إسلام ويب

جلسة مع طلبة العلمللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن لأهل العلم وطلابه فضائل خصهم الله عز وجل بها في الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا لعظيم ما فعلوه وقدموه من حفظ الكتاب والسنة، وتبليغها وتعليمها الناس، فمن حمل العلم فإن عليه أن يفقه ما يحمل، ويعرف واجبه نحو ما يحمله، ثم إن الله يؤتيه ثمرات ذلك في الدنيا والآخرة، فاظفر بطلب العلم تربت يداك!

    1.   

    من فضل العلم في الدنيا والإخلاص فيه

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه، يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفع من قالها يوم لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، ومن سار على نهجه ومنواله.

    أما بعد:

    فأحييكم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    إن القلوب لتطمئن، وإن الصدور لتنشرح حينما تسمع عن شباب أحبوا العلم وأحبوا أهله، وحرصوا على أن يتسلحوا بهذا السلاح العظيم، يبتغون من فضل الله الكريم، إنها لنعمة من الله إذا شرح صدر عبده لطلب العلم، فحببه إلى قلبه، وجعل أشجانه وأحزانه في رياض الجنة، لا يرتاح ولا يطمئن إلا بمجلس يسمع فيه كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكي يخشع من ذلك قلبه، وتعمل به جوارحه، ويدعو الناس إلى ما علم وعمل، والدنيا فانية ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وطالب علم انتفع بعلمه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً وحكمة فعمل بهما وعلَّم) فنال الدرجات وفاز بالمحبة والمرضات، فلقي الله يوم يلقاه راضياً عنه.

    إذا هدى الله العبد إلى الصراط المستقيم، وحببه في هذا الدين، وأراد أن يتمم عليه النعمة ويزيده من فضله شرح صدره للعلم والعمل: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) .

    هذا العلم لا يحبه أحد إلا ناله خيره، ونال من بركته التي وضعها الله فيه، فإن الله عز وجل وصف كتابه بالبركة: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فهذه البركة والخير في هذا العلم إذا شرح الله صدر العبد فأحبه وأحب أهله فلابد وأن يصيب من الخير على قدر حبه، ومن حيل بينه وبين بلوغ مراتب العلماء ولكن اطلع الله على قلبه أنه يحبهم وأنه يتمنى أن يكون له لسان صدق مثل ما أوتوا بلغه الله درجاتهم، قال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء وأحب طلاب العلم الصالحين الأتقياء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء وأحب أن يتمثل بهم وأحب أن يكون له من الخير ما لهم.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذه المحبة خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا بها إلى سلوك العلم والعمل.

    أيها الأحبة في الله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والله يؤتي الحكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] العلم بصيرة، ومن آتاه الله العلم أبصر الحق وعرفه فلم تلتبس عليه السنة بالبدعة، وتتضح له بذلك المحجة، ويستمسك بفضل الله عز وجل بالدليل والحجة.

    أن يرزق الله العبد التقوى

    أيها الأحبة في الله! ثمرة العلم! وما ثمرة العلم؟! فهي أطيب الثمرات، وأعظمها وأجلها وأكرمها؛ لأنها من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم شيء على الله في هذا الوجود كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع قدرهما وأحبهما، فإذا أراد الله عز وجل أن يكرم العبد بأطيب الثمار وأحبها في الدنيا والآخرة ذاق حلاوة العلم.

    ثمرة العلم ثمرتان: ثمرة عاجلة، وثمرة آجلة.

    أما الثمرة العاجلة: فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يرزق العبد علماً نافعاً رزقه الإخلاص، وقذف في قلبه نور التقوى، فأصبح علمه لله، وقوله لله، وأفعاله وحركاته وسكناته لله جل جلاله، وعندها يطيب عيشه، فما طاب العيش إلا بالله، قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير؛ إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله).

    أول ثمرات العلم في هذه الدنيا الإخلاص، ومن عرف الإخلاص عرف الأمر الذي من أجله خلق الله الخليقة وأوجد هذا الكون، بل الأمر الذي من أجله أظلم الليل وأضاء النهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، من عرف الإخلاص عرف الله جل جلاله.

    فأول ثمرات العلم التي جناها العلماء: أن الدنيا هانت عليهم فتوجهوا إلى الله وحده، إن أصابتهم سراء شكروا.. وإن أصابتهم ضراء صبروا.. فعاشوا الحياة الآمنة المطمئنة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] وعد الله جل جلاله الذي لا يخلف الميعاد أن من عمل الصالحات أن يحييه الحياة الطيبة، وما طابت الحياة على أتمّ صورها وأكمل حللها وأجملها وأجلّها إلا لأهل العلم، فترى الرجل منهم مرقع الثياب! حافي القدمين! لكنه غني بالله جل جلاله، ما اشتكى يوماً ربه إلى الناس، وتجده يتوسد الأرض ويلتحف السماء راضياً مرضياً، وتجد غيره يرفل في نعيم الدنيا، وهو في هم وغم وكرب ونكد لا يعلمه إلا الله عز وجل.

    أول ثمرات العلم: أنه يوجهك إلى الله، فتعلم الله بأسمائه وصفاته، وعندها يطيب عيشك، تعلم أن الأمر كله لله، وأن الأمور كلها مردها إلى الله؛ فتهون عليك الدنيا بما فيها، وتحب الله بصدق المحبة، وتتوجه إلى الله بصدق التوجه، ومن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله فإن الله يفتح له من أبواب رحمته، وإذا فتح الله أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها كائناً من كان، وإذا نشر للعبد من بركته وخيره لا يستطيع أحد أن يقبض ذلك الخير كائناً من كان.

    دخل سليمان بن عبد الملك إلى بيت الله الحرام وفيه علم من أعلام المسلمين وإمام من أئمة الدين عطاء بن أبي رباح رحمه الله برحمته الواسعة، هذا الإمام الذي كان ينادي المنادي في الحج ويقول: لا يفتي الناس إلا عطاء لعلمه وفضله، كان عطاء في ذلك المسجد يومها فأخذه سليمان وطاف معه، ثم قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟ ما هي حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله جل جلاله -إني لأستحي أي من الله- ، فلما خرجا من المسجد قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! أن يغفر الله ذنبي، قال: ليس ذلك بيدي، قال: ماذا تريد أن أسألك؟ قال: سلني حاجتك من الدنيا، قال: يا أمير المؤمنين! إني لم أسألها من يملكها أفأسألها من لا يملكها! كان العلماء رحمهم الله علماء بحق.

    فأول ثمرة العلم: الإخلاص والتوجه إلى الله، ولذلك قال الله جل جلاله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] سكنت في قلوبهم خشيته، وسكنت في قلوبهم محبته سبحانه وتعالى، فأصبحت حياتهم كلها لله، لا يسأمون.. ولا يملون.. ولا يضجرون من شيء فيه محبة الله جل جلاله، فأول ثمراته في الدنيا هذا المقام العظيم الذي هو روح الإسلام ولبه يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه).

    محبة كل ما يقرب إلى الله وبغض كل ما يبعد عنه

    أما الأمر الثاني: فمن أخلص لله جل جلاله وتوجه إلى الله سبحانه أحب كل شيء يذكره بالله، ونفر من كل شيء يبعده عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أصبح العبد يأنس بكل شيء يقربه إلى الله كثر ذكره لله سبحانه، فتجده كثير التلاوة لكتاب الله، كثير الاستغفار من ذنبه والاسترحام لربه، فيصبح في ذكر دائم لله جل جلاله، ومن ذكر الله ذكره الله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ولذلك لهجت ألسنة العلماء بذكر الله وخشعت قلوبهم لما عند الله سبحانه وتعالى.

    فإذا أخلصت أصبحت أقوالك كلها لله بذكره سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] وما شقي الأشقياء إلا بالغفلة عن الله، وإذا أراد الله أن يهلك عبداً من عباده جعله من الغافلين، وإذا غفل قسا قلبه، وإذا قسا قلبه ساء وأظلم، وإذا ساء وأظلم تحركت الجوارح إلى الظلم والظلمات، نسأل الله السلامة والعافية!

    فأهم ما يكون للإنسان أن يكون كثير الذكر لله جل جلاله، ولذلك تجد العلماء العاملين الأئمة المتقين جميع أقوالهم وأفعالهم مقرونة بأمر الله ونهيه، لا يتقدمون إلا إذا أمرهم الله، ولا يتأخرون إلا عن شيء يعلمون أن التأخر عنه فيه مرضات الله، وتلك أمارات التقوى! وذلك سبيل الهدى! قال بعض السلف في تعريف التقوى: أن لا يفقدك الله حيث يحب أن يراك، وأن لا يراك حيث يحب أن لا يراك.

    فإذا أكثر الإنسان من ذكر الله عز وجل طاب عيشه، ولذلك تجد العالم يقرأ العلم بلسانه، والله أعلم كم من مثاقيل الحسنات في ميزانه! الله أعلم هذه الكتب التي ألفها العلماء والأئمة الصلحاء الأتقياء من سلف هذه الأمة كم لهم فيها من أجور! وكم لهم فيها من حسنات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـعلي : (فوالله! لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ومن أكثر ذكر الله جل جلاله فإن الله سبحانه يبارك له في عيشه وفي حياته.

    التوفيق في طلب العلم

    فتأتي بعد ذلك الثمرة الثالثة: وهي التوفيق في العلم، إذا أخلصت وأكثرت من ذكر الله جل جلاله فكنت ممن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويستغفر ربه قائماً وقاعداً، يذكر الله على كل حاله، فإن الله يفتح لك أبواب التوفيق، وقلّ أن تجد طالب علم كثير الذكر لله إلا وجدته موفقاً في طلب العلم، وبارك الله له في جوارحه، وبارك الله له في ليله ونهاره فأحبه الله، وإذا أحب الله العبد عصمه من فتنة الشهوات، وحفظه مما يقذفه الشيطان من الشبهات، فأصبح على البصيرة والنور والهدى وعلى الصراط المستقيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] فيجعل الله للعبد بهذا السبب العظيم نور التقوى.

    فإذا أخلصت وذكرت الله جل جلاله وفتح لك أسباب التوفيق كان من أعظمها وأجلها أن توفق للعالم الرباني الذي أخذ العلم عن أهله، فابحث عن من زكا في علمه وقوله وعمله، وأخذ هذا العلم عن العلماء الصالحين الذين ورثوا علم الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زكَّى حملة العلم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) .

    فإذا أراد الله أن يوفقك في طلب العلم حبب إلى قلبك العالم العامل، ورزقك العالم الرباني الذي يذكرك بالله منظره، ويدلك على الله عز وجل مخبره، يدلك على عالم تلتزم به حجة بينك وبين الله جل جلاله، قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بـمالك حجة بيني وبين الله)، لما رأى من مالك رحمه الله حبه للكتاب والسنة، وحرصه على النص، وعلى الاهتداء بهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضيه حجة بينه وبين الله جل جلاله، فإذا وفقك للعالم فقد أخذت مفاتيح العلم، والعالم الرباني يدل على الله جل جلاله، يدل على الله بقوله وعمله وسمته …

    وإذا أردت أن تنال ثمرة العلم على أتم الوجوه وأكملها فالزم ذلك العالم محافظاً على حقه، مستديماً لما له عليك من واجب حبه وتقديره وإجلاله وإكرامه، فإن العقول السلمية أجمعت -والحكماء أجمعوا- على أن من أجلّ شيئاً وأحبه انتفع به.

    ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يجعل علمه مقروناً بالأدب والإجلال والتقدير، ولذلك قال موسى بن عمران للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] وهذا شيء من التذلل والتواضع للعلماء، وهذا يدل على أنه ينبغي لطالب العلم أن يشعر العالم بالتقدير والإجلال؛ لأن تعظيم العلماء وإجلالهم تعظيم لشعائر الله.

    فإذا رزقت هذا العالم العامل فاحرص على أن تكون أفضل طلابه، واحرص بارك الله فيك على أن لا تقع عينه منك على شيء يشينه! واحرص وفقك الله على أن لا يسمع منك ما يؤذيه! واحرص بارك الله فيك على سؤال الله أن يجملك وأن يجعلك خير الطلاب! فإن العالم يحرص على نفع خير الطلاب وأفضلهم.

    وإياك أن تزدري العلماء! إياك ثم إياك أن تزدري من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم! بل اجعل في قلبك حبهم وودهم وتقديرهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

    فإذا عاشرت العالم وكنت معه فكن معه بمشاعرك وأحاسيسك، فإياك أن تضيق عليه في قول! أو تحرجه في مسألة! أو تعييه في وقت هو وقت راحته واستجمامه، وتحرص على الأدب معه فيما يأمرك به وينهاك، فإنه إن كان متقياً لله أمرك بأمر الله، ونهاك عما نهى الله عز وجل عنه.

    كان العلماء يوصون طلاب العلم دائماً بالعمل، فإذا سمعت العالم يدلك على سنة فاحرص على العمل بها، وإذا دلك على خير احرص على تطبيقه، وإياك أن تتعذر بالعجز أو الكسل، إذا سمعته يذكر سنة في الصلاة أو في الطهارة أو في حجك وعمرتك فاحرص على تطبيقها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن كل كلمة تسمعها من هذا العالم من العلم إما حجة لك أو حجة عليك، لو أن طالب العلم كلما جلس في مجلس علمه شعر أن هذه الكلمات وهذه الجمل التي تقال له في هذا المجلس إما حجة له أو حجة عليه، فإنه -والله- يشفق على نفسه من الهلاك، كل كلمة وكل جملة إن عملت بها كانت حجة لك، وإن تركتها كانت وبالاً وحجة عليك.

    جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأخذ يسألها المسائل.. ثم رجع لها بعد حين وسألها عن مسائل.. ثم رجع لها ثالثة وسألها عن مسائل.. فقالت له ذات يوم: (أي بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ -أي: هذه السنن التي سألتني عنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عملت بها- فقال الرجل: لا يا أماه!، وجلس يشتكي من التقصير والعجز والكسل، فقالت: يا بني! لِمَ تستكثر من حجج الله عليك؟ هذا العلم الذي تسمعونه في المحاضرات والدروس والمجالس، بل حتى لو مررت على حلقة عالم وسمعت سنة -والله- أنها حجة لك أو حجة عليك، وخاصة إذا تغرّبت عن بلدك وعن الأهل والأوطان والأحباب والخلان؛ فاعلم أن هذا العلم سيسألك الله عنه إن سألك أهلك وعشيرتك فضيعتهم، إن الله سائلك عن هذه الحجج التي تسمعها، فكما تغربت من أجل أن ترجع إليهم عالماً حاملاً احرص على ضبط كل سنة وكل مسألة، وهذا من دلائل التوفيق، هذه ثمرة الإخلاص.

    والله! ما أخلص أحد في طلب العلم إلا فتح الله له من أبواب رحمته، ويسر له من العلماء ومن العلم الذي يتعلمه على قدر إخلاصه وزاده الله من فضله، فيحرص طالب العلم على هذا الأمر العظيم، وهو أن يعمل بكل ما علم وأن يطبق ذلك على أتم الوجوه وأكملها.

    الله يزكي طالب العلم

    كذلك من ثمرات العلم في هذه الدنيا: أن الله سبحانه وتعالى يزكي أهله، وإذا زكىّ الله عبداً بارك له، الله تعالى لا يزكي العبد بحسبه، ولا يزكيه بنسبه، ولا يزكيه بنومه، ولا يزكيه بماله: (فرب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ضيق من الدنيا، وما كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم إلا معرضاً عن هذه الدنيا، فالله لا يزكيك بهذه الدنيا، ولكن يزكي بما وقر في القلب وصدقه العمل.

    الله يقذف في قلوب الناس حب طالب العلم

    وثمرات هذا العلم: أن الله يقذف في قلوب الناس حبك، فإذا أخلصت الآن، وحرصت كل الحرص على الأدب مع العلماء ومع من تتلقى عنهم قيض الله لك من تصرف الناس ومعاملتهم معك ما تقر به عينك، ويطمئن به قلبك، وتبهج به نفسك، والله! ما رأينا طالب علم تأدب مع علمائه ومشايخه إلا رأينا آثار ذلك في طلابه، وما رأينا فظاً غليظاً سيئاً جافياً متجافياً عن الحق إلا رأينا مكر الله به كما مكر بمن كان على شاكلته ممن سبقه.

    فإياك ثم إياك أن تغفل عن هذه الثمرة الكريمة! أن يزكي الله علمك، فيجعل لك بين الناس القبول والمحبة والرضا، وهذا -كما ذكرنا- بالإخلاص، ثم بذكر الله جل جلاله، ثم بالحرص على الأدب مع أهل العلم، فيفتح الله لك عز وجل من فضله، فترى ثمرة العلم في الدنيا، وترى بأم عينيك ما كنت تفعله مع مشايخك من الإجلال والتقدير في طلابك، ومن يأخذ العلم عنك؛ فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] والله جل جلاله يقول في كتابه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] .

    فمن كان في رياض العلم متأدباً تعلوه السكينة والوقار، وإذا سأل عرف عن أي شيء يسأل، وإذا تكلم عرف أين يضع لسانه، وحفظ لأهل العلم حقهم وقدرهم، وأخذ يختار النماذج الكريمة من السلف الصالح وطلاب العلم الأحياء الذين يرى فيهم وقار العلم وسمته، والأدب مع العلم فتخلق بهذه الأخلاق؛ زكاه الله جل جلاله، والله إن القلوب لتسر حينما ترى نماذج من طلاب العلم في السكينة والوقار يذكرون بهدي السلف الصالح! وإن القلوب لتتقرح وتتألم حينما ترى عكس ذلك!

    كذلك أيضاً: إذا زكاك الناس وشهدوا لك بالخير كان من عاجل البشرى لك في الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) الله أكبر! لو نودي باسمك في السماوات العلى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، اللهم اجعلنا ذلك الرجل!

    الله ذو العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء ينادي باسمك! إذا صلح قولك وعملك، ورأى الله منك هذه المحافظة على الحقوق والواجبات! (نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً) لا، والله! ما أحب الله للدنيا، وما أحب للأحساب والأنساب، ولكن أحب للدين والإخلاص.

    وانظر إلى الأسلوب (إني) وهو للتوكيد والإثبات- (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال صلى الله عليه وسلم: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا تكلم وضع الله البركة في قوله، فكم من تائب أناب ومهتدٍ اهتدى بإذن الله عز وجل بتذكيره ووعظه! فترجع إلى قومك وعشيرتك وقد وضع الله لك القبول، من عامل الله كان الله له.

    فمن الآن وطِّن نفسك على أن يحبك الله، فترى هذه الثمرة العاجلة في الدنيا فتقول: يا رب! أحمدك وأشكرك والفضل كله لك، إذا أحبك الله عز وجل ووضع لك القبول فهذه ثمرة الدنيا؛ فيزكيك الناس ويشهدون لك بالخير والفضل ويترحمون عليك، ويذكرونك بصالح الدعوات، ما ذكرت إلا أثنوا عليك ودعوا لك بالخير، وهذا من عاجل البشرى، ولذلك من ذكره الناس بصالح الدعاء كان هذا من عاجل البشرى، والعكس بالعكس! فعلى المسلم أن يحرص على توطين نفسه بالأصول التي تفضي إلى هذه الثمرة الكريمة.

    الله يصرف قلب صاحب العلم إلى الآخرة

    كذلك من ثمرات العلم النافع: أن الله يصرف قلب صاحبه إلى الآخرة ويزهده في هذه الدنيا، ولذلك تجد العلماء أغنى الناس بالله جل جلاله، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله برحمته الواسعة، فجلس في مجلس الحسن وكان غنياً ثرياً، فلما قام من مجلس الحسن أرسل إليه بخمسة آلاف درهم -خمسة آلاف درهم في أيام الحسن شيء عظيم وكبير- ثم أرسل له بثياب وقطن، ثم جاء إلى الحسن ودفعها إليه في بيته قال له الحسن : عافاك الله ضمّ إليك دراهمك وثيابك وقطنك، فإنه ما حدث أحد بما حدثت به فأخذ ما أعطيت إلا كان يوم القيامة لا خلاق له؛ لأنه يريد ما عند الناس ولا يريد ما عند الله جل جلاله.

    ويجعل الله الآخرة أكبر همك ومبلغ علمك، دائماً تفكر بآخرتك، وهذا شأن العلماء! تجد العالم دائماً يتذكر مثل هذه الساعة وهو في القبر وهو في اللحد، يتذكر وهو قائم بين يدي الله يسأله عن علمه ماذا عمل به، فإذا كان خالياً دمعت عيناه من خشية الله وقال: اللهم إني أسألك أن تلطف بي، اللهم اجعل علمي حجة لي لا حجة عليَّ، يحس بالآخرة في قلبه فينصرف، وتنصرف همته كلها إلى الآخرة، ولذلك عندما تقرأ في سير السلف الصالح وأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم تحس أن هذه الثمرة قد عجلها لهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، ومن خاف من الآخرة أمّنه الله فيها، فإن الله لا يجمع للعبد بين خوفين وأمنين، فإما خوف في الدنيا وأمن في الآخرة، أو العكس، ولذلك لما قيل لبعض السلف وقد اجتهد في العبادة: أتعبت نفسك، قال: راحتها أريد. فالذي يتعب اليوم ويخاف اليوم يأمن غداً.

    الله أعلم كم ضمت اللحود أقواماً وجلت قلوبهم من خشية الله! فإذا فيها النعيم والرضوان المقيم، الله أعلم كم ضمت اللحود الآن من أئمة ودواوين للسلف وعلماء للأمة علم الله منهم أنهم خافوا الآخرة فأمّنهم اليوم وهم فيها! وذكرهم بصالح الدعوات وقد ولوا ومضوا، فهذه عاجل ثمرات الدنيا.

    حسن خاتمة أهل العلم

    ومن ثمرات العلم يقول العلماء: قلّ أن يخلص أحد في العلم ويرى ثمرة العلم في عمله ودعوته للناس إلا حسنت خاتمته. ولذلك وجدنا من عاجل ما أعطى الله العلماء حسن الخاتمة في هذه الدنيا، ومن منّا لا يتمنى حسن الخاتمة؟! فإن الأمور بخواتيهما: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) اللهم إنا نسألك العافية، فيحرص الإنسان على هذا العلم حتى يحسن الله به خاتمته، ذكر عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: أي بنية! أتبكين عليَّ وقد أفتيت عن الله فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟!

    يعني: هل يخذلني الله عز وجل بعد أن شرفني بحمل العلم فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟

    لا، والله! لا يخزيك، ولما قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه! قال صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) فالعلماء تحسن خواتمهم، وكم رأينا -والله- من أهل العلم -الصادقين الذين حرصوا على العمل بالعلم والدعوة إليه والإخلاص فيه- من حسن الخاتمة لهم! وكم رأينا من بشائر الخير! فهذا كله من عاجل ما يضعه الله عز وجل للعبد، وهو من خاتمة ما يكون له في الدنيا.

    1.   

    من ثمرات العلم في الآخرة

    أما ثمرات العلم في الآخرة، فأمرها إلى الله علام الغيوب، الله أعلم ماذا ينتظر العلماء في موازين حسناتهم وأجورهم من السنن التي دلوا عليها، وحبّبوا فيها، وعلموها عباد الله، وحرصوا على أن يهتدوا بهديها، وأن يربوا الناس عليها! الله أعلم كم لهم من الأجور والثواب والحسنات والدرجات! الله وحده هو الأعلم، وهو سبحانه لا يضيع أجورهم ولا سهر الليالي وتعب النهار والكدح في طاعة الله ومرضاته:

    والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

    كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فالمعروف يدوم ويبقى، والخير والبر أبداً ما ينسى!

    إذا مات لا ينقطع ذكره في الدنيا

    ثمرات الآخرة من أعظمها: أن العلماء إذا ماتوا وكانوا في قبورهم فمن عاجل ما يجدون الرحمات التي تغشاهم في قبورهم، لا ينقطع ذكرهم ولا خبرهم، خاصة إذا قيض الله لهم طلاباً صالحين يذكرونهم بالخير، قال الإمام أحمد رحمه الله الرحمة الواسعة لأحد أبناء مشايخه: أبوك -أي: وهو ممن علمني وانتفعت بعلمه- أحد الستة الذين أدعو لهم في صلاتي) ما ذكروا وهم في قبورهم إلا ترحم عليهم، ويذكرون بالجميل! ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل!

    تغشى العالم الرحمات إلى قبره

    كذلك أيضاً: تغشاهم الرحمات، ويرون في قبورهم ما يكون لهم من الأجور التي من بعد موتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -وذكر منها-: أو علم ينتفع به) فهم يموتون وما ماتت مكارمهم، ماتوا وما ماتت مآثرهم، فهي منقوشة في الصدور!

    والتلميذ البار إذا ذكر شيخه ترحم عليه ودعا له، ومن ذلك: أني رأيت الوالد رحمه الله -وكان قد تتلمذ على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- أكثر من مرة ما ذكر الشيخ إلا فاضت عيناه بالدمع، وطأطأ رأسه ثم دعا له وترحم عليه، وكان يقول: ما رأيت بعيني عالماً ملؤها مثل الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة! وتجده يقول إذا ذكره: نعم! نعم العلم والعمل، مما رأى من شيخه من العلم والعمل، ووالله! إذا ذُكِرَت سيرته -لا أبالغ- إذا بالشيخ يسكت فتجد الدمعة تذرف مما يذكر من جميله وإحسانه، وهكذا كان رحمه الله برحمته الواسعة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه وورعه وصلاحه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755998977