بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
ففي الآيات التي سبقت بين فيها ربنا تبارك وتعالى سوء أدب المشركين مع ربهم، وتكذيبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا لا يكفون عن الاقتراحات، وكانوا يقولون: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8]، وقد أجاب ربنا تبارك وتعالى بقوله: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]، فلو استجاب الله عز وجل لرغباتهم وحقق مقترحاتهم، وأنزل ما يريدون من الآيات؛ لتبع ذلك حلول العذاب، وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ .
قال الله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9]، فلو قدر الله عز وجل أن يبعث ملكاً؛ لجعل هذا الملك رجلاً؛ من أجل أن يراه الناس على طبيعتهم، ويقتدوا بحاله، كما قال سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95]، لكن لما كان سكان الأرض بشراً، فإن الله عز وجل جعل الرسول بشراً، من أجل أن يروا حاله ويسمعوا أقواله، ويقتدوا بأفعاله، فيأكلون كما يأكل، ويشربون كما يشرب، ويمشون كما يمشي، ويصنعون ما يصنع، هذه هي حكمة الله عز وجل.
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9]، أي: لخلطنا عليهم مثل الذي يخلطون.
يقول الله عز وجل مسلياً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ومعزياً إياه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10]، اللام واقعة في جواب القسم، وقد: حرف تحقيق، وكلاهما مؤكد للخبر، وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10]، والاستهزاء والسخرية كلاهما بمعنى واحد، لكنه استخدم لفظ الاستهزاء؛ لأنه أكثر.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، أي: لست يا محمد بدعاً من الرسل، إن كان القوم قد استهزءوا بك، وأساءوا الأدب معك، ونسبوا إليك ما ليس فيك، فنسبوا إليك السحر والجنون والكهانة والفتنة.. وغير ذلك من ألفاظ السوء، فقد تعرض المرسلون من قبلك لمثل هذا، بل تعرضوا للتكذيب كما كذبت: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34]، وهذه الآية المجملة بين فيها ربنا جل جلاله أن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد استهزئ بهم.
وقد فصلت آيات القرآن في هذا الاستهزاء، فقد بين ربنا جل جلاله أن قوم نوح سخروا منه، وكانت تلك السخرية: أنه لما بدأ في صنع السفينة، قال له قومه: يا نوح! قد صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً، أين الماء الذي تسير عليه هذه السفينة؟ فكان نوح عليه السلام يجيب بقوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، فكانت العاقبة أنه حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، قال الله عز وجل: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14]، وقال الله عز وجل: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا [نوح:25]، وقال: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، فأنزل الله عز وجل بأولئك القوم ما يستحقون من عذاب ونكال.
وكذلك قوم هود، كانوا يسخرون من هود عليه السلام، فيقولون عنه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:33-34]، وكانوا يقولون له: يا هود! إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، كانوا يقولون له: بسبب كلامك في الآلهة قد أصابك بعض السوء، مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53]، فالله عز وجل بين ما حاق بهم من العذاب، قال سبحانه: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:6-7]، وقال سبحانه: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:41-42].
وكذلك قوم صالح كانوا يقولون له: يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود:62]، أي: كنا نظن بك الخير، وننتظر منك البر، فبين ربنا ما حاق بهم، فقال سبحانه: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5]، وقال سبحانه: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [هود:67-68].
وكذلك قوم شعيب كانوا يسخرون من نبيهم، فيقولون له: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91]، يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، وكانوا يقولون لشعيب: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء:186-187]، أسقط علينا قطعاً من السماء إن كنت من الصادقين.
وكذلك قوم لوط، سخروا بنبيهم عليه السلام، وكانوا يقولون: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، ولما ذكرهم بالله: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78] أي: بالزواج المشروع، الحلال، فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78]، فأجابوه الجواب اللئيم: قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79]، قال الله عز وجل: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].
يقول الله عز وجل: يا محمد! هؤلاء الرسل من قبلك قد استهزئ بهم، (فحاق) حاق.. يحيق.. حيقاً، وحيوقاً، وحيقاناً، أي: نزل، فنزل بهؤلاء الذين سخروا -أي: استهزءوا- منهم ما كانوا به يستهزئون، كانوا يستهزئون بنزول العذاب مثل استهزاء قومك، فقد كان الكفار إذا بلغ بهم الكفر عرامةً يقولون له: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، فكان وجوده صلى الله عليه وسلم أماناً لهؤلاء الكفار المكذبين.
