إسلام ويب

سلسلة لطائف المعارف [أصُول الخطايا]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكبر والحرص والحسد أصول الخطايا، فإبليس لعنه الله امتنع عن السجود لآدم وعصى بذلك ربه بسبب الكبر، وآدم عليه السلام أكل من الشجرة وعصى ربه بسبب الحرص وقتل قابيل هابيل بسبب الحسد، فما أقبحها من أصول، وما أنتنها من مبادئ!

    1.   

    التعريف بأصول الخطايا

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن هذا اللقاء من لقاءات لطائف المعارف يحمل عنوان: أصول الخطايا.

    ونحن نعلم يقيناً أن الإنسان ما حمل على كاهله شيئاً أعظم من ذنبه؛ لأن الذنوب أسباب الهلاك قال الله جل وعلا: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] .

    وقال قتادة حمه الله: وبلغنا أنه ما خدشة عود ولا تعثر قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر. لذلك فإن البحث في أصول الخطايا من أعظم ما يعين العبد على تجنبها، والعلماء استقصوا الأدلة والآثار الثابتة في الكتاب والسنة فوجدوا أن هناك أصولاً للخطايا يمكن جمعها في ثلاث: الكبر والحرص والحسد، وقالوا في بيان هذا إجمالاً: إن الكبر به عصى إبليس ربه، فكان أول ذنب عصي الله جل وعلا به يوم أن امتنع إبليس عن السجود لآدم، وكان ذلك بسبب الكبر، قال الله جل وعلا يحكي هذا الأمر: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، فإبليس هنا يكبر بكبره وعلوه، ويترفع بعنصره على السجود لآدم، كما أن الحرص بعد ذلك كان سبباً في إخراج أبينا آدم من الجنة، فإن إبليس جاء لآدم: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] مع أن الله جل وعلا أباح لآدم الجنة كلها، لكن الله جل وعلا استثنى تلك الشجرة أن يأكل منها آدم، فجاء إبليس يقسم له وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] قال الله: فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، فحرص آدم عليه السلام على أن يجمع كل ما في الجنة كان سبباً -بقدر الله وبحكمته جل وعلا- في إخراج أبينا عليه السلام من الجنة. ثم تاب الله عليه كما بين الله ذلك صريحاً في كتابه.

    الثالث: الحسد، والعلماء استنبطوا أن الحسد من أصول الخطايا؛ لأنه يدفع بعد ذلك إلى الآثام القولية والفعلية، وجعلوا قتل قابيل لأخيه هابيل دليلاً على ذلك، فإن الله جل وعلا قال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] قال أهل العلم: إن الذي أنبت الغل والشحناء في قلب قابيل هو حسده لأخيه لما تقبل الله جل وعلا منه قربانه ولم يتقبل منه ما تقدم به من قربان، وما رد الله قربان قابيل إلا لسوء في نفسه، فهو قد اختار أردى ما يملك، بخلاف هابيل الذي اختار أحسن ما يملك، فجاءت النار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، هذا الحديث عن أصول الخطايا إجمالاً. أما التفصيل سيأتي.

    1.   

    الكبر من أصول الخطايا

    إن الكبر هو أول أصول الخطايا، ومنبته في القلب، وهو شعور الإنسان بالترفع.

    وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: الكبر على الله، ولا ريب أن هذا هو الكفر المحض، بل هو أرفع درجات الكفر، وليس في درجات الكفر رفيع، لكن من باب التصنيف.

    هذا الكبر ضرب الله فيه مثلاً على لسان النمرود لما قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، وعلى لسان فرعون لما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فهذان مثالان ذكرهما الله جل وعلا في كتابه الكريم لشخصيتين تأريخيتين كفرتا بالله، وكان كفرهما مرده إلى الكبر، كما قال فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، وهذا كما قلنا أعظم أنواع الكبر، وهو عين الكفر المحض، وأعظم ما عصي الله جل وعلا به.

    النوع الثاني: كبر على الرسل، وهذا كان شائعاً ذائعاً في سائر الأمم، وقد تناقلته الأمم ولو من غير أن يشعروا، وحتى لو لم يكن هناك اتصال حضاري بين تلك الأمم ولقد دل القرآن على أن ذلك القول كان ديدن كثير من الأمم في ردها لرسلها، قال الله جل وعلا مثلاً عن قوم فرعون أنهم قالوا في حق موسى وهارون: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، ورغم أنه لا يوجد دليل على اتصال حضاري ما بين الحضارة الفرعونية القبطية القديمة وما بين الحضارة في جزيرة العرب إلا أن القرشيين في صدهم لنبينا صلى الله عليه وسلم قالوا نفس المقولة، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] ، فهم ازدروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أهل لأن يستحق النبوة والرسالة، فأخذوا يقولون ما تمليه عليه أفكارهم وآراءهم المنبثقة من كبر في صدورهم، وأبو جهل صور هذا أعظم تصوير يوم أن قال: كنا وبني هاشم كفرسي رهان: أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا جثونا على الركب قالوا: منا نبي، فإن أطعناهم كيف لنا بعد ذلك أن نلحق بهم؟

    فالقضية قضية كبر في قلوبهم، والله جل وعلا قال: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]. ويجتمع النوع الأول والنوع الثاني من الكبر أن كليهما كفر محض، ولا يمكن التروي في قضية الحكم عليهما بالكفر؛ لأن الأمور إذا كانت جلية واضحة ذات حقائق بينة فليس هناك مدعاة للتروي. وما يروى في هذا أن إياس القاضي الشهير بذكائه عوتب ذات مرة أن فيه شيئاً من العجلة، لكنه كان يعتمد على أمور يراها بغير ما يراها الناس، فلما أكثر عليه اللائمون قال لأحد من يحضرون مجلسه: كم عدد أصابع ي0دك؟ فقال الرجل مباشرة وهو يجيب: خمس، فقال له إياس : لماذا أجبت عاجلاً ولم تترو؟ قال: سبحان الله، من يجهل أن أصابع يده خمس؟ فقال إياس محتجاً بهذا الجواب على هذا الرجل: فكذلك أنا .. ثمة أمور واضحة جلية لا أحتاج فيها إلى تأمل وترو.

