بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
يقول الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:46-50].
حكى ربنا جل جلاله في هذه السورة المباركة ما كان من المشركين المستكبرين حين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباعد بينهم وبين الفقراء، وأن يجعل لهم يوماً وللفقراء يوماً؛ لئلا يختلط بعضهم ببعض، وأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه مع أولئك الفقراء؛ لأنهم مخلصون لله، ذاكرون له، حريصون على رضاه، أما أولئك المشركون فقد أغفل الله قلوبهم عن ذكره، وجعلهم متبعين لأهوائهم، ومتجاوزين للحدود في أمورهم، ثم ضرب الله لهم مثلاً بذينك الرجلين اللذين كان أحدهما مؤمناً طيباً مباركاً وإن كان فقيراً معدماً، وكان الآخر كافراً جاحداً متكبراً وإن كان غنياً واجداً، وخاتمة القصة: أن الله عز وجل استجاب لدعوة المؤمن، فأرسل على تينك الجنتين حسباناً من السماء، فأصبحتا صعيداً زلقاً، وأصبح ماؤهما غوراً فما استطاع له طلباً، وأصبح ذلك الغني الكافر يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42]، لكنه ندم في وقت لا ينفع فيه الندم، كما قال ربنا سبحانه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85].
ثم يضرب الله عز وجل لأولئك الكفار المشركين المتكبرين مثلاً ثانياً، فيقول الله عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].
واضرب لهم يا محمد! مثلاً لهذه الحياة الدنيا، و(الحياة الدنيا) لفظة تطلق على المدة التي يبقى فيها الفرد على ظهر هذه البسيطة حياً هو وغيره من الأنواع، وسميت (دنيا) لأنها دانية قريبة حاضرة، وفي الوقت نفسه هي قصيرة يسيرة، مقدر زوالها.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ [الكهف:45]، هذا الماء الطهور الذي ينزله الله عز وجل من السماء ليشرب منه الناس، ويسقون، ويزرعون، ويحرثون، وينتفعون، وهو الذي قال الله فيه: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، هذه الحياة الدنيا كماء أنزله الله من السماء، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24]، اختلاط النبات: التفاف بعضه ببعض بسبب وفرته، وخصوبته، ونمائه، (فاختلط به) أي: بسبب ذلك الماء، ولولا الماء ما نبت نبات، كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24]، وبعدما كان هذا النبات بهياً نضيراً مثمراً بين عشية وضحاها أرسل الله عليه آفةً من الآفات، وسبباً من الأسباب فَأَصْبَحَ هَشِيماً [الكهف:45]، (هشيم) على وزن فعيل بمعنى مفعول أي: مهشوم، يابساً متكسراً، (هشيماً)، ومنه سمي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم هاشماً ، وكان اسمه عمرو ؛ لأن أهل مكة قد أصابتهم سنة، وأصابهم جوع، فذهب ذلك الرجل إلى بلاد الشام وابتاع خبزاً كثيراً حمله على إبل كثيرة، ثم جاء إلى مكة فأمر الطهاة، فنحروا تلك الإبل، وهشموا ذلك الخبز، ثم صبوا عليه من المرق، ووضعوا اللحم، فأطعم أهل مكة وأزال عنهم الجوع، حتى قال عبد الله بن الزبعرى :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
قوله: هشم الثريد أي: كسر ذلك الخبز وفتته، فهذا النبات أصبح هشيماً يابساً متفتتاً.
تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] أي: تفرقه وتطيره وتبدده، من الذرو وهو التفريق.
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45]، الله عز وجل قدرته بالغة كاملة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يرتب أسباب الفناء على أسباب البقاء، وينقل المخلوقات من حال إلى حال، قال أهل التفسير: هذا تشبيه لمعقول بمحسوس، فالشيء المحسوس الذي يراه الناس أن جنةً من الجنان كانت خضرةً نضرة، بهيجةً مثمرة، إذا رآها الناظر أعجب بها، ثم بعد ذلك فجأةً يغير الله عز وجل حالها، ويبدل أمرها، بسبب من الأسباب التي يقدرها، وهكذا الدنيا يا كفار قريش! يا من تكبرتم على عمار و بلال و خباب اعلموا أن هذه الدنيا لا تبقى على حال، بل هي كما شبهها الله عز وجل بالماء في هذه السورة، وفي سورة يونس: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
وكذلك في سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21].
وكذلك في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20].
قال أهل التفسير: وجه الشبه بين الدنيا والماء من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن الماء لا يستقر على حال، فكذلك الدنيا لا تستقر على حال، تارةً تفرح، وتارةً تحزن، تارةً تعطي، وتارةً تمنع، تارةً تصح وتارةً تسقم، تارةً تغني، وتارةً تفقر، فلا تستقر على حال.
الوجه الثاني: أن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا، فهي اليوم هنا، وغداً عند فلان، وبعد غد عند آخر، نجد بلاداً كانت غنيةً رخيةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم أصبحت بعد حين فقيرةً معدمة، لا يجد أهلها قوتاً، أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
الوجه الثالث: أن الماء يذهب ولا يبقى، وكذلك الدنيا تذهب ولا تبقى.
الوجه الرابع: أن الماء لا يدخله أحد إلا ابتل، وكذلك الدنيا لا تصيب أحداً بخيرها إلا أصابته بشرها، فلا يسلم منها أحد.
الوجه الخامس: أن الماء إذا كان بقدر معين فإنه ينفع ولا يضر، فإذا زاد ضر، وكذلك الدنيا إذا أصاب منها الإنسان حاجته فإنه ينتفع بها، فإذا توسع فيها فإنه يتضرر بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفافاً، وقنعه بما رزقه ).
فهذه وجوه خمسة للشبه بين الدنيا والماء وهي: أن الماء لا يستقر بل يتنقل، أن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا، أن الماء لا يدخله أحد إلا ابتل، كذلك الدنيا لا يصيب منها أحد إلا وجد من ضرها ولأوائها، وأن الماء يكون بقدر النفع فإذا زاد ضر، وكذلك الدنيا، وأن الماء لا يستقر على حال، وكذلك الدنيا، وهذا يسميه أهل البلاغة تشبيهاً مركباً؛ لأنها صورة منتزعة من عدة أشياء، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].
فيا من فتح الله عليك أسباب الدنيا لا تغتر، واعلم أنها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وانظر في القرآن كيف حكى الله قصص أقوام فتح عليهم من أسباب الدنيا كـفرعون ، و قارون ، و الوليد بن المغيرة ، و أمية بن خلف ، و أبي لهب بن عبد المطلب ، وغيرهم، فلم يتقوا الله عز وجل في دنياهم، ولم يعرفوا حق الله عز وجل في أموالهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وكانت الدنيا وبالاً عليهم.
يقول الله عز وجل: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
الله عز وجل في هذه الآية المباركة يبين حالةً عامة لهذه الدنيا وهي: أن الناس يتزينون فيها بأمرين اثنين، وعنهما تتفرع بقية الأمور، وهما المال والبنون، فهذان زينة الحياة الدنيا، وقدم الله عز وجل المال على البنين في هذه الآية، وفي قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56].
وفي قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15]، وفي قوله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، وفي قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء:88]، فهذه المواضع كلها قدم الله عز وجل المال على البنين لعدة وجوه:
الوجه الأول: أن المال يرغب فيه كل أحد؛ الشاب والشيخ، والصغير والكبير، وذو الأولاد والعقيم، الكل يحب المال أكثر من حبه البنين، لربما يشبع الإنسان من البنين، فقد يرزق بخمسة أو ستة أو عشرة فيقول: كفى، لكنه لو رزق من المال أضعافاً مضاعفةً فلا يقول: كفى؛ بل يريد الزيادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ).
الوجه الثاني: أن المال لبقاء النفس، والبنين لبقاء النوع، أي أن المال نحتاج إليه في بقاء النفس، من أجل أن يحفظ الإنسان نفسه فلا بد من مال، لا بد من أن يطعم ويشرب ويلبس ويتداوى ويأوي من الحر والقر وغير ذلك، أما البنون فإنما هم لحفظ النوع الإنساني.
الوجه الثالث: قدم الله المال على البنين لأن الحاجة إلى المال أعظم من الحاجة إلى البنين، فلربما يكون الإنسان ذا مال ويستغني عن البنين، لكنه ربما يكون له بنون كثيرون وهو في ضيق حال فيعيش في ضنك ونكال، فمن أجل هذا قدم الله المال على البنين؛ ثم لأن المال من ناحية أقدم في الوجود على البنين.
يقول الله عز وجل: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، أي: زينة يتزين بها المرء، والزينة سرعان ما تنقضي وتزول، قال أهل العلم: المال زينة؛ لأن فيه جمالاً ونفعاً، والبنون زينة؛ لأن فيهم قوةً ودفعاً، ولذلك قال القائل وهو طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي بنون كرام سادة لمسود
الكل يتمنى المال، والكل يتمنى البنين؛ لأن المال والبنين جعلهم الله عز وجل زينةً لهذه الحياة الدنيا، ولكن هناك ما هو أبقى، وما هو أنفع.
قال الله عز وجل: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً [الكهف:46]، (الباقيات الصالحات) وصفان لموصوف محذوف، وتقديره: والأعمال الباقيات الصالحات.
الباقيات هي التي يبقى أجرها، ويدوم ذخرها، وحكم عليها ربنا بأنها صالحة.
قال بعض المفسرين: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وقال بعضهم: بل الكلمات الخمس: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والصحيح: أن الباقيات الصالحات لفظ عام، يشمل كل عمل حكم ربنا بصلاحه، فيدخل في ذلك شعائر التعبد من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وعمرة، ويدخل في ذلك الجهاد، وذكر الله، وطلب العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقيام بحقوق الله، وحقوق عباده، والقيام بحقوق الأزواج، وبحقوق الخدم والمماليك، وبحقوق البهائم، إلى غير ذلك، هذه كلها باقيات صالحات، يبقى لك أجرها عند الله، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض مفردات تلك الباقيات الصالحات، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ( أنه دعا يوماً بوضوء فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح، ثم قام فصلى العصر غفر له ما كان بينها وبين صلاة الظهر، ثم قام فصلى المغرب غفر له ما كان بينها وبين صلاة العصر، ثم قام فصلى العشاء غفر له ما كان بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ على فراشه، فإذا قام فصلى الصبح غفر له ما كان بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات. قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات؟ قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ).
وكذلك روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة ذات يوم فنظر إلى السماء بعد صلاة العشاء، ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض يوم القيامة، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هن الباقيات الصالحات ).
والحديث الآخر الذي في مسند أحمد عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده). فهنا أضاف صلى الله عليه وسلم نوعاً جديداً من الباقيات الصالحات، أما كلمة (بخ بخ) فهي كلمة تقال للإعجاب بالشيء، (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقناً بهن أدخله الجنة: يؤمن بالله، واليوم والآخر، وبالجنة، وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب )، وهنا أضاف صلى الله عليه وسلم خمساً من الباقيات الصالحات تتعلق بأفعال القلوب: ( الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجنة والنار، والحساب، والبعث بعد الموت )، هذه أيضاً من الباقيات الصالحات.
ومن الباقيات الصالحات ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك لساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم )، هذه أيضاً من الباقيات الصالحات.
هذه الباقيات الصالحات، هذه الأعمال التي حكم ربنا جل جلاله بصلاحها، سواء كانت أقوالاً، أو أفعالاً، أو عقائد ونيات.
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الكهف:46]، أي: في الآخرة، ثَوَاباً [الكهف:46]، أي: عاقبةً وفائدةً تعود إلى صاحبها، وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، الأمل هو ما يؤمله صاحبه في المستقبل، الطمع فيما يرجوه في المستقبل، يؤمله من عواقب الباقيات الصالحات، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
هذه الآية المباركة يعظنا الله عز وجل ويوصينا فيها، ويقول لنا: يا مؤمنون! أموالكم وأولادكم جعلها الله عز وجل زينةً لكم في هذه الحياة الدنيا، فلا ينبغي أن تشغلكم أموالكم وأولادكم عن تحصيل عمل صالح يبقى لكم عند الله، وهذا المعنى في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
وفي قول الله عز وجل: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
وفي قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، ثم قال سبحانه: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، وهنا قال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، ولو تأملنا في حال كثير من الناس نجد أنهم قد شغلوا بأموالهم، وأولادهم عما يقربهم إلى ربهم، ولسان حالهم، كما قال الأولون: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، نعوذ بالله من الخذلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ).
يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47].
ربنا سبحانه ينقلنا نقلةً سريعةً من الدنيا إلى الآخرة، يا من شغلتم بالأموال والأولاد اعلموا أن هناك يوماً سينقلب فيه نظام الكون، وتتغير أحواله، يسير الله عز وجل هذه الجبال الرواسي التي عهد الناس منها ثباتاً واستقراراً وبقاءً حتى ظن بعضهم خلودها، كما قال الأول:
ألا لا أرى على الحوادث باقياً ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
ومعلوم أنه لا بقاء إلا لله عز وجل.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [الكهف:47] أي: نسير الجبال من مكانها إلى حيث شاء الله، وقد دل القرآن أن الله عز وجل يفنيها قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه:105-107].
وتسيير الجبال دلت عليه آيات كثيرة من القرآن، كقول الله عز وجل: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]، وقوله سبحانه: وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً [النبأ:20]، يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً [الطور:9-10]، وهذه الجبال بين الله عز وجل في آيات أخرى بأنها تتغير فقال وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، كالصوف الذي انتفش، وهذه مرحلة من مراحل إفنائها، وفي آية أخرى: وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:14-15]، وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، وهذا كله يكون يوم القيامة.
(ويوم) منصوب بفعل مقدر: واذكر يوم نسير الجبال، وفي قراءة: (ويوم تسير الجبال).
وقوله تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47]، (وترى) الخطاب لغير معين، أي: لكل من يتأتى له الرؤية، (وترى الأرض بارزة) أي: ظاهرة مستوية، ليس عليها بناء، ولا جدار، ولا شجر، ولا معلم لأحد، يوم القيامة هذه الأرض تكون بيضاء عفراء، كل ما عليها من مبان وأشجار ونباتات أفناها ربنا جل جلاله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلى القيامة كأنه يراها رأي عين، فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، و إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1] و إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] )، هذه السور الثلاثة بين فيها ربنا جل جلاله بأنه في يوم القيامة يتغير نظام العالم كله.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47] أي: منكشفة مستوية مسطحة لذهاب جبالها، وضرابها، وآكامها، وأشجارها.
قال تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ [الكهف:47]، أي: حشرنا جميع المخلوقات، يعني لا تظن أن الحشر يكون لبني آدم فقط، بل لبني آدم وللدواب والوحوش والطيور، كما قال الله عز وجل: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]، فالكل يحشر، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9].
(وحشرناهم) أي: جمعناهم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن آخر علامات الساعة: نار تخرج من قعر عدن، تحشر الناس إلى المحشر )، أي: تطردهم، وتدفعهم، قال الله عز وجل: وَحَشَرْنَاهُمْ [الكهف:47]، وقد أقسم ربنا على ذلك اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، سيجمع الجميع جل جلاله، قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50].
قال تعالى: فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]، (فلم نغادر) أي: لم نترك، المغادرة: الترك، ومنه سمي الغدير غديراً؛ لأن السيل ذهب وتركه، ومنه سميت الضفائر التي تلقيها المرأة وتتركها خلف ظهرها غدائر، ومنه سمي الغدر غدراً؛ لأنه ترك للأمانة والوفاء، ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
(فلم نغادر) أي: لم نترك منهم أحداً، فلا يظنن ظان أنه سيفلت من الحشر، بل الكل سيحشر، الكبار والصغار، الرجال والنساء.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة ذلك الحشر، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً غير مختونين. قالت أمنا عائشة : يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال لها: يا عائشة ! الأمر أشد من ذلك )، يعني لم يفكر أحد هل بجواره رجل أو امرأة؟ هل هذه المرأة جميلة أو دميمة؟ بدينة أو نحيفة؟ لا، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37].
لو حصل حادث انقلبت سيارة، فإنك ترى الإنسان يقول: نفسي نفسي، لا ينظر هل بجواره امرأة؟ هل بجواره رجل؟ فما بالكم بيوم الحشر؟! الناس حفاة عراة غرلاً، الجلدة التي على الحشفة أو القلفة التي قطعت ستعاد إليك كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وفي الحديث الآخر: ( حفاةً عراةً غرلاً بهماً، قال الصحابة: يا رسول الله! ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، يقفون أمام ربهم كما ولدتهم أمهاتهم، فيكون أول من يكسى إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام )، قال أهل العلم: لأنه عليه الصلاة والسلام أول من تعرى في سبيل الله، لما أراد قومه أن يلقوه في النار جردوه من ثيابه، والجزاء من جنس العمل، فلما تعرى في سبيل الله كان أول من يكسى يوم القيامة، كما ( أن الناس يصعقون فيكون محمد صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، فيجد موسى باطشاً بقائمة من قوائم العرش )، أي: ممسكاً بعرش الرحمن، قال عليه الصلاة والسلام: ( فما أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ ) لأنه قال في الطور: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143]، لما صعق في محبة الله عز وجل، والشوق إلى رؤيته جل جلاله جازاه الله عز وجل يوم القيامة بأن يكون أول من يفيق صلوات الله وسلامه عليه.
يقول سبحانه: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]، كلهم جمعوا.
ثم قال الله بعد ذلك وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48]، قال بعض أهل التفسير: الكل في صف واحد، سبحان الله! كيف يكون طوله إذا وقفت المخلوقات جميعاً صفاً واحداً؟ قال بعضهم: المراد صفوفاً، كما قال ربنا سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، وقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:38]، وقال بعضهم: ليس المراد بالصف هنا الوقوف على استواء، وإنما المراد بالصف الجميع، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] أي: جميعاً، واستدلوا بقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً [طه:64]، أي: جميعاً، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى [طه:64].
يقول الله عز وجل: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48]، نسأل الله عز جل أن ينجينا من أهوال يوم القيامة، هذا العرض بين ربنا حال الناس فيه، فقال سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، وكما قال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وهم معروضون على الله، اللعنات تشيعهم، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48]، وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، يا عبادي! لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسروا جواباً، فإنكم مسئولون محاسبون، يا ملائكتي! أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب )، يعني: ليسوا قائمين على أقدامهم، وإنما على أطراف أنامل أقدامهم، معروضون للحساب.
يقول الله عز وجل: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا [الكهف:48] أي: حضرتم، وهو مجاز عن الحضور، (لقد جئتمونا) اللام واقعة في جواب القسم بمعنى: والله لقد جئتمونا.
والسؤال: هل هذا حديث عن الماضي أو عن المستقبل؟ فلم عبر ربنا بالماضي؟ يعني مثلاً قول الله عز وجل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وأمر الله ما جاء بعد، فالقيامة ما قامت، قال الله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف:99]، ولم ينفخ في الصور بعد، قال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر:71]، وقال: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ [الزمر:73]، فالله عز وجل يعبر عن أحوال القيامة بصيغة الماضي دلالةً على تحقق الوقوع، أي: أنها واقعة لا ريب فيها، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]، لا بد منه.
لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، الله عز وجل يقول للناس وهم وقوف بين يديه يوم القيامة: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، يا أبا جهل ! يا وليد ! يا عتبة ! يا شيبة ! يا أمية ! يا من تكبرتم وتغطرستم أين ثيابكم الفاخرة؟ أين وجوهكم النضرة؟ أين أموالكم المتأثلة؟ أين أولادكم الكثيرون؟ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، حفاةً عراةً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:95].
وقال الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]، كل شيء ذهب عنكم.
ثم يوبخهم الله عز وجل ويقرعهم، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الكهف:48]، وفي الآية الأخرى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ:3]، يا أبا جهل ! ويا أبا لهب ! ويا ملاحدة! لقد كنتم تستنكرون وتسخرون، وتقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات:16]، أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، كنتم تقولون: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الكهف:48].
ثم ينقلنا ربنا إلى مشهد ثالث من مشاهد القيامة بعدما ذكر مشهد الحشر وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]، ومشهد العرض وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48]، ومشهد التبكيت والتوبيخ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الكهف:48].
أما المشهد الرابع فذكره بقوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الكهف:49]، الكتاب معناه الكتب، وهو اسم جنس لكل كتاب، كما قال سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14]، (ووضع الكتاب) إما في الأيدي فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وإما أن المقصود (ووضع الكتاب) أي: في الميزان، وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الكهف:49] أي: الكتب، فَتَرَى [الكهف:49]، الخطاب لغير معين، وهو كل من يتأتى له الرؤية، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ [الكهف:49]، المجرمون جمع مجرم، اسم فاعل من الإجرام، وهو الذي أتى جنايةً عظيمةً تستوجب العقوبة والمؤاخذة، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49]، (مشفقين) الإشفاق: الخوف من أمر يحصل في المستقبل، مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] مما في الكتاب؛ لأنهم يعلمون ما فيه، ويعرفون أنهم ما قدموا حسنة، ولا فعلوا صالحة، ولذلك فهم خائفون وجلون، قد ألجمهم العرق، منهم من يبلغ عرقه كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه -معقد الإزار-، ومنهم من يبلغ ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وهم في تلك الحال قد أوتوا كتبهم بشمائلهم، فيصرخ أحدهم يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]، عندها قال عنه الله: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً [الانشقاق:11-12]، لذلك هو مشفق، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا [الكهف:49]، أي: يا وليتنا! احضري هذا أوانك، كما مضى معنا في قوله تعالى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي [الكهف:42]، يا ليت! احضري هذا أوانك، وكقوله تعالى على لسان يعقوب: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84]، وكقول القائل يوم القيامة: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56].
ثم بعد ذلك يبدءون بتقليب تلك الكتب وفحصها، ويقولون: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49].
وتلاحظون أنهم قدموا الصغيرة على الكبيرة، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: يا ويلتاه! ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر، يعني وجدوا الصغائر من الكثرة والسعة بحيث بدءوا يضجون منها، فالصغائر التي فعلوها تكفي لهلاكهم، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49]، الإحصاء: العد، (إلا أحصاها) إلا عدها وحواها وجمعها، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الصغائر: ( إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على العبد حتى يهلكنه )، وفي الحديث عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: ( لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفراً من الأرض )، أي: صحراء ليس فيه شيء، ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا، من وجد عوداً فليأت به، ومن وجد حطباً فليأت به، قال: فما كان إلا ساعةً حتى جعلناه ركاماً )، الصحابة رضي الله عنهم منهم من وجد عوداً، ومنهم من وجد حطباً فأتوا به وجمعوه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( قال: أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرةً ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه ).
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
يقول سبحانه: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]، أي: كل ما اقترفوه من إجرام وتكذيب لرسل الله، ومحادة لأولياء الله، وسعي في الأرض بالفساد، سيجدونه حاضراً، يقول سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30]، ويقول سبحانه: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، ويقول سبحانه: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يونس:30].
ثم ختم ربنا هذه الآية بعدما فزعت قلوب المؤمنين، ودخل الخوف نفوسهم طمأنهم ربنا بقوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]، حين تقرأ هذه الآية يا مؤمن! لا تظنن أن الله عز وجل سيظلمك شيئاً من حسناتك، أو سيزيد شيئاً في سيئاتك، فهو سبحانه قد نزه نفسه عن الظلم، فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، وقال: وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]، فالله عز وجل لا يظلم، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
يقول سبحانه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [الكهف:50]، وعلاقة هذه الآية بما قبلها من وجهين:
الوجه الأول: أن الله عز وجل تحدث عن آخر أيام الدنيا، وهو يوم القيامة، وهنا يحدثنا عن اليوم الأول حين خلق الله أبانا آدم ونفخ فيه من روحه.
الوجه الثاني: أن الآيات متصلة في ذكر مصير المتكبرين، فأول من تكبر إبليس حين قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، فهؤلاء المشركون الذين تكبروا على ضعفاء المسلمين إمامهم وقدوتهم إبليس، ولذلك الله عز وجل يذكر مصير إبليس فيقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [الكهف:50]، كان هذا القول قبل أن يخلق الله آدم؛ لقوله تعالى في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28-29].
وفي سورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72]، فالأمر من الله عز وجل قبل أن يخلق آدم، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [الكهف:50]، اسجدوا سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [الكهف:50]، أي: بادروا إلى تنفيذ أمر الله، وبين ربنا تعالى في آيات أخرى أن هذا السجود كان من الملائكة طراً، ما تخلف منهم أحد، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ))[ص:73] بالتوكيد.
يقول تعالى: فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ [الكهف:50] لعنه الله، إبليس الشيطان الرجيم، وإبليس مشتق من البلس وهو التحير، يقال: أبلس فلان إذا تحير، إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ [الكهف:50]، وهذه الآية دليل على أن إبليس لم يكن من الملائكة، قال الحسن البصري : والله ما كان من الملائكة طرفة عين، هذه الآية منطوقها واضح في أن إبليس لم يكن ملكاً، والدليل قوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ [الأعراف:12]، والملائكة مخلوقون من نور، والدليل قوله تعالى عن الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، وإبليس قد عصى، فإبليس كان من الجن، قال بعض أهل التفسير: كما أن آدم أبو الإنس، فإبليس أبو الجن، ولكن ظاهر الآية أنه واحد من الجن، إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ [الكهف:50] والفسوق هو الخروج، ومنه يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، أي: ما أطاع الله عز وجل فيما أمر بل ترك أمره، وابتعد عنه، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50].
ثم يوجه ربنا الخطاب إلى بني آدم، خاصةً أولئك المشركين قائلاً: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50].
(أفتتخذونه) هذا استفهام للإنكار، بمعنى أفتصيرون هذا الشيطان الرجيم (وذريته) ممن تناسلوا منه أولياء، ومن العجب أن كثيراً من المفسرين بدءوا يبحثون كيف تناسل إبليس! وهل له زوجة أم زوجات؟ أم له فرجان؟ وليس لنا شأن بهذا كله، فهذا أمر قد ستره الله عنا، فهو من علم الغيب، ولذلك فإن الإمام الشعبي رحمه الله لما جاءه أحد الناس قال له: هل لإبليس زوجة؟ قال له: نعم، قال له: ما الدليل؟ قال: قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ [الكهف:50]، والذرية لا تكون إلا من تزاوج، قال له: فما اسمها؟ فقال له الشعبي : ذلك عرس لم أشهده، بمعنى أن العقد هذا لم أكن حاضراً وقته حتى أعرف اسم زوجته.
كذلك بعض الناس يسأل: كيف تناسل إبليس؟ الله أعلم، لكن جاء في الحديث بأن إبليس عليه لعنة الله لما طرد من الجنة قال: ( يا رب! طردتني من الجنة من أجل آدم فأعطني، قال الله عز وجل له: لا يولد لآدم ولد إلا ولد لك عشرة، قال: يا رب! زدني، قال: أنظرتك إلى يوم يبعثون، قال: يا رب! زدني، قال: جعلت صدورهم مساكن لك ولذريتك )، قال تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5]، ( قال: يا رب! زدني، قال: استفزز من استطعت منهم بصوتك والمزمار، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ).
ومن العجيب أيضاً أن المفسرين عني كثير منهم بذكر أسماء الشياطين، وذكروا أن واحداً منهم اسمه: مرة، وهو صاحب المزمار وبه يكنى إبليس فيقال: أبو مرة، وواحداً آخر اسمه: الولهان، وهذا ثابت في الحديث وهو شيطان الطهارة، وثالثاً: خنزب وهو شيطان الصلاة، ورابعاً: داسم وهو شيطان البيوت.
فإذا دخل الإنسان بيته فلم يذكر اسم الله يبدأ داسم يحرشه على زوجته وعياله. يعني إذا دخل البيت ولم يقل: بسم الله، ولم يسلم على أهله، يبدأ هذا الشيطان يحرشه بأن هؤلاء القوم وضعوا كذا في هذا المكان، وكسروا ذلك الكوب، وهذه المرأة ما نظفت الطفل، فيتحول الرجل إلى شيطان رجيم، ويشتم ويضرب ولربما يطلق؛ لأنه لم يذكر الله، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بأن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأعظمهم عنده جاهاً أعظمهم فتنة )، أي أن أحسن واحد مقدم عند إبليس أعظمهم فتنة، ( يأتيه أحدهم يقول له: ما زلت بفلان حتى فعل كذا، يقول له إبليس: ما صنعت شيئاً سيتوب، يقول له الآخر: ما زلت بفلان حتى سب فلاناً، يقول له: ما صنعت شيئاً سيصطلحان، حتى يأتيه شيطان فيقول له: ما زلت بفلان بينه وبين امرأته حتى قال لها: أنت طالق، فيلتزمه إبليس يقول له: أنت الفتى، أنت الفتى )، هذا الذي فرق بين زوجين هو المقدم عند إبليس.
ولذلك يا عبد الله! لا تحقق للشيطان أمنيته، إذا حصل بينك وبين الزوجة خلاف فاذكر الله عز وجل، فإذا احتدم الخلاف فاقرأ قرآناً، فإذا اشتد الخلاف فاترك الغرفة، فإذا جاءت وراءك إلى الغرفة فاترك البيت واذهب إلى المسجد، صل ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً، فإذا وجدت المسجد مغلقاً فاذهب إلى أي مكان من أجل أن تفوت على إبليس الفرصة، سترجع بعد ساعة وستجد الحال غير الحال، ادخل بيتك وقل: بسم الله، اللهم إنا نسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله خرجنا، وبسم الله ولجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم قل: السلام عليكم، ومعها ابتسامة، ستجد بأن الجليد قد ذاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أما أن تكون مطيعاً لإبليس تتخذه ولياً، لربما تكلمت الزوجة بكلمة فيقول لك إبليس: كيف تسكت عنها؟ ألست رجلاً؟ تكلم ورد عليها، فترد، وهي لن تسكت بل سترد، يقول لك: رفعت صوتها فلم ترفع صوتك، أشاحت بيدها وأنت ارفع يدك، الطم واضرب وادفع، ثم بعد ذلك يقول لك: طلق هذه آخر قذيفة عندك تملكها أنت ولا تملكها هي، فمن فعل ذلك فقد اتخذ الشيطان ولياً.
يقول الله عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [الكهف:50]، (أولياء): جمع ولي من الولاية بالفتح، وهي القرب والمراد به القرب المعنوي بالصداقة وما إلى ذلك.
قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: أعداء، كلمة عدو تطلق على الواحد وعلى الجمع، كما في كلمة الطفل وكلمة الضيف، عداوة الشيطان لآدم وبنيه بينها ربنا في القرآن، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، وقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، ومن مظاهر تلك العداوة بأننا يوم العيد في الحج نرجمه عند العقبة الكبرى، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، قال الله عز وجل: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر