب الذي هو هنا الكتمان، وأصلحوا: عزموا على أن لا يعودوا إليه مرة أخرى، وبينوا: أظهروا ما كانوا قد كتموه من العلم.

    فإذا فعلوا ذلك فإن الرب جلا جلاله بسعة رحمته وعظيم فضله يقول:فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا..)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] ، قول ربنا: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] هذا قيد لا ينبغي اطراحه، فاللعنة لا تكون لازمة لأحد ولو كان متلبساً بالكفر حتى يموت على الكفر؛ لأن الله قال في قيده وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] لكن هذا لا يعني أنه لا يجوز لعنهم وهم أحياء، والفرق بين الأمرين أننا لا نقول: نحن يائسون من إيمانه أو أننا نحكم عليه بأنه مطرود من رحمة الله حتى يموت على الكفر.

    أما اللعنة العارضة فقد قال السلف كما روى مالك في الموطأ عن أحدهم: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، وقد قال البعض إن هذا من حيث العموم لا من حيث التعيين، وللحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كلام في الفتح دقيق في هذه المسألة، وهو أن الأصل أن من جاز قتاله جاز لعنه، فلعنه من باب طرده وإبعاده لا بأس به، أما الحكم عليه بأنه في النار من معنى اللعن العام بأن الله قد طرده من رحمته وأقصاه من جنته فهذا لا يحكم به عليه حتى يموت وهو كافر، وهو معنى قول الله جلا وعلا: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] .

    ومما يدل على صحة هذا الرأي قوله بعدها: (خالدين فيها)، فهذا الخلود لا يكون إلا بعد الموت على الكفر، لكن قد تكون هناك لعنة دون اللعنة العامة الكبيرة وهي الطرد من رحمة الله، والنبي صلى الله عليه وسلم غلظ في مسألة اللعن وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة) ، ولما صلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الاستسقاء ثم حذرهم ووعظهم بعدها أمر النساء أن يتصدقن، وقال لهن: (إنكن أكثر أهل النار! قلن: يا رسول الله! بم ذاك؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) ، فقوله عليه الصلاة والسلام تكثرن اللعن: دليل على أن الإكثار من اللعن من أسباب سخط الله جلا وعلا وعذابه أعاذنا وإياكم منه! والعاقل لا يعود نفسه على اللعن.

    خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] ينظرون هنا: بمعنى يمهلون؛ لأنه دائم، والإمهال كان في الدنيا وقد فات بموتهم على الكفر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد..)

    قال الله جلا وعلا: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] لما حذر الله جلا وعلا من كتمان العلم ذكر الله جلا وعلا أعظم علم ينبغي أن يظهر للناس وهو توحيده جلا جلاله، والتعريف به تبارك وتعالى، فقال معرفاً بذاته العلية مبيناً أعظم علم ينبغي أن ينشر: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقد مر معنى تفسير: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] في سورة الفاتحة، وقوله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163] كلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها كان الحساب والعرض، ومن أجلها يحشر العباد، ومن أجلها جرد محمد وأصحابه سيوف الجهاد، ومن أجلها أقيمت الحجج والبراهين، ومن أجلها تنصب الموازين يوم القيامة.

    قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اله دخل الجنة)، أولها نفي وآخرها إثبات، أولها جحود وآخرها إقرار، ويروى عن بعض المتصوفة ممن علق به شيء من التصوف كـالشبلي رحمه الله كان يقول: لا أقولها ويقول: الله، ويقول: أخشى أن أبدأ بالجحود فأموت دون أن أصل إلى الإقرار، يعني: أخاف أن أبدأ بالجحود فأقول: لا إله ثم أموت قبل أن أقول: إلا الله، وهذا ورع مذموم، قال القرطبي رحمه الله معلقاً على كلامه هذا: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة؛ لأن الله جلا وعلا تعبدنا بهذه الكلمة، وذكرها مراراً في كتابه العظيم، ووعد عليها الثواب العظيم، والله أرأف وأرحم وأعدل من أن عبداً أراد أن يقول: لا إله إلا الله وهو مؤمن بها قائم بالعمل بها عارف بلوازمها فقال: لا إله وأدركه الموت، فهذا من أهل الجنة قطعاً، فالله جلا وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل لكن كما قال القرطبي رحمه الله عنهم: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة، وأي علم تريد أن يثبت نبش عنه، وكثير من الأشياء لا تغرنك بادي الرأي فتزدلف إليها، وأنا أكثرت من القول في الشيعة، فهم يأتون مثلاً لمقتل الحسين بن علي وهو مصيبة ويقولون: أي قلوب قاسية لكم، أنتم تبكون على موت أبنائكم وآبائكم وأمهاتكم، فكيف لا تبكون بموت سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويضعه على فخذه، ثم يقتل وهو صائم، ويفصل رأسه عن جسده، ثم يقدم قرباناً للسلاطين والأمراء؟! هذا القول من أوله يستعطفك وقد يأسرك، فنقول: إن موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من موت الحسين ، ومقتل علي رضي الله عنه وأرضاه والد الحسين أعظم من مقتل الحسين نفسه، لكن الله جلا وعلا ما تعبدنا بمثل هذه الصنائع قرباناً له، ونحن نعلم أن قتلة الحسين فجرة ظلمة فسقة، اقترفوا إثماً عظيماً لكن ليس التعبير العلمي والصنيع الحقيقي أن نصنع كما يصنع الشيعة في كل عام، نظهر المآسي والمآتم والحزن على وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان في وفاته عبر وعظات لكل أحد، فإنه كم من شخص يتلبس بالحق وينادي إليه ويزمجر به على المنابر، وكل الذي يدعو إليه عين الباطل!

    فالذي قتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر ويقول: الله أكبر وهو يقتل الحسين سبط رسول الله صلوات الله وسلامه عليه! يقول أحد علماء السنة آنذاك:

    جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا

    وكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا

    قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا

    و يكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا

    من هنا تعلم ما هو العلم؟ هو نور يقذفه الله في القلب، فتكون على بينة من هدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتسير به إلى رحمة علام الغيوب، الإنسان تأتيه الشبهات فيجتنبها بالعلم، ويمشي واثق الخطوة، رافع الرأس، ثابت القدم، متوكل على الله، لا تغره الشبهات، ولا تأسره الشهوات، وهذا إذا اجتمع مع علمه إيمان بالرب تبارك وتعالى.

    قال الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] جاء في الأثر من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2])، وقوله جلا وعلا: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ، ونحن نعلم أن الآثار دلت على أن لله جلا وعلا اسماً أعظم، لكننا نجهل هذا الاسم، وهذا الاسم إذا دعي به الله أجاب وإذا سئل به أعطي، والله جلا وعلا أخفاه، وبعض العلماء ذهب إلى أنه الحي القيوم، وبعضهم ذهب إلى أنه لفظ الجلالة، وبعضهم ذهب إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، وبعضهم قال: هو الحي مع الله لا إله إلا هو، واستشهد بآية غافر: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65]، فاختلفت فيه أقوال العلماء، وكل منهم ضرب بعطن في ناحية بعينها، لكن المقصود أن يعلم الإنسان أن لله اسماً أعظم، ووجهاً أكرم، وعطية جزلى، وحجة بالغة، وقوة لا تقهر، ووعداً لا يخلف، وجنداً لا يهزم، فنسأل الله جلا وعلا بأسمائه وصفاته جملة أن يدخلنا الجنة ويجيرنا من النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض..)

    في الآية الأولى قال الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] إخبار، أما الآية التي بعدها فهي دلائل اعتبار، وذكر تفاصيل ما يدل على عظمة الواحد القهار قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، العقل مناط التكليف، وتمر عليه ثلاثة أحوال حال عارضة، وحال مؤقتة، وحال مستديمة.

    الحال العارضة: النوم فيرتفع قلم التكليف، والحال المستديمة: الجنون فيرتفع حال التكليف، والحال المؤقتة: الصغر فيرتفع حال التكليف إلى أن يكبر، والعناية بالعقل وجعله مناط التكليف دليل عظيم على عناية الإسلام بهذا العقل.

    والعقل مكتشف للدليل، وليس منشئاً له، ففي هذه الآيات ذكر الله دلائل الاعتبار على الزمن على قدرة الله الواحد القهار فقال جل شأنه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ، وخلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة والبراهين على قدرة الله، قال الله في سورة غافر: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

    (واختلاف الليل والنهار) الله جل وعلا يولج هذا في هذا.

    (والفلك) أي: السفن (التي تجري في البحر بما ينفع الناس) تسخير من الله جلا وعلا، والعلماء تكلموا في البحر كثيراً، ومن أشهر من ركبه من الأنبياء نوح وموسى ويونس، وقد فصلنا هذا القول في دروس مضت.

    وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164]، تصريف الرياح تكون أحياناً بينة، وتكون أحياناً عاصفة، وتكون أحياناً حارة، وتكون أحياناً باردة، وتكون أحياناً عذاباً، وتكون أحياناً نصراً، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، وتكون أحياناً ملقحة، وتكون أحياناً عقيمة، هذا كله تصريف للرياح، ولا يقدر عليه إلا اللهوَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ، نحن نعلم قطعاً أن الماء ينزل من السحاب، لكن يوجد قول للعلماء أن المطر ليس من السحاب، وإنما السحاب غربال وأمارة على نزول المطر، والمطر ينزل من السماء ويمر عبر هذا الغربال الذي هو السحاب، ثم ينزل للناس، وهذا القول وإن قال به أفراد قليلون إلا أنه موجود، وقالوا: تجتمع فيه الآية؛ لأن الله قال:وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164] ، قالوا: لو كان الماء ينزل من السحاب لما كانت هناك حاجة لأن يعيد الله جلا وعلا قوله: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164] ، وهذا أظنه منقول عن كعب الأحبار ، لكنه رأي مرجوح جداً جداً، والذي عليه العلماء كافة خاصة في القرون المتأخرة ما دل عليه العلم الحديث أنه من السحاب الذي في السماء، لكنني ذكرته حتى لا تفاجأ به إذا قرأته في كتاب، وأذكر أنني سمعته قبل ثلاثين سنة من أحد العلماء؛ فذهلت بمجرد سماعه، ولو أنه رحمه الله قالها تفصيلاً كما حررنها لكم، وهو لا يجهل هذا، ثم مع الأيام تبين مقصده غفر الله له ورحمه.

    قوله تعالى: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله..)

    بعد أن ذكر الله أدلة الاعتبار ذكر الله جلا وعلا اختلاف الناس في ربهم، فذكر مسألة محبة الله جلا وعلا وتعظيمه وهي لب الدين، فقال جل ذكره: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165] .

    للعلماء وجهان في تخريج الآية:

    التخريج الأول: أن هؤلاء المشركين يحبون أصنامهم كحب المسلمين لربهم.

    التخريج الثاني: أن هؤلاء المشركين يحبون ربهم ويحبون أندادهم كحبهم لربهم، وهذا التخريج الثاني تدل عليه آية الشعراء، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] .

    وأياً كان المقصود بالمعنى فقد قال الله بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، وهؤلاء المؤمنون لما كان محبوبهم وهو الله ليس له مثيل كان حبهم لله لا يعدل حبهم لأي شيء آخر؛ لأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ومنزلة محبة الله جلا وعلا من أعظم المنازل التي يعطاها العبد؛ لأنها مع الرجاء والخوف هي مدارك الدين كله، ومن رحمة الله جلا وعلا بك أن يجعل قلبك وعاء لحبه تبارك وتعالى، قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].

    ثم قال:وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] في الدنيا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] أي في الآخرة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [ البقرة:165].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا..)

    قاله الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167] .

    معناها ظاهر ولا تحتاج إلى شرح، رؤساء لهم أتباع فيوم القيامة يتبرأ الرؤساء من الأتباع، لكن نقف عند قوله: (لو) و(لولا) إذا كان يوم القيامة يرى المؤمن مقعده من النار الذي نجاه الله منه وهو في الجنة قال الله عنهم: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] لاحظ (لولا) تقترن بأهل الإيمان، أما الكفار تقترن بهم (لو) ما الفرق؟

    لولا: حرف امتناع لوجود، أما لو: حرف امتناع لامتناع، كيف أطبق هذا على هذه الآية وسائر الآيات؟

    المؤمن وهو في الجنة إذا رأى مقعده من النار الذي نجاه الله منه يقول: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، السؤال: هل حصلت هداية الله؟ نعم حصلت، فامتنع بحصولها وجود المقعد الذي في النار، فهذا معنى قولنا: حرف امتناع لوجود، الموجود حصول الهداية والرحمة من الله، فهذه الرحمة والهداية من الله لك منعت أن تكون في ذلك المقعد الذي هو في النار.

    على النقيض من ذلك يرى أهل النار مقعدهم في الجنة الذين حرموا منه، فيقولون: لو، وقال الله عنهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] ، وهنا يقول الله: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، ولا توجد كرة.

    إذا رأى الكافر مقعده من الجنة يقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي [الزمر:57] ، هل هداه الله؟ لم يهده الله، فامتنع الأول، فامتنع جواب الشرط، امتنع تحقق أن ينال ذلك المنزل الذي يراه في الجنة، وهذا كافي بأن تتعظ به القلوب، هل تكون ممن يقول: لولا أن هداني الله، أو تقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] هذا هو الفرق بين لو ولولا، لولا: حرف امتناع لوجود، ولو: حرف امتناع لامتناع.

    والمقصود من ذلك: أن من أراد الله له الرحمة في الآخرة سيرحمه في الدنيا بتوفيقه للأسباب المعينة على طاعة الله، ومن لم يرد الله له الرحمة في الآخرة لن يوفق للهداية في الدنيا حتى يصل إليها.

    قال الله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] ، يجب أن يخلد في قلوبنا أن كل سبب يوم القيامة منقطع إلا سبباً واحداً وهو ما كان بين العبد وربه، وهو سبب العبودية المحضة، هذا هو السبب الواحد الذي يبقى يوم القيامة.

    قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ [البقرة:167] معنى (يريهم الله أعمالهم): يريهم الله الأعمال التي تكون سبباً في نجاتهم لو أنهم سمعوها وفعلوها وآتوها، فإذا رأوها ماثلة أمام أعينهم يوم القيامة تحسروا على أنهم لم يفعلوها؛ لأنهم لو فعلوها لنجوا مما هم فيهم.

    كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] ، ولو كانت تلك الحسرة إلى أمد تنتهي ويقضى الأمر لهان لكن الله قال بعد ذلك يذكر خلودهم وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض..)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168] ، سمي الحلال حلالاً من حِلال عقدة الحاضر عنه يعني: عقدة المنع، وكلمة (حلالاً) بيان للحكم الشرعي، وكلمة (طيباً) إظهار لعلة الحكم الشرعي.

    وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، عدو مبين بمعنى: عدو ظاهر، فمبين اسم فاعل لكنها من أبان اللازمة غير المتعدية.

    والفعل أبان يأتي لازماً لا يحتاج إلى مفعول، ويكون بمعنى ظهر، وتأتي أبان بمعنى أظهر فتقول أبنته لك تعدى إلى مفعولين، أما أن تظهر أنت فتقول: بان فلان على الشاشة أي: ظهر، وهنا الفعل اللازم وليس من المتعدي؛ لأن الشيطان لن يظهر عداوته لنا، وإنما يتلبس ويوسوس، لكن كيف عرفنا أنه عدو؟ لأن الله جلا وعلا فضحه وأظهر عداوته، فالشيطان عدو لكنه لا يظهر لنا عداوته، وإنما يأتينا متلبساً عن طريق الوسوسة مقرباً لنا مقاسما إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] إلى غير ذلك.