وفي قوله: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون[الأنعام:10] نلاحظ فصاحة القرآن، فتارة يستخدم الاستهزاء، وتارة يستخدم السخرية، لئلا تكرر الألفاظ فيكون في النفوس سآمة وملل.
يقول الله عز وجل: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].
يا متكبرون، يا مستهزئون، يا ساخرون، يا من تستبعدون نزول العذاب، يا من تكذبون بهذه الآيات، سيروا في الأرض، سافروا، اضربوا مشارق الأرض ومغاربها، اذهبوا إلى ديار عاد -وما هي منكم ببعيد-، وإلى ديار ثمود، وإلى ديار قوم لوط، وإلى ديار مدين..، وإلى غيرها من البلاد التي سكنها قوم مكذبون مفترون، سافروا في الأرض، فانظروا واستخبروا؛ لتعرفوا ما حل بالكفرة من العقاب وأليم العذاب، فكروا في أنفسكم وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية -الذين كذبوا رسله وعاندوهم- من العذاب والنكال في الدنيا مع ما أعد الله لهم من العذاب الأشد الأبقى في دركات الجحيم، وهؤلاء الذين عذبهم الله في الدنيا يقول الله عنهم: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]، فهل كان هذا العذاب الأليم كفارةً لذنوبهم؟ اللهم لا ، فقد أعد الله لهم عذاباً أشد وأبقى، جزاءً على تكذيبهم.
يأمر الله عز وجل أبا جهل و أبا لهب و عقبة بن أبي معيط و عتبة بن ربيعة و أبي بن خلف و الوليد بن المغيرة و الأخنس بن شريق ، وأمثالهم من صناديد الكفر وأئمة الضلال، يأمرهم بأن يعتبروا بحال من قبلهم.
سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا ، إما أن يكون النظر القلبي بمعنى العلم، وإما أن يكون النظر الحسي بالباصرة، بمعنى: الرؤية.
ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ، هناك وصفهم الله عز وجل بالاستهزاء، وهاهنا وصفهم بالتكذيب؛ دلالةً على أن الوصفين المذمومين متلازمان، فالاستهزاء يستلزم التكذيب، والتكذيب مستلزم للاستهزاء، فمن استهزأ بالرسول فقد كذبه، ومن كذب الرسول فقد استهزأ به؛ ولذلك تارة يصفهم بأنهم مستهزئون، وتارة يصفهم بأنهم مكذبون.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ، هذا سفر، قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: وهذا السفر مندوب إليه، إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار.
قال الله عز وجل: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ [الأنعام:12].
قل يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- لهؤلاء المكذبين المستهزئين: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، هذا استفهام يراد به التقرير، أن يقررهم، وقد كانوا مقرين بأن الكل لله، يقول الله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61]، قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89]، قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12]، ولم ينتظر منهم جواباً! تبكيتاً وتوبيخاً، فقال: قُلْ للهِ [الأنعام:12]، أي: فلا تنتظر من هؤلاء المعاندين جواباً؛ لأنهم جحدوا بآيات الله، وقد استيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بلداً قال: ( اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها وشر ما فيها )، وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ [المائدة:17]، وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:189]، للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، أَلا إِنَّ للهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [يونس:66]، الكل لله جل جلاله.
قال تعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ [الأنعام:12]، وكأن سؤالاً سيطرح من قبل المشركين والمؤمنين معاً، سيقولون: إذا كان الله مالك السموات والأرض ومن فيهن، وما فيهن، فلم لا يعاجل هؤلاء الكفار المكذبين به بالعذاب؟ قال الله عز وجل: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4]، وقال: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف:58]، لكن الله عز وجل أجاب على هذا السؤال بقوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، جل جلاله، فهو لا يعاجلكم بالعذاب، ولا يباغتكم بالعقاب؛ لأنه جل جلاله كتب على نفسه كتاباً، فهو موضوع عنده أن رحمته تسبق غضبه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً عنده فوق العرش: إن رحمتي تسبق غضبي )، فهو الرحمن الرحيم جل جلاله؛ ولذلك حملة العرش ثمانية، أربعة يقولون: سبحانك على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك على عفوك بعد مقدرتك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، ينسبون إليه الصاحبة والولد، وهو يرزقهم ويعافيهم ).
فالناس يسبون الله، ويسبون رسول الله، ويسبون دين الله، ويكذبون آيات الله، ومع ذلك الله عز وجل يرزقهم ويعافيهم؛ لأن رحمته تسبق غضبه، جل جلاله، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، لكن إلى أجل، لا بد أن يكون هناك يوم يحاسب فيه المسيء، ويجازى فيه الظلوم، ويؤخذ المذنب بجريرة ذنبه، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، أي: والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه! واللام واقعة في جواب قسم مقدر: ليجمعنكم كلكم، يا أيها الناس! أنتم مجموعون، كما قال الله عز وجل: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9]، يجمع الله الأولين والآخرين، من لدن آدم عليه السلام إلى آخر رجل تقوم عليه الساعة، كلهم مجموعون في صعيد واحد، في أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي، لا معلم فيها لأحد، والجميع حفاة، عراة، غرل، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، أي: هذا اليوم يا مشركون، يا مكذبون، لا ريب فيه، ولا شك فيه.
وقد نفى الله عز وجل الريب عن ذلك اليوم بعدة أساليب في كتابه الكريم. من ذلك:
أولاً: أن الله عز وجل قاس الخلق الآخر على الخلق الأول، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]، وقال: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:66-67]، وقال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، فهذا قياس النشأة الثانية على النشأة الأولى، هذا أسلوب من أساليب القرآن.
ثانياً: قياس إخراج الناس من قبورهم، وإنباتهم من عجب ذنبهم على إنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض وإنباتها، يقول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، تمر على الأرض الصفراء الجرداء، فينزل الله عليها الماء فتهتز خضراء، كذلك يا أيها الإنسان! أنت في قبرك قد بليت، صرت تراباً، قد فنيت، إلا عجب ذنبك، عظم صغير، يسير، ينزل الله عز وجل مطراً من السماء كالطل .. كالندى ليس مطراً غزيراً، فيتخلق الناس في قبورهم تخلق النبات، ويخرجون إذا أذن الله عز وجل بأن يبعثر ما في القبور جل جلاله، وهذا أسلوب آخر من أساليب القرآن.
ثالثاً: قياس خلق الإنسان الضعيف المحدود على خلق الشيء العظيم الكبير، يقول تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، فيا من تكذب بالبعث، انظر إلى السموات التي لا تستطيع أن تحيط بها وأن تدركها ببصرك، وقد أقامها الله بغير عمد ترونها، وانظر إلى الأرض التي ألقى الله فيها رواسي، وانظر إلى نفسك أنت! أيها الضعيف، الصغير، المسكين! فالذي قدر على الأكبر قادر على الأصغر.. جل جلاله، كل شيء عنده هين، إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47]، هذا أسلوب القرآن.
لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، لا شك فيه.
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12]، وسمي يوم القيامة وأصله يوم القيام؛ لأن الناس يقومون لرب العالمين، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، يقومون على أقدامهم، ليس هناك كراسي ولا آرائك ولا سرر ولا بسط، بل الكل قائم، والشمس دانية من رءوسهم، وهم حفاة عراة، ولهم كظيظ وزحام وعرق.
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأنعام:12]، خسروا أنفسهم يوم القيامة.
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، لا يصدقون بالمعاد، لا يصدقون بأن هناك يوماً يجمعهم الله ويحاسبهم على ما قدموا من خير وشر.
يقول سبحانه مبيناً عظمته وجلاله وكبرياءه: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13].
قيل في سبب نزول هذه الآية: إن المشركين قبحهم الله، قالوا: يا محمد! علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، يقولون له: يا محمد! أنت تخالف ديننا وتسفه أحلامنا؛ من أجل أنك بحاجة إلى المال، الله أكبر! ما أشبه الليلة بالبارحة! فالملاحدة في أيامنا هذه! وأهل العلمنة والهرطقة، إذا جوبهوا بأن المستقبل للإسلام وأن الناس في كل يوم يزدادون عودة إلى الدين، ويقال لهم: انظروا إلى بيوت الله، الشباب أكثر أم الشيوخ؟! يقولون: الشباب، انظروا إلى المستمسكين بالدين والعاضين عليه، والحريصين على تعلمه، أشباب أم شيوخ؟ يقولون: بل شباب، وتورد لهم النتائج من حياة المسلمين، سياسية واقتصادية وفكرية.. يقولون لهم: انظروا، أكثر الكتب مبيعاً، ما هي؟ يقولون: الكتاب الإسلامي، انظروا، إذا كان هناك حرية وأتيح للناس الاختيار الحر، من يختارون؟ يقولون: يختارون من يرفع شعار الإسلام، إذاً: فالمستقبل للدين، يقولون: لا، أبداً، وإنما الناس يفعلون ذلك بسبب الأحوال الاقتصادية؛ لأنهم يعانون من البطالة، ثم يبدأ يفتش في الأوراق ويستخرج إحصاءات، والشباب يعانون من فراغ، الشباب ليس عندهم ثقة في المستقبل؛ ولذلك يلجئون إلى الأمور الغيبية، هكذا يعللون، مثل ما قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إنك ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك مالاً حتى تصير أغنانا، فالله عز وجل قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، ( والله عز وجل عرض على محمد صلى الله عليه وسلم أن يحول له بطحاء مكة ذهباً، فقال: لا يا رب، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر )، ( والله عز وجل خيره بين أن يكون ملكاً نبياً، أو عبداً نبياً، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فاختار أن يكون عبداً نبياً، وقال: إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، لا آكل متكئاً )، هذه حاله صلوات ربي وسلامه عليه.
