إسلام ويب

مع سورة (ق)للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة (ق) من أعظم السور التي تؤثر في القلب، وتنقل الإنسان إلى معايشة أحداث الآخرة مما يدفعه إلى المسارعة في الصالحات، والمبادرة إلى عمل الخيرات، والإقلاع عن المنكرات..

    1.   

    القرآن العظيم يرد على المشركين ويوبخهم

    الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الخلق بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

    فإن سورة (ق) سورة مكية النزول، وطالما قرأها وتلاها وبين أسرارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعته على منبره حتى حفظ بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلوات الله وسلامه عليه.

    ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه، فإنه حري بكل من رغب في اتباع السنة والتماس الهدي النبوي أن يشرع بين الحين والآخر في ذكر ما في هذه السورة من عظيم الآيات وجلائل العظات وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده.

    أيها المؤمنون! لا أحد أعلم بالله من الله تبارك وتعالى، ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى، ولهذا أقسم الله جل وعلا في هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] .

    وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً، وعلى منهاج محمد صلى الله عليه وسلم مستقيماً، لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن.

    فبالقرآن يجاهد المؤمن، قال الله جل وعلا: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52] .

    وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] .

    وبالقرآن يخوف من عصى الله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] .

    جعله الله جل وعلا شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44] .

    والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي آتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم.

    ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه، فقالوا مستكبرين كما قال الله جل وعلا: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق:2] .

    وهذه العلة في الرد هي العلة التي ذكرتها الأمم من قبل، فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسلهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً.

    فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قدر أن ينزل الله جل وعلا ملكاً لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم.

    ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث بأمانته وعفافه وطهره صلوات الله وسلامه عليه، تعرف منشأه ومدخله ومخرجه، فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه، بل الأمر رحمة محضة يضعها الله جل وعلا حيث يشاء، قال جل ذكره: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] فقال تبارك وتعالى مجيباً لهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32] .

    فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته ومشيئته أن يكون محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين، ولله جل وعلا الحكمة البالغة والمشيئة النافذة.

    بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:2] وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة، وأعظم ما اعترضوا به إنكارهم للبعث والنشور، وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت كيف سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور، فقالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] .

    فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] .

    قال صلوات الله وسلامه عليه: (كل جسد ابن آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب) .

    أجساد الشهداء، وأجساد حفاظ القرآن، وأجساد الصالحين، وأجساد غيرهم من الخلق أجمعين كلها تبلى إلا أجساد الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي، قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) .

    فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح، وبقي غيرها من الأجساد عرضة للبلاء والذهاب كما أخبر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه، وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.

    قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] ذلكم هو اللوح المحفوظ.

    فقوله: (حَفِيظٌ) أي: محفوظ لا يتغير ولا يتبدل، فهو حفيظ لا يشذ عنه شيء، حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب تبارك وتعالى، فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى.

    1.   

    جليل صنائع الله وعظيم خلقه

    ثم ذكر جل شأنه بعضاً من عظيم خلقه وجلائل صنائعه، فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى.

    ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله، فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى.

    قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] .

    فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق، وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه، وما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره، وذلك المخلوق فقير كل الفقر إلى الله والله جل وعلا غني كل الغنى عن كل مخلوق، خلق العرش وهو مستغن عن العرش، خلق حملة العرش وهو مستغن عن حملة العرش، خلق جبريل وميكال وإسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغن كل الغنى عنهم، وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى.

    اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] ، فحياته جل شأنه حياة كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وقوله جل وعلا: (الْقَيُّومُ) أي: قيوم السماوات والأرض، احتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

    1.   

    إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت

    ثم ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي كانت بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فإنهم اعترفوا أول الأمر بأن الله هو خالقهم ثم قالوا: إن الله غير قادر عن أن يبعثنا، فقال الله جل وعلا: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15] وهم موافقون على أننا قد خلقناهم أول مرة، لكن اللبس الذي في قلوبهم والشك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور.

    قال الله جل علا مجيباً العاص بن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفه ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه؟ قال الله مجيباً له: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:78-81] آمنا بالله الذي لا إله إلا هو.

    1.   

    قرب الله جل وعلا من عباده

    ثم قال جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] .

    وهذا قرب الله جل وعلا من عباده بملائكته، بذلكم الرقيبين اللذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال، الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر، والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر، ثم يلتقيان بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية، فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً من علانيته.

    قال الله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق:16-17] وهذا بيان للأول، أي: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد) حين يتلقى المتلقيان.

    إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18] تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرة الموت، وكلما تلفظ به مسطور مكتوب لا يغيب.

    1.   

    سكرات الموت

    قال الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أي: تفر، فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك.

    وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته، فكانت ابنته عائشة رضي الله عنها تردد قولاً قديماً لـحاتم طي:

    لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

    فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطائه وقال: يا بنية، لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] .

    وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد، فإذا خرجت سميت روحاً، وإذا بقيت ما زالت نفساً، وهي لحظات يواجهها كل أحد، ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا، فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله!

    ويشتد الموت على الأنبياء؛ لأن الموت مصيبة، والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين، وإن لم يبد ذلك ظاهراً للعيان لمن كان محيطاً بالميت؛ لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله به عليم، ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة، كما قال الله جل وعلا في فصلت: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] .

    وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [ق:20] أي: مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم، ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم.

    وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:21-22] فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا، فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم، وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات، وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين، يرى الإنسان ما كان يسمعه ويتلوه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم, وما أخبر به من الغيبيات ماثلاً بين عينيه، قال الحق جل شأنه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] .

    1.   

    جزاء المجرمين وجزاء المتقين

    وهنا يقول قرينه الذي وكل إليه من الشياطين: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23] فيكون الخطاب الرباني: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ق:24-26] .

    أيها المؤمنون! لا ذنب يلقى الله جل وعلا به أعظم من الشرك، فإنه ذنب لا يغفره الله أبداً.

    أما المؤمنون فإن أول عمل ينظر فيه ما كان بينهم وبين الله وهو الصلاة، فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

    وأول ما ينظر إليه مما بين الناس مسألة الدماء، فأول ما يقضى به بين الخلائق الدماء.

    ثم قال الله جل وعلا: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:31-32] المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] ينتابه الحزن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة وتنتابه أمور كثيرة ومطالب عظام، يدلف حيناً إلى الطاعات، ويقع أحياناً في المعاصي، ويستغفر ما بين هذا وذاك، يفقد أمواله، يفقد أولاده، إلى غير ذلك مما يشترك فيه أكثر الناس، فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا وييمم كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت، فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك، جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم.

    قال الله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا [ق:32] أي: الذي ترونه، مَا تُوعَدُونَ [ق:31-32] أي: ما كنتم توعدونه في الدنيا.

    لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32] أواب: دائم التوبة والإنابة والاستغفار لله جل وعلا، (حفيظ) لجوارحه أن تقع في الفواحش التي حرم الله من ما ظهر منها أو بطن.

    هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32] وذكر الله جل وعلا النار قبل ذلك وأنها يلقى فيها حتى تقول: قط قط، أي: يكفي يكفي، قال الله جل وعلا قبل ذلك: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30].

    وقوله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33] ما القول الذي يقال لهم؟ يقول لهم العلي الأعلى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:34] .

    والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا، ولأجل ذلك يذهب عنهم يوم القيامة.

    قال الله جل وعلا: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] وأعظم ما فسر به المزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى.

    اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    رد الله على اليهود

    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

    ثم قال جل ذكره: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:36-37] وإن من دلائل الاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية، فينظر إلى صنيع الله جل وعلا في من عصاه، ورحمته تبارك وتعالى بمن أطاعه واتبع هداه.

    زعمت اليهود أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيراً، فقال جل ذكره ممجداً نفسه ومادحاً ذاته العلية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] .

    ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعداؤه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:39] ولا بد للصبر من مطية، ألا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى، والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء، قال الله جل وعلا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39] .

    فدعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر - على القول بأن التسبيح هنا الصلاة - وقيل إنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله.

    ثم قال: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [ق:41] هذا نداء لكل من يقرأ القرآن، والمنادي هو إسرافيل عليه السلام، والمكان القريب بيت المقدس، سمي قريباً لأنه قريب من مكة، وهذه السورة نزلت في مكة، وليس بيت المقدس عن مكة ببعيد.

    وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:41-42] ينادي: أيتها العظام البالية، أيتها الأوصال المتقطعة، إن الله يدعوكن لفصل القضاء! فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين.

    إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ [ق:43-45] سواء جهروا به أو لم يجهروا، فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية، وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ، فقال الله جل وعلا له: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] عوداً على بدأ، فكما أقسم الله بقرآنه العظيم في بدابة السورة، ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا، وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة.

    جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم

    آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم

    فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.

    اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وارحمنا اللهم برحمتك معهم يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين.

    اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وأصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان.

    اللهم من روع أهل مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم فمكن منه واخذله يا رب العالمين، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.

    اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة.

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755941195