    الثالث: الكبر على الناس، وهو درجات, قد يصل أحياناً إلى الكفر المحض، وقد لا يصل، وهو الغالب. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فظلم الناس وازدراؤهم ومنعهم حقهم نوع من الكبر، ورد الحق نوع من الكبر، والله جل وعلا يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، فلو لم يكن في الكبر من آفة ومن عواقب وخيمة أعظم من أن يصرف العبد عن آيات الله والتأمل فيها لكفى بذلك عقوبة وخسراناً، أعوذ بالله من ذلك كله.

    من طريف ما يروى في هذا المقام .. وهو طريف من جهة أن الحجاج قاله، وغير طريف في أنها عبارات قاسية جداً تنم عن جفاء وكبر، هذا الخبر مفاده أن الحجاج بن يوسف قال قبل أن يدخل الكوفة أو بعد أن دخلها: ثمة رجال أربعة لو أدركتهم لقتلتهم للكبر الذي في أنفسهم -وقائل هذا الحجاج ولهذا قلت: أن هذا الموضوع من هذا الجانب طريف- قيل له: من أيها الأمير؟ قال: إن أحدهم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة، فقال له أحد الحاضرين: كثر الله من أمثالك -أي: عجباً وفرحاً وإعجاباً بخطبة هذا الرجل- فقال: لقد كلفت ربك شططاً، كأنه يقول: صعب على الله أن يخلق مثلي. وهذا والعياذ بالله كفر محض.

    وآخر جاءته امرأة وهو واقف على قارعة الطريق، وقد أضلت طريقها فجاءت تسأله -قبل أن تسأله كانت لا تعرفه وإن كان وجيهاً في قومه سيداً في رهطه- قالت له: يا عبد الله أين طريق كذا وكذا؟! قال: ألمثلي يقال: يا عبد الله؟! فهو استكبر أن ينادى بهذا اللفظ مع أن الناس كلهم عبيد مقهورون لله من حيث الجملة، يقول الله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وحتى من يستنكف أن يكون عبداً لله هو عبد لله شاء أم أبى، قال الله جل وعلا: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95] .

    آخر من ذكره الحجاج رجل ضاعت له ناقة، فأقسم بالله من جفائه وكفره وكبره لو لم يرد الله عليه ضالته ألا يصلي ولا يصوم، كأن الله محتاج إلى طاعته وعبادته. وهذه فتنة من الله له، ولما رد الله جل وعلا له ناقته التي ضلت، قال: لقد علم ربي أن يميني كانت عزماً، وهذا كفر محض. وقد يتعجب المرء إذا سمع مثل هذا، فالنفس جبلت على الكبر وجبلت على التواضع، الله يقول: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، فإذا كان المرء المؤمن ملجم بلجام التقوى تمنعه التقوى أن يقول ما يريده، وإن خلى الإنسان من التقوى ولم يبق القلب يخشى الله ولا يخاف مقامه جل وعلا أطلق لنفسه العنان في أن يقول ويفعل ما يريد.

    1.   

    الحرص من أصول الخطايا

    أما الحرص فإن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) .

    فالإنسان إذا علم يقيناً أن ما كتبه الله له سيأتيه على ضعفه، وما لم يكتبه الله له لن يناله بقوته، إذا علم هذا يقيناً اطمأنت نفسه وقل الحرص عنده، لأن الحرص أحياناً يكون مدعاة للآثام. ولهذا عد الحرص أصلاً من أصول الخطايا؛ لأن الإنسان إذا كان حريصاً على قضاء شهوته قد يزني، وإذا كان حريصاً على زيادة ثروته قد يسرق، وإذا كان حريصاً على زيادة نفوذه قد يظلم، فهذا معنى قولهم: إن الحرص أصل من أصول الخطايا، وأحياناً قد يصل الحرص بصاحبه إلى أن يجمع شيئاً من غير حله فيقع في المهالك، ولهذا قال العلماء: إن الحرص أصل من أصول الخطايا، وأبونا آدم -كما بينا- حرص على أن يأكل من الشجرة لما قال له إبليس: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] فكان ذلك سبباً في أن يفقدها بالكلية إلى حين، ويخرج منها لكنه قطعاً سيعود، فهو نبي مكلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

    1.   

    الحسد من أصول الخطايا

    الحسد بسببه حسد إخوة يوسف أخاهم يوسف، ونالهم ما نالهم حتى جعلهم الله بين يدي يوسف أذلة وهم يقولون له: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91].

    الغاية من هذا الإجمال كله: أن نعلم أن الكبر والحرص والحسد أصول الخطايا. أعاننا الله على البعد عنها والنأي منها.

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده. وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755922457