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فالجميع خلقه، والجميع عباده، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93]، والجميع تحت تصرفه وتدبيره، والجميع تحت ملكه وقهره، جل جلاله.
وَلَهُ مَا سَكَنَ ، أي: هدأ واستقر، والمراد: ما سكن وما تحرك، هذا أسلوب إيجاز.. إيجاز بالحذف، كما قال الله عز وجل: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81]، والمراد: تقيكم الحر والبرد، لكنه إيجاز بالحذف، فلله عز وجل ما سكن وما تحرك، وقال بعض المفسرين: خص الساكن بالذكر؛ لأن الساكن أكثر من المتحرك، فالساكن فيما نرى أكثر من المتحرك.
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، يا مشركون، انتبهوا! هو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم.
قال عز وجل: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، وفي قراءة غير متواترة: وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِمُ، لا يطعم جل جلاله، قل يا محمد، قل لهؤلاء المشركين: أغير الله أتخذ ولياً، أي: رباً ومعبوداً وناصراً، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64]، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ، وهذا سؤال مراد منه النفي: لا أتخذ ولياً غير الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، مبدعهما على غير مثال سابق، أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ، وفي السورة نفسها: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً [الأنعام:164]، أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [الأنعام:114].
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ، جل جلاله، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، فهو سبحانه وتعالى يطعم ولا يطعم، وفي الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً من الأنصار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام، يقول أبو هريرة : فانطلقنا معه ناحية قباء، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنىً عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال وبصرنا من العمى، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين ), فانظروا إلى هذه الكلمات الطيبات المباركات، وما فيها من ثناء على رب الأرض والسموات.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ [الأنعام:14]، من الله عز وجل، أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام:14]، أي: من هذه الأمة التي بعثت إليها، وإلا فقد كان هناك مسلمون من قبله، كما قال الله عز وجل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، وقال سبحانه: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، وقال في دعاء يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يوسف:101]، وقال عن قوم لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36].
وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]، هذا نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإشراك، والمراد أمته، فحاشاه أن يشرك، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].
يقول تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
قل لهؤلاء المشركين، الذين تارة يدعونك إلى ترك الدعوة، وتارة يدعونك إلى أن تعبد آلهتهم يوماً؛ ليعبدوا إلهك يوماً، قل لهم: إني أعبد ربي عبادة الراغب الراهب، عبادة الخائف الراجي، إِنِّي أَخَافُ ، هذه من صفات رسولنا صلى الله عليه وسلم، يقول عن نفسه: ( والله، إني لأخشاكم لله )، والخشية هي أشد الخوف، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ، بعبادة غيره.
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، وهو يوم القيامة، سماه الله عز وجل يوماً عظيماً، وسماه: يوماً عقيماً، وسماه: يوماً عبوساً قمطريراً. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، ومن عظمة ذلك اليوم أن الأنبياء جميعاً دعاؤهم: يا رب! سلم.. سلم، الكل يدعو بالسلامة، حتى إنه من هول ذلك اليوم وشدته إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين، وقال للمرسلين: ماذا أجبتم؟ لا يستطيعون الكلام، يقولون: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، لا ندري بأي شيء أجبنا، أنت الذي تعلم، جل جلالك، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .
قال الله عز وجل: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ[الأنعام:16]، من يصرف عنه ذلك العذاب فقد رحمه الله.
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]، والله لا فوز أعظم من هذا، نسأل الله أن يجعلنا من الفائزين.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ [آل عمران:185]، ما قال الله عز وجل: من أبعد، من صرف.. لا، من زحزح، مجرد زحزحة. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، والفوز هو: حصول الربح ونفي الخسارة، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ .
وأختم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل في دار الدنيا رحمة واحدة، فبها ترحم الأم وليدها، وادخر ليوم القيامة تسعاً وتسعين رحمة، فهي نائلة كل من مات لا يشرك بالله شيئاً ).
نسأل الله أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر