إسلام ويب

شرح الحموية [10]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهل السنة والجماعة من السلف وأتباعهم بإحسان هم أهل العقيدة الصحيحة في أسماء الله تعالى وصفاته، وأما المخالفون فهم على ثلاث طبقات: أهل التخييل، وهم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم، وأهل التأويل، وهم المتكلمة الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وأهل التجهيل.

    1.   

    أصناف المنحرفين عن مذهب السلف

    قال المصنف رحمه الله: [والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيل السلف هم في هذا الباب على الاستقامة.

    وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف].

    بدأ المصنف يذكر المنحرفين عن طريقة السلف في هذا الباب، مبيناً أنهم ثلاث طوائف، تحت كل طائفة جملة من الطوائف.

    أهل التخييل

    [أهل التخييل].

    أهل التخييل سموا بذلك لأنهم زعموا أن القرآن وخطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وعموماً يرون ذلك مطرداً في الكتب السماوية والشرائع النبوية- تخييل للجمهور، وليست هي الحقائق العلمية في نفس الأمر، وهذا هو مذهب المتفلسفة، وقد انتسب إليه في الإسلام قوم من هؤلاء، وهؤلاء كان ظهورهم بعد ظهور المتكلمين وبعد انقراض القرون الثلاثة الفاضلة في الجملة، وإن كان أصلهم نبغ في آخر القرن الثالث، لكن انتشار هذا المذهب كمذهب معروف كان بعد القرون الثلاثة الفاضلة في المائة الرابعة وما بعدها.

    ومن أخص أئمة هؤلاء الذين ينتحلون هذا المذهب من الذين انتسبوا للإسلام أبو نصر الفارابي وابن سينا ، وهم من المشارقة، وأبو الوليد بن رشد من المغاربة.

    [وأهل التأويل، وأهل التجهيل.

    فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف].

    ومن سلك سبيلهم أي: تأثر بهم، من متكلم -كما هو شأن طائفة من غلاة المتكلمين الذين نقلوا المقالات الصريحة من الفلسفة واعتبروها، أو استدلوا بصريح كلام الفلاسفة، وإن كان المتكلمون في الجملة ولدوا كلامهم من كلام المتفلسفة، لكن منهم -أي: من غفلاتهم- من ينقل بالتصريح.

    ومتصوف لأن نوعاً من الصوفية هم صوفية في الإطلاق، ولكنهم في نفس الأمر متفلسفة وهم الباطنية.

    والباطنية صنفان: إما باطنية متشيعة، كما هو شأن الإسماعيلية والقرامطة وأمثالهم، ومن أئمتهم الذين صنفوا في هذا الباب على طريقة المتفلسفة أبو يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية ، وهو ممن يقول برفع النقيضين -كما يقرر المصنف في كتبه الكبار-.

    متصوفة أو باطنية، وهم الذين شاعوا كثيراً، وهم الذين عرفوا عند العامة بأنهم متعبدة متصوفة، وهم في الحقيقة متفلسفة باطنية كـابن عربي وابن سبعين والتلمساني -الذين يسمونه العفيف ، ويسميه كثير من علماء السنة الفاجر التلمساني - وابن الفارض وأمثال هؤلاء.

    ومتفقه يشير إلى أبي الوليد بن رشد ، وبعض المغاربة المتفلسفة الذين عنوا بدراسة مذهب مالك ؛ فإن لـأبي الوليد بن رشد كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، صنفه في الفقه المقارن، وهو كتاب -في الجملة- ملخص من كتاب أبي عمر بن عبد البر التمهيد ، والكتاب له اختصاص يسير، وليس فيه تحقيق كثير حتى فيما اختص به، وهو سبب الخلاف؛ فإن هذه ميزة في الكتاب، لكن في الغالب أن ما سماه سبب الخلاف في المسألة المعينة لا يكون في نفس الأمر هو السبب الموجب للخلاف، وإن كان في أكثر الموارد يكون سبباً يؤثر في الخلاف.

    فإنه إذا ذكر المسألة قال: وسبب الخلاف أنه جاء ظاهر قوله تعالى مع قول النبي كذا، أو ورود حديثين بينهما في الظاهر تعارض، وهلم جرا.. فهذه الأسباب التي عينها ابن رشد -وهي التي جعلت كثيراً من طلبة العلم يثنون على الكتاب- ليست -في الغالب- هي الموجبة للخلاف في نفس الأمر، أي: من جهة أن أصل الخلاف انبنى عليها بين قدماء الأئمة، وإن كان لها نفسها شيء من التأثير، حيث إن السبب -في الغالب- لا يختص بمورد واحد، فهي شيء من السبب وليست هي السبب في نفس الأمر.

    وثمرة هذا التفريق تظهر بهذا المثال: في مسألة مس الذكر أهو ناقض للوضوء أو ليس ناقضاً للوضوء؟ إذا قيل: إن سبب الخلاف هو التعارض بين حديث بسرة بنت صفوان وحديث طلق بن علي ، ثم ضعف حديث طلق بن علي وقيل: إن الصواب من جهة الصحة هو حديث بسرة ، ففي الغالب في النتيجة الفقهية أن يكون الخلاف انتهى إلى الرجحان، فإذا تحقق أن هذا هو السبب فإن الترجيح هنا سيكون مناسباً.

    لكن إذا كان السبب عند الأئمة أخص من هذا أي: أن هذا الاستدلال الذي جعله ابن رشد سبباً إنما استدل به بعض أصحاب المذاهب، فهنا لا يكون الترجيح مناسباً، ومثال هذا: هل القصاص والقود يكون بالسيف وحده أو بما قتل به القاتل؟

    قيل: إن في هذا تعارضاً بين ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا بالسيف) وما جاء في القرآن: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] فإن رددت وقلت: هذا الحديث ضعيف ترجح عندك مباشرةً القول الثاني، لكن إذا فرضت أن سبب الخلاف ليس هو التعارض بين هذا الذي قيل فيه: إنه حديث مرفوع، وبين ظاهر القرآن لا يبقى أن الترجيح بالضرورة يلزم أن يكون مناسباً؛ ولهذا كان الإمام أحمد يعتبر هذا المذهب -الذي هو أن القود يكون بالسيف- بدلائل أخرى غير هذا الحديث.

    [إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.

    ثم هم على قسمين: منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها].

    كما هو طريقة المبشر بن فاتك ، وهذا قول غلاة الملاحدة.

    [وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين.. وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية].

    لأن الباطنية على هذين الصنفين في الجملة.

    [ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق].

    وهذا مذهب الجمهور من المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـابن سينا وابن رشد وأمثالهما.

    [ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد.. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر.

    وأما الأعمال فمنهم من يقر بها].

    وأما الأعمال أي: الأعمال الظاهرة.

    منهم من يقر بها وغلاتهم من باطنية الصوفية وباطنية الشيعة يأولونها كما تأولوا نصوص المعاد ونصوص الصفات.

    [ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر به العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم].

    هذا هو الصنف الأول: أهل التخييل. وهؤلاء ليس في شأنهم اشتباه، ولا ينبغي كثرة الاشتغال بالرد عليهم؛ لأنهم زنادقة في الجملة، وأصل مقالتهم مقالة منقولة نقلاً صريحاً عن الطوائف الفلسفية المتقدمة، ولهذا اتفق المسلمون -حتى أهل الكلام وجمهور طوائف المتصوفة وغير هؤلاء- على ذم هؤلاء، وبيان أنهم مارقون عن دين الإسلام.

    وأما الشأن الذي وقع فيه الاشتباه: فهم أهل التأويل، وهم أهل الكلام، أو أهل التجهيل وهم طوائف من المنتسبين للسنة والسلف.

    أهل التأويل

    [وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته. وهذا قول المتكلمة الجهمية والمعتزلة، ومن دخل معهم في شيء من ذلك].

    هذا الصنف الثاني من المنحرفين عن طريق السلف في هذا الباب وما دخل فيه، والفرق بين قول أهل التخييل وأهل التأويل، أن أهل التخييل يقولون: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية لم تتضمن الحقيقة في نفس الأمر لا من جهة ظاهرها ولا من جهة تأويلها، ولهذا لا يرون تأويل القرآن؛ لأن القرآن عندهم إنما هو خطاب للجمهور كما يذكر ذلك المتفلسفة ومن سار على طريقتهم ممن انتسبوا للتصوف أو التشيع من الباطنية.

    أما الصنف الثاني -وهم الذين عني المصنف بذكرهم والرد عليهم-: وهم أهل التأويل الذين قالوا: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية تضمنت الحقيقة في نفس الأمر، لكن الحقيقة في نفس الأمر ليست هي الظاهر من هذه النصوص، وإنما هي المعاني التي يصل إليها الناظر من أهل التأويل، وهذا التأويل يتحصل عندهم بدلائل عقلية هي الدلائل الكلامية، وهذه هي التسمية الصحيحة لها: أنها دلائل كلامية وليست دلائل عقلية يشترك في صحتها أو في قبولها سائر الأقوام.

    وهذا قول المتكلمة والجهمية. لأنهم الأصل في هذه الطريقة.

    ومن دخل معهم في شيء من ذلك إشارة إلى متأخري المتكلمين الذين يضافون إلى متكلمة الصفاتية، فإن الأصل في هذه الطريقة -أعني: طريقة التأويل- هم الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك من متكلمة الصفاتية، كالكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وكالأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري ، وكالماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي وأمثالهم، فهذا الصنف يختلفون عن المتفلسفة؛ ولهذا صار جنس أهل التأويل أقرب إلى الشريعة والحق من أهل التخييل؛ وإن كان يقع في هذا الصنف -أعني: صنف المتكلمين- من الغلاة فيه ما يكون قول بعض المنتسبين إلى الفلسفة في بعض الموارد أقرب إلى الشريعة من قولهم.

    حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر أبا الوليد بن رشد -وهو من المتفلسفة، ومن أهل الطريقة الأولى في الجملة- قال: ومع ذلك فإن ابن رشد وأمثاله من مقتصدة المتفلسفة خير من الجهم بن صفوان وأمثاله من غلاة المتكلمة في باب الأسماء والصفات . إذاً: قد يقرب بعض أعيان المتفلسفة في بعض الموارد إلى درجة يكون فيها خيراً من بعض غلاة المتكلمين، لكن من حيث الجملة أهل التخييل أبعد عن مقاصد الإسلام ومراداته من أهل التأويل.

    هذا هو الصنف الثاني، وهو الذي شاع الإشكال فيه، ولا سيما عند المتأخرين.

    [والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء، إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً، بخلاف هؤلاء؛ فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم - في الحقيقة- لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا].

    ذكر المصنف قبل هذا أن أخص هذا الصنف هم الجهمية والمعتزلة، والجهمية والمعتزلة ليس لهم انتصار لطريقة السنة، وإنما مقصوده: أن اغلاة هذا الصنف انتصاراً معروفاً لبعض مسائل أصول الإسلام التي خالفوا فيها المتفلسفة، كالقول بحدوث العالم، والرد على المتفلسفة الذين قالوا بقدم العالم، وكقولهم بإثبات النبوة على التحقيق رداً على المتفلسفة الذين جعلوا النبوة مكتسبة، وجعلوها ثلاث قوى -على ما يذكره ابن سينا وأمثاله-: قوة التخييل، وقوة التعبير، وقوة التصوير.

    فالمعتزلة لهم ردود في هذا الباب في مثل هذا النوع من المسائل، وهي: مسائل أصول النبوات، وأصول الشرائع، وتحقيق الأمر والنهي أنه حقاً على حقيقته، وتحقيق مسألة المعاد وأنها حقاً على حقيقتها. ويستدل المعتزلة فيها على هذا الصنف من المتفلسفة بدلائل الشريعة أو الدلائل العقلية، فهم لهم نصر للإسلام أو للسنة من هذا الوجه.

    وإذا وقع المقصود في الصنف الثاني من هذا النوع -وهم المتأخرون من المتكلمين كالأشعرية وأمثالهم- فإن لهم بعض العناية بنصر السنة -أي: ما ظنوه قول أهل السنة والجماعة- وهذا تارةً يقعون فيه على شيء من التحقيق، وتارةً يقعون فيه على شيء من الوهم والغلط، فيكون غلطهم من جهة ما ظنوه قولاً لأهل السنة وليس قولاً لهم.

    أما ما وقعوا فيه من التحقيق فمن أخص مثالاته: استدلال الأشاعرة على ثبوت الصفات من حيث الأصل -أي: معارضة طريقة المعتزلة التي تقول بأن الرب لا يقوم بذاته شيء من الصفات- فصار الأصل عند الأشعرية أن الرب متصف بالصفات.. فهذا أصل كلي، وأما عند التفصيل فإنهم ينازعون في كثير من تفاصيل الصفات -أعني الأشعرية-

    فهذا من الحق الذي وصلوا إليه، وإن كانت طرقهم في إثبات الصفات ليست هي الطرق الفاضلة في الجملة، بمعنى: أن في طرق إثبات الصفات في كلام أئمة السلف من الطرق الشرعية والعقلية ما هو خير من الطرق التي يذكرها أئمة المتكلمين من متكلمة الصفاتية في مقابلة قول المعتزلة والجهمية.

    وربما قرروا -في مقابلة قول الجهمية والمعتزلة- من المقالات التي هي وهم على السلف.

    إذاً: ما ترد به طائفة على طائفة وقعت فيما هو من الضلال تارة يكون محققاً، وتارةً يكون قاصراً، وتارةً يكون غلطاً؛ أي: أنهم يردون البدعة ببدعة أخرى، ولكنها في الجملة تكون أخف منها.

    فالمعتزلة لم يتحصل لهم القول بحدوث العالم إلا بنفي الصفات، فهم يرون أن ثمة تلازماً بين إثبات قبول الرب للصفات وبين القول بقدم العالم، وهذا التلازم وهم عند المعتزلة، وهذا الذي جعل شيخ الإسلام رحمه الله يقول كثيراً عن هؤلاء المتكلمين من المعتزلة وغيرهم: وهم لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا . لأنهم بنوا القول بحدوث العالم على القول بنفي الصفات، فجعلوه لا يتحصل في العقل إثبات حدوث العالم إلا بإثبات أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات.. ولا شك أن هذا الامتناع غلط؛ لأن العلم باتصاف الرب بالصفات أمر مستقر في العقل والشرع والفطرة، فلو فرض جدلاً أن هذا -الذي هو ثابت بالعقل والشرع والفطرة- يدل على القول بقدم العالم لكان هذا من التناقض الذي جاءت به الرسل أو فطرت عليه العقول والنفوس.

    المقصود: أن هؤلاء المتكلمين -في الغالب- لا يحققون بعض الحق إلا بالتزام شيء من الباطل، بل ربما صار الباطل الذي التزموه وأقروا به شراً من الخطأ في الحق الذي قصدوا تحقيقه، وهذا لا يطرد، لكنه يقع في بعض المسائل، وليس المقصود هنا القول في تفصيله.

    وربما صارت أدلتهم في ردهم على المتفلسفة أدلةً قاصرة يستطيع المحقق من المتفلسفة أو الحاذق منهم أن يجيب عن هذه الأسئلة، كاستدلال كثير من أئمة الكلام على القول بإثبات المعاد على حقيقته، وردهم على المتفلسفة في ذلك بأن فرض المعاد على الحقيقة لا يلزم من فرضه محال.

    وهذه الطريقة التي استعملها الكثير من متكلمي المعتزلة والأشاعرة ليست طريقة محققة في العقل؛ لأن مبنية على عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع ليس علماً بعدم الامتناع؛ بخلاف الطرق المذكورة في القرآن والسنة وكلام السلف في إثبات المعاد؛ فإنها مبنية على العلم بلزوم ثبوت هذا من حيث قياس الأولى الذي يقر به سائر العقلاء، وتجد أن المثال الذي وقع عليه القياس مستقر في سائر عقول بني آدم حتى الكفار.. وهلم جرا.

    وهذا يحصل منه نتيجة أخيرة وهي: أن هؤلاء وإن كان لهم اشتغال بالرد على المتفلسفة وأمثالهم -أعني: المتكلمين- إلا أنهم في الجملة لم يحققوا، وإن كان لهم مقام حمد من حيث الجملة في هذه العناية، ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله المتفلسفة قال: وقد صنف نظار المسلمين في الرد عليهم والطعن عليهم . ثم ذكر بعض مصنفات المعتزلة وبعض مصنفات الأشاعرة، فهذا مما يحمدون فيه؛ من حيث أنهم قصدوا رد ما هو مخالف لدين الإسلام، لكن من حيث الحقيقة التي استعملوها في هذا الرد والطرق التي سلكوها والمعاني التي التزموها هذا هو الذي يقع لهم فيه كثير من التأخر والقصور.

    1.   

    إلزام الفلاسفة للمتكلمين في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات

    [لكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات. فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان. وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه.

    وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد].

    وأهل السنة يقولون للمتكلمين -أي: أهل التأويل-: إنكم أقررتم بنصوص المعاد، وفي ردكم على المتفلسفة في مسألة المعاد قلتم: إنه قد علم مجيء الرسل بهذا ضرورة، فيقال أيضاً: وقد علم مجيء الرسل بمسائل الصفات ضرورةً.. فهذا من باب قياس الأولى.

    1.   

    الاستدلال بإنكار مشركي العرب نصوص المعاد بخلاف نصوص الصفات على قبول العقل للصفات

    [ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد. وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب].

    وهذا قياس فاضل؛ فإن العرب في جاهليتهم نازعوا في مسألة المعاد، وغيرهم من طوائف المشركين -الذين بعث فيهم الرسل- كانوا ينازعون في مسألة المعاد؛ لكن مسألة الصفات لم يقع فيها نزاع؛ ولهذا قال الله عنهم: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]وقال: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]وقال: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]وهلم جرا، لكنه في مسائل الصفات لم يعترض أحد من المشركين على ثبوت صفة مضافة إلى الله.

    [فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات].

    هذا الحرف من كلام المصنف فيه بعض التردد، ولعل فيه إما تصحيفاً أو غلطاً من النساخ أو أنه يحمل على مقصود ما؛ وذلك لأنه قال: وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات. وكان الافتراض المبدئي أنه يكون العكس، أي: أن إنكار الصفات أعظم من إنكار المعاد. فإن فرضنا أن السياق من حيث اللفظ على وجهه وهذا محتمل، فإنه يفسر بمعنى يناسبه، وهو أن معنى العبارة: أن إنكار المعاد أقرب إلى الفرض العقلي من إنكار الصفات؛ ولهذا المشركون عقولهم فرضت إنكار المعاد ولم تفرض إنكار الصفات.

    إذاً قوله: أن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات . لا يفهم منه أنه أعظم في الشرع أو في العقل.. ولكنه يحمل على -إن سلمت العبارة من التصحيف- معنى أي: أظهر في الفرض العقلي من إنكار الصفات، ولهذا المشركون فرضت عقولهم إنكار المعاد ولم تفرض إنكار الصفات.

    [فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به؟ وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟!].

    وهذا من باب قياس الأولى.

    1.   

    صفات الله عز وجل في التوراة

    [وأيضاً: فقد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا منما حرِّف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى].

    أي: أن اليهود مع انشغالهم بتحريف كتابهم لم ينكر اشتغالهم بتحريف آيات الصفات مع أنها قطعاً مذكورة في التوراة؛ ولهذا ترى أن بعض اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يسألونه في تفاصيل بعض الصفات التي هي ليست من الصفات المعلومة بمحض العقل، كالصفات السمعية المحضة، كإثبات صفة الأصابع وأمثال ذلك، ولم ينكر أن اليهود كانوا يشتغلون بتحريف ما جاء في التوراة من الصفات، مع أنهم محرفة لكتابهم بالاتفاق.

    [فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً لها؟! ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]وقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]وقولهم: إنه استراح لما خلق السماوات والأرض فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]

    والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان، فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان].

    هذا أيضاً يحتاج إلى تأمل؛ لأن فيه بعض التردد من حيث الظاهر فيه، فيحمل على مقصود مناسب.

    فإن قوله: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن . يفيد أن المعاد مذكور في التوراة كما أنه مذكور في القرآن، فمن باب أولى أن الصفات مذكورة في التوراة كما أنها مذكورة في القرآن، ولكن تصريح التوراة بالمعاد ليس كتصريحها بالصفات.

    ثم بعد ذلك يقول: فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما . وهذا الحرف مشكل من حيث هذا السياق، فإنه إن كان الانفراد من جهة أن ذكر المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح به في القرآن فأيضاً هذا يرد حتى على مسألة الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن ليس كتفصيلها في أي كتاب قبله.

    وإن قصد أن المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح بالصفات فأيضاً المعاد في القرآن لم يصرح به ويفصل كما فصلت الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن أكثر من تفصيل المعاد؛ ولهذا ما وجه هذا الانفراد؟

    هذا الحرف مشكل في كلام المصنف، وإذا كان مشكلاً فإنه يحتاج إلى تأمل إن وقع على معنىً مناسب، وإلا ربما كان فيه بعض الوهم من النساخ في سياقه وترتيبه.

    وبعبارة أخرى نقول: إن قول المصنف: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث.. لا إشكال فيه، والمطابقة هنا التي يذكرها المصنف ليس مطابقة محضة قطعاً، بل هي مطابقة في الجملة، بمعنى أن الصفات مفصلة في التوراة كما أنها مفصلة في القرآن، فليس معناه أن كل ما ذكر في القرآن والسنة فإنه مذكور في التوراة، هذا ليس بلازم وإن تحقق العلم به يتعذر كله.

    ثم قال: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن . فإن قصد أن المعاد صرح به في التوراة لكن درجة التصريح في القرآن أظهر فهذا لا إشكال فيه، وهذا هو مراد شيخ الإسلام رحمه الله من حيث الأصل، ولهذا لا يمكن أن نحمل قوله: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن فنقول: إن مقصود المصنف أن المعاد لم يذكر في التوراة صريحاً وإنما ذكر خفياً، لأننا لو فسرنا الكلام بهذا المعنى للناسب فإن النتيجة الأخيرة وهي قوله: فإذا جاز أن تتأول الصفة التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما . أي: انفرد أحدهما وهو القرآن بالتصريح به والتوراة لم تصرح به ، وهذا غلط، لأن هذا يستلزم نتيجة، وهي أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وهذا لا يمكن أن يقال، ولا المصنف رحمه الله يلتزمه، ومن أضافه إلى شيخ الإسلام فقد غلط عليه؛ لأن المعاد من أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر، وهذا مذكور في سائر الكتب السماوية.

    وأما إن قصد أن التصريح بالمعاد ليس بدرجة التصريح الذي وقع في القرآن فهذا صحيح، لكنه يرد على مسألة الصفات، ومن هنا كان هذا الحرف يمكن أن يمضى على أن المعاد لم يصرح به في التوراة فتكون النتيجة أن المعاد انفرد به أحدهما ويصير القياس سليماً؛ لكن هذا يستلزم الإقرار بمقدمة وهي: أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وإنما ذكر خفياً.

    أما إذا قيل: لم يصرح به. أي: كالتصريح القرآني، فهذا أيضاً يرد في مسألة الصفات، فلا يتحقق القياس على الوجه الصحيح، فهذا الحرف يحتاج إلى نظر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755967435