إسلام ويب

تأملات في سور القرآن - المائدةللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة المائدة سورة مدنية، وهي أكثر السور اشتمالاً على النداء بوصف الإيمان، وقد ذكر الله فيها كثيراً من المحرمات والفرائض التي لم تذكر في غيرها، وسميت بهذا الاسم لذكر قصة المائدة فيها، ولها كثير من أوجه الشبه مع سورة النساء.

    1.   

    سورة المائدة وما اشتملت عليه من الفرائض والمحرمات التي لا توجد في غيرها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فسورة المائدة مدنية باتفاق أهل التفسير، وهذه السورة المباركة بدأ نزولها وقت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وامتد نزولها إلى قبيل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً[المائدة:3]، هذه الآية نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، وما عاش بعدها إلا إحدى وثمانين ليلة.

    وكأن هذه السورة المباركة استمر نزولها حوالي أربع سنوات، وهذه السورة فيها عشرون ومائة آية، في ألفي كلمة وثمانمائة وأربع، وفيها من الحروف أحد عشر ألف حرف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً.

    وهذه السورة المباركة هي أكثر سور القرآن اشتمالاً على النداء بوصف الإيمان، فقد تكرر فيها النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) ست عشرة مرة.

    وفيها سبع عشرة فريضة لا توجد في غيرها من سور القرآن، والله عز وجل قد ذكر فيها المحرمات، ومن بينها: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ[المائدة:3]، وهذه لا توجد في غيرها من سور القرآن.

    كذلك قول الله عز وجل: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ[المائدة:4]، وكذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ[المائدة:5].

    وحد السارق مذكور فيها ولم يذكر في غيرها، وكذلك حد الحرابة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ[المائدة:33].

    أيضاً مما ذكر في هذه السورة ولم يذكر في غيرها تسفيه المشركين في تحريمهم لبعض بهيمة الأنعام: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103].

    وهذه السورة أيضاً اشتملت على آية الوصية: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ[المائدة:106]، إلى آخر الآيتين الكريمتين.

    ثم ختمت السورة بالتذكير بيوم القيامة وما فيه من الأهوال، وأن الله عز وجل يوجه سؤالاً للرسل: مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا[المائدة:109]، ومن شدة الهول وعظم الموقف؛ يلجم الرسل فيقولون: لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، يعني كأنهم لا يدرون بأي شيء أجيبوا، هل استجاب الناس لهم أم أعرضوا عن دعوتهم، يقولون: لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:109].

    1.   

    أوجه الشبه والمناسبة بين سورة المائدة وسورة النساء

    وهذه السورة المباركة، بينها وبين سورة النساء أوجه من الشبه، ومن هذه الأوجه: أن في سورة النساء كثيراً من العقود منها: عقد النكاح، وذكر فيها أيضاً الإجارة والوصية، وذكرت فيها المواريث والوديعة، فهاهنا افتتح الله عز وجل هذه السورة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، أي تلك التي ذكرت في السورة السابقة.

    ومن أوجه الشبه: أن في سورة النساء آية الطهارة مجملة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى[النساء:43]، إلى أن قال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا[النساء:43]، وهاهنا آية الطهارة مفصلة، إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6].

    ومن أوجه الشبه أن في سورة النساء تحريم الخمر تحريماً موقوتاً بحال معينة: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى[النساء:43]، أما في هذه السورة فتحريم الخمر تحريماً باتاً: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].

    ومن أوجه الشبه: أن في سورة النساء مجادلة لليهود وتوبيخاً لهم وبياناً لكفرهم، كما مر معنا في هذه الآيات: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:160-161]، وقبلها قال الله عز وجل: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:155-156]، وفي سورة النساء بيان كفر اليهود، وفي هذه السورة بيان كفر النصارى، وتسفيه عقائدهم وبيان ما فيها من زغل ودخل، قال الله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[المائدة:17]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[المائدة:73]، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].

    1.   

    سبب تسمية سورة المائدة بهذا الاسم

    وهذه السورة المباركة سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها قصة المائدة التي طلبها الحواريون من المسيح عليه السلام، ولم تذكر في غيرها من سور القرآن، يعني: أن بعض القصص تتكرر، لكن قصة المائدة ذكرت في هذه السورة ولم تذكر في غيرها، وكذلك قصة ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ذكرت في هذه السورة ولم تذكر في غيرها.

    1.   

    توجيه سؤال الحواريين لعيسى بإنزال مائدة من السماء رغم إيمانهم بالله

    ختاماً: بعض الناس قد يطرح سؤالاً، يقول: بأن الحواريين كانوا مؤمنين ولا شك! والله عز وجل قد أثنى عليهم ومدحهم، فكيف قالوا للمسيح : يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ[المائدة:112]، والمؤمن لا يطرح سؤالاً كهذا، فالمؤمن لا يقول: هل يستطيع ربنا أن يفعل كذا وكذا، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقد أجاب المفسرون على ذلك بأجوبة، أوجهها والعلم عند الله تعالى: أن السين والتاء زائدتان، ومعنى الآية: يا عيسى بن مريم ، هل يطيع ربك؟ هل يجيبك لو أنك دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ وفعلاً عيسى عليه السلام دعا فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:114-115].

    أسأل الله سبحانه أن ينفعني وإياكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013369