إسلام ويب

المحرومونللشيخ : إبراهيم الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا سولت لك نفسك اتباع شهواتها فانظر إلى أحوال من سبقوك إليها: فكم أبكت هذه المغريات من عين! وكم أدمت من قلب! وكم خلفت من أنين لأشخاص كواهم لهيبها .. ولو أصغت السمع لسمعتْ: ضياع .. لعب .. حيرة .. شهوات .. رغبات .. ضحك .. تيه .. سهرات .. إلى متى؟ إنها شهوات حيوانية، فمن يخصلنا؟! ثم إذا اطلعت على أرصدتهم تجد لسان حالهم يقول: خسرت الجنة ..! خسرت السعادة ..! خسرت الراحة ..! اشتريت النار ..! واحسرتا! نحن المحرومون، فهل من فرصة للعمل والتعويض عما فات؟!

    1.   

    أحوال المحرومين

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    ينعقد هذا المجلس في ليلة السبت الموافق للحادي عشر من الشهر السادس للعام (1416هـ) وموضوع هذا اللقاء بعنوان: المحرومون.

    وعفواً أيها الأحبة! وأعتذر أيضاً للأخوات، فلا نجزع من كلمة (محروم) بالرغم من قساوتها، فالكثير منا يشعر بالحرمان، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله، وسأوجه خطابي إلى المحرومين، وسأنادي المحرومين كثيراً فلا نجزع؛ فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت، وقد يكون فلاناً أو فلانة، وقد نكون جميعاً، فالحرمان يتفاوت من شخص لآخر، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.

    فقد تحرم الراحة والسعادة، وقد تحرم لذة السجود والركوع، وقد تحرم قراءة القرآن وتدبر آياته، وقد تحرم كثرة الذكر والاستغفار، وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله، وقد تحرم بر الوالدين والأنس بهما، وقد تحرم لذة الأخوة في الله، وقد تحرم السعادة الزوجية، وقد تحرم أكل الحلال ولذته، وقد تحرم التوبة والندم على ما فات. وقد تحرم حسن الخاتمة.

    فيا أخي الحبيب! ويا أختي الغالية! قد نحرم هذه الأمور كلها، وقد نحرم الكثير منها، وقد نحرم القليل، والسعيد من جمعها ووفق إليها وقليل ما هم، فإن كنت منهم فاذكر نعمة الله عليك واشكره، واعلم أن من تمام شكره النصح والتوجيه للمسلمين، فلا تحرم نفسك أجر التبليغ، فالدال على الخير كفاعله.

    إذاً: فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل، فاحتمل خطابي واحتمل مناداتي لك بـ (يا أيها المحروم!) فإنما قصدت بها الشفقة والرحمة والحب والنصح، وأعوذ بالله أن أكون من الشامتين، فأنا أول المحرومين، أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يتوب علينا توبة صادقة.

    كثير ممن ظاهرهم الصلاح محرومون، فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا حقيقة الهداية والاستقامة، فليست الاستقامة أشكالاً ومظاهر، بل هي أعمال وسرائر.

    وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة! ويا كل مهندس وطبيب وكاتب! أقول لكم جميعاً: أحسنتم يوم سهرتم وعملتم ونجحتم، ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة، ومن أصحاب الأيادي البيضاء؛ لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر؟ ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله؟ ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان، ولذة السجود والمناجاة، ولذة الدمعة من خشية الله عز وجل؟

    إذاً: فقد يكون لكم نصيب من الحرمان، فاسمعوا يا رعاكم الله! هذه الكلمات، وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين، فكيف بحال الغافلين اللاهين؟!

    فمن الناس من كسب الدنيا والآخرة -نسأل الله عز وجل أن نكون منهم- ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة، ومنهم من ضيع الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المحرومون حقاً.

    يحدثني أحدهم: أنه لم يركع لله ركعة، ولم يشعر بلذة الصيام يوماً من الأيام، وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار.

    ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع.

    وقال آخر: إنه يجلس الساعات، بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت -كما يقول- يقول عن نفسه: والحق أنني أبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمارة، فإذا انتهيت شعرت بندم وضيق وهم لا يعلمه إلا الله، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام، يقول: أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي، وباختصار: إنني أعيش بدوامة التعاسة والشقاء، وإن كنت في الظاهر في سعادة وهناء .. إلى آخر ما قال.

    قلت في نفسي: صدق الله يوم أن قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].

    ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول: إنكم مسئولون عنا أمام الله، أدركوا الشباب، مخدرات .. أفلام .. معاكسات .. سهر وغناء، ولواط وزنا، ثم يجهش في البكاء -هذه حاله والله العظيم- ويضع وجهه بين يديه وهو يقول: لقد فكرت بالانتحار عدداً من المرات!

    وكتب إلي أحدهم رسالة طويلة، قال في مقدمتها: قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف، مهملة من الجميع إلا ما شاء الله، فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة، هل أبدأ بتضييعهم لأوقاتهم وأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم.

    ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال: .. هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد، فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة، وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف، وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب، ناهيك عن ترك الصلاة، وإني بمقامي هذا -والكلام ما زال له- وإني بمقامي هذا بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة، أقول: هذا واقع الشباب فاذهبوا وشاهدوا العجائب .. إلى آخر رسالته.

    وحدثتني بعض الأخوات، فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف.

    تقول إحداهن وقد كانت غافلة عابثة بالهاتف: أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله، فأنام وأصحو وأنا أبكي، وقلبي يكاد يتقطع، أحس أن الدنيا ضيقة، أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون ذلك الإحساس بضيق الدنيا قنوطاً أو يأساً من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك، تقول: فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به، والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية، ويغفر لي ويعوضني خيراً، وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق؛ لأن كل شيء يذكرني بالماضي، ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة، وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية .. إلى أن قالت: كنت أقول في نفسي: أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط، فالحمد لله، وأسأله أن لا يزيغ قلبي بعد إذ هداني .. وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليتها .. إلى آخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان: دموع ساخنة من فتاة عائدة .

    هدية إلى المحرومين

    أهدي هذا الموضوع (المحرومون) إلى المحرومين من نعمة الإيمان، الفاقدين حلاوته وأنسه وطعمه.

    أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشيةً وخوفاً من الله.

    أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب.

    إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه.

    إلى المحرومين من لذة الأخوة والحب في الله.

    إلى المحرومين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال.

    إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات.

    إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته.

    إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس إليهما.

    وجماع ذلك كله أقول: أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام.

    إلى أولئك الذين أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم.

    إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام.

    إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم.

    إلى الذين حرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء، وإن وجدتم المال والجاه.

    إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة. لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها.

    إلى الذين حرموا السعادة والأنس، وأضاعوا الطريق.

    إلى أولئك جميعاً أقول: اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة، والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادماً إلا وأعلنها، صرخات متوجع وزفرات مذنب وآهات نادم، اختصروها بكلمات فقالوا: .. نشعر بالسعادة لحظات، وقت الشهوة فقط، وعند الوقوع في المعصية واللذة، وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب، وضياع وظلام وشكوك وظنون، وبكاء وشكوى، وعُقَد وأمراض نفسية، وصدق الله عز وجل يوم أن قال: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] .

    إذاً: فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله، والشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، ولذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].

    قال ابن كثير: أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. انتهى كلامه رحمه الله.

    فإلى المحرومين .. لماذا أعرضتم عن ذكر الله؟ لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر؟ تدعون فلا تأتون، وتنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزءون؛ ولكن اسمعوا النتيجة، اسمع للنهاية المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها، قال الحق عز وجل : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124] هذا في الدنيا، أما في الآخرة: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].

    فنسيتها.. أعرضت عنها.. أغفلتها.. تناسيتها..

    إذاً: فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126].

    فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف:51]

    فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة:14].

    نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].

    أيها المحرومون

    أيها المحرومون .. لماذا نسيتم لقاء ربكم؟ لماذا هذا الإعراض العجيب؟! إنكم حرمتم أنفسكم، فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي، لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم؟ لماذا غفلتم؟ ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب؟ اسمع لقول الحق عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57].

    ونسي ما قدمت يداه.. أين النفس اللوامة؟ أين استشعار الذنب؟ أين فطرة الخير؟ أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة؟

    اسمعوا وعوا: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

    يقسم بعض التائبين -كما أسلفت- أنه ما ركع لله ركعة، وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟! أي حرمان بعد هذا الحرمان؟!!

    عفوك اللهم عنا     خير شيء نتمنى

    رب إنا قد جهلنا     في الذي قد كان منا

    وخطينا وخطلنا     ولهونا وأسأنا

    إن يكن رب خطئنـا     ما أسأنا بك ظنا

    فأنلنـا الختم بالحسـ     ـنى وإنعاماً ومنا

    أيها المحرومون! لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله، يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج.

    ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش)، قالت: إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها .

    ويذكر التاريخ لنا أن علي بن المأمون العباسي، ابن الخليفة، كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله، فدعاه يوماً من الأيام فسأله، فأخبره أن له زوجة وأختين وأماً يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل، قال ابن الخليفة: فهل تشكو من شيء؟ قال العامل: لا، والحمد لله رب العالمين، فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة، وكان يعمل في الخشب جهة خراسان.

    فيا سبحان الله! من الإمارة إلى النجارة، لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر.

    1.   

    أنواع المحرومين

    محرومون من لذة الصلاة

    إن من المحرومين من قال الله عنهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59] فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة؟

    أقسم لي شاب: إنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء.

    فأقول: أيها المحروم! إنه الكفر والضلال: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) كما عند الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) كما عند مسلم في صحيحه.

    مسكين أنت أيها المحروم! يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب الـمتعب المكدود، إنها زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلوب، إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.

    إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109] .

    وقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .

    من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه؛ يدعوه ويناجيه .. يخافه ويخشاه .. قيام وسجود، وبكاء وخشوع، فيتنور القلب، وينشرح الصدر، وتشرق الوجوه، قال عز وجل: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].

    أما المحروم.. فظلام القلب، وسواد الوجه، وقلق في النفس، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يقول الله عنهم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43] حرموا من السجود في الآخرة؛ لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون، أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين؟! فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام والعذاب.

    مسكين أيها المحروم! كيف تريد التوفيق والفلاح، والسعادة والنجاح، وأنت لا تصلي، قد قطعت الصلة ما بينك وبين الله؟!

    اسمع لقول الله عز وجل : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] واسمع لقول الحق عز وجل : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.

    إن من المحرومين من إذا ذُكِّر بالصلاة سخر واستهزأ، وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] ويقول: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي: في الدنيا وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] ولكن السعيد من يضحك في النهاية، ولذلك قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34].

    إن المتهاون بالصلاة حرم خيراً كثيراً، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأُبي بن خلف ) والحديث أخرجه أحمد والدارمي وقال الهيثمي في المجمع : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات، وقال المنذري : إسناده جيد، قلت: فيه رجل لم يوثقه إلا ابن حبان .

    أيها المحروم! حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا؛ لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود، حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، لذة التذلل والخضوع، إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود، تملك كنزاً من كنوز الدنيا! الصلوات الخمس، الثلث الأخير من الليل، ساعات الاستجابة .. اسأل المصلين الصادقين، اسألهم ماذا وجدوا، اسألهم ولا تتردد، سيجيبونك بنفوس مطمئنة راضية ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها، سيقولون: أكثر الناس هموماً وغموماً وكدراً المتهاونون المضيعون للصلاة.

    لا تيأس أيها المحروم

    أبشر أيها الأخ الحبيب! فإن الله عز وجل يقول: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم:60].

    التائب أعتق نفسه من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية.

    التائب يجد للطاعة حلاوة، وللعبادة راحة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة.

    التائب يجد في قلبه حرقة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسراراً.

    التائب منكسر القلب، غزير الدمع، رقيق المشاعر.

    التائب صادق العبارة؛ فهو بين خوف وأمن، وقلق وسكينة.

    اليوم ميلادي الجديد وما مضى     موت بليت به بليل داجي

    أنا قد سريت إلى الهداية عارجا     يا حسن ذا الإسراء والمعراج

    أيها المحروم! تب إلى الله، ذق طعم التوبة، وذق حلاوة الدمعة، اعتصر القلب وتألم؛ لتسيل دمعة على الخد تطفئ نيران المعاصي والذنوب .. اخل بنفسك .. اعترف بذنبك، ادع ربك وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

    ابك على خطيئتك، وجرب لذة المناجاة، اعترف بالذل والعبودية لله، تب إلى الله بصدق، ناج ربك وقل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .

    جرب مثل هذه الكلمات كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يرددها.

    أيها المحروم! (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) كما عند مسلم في صحيحه .

    اسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت، اسمع إلى جبار الأرض والسماوات وهو يخاطبك أنت، وأنت من أنت؟! اسمع للغفور الودود؛ للرحيم الرحمن وهو يقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] .

    ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر .

    ويقول الله في الحديث القدسي الآخر: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح .

    إذاً فيا أيها المحروم! ما هو عذرك وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسماوات.

    إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خائفاً باكياً مستغفراً تائباً، فكلمات التائبين صادقة، ودموعهم حارة، وهممهم قوية، ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان، ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة، وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب، فلماذا تحرم نفسك هذا الخير وهذه اللذة والسعادة! فإن أذنبت فتب، وإن أسأت فاستغفر، وإن أخطأت فأصلح، فالرحمة واسعة والباب مفتوح.

    قال ابن القيم في الفوائد : ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب، والمنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغنى .. تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة .. اعترافك بالخطأ نفس الإصابة . انتهى كلامه رحمه الله.

    إذاً: العبودية لله عزة ورفعة، ولغيره ذل ومهانة.

    أيها الحبيب، أيتها الغالية! إننا نفرح بتوبتك، ونسر لرجوعك إلى الله، وليس لنا من الأمر شيء.

    عين تسر إذا رأتك وأختها     تبكي لطول تباعد وفراق

    فاحفظ لواحدة دوام سرورها     وعد التي أبكيتها بتلاقي

    عِدنا بالرجوع إلى الله، عِدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد، نسر ونفرح، نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء، إنما هو لنفسك.

    محرومون من لذة قراءة القرآن

    ومن المحرومين من حرم لذة قراءة القرآن، وتدبر آياته والبكاء من خشية الله.

    عن عطاء قال: (دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال عبيد بن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذن بالصلاة الفجر، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... [آل عمران:190] .. آخر الآيات من سورة آل عمران) رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده جيد، وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني .

    إذاً فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن، وربما قرأه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع.

    اسأل نفسك أيها المحب!

    كم آية تقرأ في اليوم؟ بل كم مرة تقرأ في الأسبوع؟

    كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ القرآن؟

    إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة، مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن! وربما دمعت مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والحرام، والعياذ بالله!

    مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً ونغمةً ووتراً.. مساكين الذين جعلوا وقتهم لهواً ولعباً وغروراً.. مساكين الذين حسبوا السعادة أكلاً وشرباً ولذة.

    ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء.

    ليل المحرومين مجون وخنوع، وليل الصالحين ذكر ودموع.

    أيها المحروم من لذة البكاء! اعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، والعياذ بالله.

    فقل أيها المحروم! قل لنفسك: وا أسفاه! وا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن، دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وكسلاً، وموته غبناً وكمداً.

    ألم تسمع أيها المحروم! ألم تسمعي أيتها المحرومة! لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) فأيهما تختار وأيهما تختارين، لك أو عليك؟!

    قال أحد الصالحين: (أحسست بغم لا يعلمه إلا الله، وبهم مقيم، فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني -والله- فجأة هذا الغم، وأبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر).

    فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها المسلمة! إن هذا القرآن رحمة، وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه وتعالى ، فاسمع أيها المحروم! من قراءة القرآن، إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة، ومن أعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.

    محرومون من لذة الأخوة في الله

    ومن المحرومين من حرم لذة الأخوة في الله، حرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه، إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاماً طيباً، أو دعاءً صالحاً أو دفاعاً عن عرضك.

    فيا أيها المحروم من الأخوة في الله! إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة، إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك وأحزانك، إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص، إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة.

    أتراك تجد هذه الصفات بصديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات؟!

    أيها المحب! أعد النظر في صداقاتك، استعرض أصدقاءك واحداً بعد الآخر، اسأل نفسك ما نوع الرابط بينكما؟ أهي المصالح الدنيوية؟ أو الشهوات الشيطانية؟ أم هي الأخوة الإسلامية؟

    كل أخوة لغير الله هباء، وفي النهاية همٌّ وعداء، لاشك أنه مر بك قول الحق عز وجل: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

    أيها المحروم من لذة الأخوة في الله! راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة: يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:28-29].

    راجع أحبابك وخلانك، فإنك ستحشر معهم يوم القيامة، فقد قال حبيبك صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر المرء مع من أحب) فمن أي الفريقين أحبابك؟

    قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها     فأنت قرين لي بكل مكان

    فإن كنت في دار الشقاء فإنني     وأنت جميعاً في شقا وهوان

    أيها المحروم،كم كسبت من صفات ذميمة، وكم خسرت من صفات حميدة بسبب أصحابك.

    تقول لي: لماذا؟ أقول لك: لأن الطبع سراق: (وقل لي: من تصاحب؟ أقول لك: من أنت) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).

    ابل الرجال إذا أردت إخاءهم     وتوسمن أمورهم وتفقد

    فإذا وجدت أخا الأمانة والتقى     فبه اليدين قرير عين فاشدد

    إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وذكر منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).

    وفي الأثر المشهور: (لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر منها: مجالسة إخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر) فكم من محروم حرم الأخوة في الله.

    محرومون من لذة الأكل الحلال

    ومن الناس من حرم أكل الحلال، ومن ثم حرم إجابة الدعاء، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!).

    كم من الناس حرموا لذة الأكلة الحلال، وحرموا بركة المال، وحرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من رباً وغش وخداع وسرقة وحلف كاذب، مسكين أنت أيها المحروم! ربما أنك تركع وتسجد وترفع يديك بالدعاء، فأنى يستجاب لك؟!

    أيها الإخوة! أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر، فنحن نرفع أيدينا بالدعاء، ونلح على الله فيه، وربما سالت الدمعات على الخدين، انظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان، فربما لا نرى أثراً لدعائنا وبكائنا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] اسمع لقول الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] لنراقب أموالنا، ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا، وربما دخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا.

    فيا أيها المحروم! إن لأكل الحلال أثراً عجيباً على القلب وراحته وسعادته، وإن لأكل الحلال أثراً كبيراً على صلاح الأولاد وبرهم بآبائهم، بل إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على سعة الرزق ونماء المال، فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب؟! ففي المسند من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) والحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه.

    فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب! وانتبه أيها المحب! فليس كثرة المال عند بعض الناس دليلاً على بركته، بل قد يكون شقاء على صاحبه، وكم سمعنا عمن ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قول

    الله عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]) والحديث أخرجه أحمد والطبري وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ، وقال الألباني في المشكاة : إسناده جيد.

    واسمع لـابن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي: ومن عقوباتها -أي المعاصي والذنوب- أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] وقال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:16-17] وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) انتهى كلامه رحمه الله .

    محرومون من لذة ذكر الله تعالى

    ومن الناس من حرم كثرة ذكر الله تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً، فلسانه يابس من ذكر الله، رطب ببذيء الكلام والسباب واللعان -والعياذ بالله- وإذا أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن ذكر الله، فاسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها:

    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) .

    قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة لما سئل عن كيفية ذكرهن قال: [يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين] متفق عليه.

    وزاد مسلم في روايته: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

    وأهل الدثور هم أهل المال الكثير.

    وعنه -أي عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه .

    وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جداً ومستفيضة.

    أسألك بالله، أليس محروماً من ترك مثل هذه الأذكار؟ فمن منا لا يرغب أن تغفر خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر؟ ومن منا لا يرغب أن يكسب ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة؟ ولكن بعض الناس لم يسمع بهذه الأحاديث قط، فضلاً على أن يحرص على فضلها، أليس هذا من الحرمان؟!

