بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أما بعد:
ففي الآيات التي مضى شرحها يقول الله عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130], بين ربنا جل جلاله ما يكون يوم القيامة من سؤال الإنس والجن عما فعلوه مع دعوة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, الذين تلوا عليهم الآيات وأنذروهم يوم القيامة وما فيه من الأهوال.
في هذه الآيات المباركة يقول الله عز وجل: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134], (ما) هنا موصولة بمعنى: الذي, وعائد الصلة محذوف, تقديره إن الذي توعدونه لآت, أي: لجاءٍ, ولقريب.
قوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134], (توعدون) هاهنا, إما أن تكون من الوعد, وإما أن تكون من الوعيد. أما إذا كانت من الوعد فقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى إذا وعد بخير فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد؛ لقوله سبحانه: إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ[آل عمران:9].
وأما إذا أوعد بالشر جل جلاله ففي هذا تفصيل:
فإذا كان الموعد بالشر مسلماً فهو تحت المشيئة, إن شاء الله أنفذ وعيده فيه وإن شاء عفا، كما قال سبحانه: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48], فكل ذنب دون الشرك فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر, وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أصاب من هذه الحدود شيئاً فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور, ومن لم يؤخذ به في الدنيا فأمره إلى الله, إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ), (من أصاب من الحدود شيئاً): من زنا، من قذف، من سرق، من أخاف السبيل، من شرب الخمر، من بغى على الإمام العدل فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له, ولا يعاب جل جلاله بإخلاف الوعيد، بل لا يعاب الإنسان لو أخلف وعيده, فلو أنك توعدت إنساناً بسوء، ثم بعد ذلك تمكنت منه فعفوت عنه، فإن ذلك يكون محموداً، وكما قال القائل:
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
الموعد ينجزه, أما الوعيد فإنه يخلفه, إذا كان الوعيد في حق المسلم فالله عز وجل جعله تحت المشيئة.
أما إذا كان الوعيد للكافر المشرك، الذي مات وهو صاد عن سبيل الله, ومحاد لله ورسوله فالوعيد نافذ؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72], وبين ربنا جل جلاله أن أهل النار يوم القيامة -عياذاً بالله- من حالهم يقولون لأهل الجنة: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ [الأعراف:50], فيكون جواب أهل الجنة: إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51].
يقول الله عز وجل: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134], وما أنتم أيها الكفار والمشركون والفجار والعاصون بمعجزين الله جل جلاله, المعجزون: جمع تصحيح لمعجز, والمعجز: اسم فاعل من الإعجاز، وهو الفوت والهرب, يقول الله عز وجل: ما أنتم أيها الكفار والمشركون بفائتين الله عز وجل ولا بهاربين من قضائه وقدره وعقوبته وبطشه جل جلاله, وهذا المعنى هو الذي أقرت به الجن حين قالوا: وَأَنَّا ظَنَنَّا [الجن:12] بمعنى: أيقنا, أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن:12], أي: لا أحد يفر من قضاء الله عز وجل وقدره؛ ولذلك الكفار يوم القيامة يقولون: أَيْنَ المَفَرُّ [القيامة:10], والجواب: لا مفر.
قال عز وجل: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ [الأنعام:135].
الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, يأمره ربه جل جلاله بأن يخاطب كفار مكة بهذا الكلام.
قوله تعالى: (( يَا قَوْمِ )) وكلمة القوم في لغة العرب تطلق على خصوص الرجال كما في قول الله عز وجل: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11], ثم قال بعدها: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11], وكما في قول القائل:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
أي: رجال هم أم نساء.
قال تعالى: (( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ )) هذه قراءة الجمهور, وقرأ شعبة عن عاصم وحده بالجمع: (اعملوا على مكاناتكم), والمكانات: جمع مكانة وهي المنزلة التي يتبوؤها الإنسان، وهي تأنيث المكان، كما يقال: الدارة: تأنيث الدار, ولا تعارض بين القراءتين؛ لأن المفرد إذا أضيف إلى معرفة أفاد العموم, كما في قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63], أي: أوامره, وكما في قول الله عز وجل على لسان لوط عليه الصلاة والسلام: قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ [الحجر:68], أي: ضيوفي, وكما في قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ[النور:31], أي: الأطفال الذي لم يظهروا على عورات النساء.
وقوله تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ هذه الآية فيها تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين رسخت أقدامهم في الكفر, وكانوا يستهزئون بالقرآن, ويستهزئون بالنبي عليه الصلاة والسلام، فالله يهددهم ويتوعدهم ويقول: اثبتوا على كفركم, اصبروا على شرككم, كونوا على صدكم عن سبيل ربكم، اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ أي: إني ثابت القدم على الإيمان, إني راسخ في الإسلام, وهذه الآية تهديد، كما في قول الله عز وجل: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82], وكما في قول الله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40], وكما في قول الله عز وجل: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29], هذا كله تهديد, لا يفهم من هذه الآيات أن الله أباح الكفر أو أباح لهم أن يبقوا عليه.
قال تعالى: إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام:135], العاقبة: مآل الأمر، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ أي: هل تكون لي أو لكم؟ أيمكن الله لي أو لكم؟ أينصرني ربي أو ينصركم؟ وقد صدق الله رسوله صلى الله عليه وسلم وعده, فما مات صلوات ربي وسلامه عليه حتى فتح الله له مكة, وفتح له كثيراً من البلاد، ومكنه من نواصي من خالفه من العباد, فدانت له جزيرة العرب واليمن والبحرين، ثم بعد وفاته صلوات ربي وسلامه عليه فتحت الأقاليم والرساتيق، ودخل الناس في دين الله أفواجاً إنفاذاً لوعد الله عز جل حين قال: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21], وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173], إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51], فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14], وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
ثم قال: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:135], أي: الكافرون, كما قال ربنا سبحانه: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ[البقرة:254], ففي هذه الآية ينفي الله عنهم الفلاح بإطلاق, فلا فلاح لهم في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم قال الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام:136].
هذه الآية وما بعدها من الآيات يحكي الله عز وجل فيها طرفاً من سخافات الكفار وهبالات المشركين, وما كانوا عليه من سفه العقول وضعف الأحلام, قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سره أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام إلى قول ربنا جل جلاله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:140], قال ابن العربي المالكي رحمه الله في كتابه القيم -أحكام القرآن- قال: وهذا الذي قاله رضي الله عنه كلام صحيح, فإنها أي: تلك البشرية الجائرة تصرفت بعقولها القاصرة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل, أي: حللوا وحرموا سفاهة بغير معرفة ولا عدل, قال: والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ آلهة أعظم جهلاً وأكبر جرماً, يعني: كونهم اتخذوا آلهة من دون الله وهي تلك الأصنام المنصوبة كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل وذي الخلصة، وغيرها من تلك الآلهة الباطلة التي كانوا يطوفون بها وينذرون لها ويتمسحون بعتباتها ويستخيرونها إذا أرادوا سفراً أو تجارة، وهذه أعظم عند الله من تحليل الحرام وتحريم الحلال.
فإن الاعتداء على الله أعظم من الاعتداء على المخلوقين, والدليل على أن الله تعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في مخلوقاته، أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام, وقد كان عمرو بن العاص رجل من أذكياء العرب ومن دهاة الدنيا، رجل ذكي ألمعي, ما دخل في شيء إلا عرف كيف يخرج منه, وكان رضي الله عنه فصيح اللسان، حاضر البيان، سريع البديهة؛ حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع رجلاً تمتاماً، فأفاءً يقول: سبحان الله خالق هذا وخالق عمرو بن العاص ، وقد قال أحد الناس لـعمرو بن العاص : إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم كنتم تعبدون الحجر, فقال عمرو : تلك عقول كادها باريها, أي: أبطلها باريها جل جلاله, وكما قال الأول:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
العقل وحده لا يكفي؛ ولذلك الآن قد تجدون الهندوسي عالم الذرة أو عالم الرياضيات يعبد البقرة, أين عقله؟! لم يصحبه توفيق الله عز وجل, يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: وهذا الذي أخبر الله تعالى عنه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الله بالإسلام، وأبطله ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
صحيح أنه لا يوجد الآن من الناس عاقل يقول: اللبن حلال لذكورنا ومحرم على أزواجنا, وليس من الناس عاقل يجعل لله عز وجل شيئاً من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام ويجعل للمعبودات من المخلوقين سواء كانوا حجراً أو بشراً أو شجراً أو شمساً أو قمراً نصيباً آخر، ويقول: هذا لله بزعمه وهذا لشركائنا.
فلم قص الله علينا ذلك في القرآن؟ إذا كانت هذه الأشياء قد بطلت بشريعة الإسلام وبعثة خير الأنام عليه الصلاة والسلام؟
يقول ابن العربي رحمه الله: كان من الظاهر أن نميته حتى لا يظهر, وننساه حتى لا يذكر، إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه, وأورده بشرحه, كما ذكر كفر الكافرين به, وحكى حكايات الكفار، قال: وكانت الحكمة في ذلك والله أعلم أن قضاءه قد سبق, وحكمه قد نفذ: بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة, وهذا الذي ذكره الإمام ابن العربي أليس واقعاً؟ يعني: إذا كان فرعون لعنه الله قال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29], فإنه يوجد الآن من الناس من يقول هذا الكلام, إذا كان فرعون قد قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38], فإنه يوجد من الناس من يقول هذا الكلام إما بلسان المقال أو بلسان الحال, إذا كان المشركون الأولون قد احتجوا بالقدر فقالوا: لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148], يوجد من الناس الآن من يحتج بالقدر, فإذا قيل له: لم لا تصلي؟ قال: لو شاء الله صليت, لم تشرب الخمر؟ يقول: لو شاء الله ما شربت, هذا قدر الله، هو يعترض على القدر ويعتقد نفسه فيلسوفاً أو مفكراً, وما درى أن هذه حجة أبي جهل و أبي لهب .
وهذا التشريع الذي حكاه الله عز وجل عن المشركين في الزمان الأول يوجد الآن من الطواغيت والشياطين من يشرع في الدين ما لم يأذن به الله, يقول الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ [الأنعام:136], أي: مما خلق جل جلاله، مِنَ الْحَرْثِ [الأنعام:136], أي: من الزروع والثمار، وَالأَنْعَامِ [الأنعام:136], أي: الإبل والبقر والغنم، نَصِيبًا [الأنعام:136], أي: جزءاً وقسماً, فقالوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136] أي: لأصنامنا وأوثاننا, فما كان لله فهو يصل إلى شركائهم, فلو أن الريح حملت شيئاً من تلك الزروع والثمار إلى نصيب الشركاء؛ قالوا: الله غني عنه, وما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله, فلو أن الريح حملت شيئاً من تلك الزروع والمحاصيل إلى النصيب الذي جعلوه لله قالو: لا بد أن نعيده, ولو أن الماء الذي يسقون به الزرع الذي جعلوه لله أخطأ فذهب إلى نصيب الشركاء تركوه, ولو كان العكس، قالوا: لا. فهذا نوع من التشريع.
وأفحش منه أنهم يقولون: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام:138] أي: حرام, لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا [الأنعام:138]، هي: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138].
ثم حكى ربنا طرفاً آخر من سخافاتهم وجهالاتهم: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ [الأنعام:139], أي: من اللبن, أو من الأجنة، خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً [الأنعام:139], إذا خرج ميتة فهو للذكور والإناث, تقسيمات وتفريعات ومواد مقننة، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام:139].
لو أن إنساناً ظن أن هذه الأشياء قد مضت وانقضى زمانها فنقول: لا، للأسف عرف التاريخ نماذج ممن انتسبوا إلى الإسلام، كالدولة العبيدية الباطنية الخبيثة التي سميت بالدولة الفاطمية, وهذه الدولة كانت مبدلة لحدود الله مغيرة لشريعة الله, وكما قال الإمام السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء قال: ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيدين أي: الفاطميين؛ لأن إمامتهم وخلافتهم غير صحيحة - رغم أنهم حكموا مصر والمغرب وأطرافاً من بلاد الشام- لأمور:
أولاً: أنهم غير قرشيين, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( الخلافة في قريش ), وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام, وإلا فجدهم مجوسي، قال القاضي عبد الجبار البصري : اسم جد الخلفاء المصريين سعيد , كان أبوه يهودياً حداداً نشابة, وقال القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله: القداح جد عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسياً, ودخل عبيد الله المغرب وادعى أنه علوي, ولم يعرفه أحد من علماء النسب, وقال ابن خلكان : أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي جد خلفاء مصر, حتى إن العزيز بالله بن المعز في أول ولايته صعد المنبر يوم الجمعة فوجد هناك ورقة وضعت على المنبر فيها هذه الأبيات:
إنا سمعنا نسباً منكراً يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدعي صادقاً فاذكر أباً بعد الأب الرابع
وكتب العزيز إلى الأموي صاحب الأندلس كتاباً سبه فيه وهجاه, فأجابه الأموي قائلاً: قد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك.
فشق ذلك عليه وأفحمه عن الجواب.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: المحققون متفقون على أن عبيد الله المهدي ليس بعلوي, وما أحسن ما قال حفيده المعز الذي كان يسمي نفسه: المعز لدين الله الفاطمي صاحب القاهرة, وقد سأله ابن طباطبا العلوي عن نسبهم فجذب نصف سيفه من غمده وقال: هذا نسبي, ثم نثر الذهب على الحضور وقال: وهذا حسبي, وقد صدق, يعني: لا تسأل عن نسب ولا حسب, نسبي السيف وحسبي الذهب والمال.
ثانياً: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام, منهم من أظهر سب الأنبياء, ومنهم من أباح الخمر, ومنهم من أمر بالسجود له, والخير منهم رافضي خبيث يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، هذا أحسن واحد فيهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة, ولا تصح لهم إمامة, قال ابن خلكان : وكانوا يدعون علم المغيبات, وأخبارهم في ذلك مشهورة, حتى إن العزيز صعد المنبر يوماً فرأى ورقة مكتوب فيها:
بالظلم والجور قد رضينا وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم غيب بين لنا كاتب البطاقة
يقول له: بظلمك رضينا، بجورك رضينا, أما أن تبلغ بك الحماقة أن تدعي علم الغيب فأنا أتحداك بأن تذكر لنا كاتب البطاقة.
كان واحد من هؤلاء اسمه أبو علي منصور بن العزيز نزار بن المعز محمد بن المنصور إسماعيل العبيدي الرافضي الخبيث, سمى نفسه: الحاكم بأمر الله , ويسميه العلماء: الحاكم بأمر الشيطان, انتبهوا أولئك الجهال قال الله عنهم: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136], وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139], قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم, وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أمر بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس, وبهدم كنائس مصر كلها, حتى أسلم عدد من النصارى خوفاً وهلعاً لا قناعة، وهذا تصرف ليس شرعياً؛ لأن الله يقول: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256], ويقول: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]؛ ولذلك الصحابة الكرام الذين هم أعلم الناس بشرع الله بعد النبي عليه الصلاة والسلام لما فتحوا البلاد لم يهدموا الكنائس خاصة التي في البلاد التي فتحت صلحاً, و عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب لأهل إيلياء (القدس) كتاباً: بأنهم آمنون على كنائسهم وصلبانهم.
هذا الخبيث سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أمر بهدم كنائس مصر كلها, وفي سنة أربع وأربعمائة, يعني: بعد تسع سنوات أذن للنصارى الذين أكرههم على الإسلام بالعودة إلى الكفر, وأنشأ ما هدم من الكنائس, ومنع من بيع العنب وأباد الكروم؛ لئلا يصنع الناس منه خمراً, وهذه ليست شريعة؛ لأنه إن منع العنب فسيمنع التمر وسيمنع الذرة والحنطة ثم الشعير ثم العسل؛ لأن هذه كلها يصنع منها الخمر, وقس على ذلك، وهذا بفعله كأنه يحتاط للشرع أكثر من صاحب الشرع, قال ابن كثير : كان الخبيث يركب وحده في الأسواق على حمار, ويقيم الحسبة بنفسه وبين يديه عبد ضخم فاجر يقال له: مسعود , فمن وجب عليه تأديب أمر العبد أن يولج فيه، أعوذ بالله.
نهى عن تقبيل الأرض بين يديه, بعد أن كان الخلفاء الخبثاء من قبله يأمرون الناس إذا مروا بهم أن يقبلوا الأرض بين أيديهم، ونهى عن الدعاء له في الخطب وفي الكتب, وجعل بدله السلام عليه, فبدلاً من أن يدعى له جعلهم يقولون: عليه السلام, وكأنه ينزل نفسه منزلة النبي، ثم ارتد على عقبيه فأمر الرعية إذا ذكر الخطيب اسمه على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً؛ إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه, فعل ذلك في سائر ممالكه, حتى في الحرمين الشريفين, وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره أن يخروا له سجداً -يعني ليس قياماً فحسب, بل قيام وسجود-حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ممن كان لا يصلي الجمعة.
وكان يخترع في كل وقت أحكاماً يلزم الرعية بها, كسبِّ الصحابة رضي الله عنهم, وكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع, وتحريم بيع السمك الذي لا فلوس عليه -أي: الذي لا قشرة عليه- فإذا كان السمك بياضاً وليس عليه قشر فإنه ممنوع, ولما وقع في يديه بعض من يبيع ذلك أمر بقتله.
وأمر النصارى بتعليق صليب في رقابهم زنته رطل وربع, وألزم اليهود أن يعلقوا في أعنقاهم قرمية في زنة الصليب إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه, ومنع النساء من الخروج من البيوت, وأبطل عمل الخفاف لهن جملة -أي منع صنع أحذية للنساء- وما زلن ممنوعات من الخروج سبع سنين وسبعة أشهر, وفي عهده وجدت امرأة متزوجة تزني مع شاب فلُفَّت في بارية -يعني: في الكساء الذي من الحصير- وأحرقت, وأمر بضرب الشاب ألف سوط.
ومن أوابده لعنه الله: أنه ألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً, فامتثلوا لذلك دهراً طويلاً, حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار, فوقف عليه وقال له: ألم أنهكم؟ فقال: يا سيدي! لما كان الناس يعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل, ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار، فهذا من جملة السهر, فتبسم وتركه، وأعجبته حجته.
ومن ظلمه لعنه الله: أنه أنشأ داراً كبيرة ملأها قيوداً وأغلالاً, وجعل لها سبعة أبواب وسماها جهنم, فمن غضب عليه أو سخط عليه ألقاه فيها, وبلغ شره منتهاه حين كان الجهال إذا رأوه يقولون: يا أحد، يا محيي، يا مميت, قبحهم الله جميعاً فلا ينكر ولا يغير.
قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك: والأمم حتى عن له أن يدعي الربوبية, وحتى خاطبه بعض الشعراء الفجار فقال له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
يقول الله عز وجل: وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136].
قال ابن كثير رحمه الله: هذا ذم وتوبيخ من الله تعالى للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً, وجعلوا لله جزءاً من خلقه وهو خالق كل شيء: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].
قال ابن عباس : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه للوثن, وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقا شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله, وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه لله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله: كل شيء جعلوه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبداً حتى يذكروا أسماء الأوثان والآلهة التي يعبدونها, وما كان للآلهة لا يذكرون عليه اسم الله.
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ , أخطأوا في القسمة قبحهم الله، فإن الله تعالى رب كل شيء ومليكه؛ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62], لا إله غيره ولا رب سواه, كما قال سبحانه: وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57], وَيَجْعَلُونَ للهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهمْ الْحُسْنَى [النحل:62], وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58].
يقول سبحانه: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137], وفي قراءة: (وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شُركائهم ليردوهم) أي: وكذلك زينت الشياطين -شياطين الإنس والجن- لهؤلاء المشركين قتل أولادهم, كانوا يقتلون البنات مخافة السبي والعار, وكانوا يقتلون الذكور مخافة الإملاق، (مخافة الفاقة), يقتلون الذكور والإناث.
قال ابن عباس : وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ , زينوا لهم قتل أولادهم: لِيُرْدُوهُمْ, ليهلكوهم، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137], ليخلطوا عليهم دينهم, قال الله عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137], هذا كله واقع بمشيئة الله وإرادته واختياره لذلك كونًا وقدراً، وله الحكمة في ذلك.
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:137], اتركهم وما افتروه على الله عز وجل فسيحكم الله بينك وبينهم.
قال عز وجل: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:138].
قالوا: هذه الأنعام وهذا الحرث (حجر) أي: حرام، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, حرمت عليهم ذلك شياطينهم؛ تغليظاً وتشديداً عليهم, واحتجزوها لآلهتهم، لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:138], كما قال الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116-117].
وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا [الأنعام:138], لا يذكرون اسم الله عليها إن نحروها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن استولدوها.
وكان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شأن من شأنها, لا إن ركبوها ولا إن حلبوها، ولا إن حملوا عليها ولا إن نحروها, افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138], فليس عندهم في ذلك حجة ولا برهان، وإنما هو الكذب على الله عز وجل؛ لأنه سبحانه لم يأذن لهم: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59], هم على الله يفترون.
قال الله عز وجل: سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:138], يتوعدهم سبحانه وتعالى بأن هذا الافتراء سيلقون عليه أشد العذاب: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[الأنعام:21].
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا [الأنعام:139], ما في بطون هذه الأنعام, قال ابن عباس : اللبن، وقال غيره: كانت الشاة إذا ولدت ذكراً قالوا: خالص لذكورنا ومحرم على أزواجنا, فإذا ولدت أنثى تركت فلم تذبح لا للرجال ولا للنساء, وإن خرج من بطن أمه ميتة فهم فيه شركاء, فنهى الله عز وجل عن ذلك وقال: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام:139], أي: قولهم الكذب على الله عز وجل.
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139], حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقضائه وقدره, عليم بأعمال عباده من خير وشر, وسيجزيهم على ذلك كله.
ثم ختم ربنا جل جلاله تلك الآيات بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ[الأنعام:140]. خسروا في الدنيا والآخرة, خسروا في الدنيا أولادهم حيث قتلوهم بأيديهم إما ذبحاً وإما وأداً, قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال في الدنيا والآخرة, ومن خسارتهم في الدنيا أنهم حرموا أنفسهم من الحلال الطيب الذي أباحه الله لهم من الحرث والأنعام, وأما في الآخرة فسيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله، كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70].
أسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا، وذهاب همومنا, وجلاء أحزاننا, وسائقنا إلى جناته جنات النعيم, والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر