إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [15]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر، فيرونه في عرصات القيامة، ويرونه بعد دخولهم الجنة، وهذه الرؤية تعتبر أعظم نعيم لأهل الجنة.

    1.   

    مسائل الرؤية

    قال المصنف رحمه الله: [وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وكتبه وبملائكته وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس بها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم في عرصات يوم القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشـاء الله تعالى] .

    من الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله: الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى عياناً بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته. هذه الحروف هي من أحرف السنة النبوية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه -كما في الصحيحين عن أبي سعيد وأبي هريرة وجاء في غيرهما من أوجه أخرى- أنه قال: (إنكم سترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته).

    فالمصنف -وهذا من طريقته في رسالته، وهي طريقة محمودة- استعمل الأحرف النبوية في الجملة في هذا التعبير، وهذا مما يحسن أن يقصد إليه في تقرير العقيدة، أن تستعمل الأحرف المذكورة في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    فمن صفاته سبحانه وتعالى، أن المؤمنين يرونه في يوم القيامة، كما ذكر المصنف، أي: في عرصات القيامة، وهذا قبل دخولهم الجنة، ويرونه سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة، على ما يشاء الله، أي: على ما يشاء الله سبحانه وتعالى من التمكين لهم.

    الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

    رؤيته سبحانه وتعالى مجمع عليها بين السلف، ونطقت بها النصوص في كتاب والله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي مذكورة في القرآن في قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ومذكورة في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]وإن كان حرف الزيادة مجملاً إلا أنه بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث الصحيح صار من صريح أدلة أهل السنة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهو الزيادة، ثم تلا قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]).

    ومن دليل الرؤية في كتاب الله قوله سبحانه وتعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]فإن السلام إذا قرن بالتحية، وذكر اللقاء فإن اللقاء هنا يتضمن المشاهدة والإبصار، وهذا ما ذكره ثعلب من أئمة اللغة، أنه قال: أجمعوا على أن اللقاء إذا قرن بالتحية والسلام، فإنه يتضمن المشاهدة بالإبصار، ولهذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]هذا في الإنسان عامة، ولا يلزم أن تدل هذه الآية على أن غير المؤمنين يرونه، لأن اللقاء المذكور في عموم الإنسان لم يذكر فيه التحية والسلام.

    كذلك تواتر ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى إن عدة من روى حديث الرؤية من الصحابة يبلغ الثلاثين، وهي مخرجة في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، وحديث الرؤية متواتر ومتفق على قبوله بين أهل العلم بالحديث، وكذلك بإجماع السلف، وقد حكى الإجماع غير واحد منهم.

    فهذه المسألة من أصل مسائل الصفات، وأنكرها الجهمية والمعتزلة، فقالوا: إنه لا يرى.

    وجاء متأخرو الأشعرية، فقالوا: إنه يرى لا في جهة، وهذا قول ثالث، من شذوذ المتأخرين من الأشاعرة عن عامة المسلمين، وإن كان قول المعتزلة والجهمية شراً من قولهم، لكن فيه شذوذاً عن أئمتهم المتقدمين كـأبي الحسن الأشعري ، وعن عامة المسلمين قبلهم، حيث قالوا: يرى لا في جهة، وهذا من باب إثباتهم للرؤية مع نفيهم للعلو؛ فإن المتأخرين من الأشاعرة نفوا العلو وأثبتوا الرؤية فقالوا: يرى لا في جهة.

    وإن كانت هذه الجملة وهي قولهم: (يرى لا في جهة) قد يعبر بها من لا يقصد معناها من المتأخرين، فقد عبر بها بعض شراح الشافعية وبعض فقهائهم، حيث دخلت عليهم من أصحابهم المتكلمين، ولا يلزم أن يكون من نطق بها -كـالنووي مثلاً في شرحه على مسلم وأمثاله- ممن ينكر علو الله، فإن هذه الجملة استعملها أصحابها الأشاعرة، فظنوا أن تحقيق الإثبات للرؤية مع تنزيه الله لا يكون إلا بهذه الطريقة.

    إذاً إذا تكلم بهذا الحرف أو بهذه الجملة متكلموهم كـالرازي وأمثاله، فإنه يريد بها نفي العلو، وإذا تكلم بها فقهاؤهم وبعض حفاظهم المتأخرين، فلا يلزم أنهم يقصدون بها نفي العلو، وإنما ظنوها هي الطريقة المحققة عند أصحابهم.

    والنووي وأمثاله لم يكن على سعة في الاطلاع على تفاصيل أقوال المتقدمين في مثل هذه المسائل، ولم يتبين الفرق بين طريقة متأخري الأشاعرة ومتقدميهم، فضلاً عن الفرق بين طريقة الأشعرية وطريقة السلف الأول، فهذا القدر ينبغي أن يعنى به في تقرير أقوال أهل العلم من الفقهاء وشراح الحديث الذين وافقوا أصحابهم من المتكلمين الذين يشاركونهم إما في المذهب الفقهي أو في جمل من المذهب العقدي، وإن كانوا لا يقصدون إلى تحقيق أقوالهم في هذا الباب أو ذاك.

    فهذا ما يتعلق بأصل هذه المسألة وقدرها عند السلف، وأنها إجماع متواتر.

    وفي باب الرؤية ثلاث مسائل:

    رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

    هذه المسألة وهي أصلها وأشرفها، وهي: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون القمر وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته: أي لا يتكاثر بعضهم على بعض لانتزاع الرؤية، وقد مثل النبي -في حديث أبي رزين الذي رواه الإمام أحمد وغيره- برؤية الناس إلى القمر، فإن القمر جميع الناس يراه مخلياً به، ومع ذلك فإن الناس إذا أرادوا رؤية القمر أو رؤية البدر، لا يتدافعون إلى رؤيته مع أنه واحد وهم كثر؛ بل كل يراه على سعة من أمره.

    أدلة المعتزلة على نفي الرؤية

    في كتاب الله آيتان احتجت بهما المعتزلة ونفاة الرؤية، وهما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]وهذه الآية من أشهر حججهم على إنكار الرؤية، وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]فاحتجوا بهاتين الآيتين على إنكار رؤيته.

    الرد على استدلال المعتزلة

    الصواب: أن الآيتين ليس فيهما دليل على ذلك.

    وللرد على ذلك نقول: من المعروف في طرق النظر والمنطق: أن الدليل الذي يرد من المعارض إما أن يجاب بمنعه، وإما أن يجاب بنقضه، وإما أن يجاب بقلبه، إلى غير ذلك من الصور، وأقواها القلب، أي: قلب الدليل.

    وثمة قاعدة: أنه ما من دليل من العقل أو النقل يستدل به المعارض لمذهب أهل السنة والجماعة على قول من أقواله، إلا ويعلم أن هذا الدليل النقلي أو العقلي لا يدل على قوله، والعلم بعدم دلالة الدليل من النقل أو العقل على قول هذا المبتدع أو المخالف علم ضروري، ووجه كونه ضرورياً من جهة كون النقل -الكتاب والسنة- يمتنع أن يدل على الباطل، فإنه لو فرض جدلاً أن الدلالة ممكنة أو صحيحة للزم أن الباطل في هذه المسألة يلزم أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يمكن أن ينتزع وجهاً من كلام الله أو كلام رسوله.

    ولهذا -وهذا علم بدهي- كانت سائر الأدلة التي يستدل بها المخالف للحق من الكتاب والسنة لا تدل على كلامه لتعليل عقلي ضروري، وهو أن الحق -وهو النقل- لا يمكن أن يدل على الباطل، ولا يقتضيه، ولا يسوغه ولو على جهة الإمكان العامة.

    والعقل كذلك، فما من دليل عقلي يستدل به المخالف على قوله، إلا ويعلم أن هذا الدليل إما أن يكون ليس عقلياً، وإذا صح كونه عقلياً امتنع دلالته، فإما أن يفسد كونه عقلياً: أي يُبطل بالعقل، وأن العقل يمنع الدليل من جهة العقل نفسه، بمعنى أنه لا يمكن أن العقل يدل على نقيض الحق؛ فهذا ما يسمى بمنع الدليل، فتكون قاعدته: أنه ما من دليل من العقل أو النقل استدل به مخالف للحق إلا ويعلم عدم دلالته، فالنقل يعلم أنه ليس بدليل، أو أن النقل لا يكون صحيحاً كحديث موضوع يروى وهو ليس بصحيح، أو يكون العقل عقلاً ليس صحيحاً، وإنما هو قياس فاسد أو وهم من أوهام العقل.

    وتعلم أن الدليل الذي يسمى عقلاً -حتى عند أصحابه- ليس وجهاً واحداً.

    وهنا جهة أخرى، وهي ما يسمى بقلب الدليل، وابن تيمية رحمه الله يقول: إنه ما من دليل من النقل، استدل به المخالف على قوله إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض قوله، وهذه درجة ما يسمى قلب الدليل، وقلب الدليل ليس -عند التحقيق- لازماً، وإنما اللازم أن الدليل لا يدل على الباطل، أما أن الدليل المعين الذي استدل به على الباطل يدل على الحق، فهذا ليس بلازم، كضرورة شرعية أو كضرورة عقلية، وليس بدهي التحصيل، ولهذا ابن تيمية يقول: إنه تحصل له أنه ما من دليل استدل به معارض في مسائل الصفات وغيرها إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض مقصوده، أي: يدل على الحق.

    واستعمل لهذا كلام المعتزلة في هذا الدليل، فقال: إنهم استدلوا على إنكار الرؤية بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن هذه الآية جاءت في سياق المدح، وهذا بدهي، قال: والمدح لا يكون بالعدم المحض، إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، سواء كان هذا الثبوت ثبوتاً جاء على طريقة الابتداء، أو جاء ثبوتاً متضمناً لنفي، يعني تركب مع نفي، بمعنى أن النفي المحض حقيقته أنه عدم محض، والعدم المحض يقول ابن تيمية : ليس شيئاً، وإذا كان ليس شيئاً امتنع أن يكون مناطاً للكمال؛ لأن مناط الكمال لا بد أن يكون معنىً وجودياً، أو معنىً ثبوتياً، ومن هذه الجهة قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الكمال لا يكون بالنفي المحض، بل لا بد أن يتضمن أمراً ثبوتياً.

    قال: فلما قال سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]لا بد أن يكون تضمن معناً ثبوتياً، ومن هذا الوجه يقرر ابن تيمية رحمه الله أن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، وإن كانت تراه.

    بهذا التحقيق يكون الدليل مُنعت دلالته على طريقة المعتزلة وصار دليلاً للحق، هذه الطريقة التي استعملها شيخ الإسلام ، أشاد بها ابن القيم رحمه الله، وذكر أن الإمام ابن تيمية له هذا الوجه الحسن، وهو وإن كان ذكر هذا، لكنه نقله عن غيره، وقد ذكر هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري في إثبات الرؤية، وقال: إن المعتزلة يجاب عليهم بهذه الطريقة، لكن لك أن تقول: إن تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الوجه في الآية أجود من تقرير أبي الحسن الأشعري ، ولكن أصل التقرير هو لـأبي الحسن الأشعري ، وقد يكون الأشعري نقله عن غيره من علماء أهل السنة والجماعة.

    فالمقصود: أن الآية نفت الإدراك، والإدراك -كما يقول ابن تيمية - قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه يكون ثابتاً. الآية قالت: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]والإدراك البصري هو تحقيق الإبصار، وليس مطلق الإبصار، فإنك تقول: رأيت فلاناً، ولا يلزم أنك أدركته، إنسان رأى قادماً من بعيد لا يلزم أنه أدركه، أهو رجل أو امرأة، وإذا كان رجلاً أهو زيد أم عمر، ففرق بين مطلق الإبصار وبين تحقيقه بالإدراك.

    والآية إنما نفت القدر الزائد على الأصل، قال شيخ الإسلام : فلما خص القدر الزائد بالنفي، وهو الإدراك، دل على أن ما دونه وهو مطلق الإبصار يكون ثابتاً، فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية، وهذا استدلال متين من جهة العقل والشرع.

    وكذلك الآية الثانية عند المعتزلة ونفاة الرؤية، وهي قوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] قالوا: إن الله نفى رؤيته، و(لن) في لسان العرب تقتضي تأبيد النفي، وهذا محله النظر في كلام العرب، وإذا اعتبرت كلام العرب فالتحقيق أن (لن) وإن كانت تقتضي تأبيد النفي في بعض سياقاتها، إلا أنها لا تستلزم تأبيد النفي، ولهذا ليس من الصواب أن يقال: إن (لن) في كلام العرب لا تقتضي تأبيد النفي، وهذا من أجوبة النقض البسيطة التي ليست صحيحة، بل (لن) تقتضي التأبيد في بعض سياقاتها، وإنما الصواب يقال: إن (لن) لا تستلزم التأبيد، وإن كانت تقتضيه بحسب ما يوجبه السياق، وهذا السياق -وهو قوله: (لَنْ تَرَانِي) لا يقتضي التأبيد؛ لأن المخاطب موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في حالٍ من دنياه وحياته الدنيوية، فهو في هذه الحال لن يرى ربه، أي: في حال حياته ودنياه، ولا يدل هذا على أن موسى عليه الصلاة والسلام لن يرى ربه في الآخره، ولا دليل على ذلك من السياق، إنما انتزعته المعتزلة من هذا الحرف في العربية، وهو (لن)، ولو كانت (لن) تستلزم تأبيد النفي، لما جاز تحديد الفعل بعدها، لأن تحديد الفعل يقتضي قطع الغاية إلى منتهى معين، وهو قوله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] فلما جاز تحديد الفعل بعدها في لسان العرب فيما نطق به القرآن، والقرآن نزل بلسانهم، دل على أن (لن) لا تستلزم تأبيد النفي، وإن اقتضته في بعض السياقات، وهذا السياق في قصة موسى ليس منها.

    هذا ما يسمى بمنع الاستدلال، وهناك وجهٌ آخر وهو ما يسمى بقلب الاستدلال، وهذا أيضاً وجه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكره أبو الحسن الأشعري وغيرهما، وإن كان ذكر شيخ الإسلام أتم له.

    وهذا من أوجه: من أخصها وأجودها أن موسى سأل ربه أن يراه، ولو كانت رؤيته سبحانه وتعالى ممتنعة كما تقول المعتزلة والجهمية منكرة الرؤية، لكان القول برؤيته نقصاً في حقه سبحانه وتعالى، فيلزم أن موسى لم يكن عارفاً بتوحيد الله معرفةً تامة والمعتزلة وجميع منكرة الرؤية لا يقولون: إن الرؤية منفية؛ لأن النصوص لم تنطق بها، بل يقولون: إن الرؤية ممتنعة؛ لأن كمال الله يأبى ويمنع الرؤية.

    فلو كان الكمال كما يدعون يمنع رؤيته، فنقول: إن مجرد سؤال موسى عليه الصلاة والسلام يعد دليلاً صريحاً على الإمكان.

    والمعتزلة يقولون: من زعم أن الرؤية ممكنة كفر؛ فهم يرون أن هذا من نقص الله، وأن هذه كلمة كفر، ومجرد الزعم أن الله يمكن أن يُرى، حتى لو قال قائل: أنه لن يرى، مجرد تقرير الإمكان يعتبرونه تقريراً لنقص الله.

    فموسى بسؤاله قرر الإمكان، وإذا تقرر الإمكان، فهذا هو مورد النزاع المحقق بين المعتزلة وأهل السنة، لأن المعتزلة ليس الإشكال عندهم النفي فقط، بل عندهم مقام فوق النفي وهو تقرير الامتناع.

    ولهذا نقول: إن المعتزلة لا يمكن أن تستدل عند التحقيق بآية من القرآن على قولها، حتى لو سلمنا جدلاً باستدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) وبقوله: (لَنْ تَرَانِي) فالآيتان لا تدلان على مذهب المعتزلة، فالآيتان نفتا، والمعتزلة لا تنفي، وتسكت عن القول في مسألة الإمكان، وتقول: الله أعلم بالإمكان، بل هم يصرحون بامتناع الرؤية، أي يصرحون بنفي الإمكان، والآية نفت الوقوع ولم تنف الإمكان، بل آية موسى عليه الصلاة والسلام، فيها تصريح بالإمكان؛ لأن سؤال موسى تقرير للإمكان، ولو كان موسى عليه الصلاة والسلام يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى لا تمكن رؤيته، لما سأل ربه، ولو كان من تحقيق التوحيد امتناع رؤيته، كما تقول المعتزلة، وهذا يجعلونه من أصول التوحيد، ويسمونه باب الصفات، لو كان من توحيد الله أنه لا يرى وأن رؤيته ممتنعة للزم أن موسى بتقريره للإمكان كان جاهلاً بتحقيق التوحيد، وهذا ممتنع.

    إذاً: سؤال موسى عليه الصلاة والسلام هو تقرير للإمكان، وهذا هو أصل مبدأ الإبطال لقول المعتزلة.

    مسألة رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

    الكافرون والمنافقون في يوم القيامة يلقون ربهم فهل يرونه أو لا يرونه؟

    هذه مسألة نزاع بين أهل السنة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لم يحفظ عن الصحابة فيها قول، وكأنه يقصد -والله أعلم- أن الصحابة لم يشتهر نزاعهم في المسألة، وإلا فظواهر النصوص تكلمت في هذه المسألة، وعلى كل تقدير فإن بين أهل السنة نزاعاً في هذه المسألة، فمنهم من قال: إن المنافقين وحدهم من الكفار يرون ربهم في عرصات القيامة، ومنهم من قال: إن سائر أجناس الكفار يرون ربهم، ومنهم من قال: إنه يراه المنافقون وغبرات أو بقية من أهل الكتاب، ومنهم من قال: إن سائر الكفار من أهل النفاق وغيرهم لا يرونه.

    وإذا نظرت في القرآن وجدت أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]هذا هو الظاهر في هذا المسألة، وهو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال: إن عليه الأكثر من أصحاب أحمد ، وهو ظاهر مذهب المتقدمين من السلف كـمالك والشافعي وأحمد . وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

    وأما الاستدلال بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]فإن اللقاء ليس هو الإبصار، وفرق بين هذه الآية وبين قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]وابن القيم رحمة الله عليه. استدل على رؤية الكفار لربهم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]وقال: إن أهل اللغة مجمعون على أن اللقاء، يستلزم أو يتضمن الإبصار، وهذا ليس بصحيح، فأهل اللغة لم يجمعوا، ولا يعقل أن أهل اللغة يجمعون على هذا المعنى؛ لأنه معنىً ظاهر من الحس، إنما المجمع عليه في كلام العرب أن العرب إذا عبرت بلقاء قرن بالتحية والسلام قصدت أن اللقاء جامع إبصاراً ومشاهدة، وهذا من تعبير العرب، وهو الذي ذكره ثعلب في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]وابن القيم كأنه فاته هذا الفرق والله أعلم.

    أما السنة ففي ظاهر بعض النصوص أن المنافقين وغبرات من أهل الكتاب يرونه، والحديث وإن كان في الصحيحين إلا أنه عند التحقيق لا تستتم به الدلالة.

    مسألة رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج

    أجمع المسلمون أنه لا أحد يرى ربه قبل موته، ولهذا كل ما يذكر في كلام الصوفية أو غيرهم، فإنه من الشعوذة والكذب والبهتان، ومما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، وإنما اختلف المسلمون فقط في محمد صلى الله عليه وسلم لما عُرِج به إلى السماء، فليس ذلك في الأرض، وهذا مما يبين أنه حتى النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض ما رأى ربه، ولا زعم أحد من أهل العلم أن محمداً رأى ربه وهو في الأرض، إنما لما عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماء، هل رأى ربه في معراجه أو لم يره؟

    هذه مسألة نزاع بين أهل السنة المتأخرين، وينبه فيها إلى جهتين:

    الجهة الأولى: أن أكثر المتأخرين من الفقهاء وشراح الحدايث، يذكرون أن جمهور أهل السنة أو عامة أهل السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، هذا الذي يذكره -مثلاً- أمثال القاضي عياض ، وعنه نقله الشراح من بعده خاصة شراح مسلم ، والقاضي عياض هو من المالكية الكبار. والمقصود أن هذا ليس بصحيح، وليس هذا مذهباً لجمهور أهل السنة، وإنما هو قول لطائفة.

    وأما تحقيق المسألة: فقد حكى الدارمي وهو من المتقدمين، إجماع الصحابة على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه ببصره ليلة المعراج، وهذا إجمـاع حكاه الدارمي وهو إمام متقدم، فهل يُقال: إنه إجماع منضبط أو ليس منضبطاً؟.

    الصواب: أنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة منازعة لهذا الإجمـاع. وإنما الذي حفظ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفـؤاده، وهناك رواية أخرى عن ابن عباس صحيحة أن النبي رأى ربه، قال شيخ الإسلام : فـابن عباس يروى عنه التقييد بالفؤاد والإطلاق، قال: ولم ينقل عن ابن عباس أو غيره من الصحابة إثبات الرؤية مقيدة بالإبصار، بل هذا قول متأخر، ولهذا يميل شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن إجماع الدارمي مستقر، وإن كان القطع بالإجماع ليس ضرورة، لأنه يستلزم التغليظ بالإنكار على من خالف.

    والمسألة مشهورة النزاع عند المتأخرين من أهل السنة، وإنما يقرر الدليل على أنه قدر من الإجماع السكوتي المستقر كحجة في المسألة، ولا يُقال: إن من قال: إن النبي رأى ربه ليلة المعراج، فهو من أهل البدع، كلا. فالمسألة فيها سعة من الخلاف، وإن كان الأظهر من حيث مذهب الصحابة هو ما ذكره الدارمي ، فإن لم يكن إجماعاً فهو مذهب عامة الصحابة، وهذا يبين لك أن ما ذكره القاضي عياض رحمه الله وأمثاله ليس محققاً.

    وأيضاً نقول: إن هذا هو ظاهر القرآن وكأنه صريح السنة، أما أن ظاهر القرآن أن النبي لم ير ربه ببصره، فلأن الله سبحانه وتعالى قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]فلو كان الله سبحانه وتعالى أراد أن نبيه يراه ببصره لكان امتنانه وإشادته سبحانه وتعالى برؤيته أظهر وأعظم وأمن من رؤية الآيات.

    وأيضاً: فإن الله لما ذكر حال نبيه وما وصل إليه، قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18]، ولو كان عليه الصلاة والسلام تحصل له الرؤية البصرية لربه، لكان ذكرها أخص من باب أولى من رؤية الآيات، فتأمل قوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] فلو كان رأى ربه لذكر ذلك؛ لأنه أمن وأشرف من رؤية الآيات، فهذا ما يسمى ظاهر القرآن.

    وأما ما يمكن أن يكون صريحاً من السنة فهو حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وغيره: أنه قال: (يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه). وفي رواية أخرى عن أبي ذر عند مسلم -وكلاهما عن عبد الله بن شقيق - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت نوراً)، ومن أهل العلم من اعتبر وجهاً محفوظاً والآخر شاذ، كما هي طريقة الإمام أحمد ، وعلى طريقة مسلم فكأن الروايتين ليس بينهما قدر من التعارض، فمن حيث المعنى لا تعارض، والمتقدمون لا يعلون بجهة التعارض في المعنى كما يفهم، ليس بالضرورة أن الإمام أحمد أعل أحد الوجهين، لأن بينهما تعارضاً من جهة المعنى، فإن الإعلال يمكن أن يقع على بعض الأحرف، وإن كان يمكن جمعه من جهة المعنى مع الحرف الذي يُقال إنه محفوظ، وإلا فإن قوله: (نورٌ أنى أراه) ليس منافياً لقوله: (رأيت نوراً)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي موسى في الصحيحين: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور)، فكأن النبي -والله أعلم- رأى هذا الحجاب، أو نور الحجاب ولم ير ربه ببصره، هذا هو الأظهر من جهة الدلائل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755791981