    لكن الله جلا وعلا فضحه وكشف عداوته لنا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء..)

    قال الله تعالى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ [البقرة:169] أسلوب حصر بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [ البقرة:169] ، فلا يأمر الشيطان بشيء فيه نفع لنا البتة.

    ولهذا قال الله: إِنَّمَا [البقرة:169] أسلوب حصر إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] ، ولم يذكر الله هنا ما القول على الله بلا علم الذي دعانا إليه الشيطان، لكن جاء بيانها في آيات أخر أعظمها أن الشيطان دعاهم إلى أن يفتروا ويزعموا الله الولد، وأن يحرموا ما أحل الله لهم من الطيبات كما قالوا: خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139] إلى غير ذلك مما حرموه، ونسبوه إلى الله جلا وعلا افتراء عليه، ذلك الذي لقنهم الشيطان إياه فهو مندرج في بيان قول الله جلا وعلا: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله..)

    قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] .

    الله عظم العقل، والمشركون تركوا عقولهم فلم يستفيدوا منها، فمن لم يستفد من جارحة أعطاه الله إياها فكأنه لم يعطاها، ولهذا وصفهم الله بأنهم صم رغم أنهم يسمعون، ووصفهم بأنهم بكم رغم أنهم يتكلمون، ووصفهم بأنهم عمي رغم أنهم يبصرون؛ لأن تلك الجوارح لم يستفيدوا منها الاستفادة التي أرادها ربهم تبارك وتعالى.

    هنا يقول الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا [البقرة:170] أي: النبي صلى الله عليه وسلم مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] هذا استفهام تعجب.

    والمعنى: على أي حال يصلون بها إلى أن يدعوا عقولهم بلا عمل فيعرضوا عن دعوة الإسلام، ويبقوا على عبادة الأصنام، ملتزمين هدي من سبقهم ولو كان من سبقهم على ضلالة وعياً وبعداً عن الله جلا وعلا، وهذا يحمل التوبيخ مع الإنكار.

    قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] ، اختلف العلماء في معنى (لو) هنا اختلافاً واسعاً، فقال بعض العلماء: هي بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط، وقال آخرون بغير ذلك، لكن القول بأنها لا تحتمل معنى الشرط هو الأفضل والأولى التي لا تحتاج إلى جواب.

    وقال البيضاوي قولاً ليس له فيه سلف، محتجاً ببيت لـرؤبة بن العجاج :

    قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيراً معدماً قالت وإن

    لكن القول الأول -وهو أنها بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط- هو الذي عليه أكثر أهل العلم، والعلم عند الله جلا وعلا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق..)

    قال الله جلا وعلا يبين حال أهل الإشراك: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] .

    هذا تشبيه حالة الكافر بحالة راع الضأن ينادي عليها، فهي من حيث سماعها النداء تسمع، لكن من حيث تدبرها لما يقال لها لا تعي، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويرشدهم فهم حال سماعه كحال الضأن تسمع ما تنادى به، وهم يسمعون القرآن والآيات إلا أنهم لا ينتفعون كما أن الضأن لا تفقه كلام الراعي، هذا تخريج.

    وبعض العلماء يقول: ليس المقصود هذا، وإنما المقصود حال المشركين مع أصنامهم عندما ينادونها، فإنها لا تسمع منهم شيئاً، ولا تعي ما يقولون صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] ، لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] ، فأثبت السمع، ومعلوم قطعاً أن الأصنام لا يمكن لها أن تسمع، فجعل المثل مثلاً لأهل الإشراك -وهو تشبيه تمثيلي- أفضل من جعله مثالاً للأصنام.

    يعني: حال كونهم هم يسمون النداء ولا يفقهون شيئاً مما يقال لهم أولى من حمل التشبيه على الأصنام وأنها تنادى ولا تعي ما تنادى به؛ لأن الله أثبت هنا السمع والأصنام قطعاً لا تسمع شيئاً مما تنادى به فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] .

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، والله الموفق لكل خير.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756381722