    إنها كلمات قصيرة في أوقات يسيرة مقابل فضائل كثيرة، وهي سلاح للمؤمن تحفظه من شياطين الإنس والجان، وهي اطمئنان للقلب وانشراح للصدر كما قال عز وجل : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] والله عز وجل يقول: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35] ولكن سبق المفردون، وتأخر وخسر المحرومون، والمفردون هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات كما أخبر بذلك صلى الله عليه وآله وسلم عند مسلم في صحيحه .

    فيا أيها المحروم من ذكر الله! احرص على تلك الأذكار، لعلها أن تمحو عنك السيئات، وإياك إياك وبذاءة اللسان، والسب واللعان فتزيد الطين بلة.

    محرومون من لذة السعادة الزوجية

    ومن الناس من حرم السعادة الزوجية، والعيشة الهنية، فهو لا يجد السكن النفسي، يعيش في قلق واضطراب، وشجار وخصام، كم شكا هؤلاء لنا؛ كم شكوا حياتهم مع أزواجهم وفي بيوتهم!

    يعيش بدون مودة ولا رحمة، بدون لذة ولا متعة، بينه وبين زوجه وحشة، فلماذا كل هذا؟!

    اسمع يا رعاك الله! قال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وزوجتي .

    أيها الزوجان! ربما تحرما السعادة الزوجية والراحة النفسية بسبب الذنوب والمعاصي منكما أو من أحدكما، انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل إفساد تغضب رب العباد، انظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها، قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] إنه ما من مشكلة تقع بين زوجين إلا بمعصية أو ذنب، فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين؟

    وأقف هنا؛ فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان: (السحر الحلال) فمن أراد فليرجع لهما.

    محرومون من لذة بر الوالدين والأنس بهما

    ومن الناس من حرم بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس معهما وقضاء حوائجهما، حرم المسكين من فضل عبادة قرنت بتوحيد الله عز وجل.

    فقد ثنى بهما فقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بحقهما.

    اسمع يا من حرمت برهما! قال صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو

    احفظه) والحديث في الترمذي وقال: حديث حسن صحيح .

    ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه بكى لما ماتت أمه، فقيل له؛ فقال: [إني لأعلم أن الموت حق، ولكن كان لي بابان للجنة مفتوحان فأغلق أحدهما].

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) كما في مسلم .

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) والحديث متفق عليه، فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه؟!

    ومن برهما ميتين: الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما.

    إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب لها النفس حسرة.

    أيها المحروم برهما، إن العقوق من الكبائر، بل لا يدخل الجنة عاق، ويحرم التوفيق بالدنيا، وربما عجلت له العقوبة، وربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل.

    أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه، وكان يحملها وينزلها، فقد كانت كبيرة مكفوفة.

    وابن الحنفية يغسل رأس أمه ويمشطها ويقبلها ويخضبها.

    وكان علي بن الحسين من أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها، فسئل فقال: [أخاف أن تسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أعلم به فآكله فأكون قد عققتها].

    وطلبت أم مسعر ماء في ليلة، فجاء بالماء فوجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى أصبح.

    وسئل عمر بن ذر عن بر ولده به فقال: [ما مشى معي نهاراً قط إلا كان خلفي، ولا ليلاً قط إلا كان أمامي، ولا رقى على سطح أنا تحته] فنستغفر الله من حالنا مع آبائنا، ونعوذ بالله من الحرمان.

    إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان (أبناء يعذبون أبناءهم) قصص واقعية:

    ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده!

    وآخر يتخلص من أمه برميها بجوار القمامة!

    وآخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول: خذوا أبي عندكم، وإذا أردتم شيئاً اتصلوا عليّ!

    وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمناً لخاتم أعجبها، بل أخذ الخاتم من يدها ورماه على طاولة البائع!

    وابنة تطرد والدتها من منزلها.

    وأخرى غضبت بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها.

    هذه عناوين لقصص واقعية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعوذ بالله من حال هؤلاء، محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة.

    اللهم اغفر لنا ولوالدينا واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم أعنا على برهما، اللهم ارفع درجتهم وأسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين.

    محرومون من حسن الخاتمة

    ومن المحرومين من حرم حسن الخاتمة نسأل الله عز وجل حسنها-:

    عجيب أمرك أيها المحروم! إنك تعلم أن الموت حق، وأنه نهاية الجميع، ومع ذلك تصر على حالك وأنت تسمع هذه الكلمات مراراً وتكراراً.

    أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! ليس العيب أن تخطئ، ولكن العيب الاستمرار على الخطأ، أيهما تريد: أن تموت على خير أو على شر؟!

    أقول هذا لأننا نرى ونسمع نهاية بعض المحرومين، نسأل الله حسن الخاتمة.

    قال ابن القيم في الجواب الكافي : ثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى! فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين ممن أصابهم ذلك.

    ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم، منها:

    قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تان تنا تن تنا.

    وقيل لآخر: فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.. إلى آخر الصور التي ذكرها رحمه الله تعالى إلى قوله: وسبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم .

    ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صوراً كثيرة لسوء الخاتمة ومنها: أن رجلاً ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد، وهناك في شقته شرب الخمر -أعزكم الله- قارورة ثم الثانية ثم الثالثة، وهكذا حتى شعر بالغثيان، فذهب إلى دورة المياه -أعزكم الله-ليتقيأ، أتدري -أيها المحب- ماذا حدث له؟

    مات في دورة المياه، ورأسه في المرحاض -أعزكم الله-!

    ومنها أن شاباً كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، وكان لا يصلي، أضاع طريق الهداية، وعندما نزلت به سكرات الموت قيل له: قل لا إله إلا الله -يا لها من لحظات حرجة، وكربات وشدائد وأهوال- أتدرون ماذا قال؟ أخذ يردد أنه كافر بها؛ نسأل الله حسن الخاتمة!

    ومنها: أن شاباً حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة، فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة، فأطفئوه وقالوا للشاب: قل لا إله إلا الله، فأخذ يسب الدين ويقول: لا أريد أن أصلي، لا أريد أن أصوم، ومات على ذلك والعياذ بالله!

    يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة: فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي، فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة، أخرجناهما ووضعناهما ممددين، وأسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة، عدنا للشخصين فإذا هما في حالة الاحتضار، هبَّ زميلي يلقنهما الشهادة، ولكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء، أرهبني الموقف، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت، أخذ يعيد عليهما الشهادتين وهما مستمران في الغناء، لا فائدة! بدأ صوت الغناء يخفت شيئاً فشيئاً، سكت الأول وتبعه الثاني، فقدا الحياة! لا حراك، يقول: لم أر في حياتي موقفاً كهذا، حملناهما في السيارة، قال زميلي: إن الإنسان يختم له إما بخير أو بشر بحسب ظاهره وباطنه، قال: فخفت من الموت، واتعظت من الحادثة، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة.

    وبعد مدة حصل حادث عجيب: شخص يسير بسيارته سيراً عادياً، وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة، ترجل من سيارته لإصلاح الخلل في أحد العجلات، جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف، سقط مصاباً إصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة، وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله -شاب في مقتبل العمر متدين، يبدو ذلك من مظهره- عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول، ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتاً مميزاً ..إنه يقرأ القرآن.. وبصوت ندي -سبحان الله- لا تقول: هذا مصاب، الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت، استمر يقرأ بصوت جميل، يرتل القرآن، فجأة سكت .. التفتُّ إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه.. قفزت إلى الخلف، لمست يده، قلبه، أنفاسه، لاشيء ..فارق الحياة.. نظرت إليه طويلاً، سقطت دمعة من عيني، أخبرت زميلي أنه قد مات، انطلق زميلي في البكاء، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف، أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً!!

    وصلنا إلى المستشفى، وأخبرنا كل من قابلنا عن قصته، الكثير تأثروا، ذرفت دموعهم، أحدهم بعد ما سمع قصته ذهب وقبل جبينه، والجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه، اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى، كان المتحدث أخاه الذي قال عنه: إنه يذهب كل إثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية، كان يتفقد الأرامل واليتامى والمساكين، وكانت تلك القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها، وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق، كان يرد عليه بقوله: إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته، وسماع الأشرطة النافعة، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها .

    يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق: كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج، تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه لكثرة فراغي وقلة معارفي، وكنت بعيداً عن الله، فلما صلينا على الشاب، ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة، استقبلت أول أيام الدنيا، تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير. انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان: الزمن القادم .

    قلت: صدق ابن القيم رحمه الله بقوله: وسبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم.

    أقول: كيف يوفق لحسن الخاتمة من حرم نفسه الاستقامة والطاعة لله، فقلبه بعيد عن الله غافل عنه، عبد لشهوته وهواه ، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

    وهذا موقف آخر، قال أبو عبد الله : لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها منذ فترة، والتي غيرت مجرى حياتي كلها، والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسئولية تجاه الله عز وجل، ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه، وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف اسمه الحب.

    يقول: كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث. كلا، بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة، وهناك يفاجأن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم، لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس، هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات والسيارات وعلى الشواطئ.

    إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه، ذهبنا كالمعتاد للمزرعة، كان كل شيء جاهز، الفريسة لكل واحد منا .. الشراب الملعون .. شيء واحد نسيناه هو الطعام، وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته، كانت الساعة السادسة تقريباً عندما انطلق، ومرت الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه، فانطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانب الطريق، وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي، والنار تلتهمها وهي مقلوبة على أحد جانبيها، يقول: أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة .. ذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماماً، لكنه كان ما يزال على قيد الحياة!! نقلته إلى الأرض وبعد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي: النار النار! فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع إلى المستشفى، لكنه قال لي بصوت باكٍ: لا فائدة، لن أصل، فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي، وفوجئت به يصرخ: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ نظرت إليه بدهشة وسألته: من هو؟ فقال بصوت كأنه قادم من بعيد: الله!

    أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري، وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ولفظ آخر أنفاسه!

    ومضت الأيام، لكن صورة صديقي الراحل ظلت وهو يصرخ والنار تلتهمه: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟! ووجدت نفسي أتساءل: وأنا ماذا سأقول له؟!

    وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله؟

    يقول: ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة، وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي: الله أكبر، الله أكبر، حي على الصلاة، فأحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى طريق النور والهداية، فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات، وأديت الصلاة. ومن يومها لم يفتني فرض واحد، لقد أصبحت إنساناً آخر؛ فسبحان مغير الأحوال!! انتهت من رسالة لطيفة للشباب فقط .

    1.   

    علاج لكل محروم

    لعل كثيراً من المحرومين يتساءلون: أين الطريق؟ وما هو العلاج؟

    وأقول: العلاج ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال له سفيان : (يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم) .

    فيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة! لنقل كما قال صلى الله عليه وسلم: آمنا بالله، ثم لنستقم على طاعة الله، لنؤد ما طلب الله عز وجل منا، لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة.

    التفكير الجاد بطريق الاستقامة

    يظن بعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامة نفل، فمن أرادها كان مستقيماً ومن لم يرد فلا بأس عليه، وهذا مفهوم خاطئ، فإن كل مسلم مطالب بالاستقامة، قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112] .

    وثمرات الاستقامة ثمرات عظيمة تدفع صاحبها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس، يقول الحق عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] .

    ويقول عز وجل: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً [الجن:16-17].

    فكم من المحرومين المعذبين؟! كم من المحرومات المعذبات من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا؟ نسأل الله عز وجل لهم الهداية.

    لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق، ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتها استلاباً.

    يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] وكل ما سبق أيها الحبيب! من صور الحرمان إنما هو بسبب البعد عن الاستقامة، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله.

    أخي الحبيب! أيتها الأخت الغالية! قف مع نفسك لحظات بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبها وقصورها، اجلس مع نفسك بعيداً عن الأصحاب والأولاد، اخل بنفسك واسألها: لماذا أعيش؟ وماذا أريد؟ وما هي النهاية؟من أين أتيت؟ وأين سأذهب؟! ولكن إياك أن تكون كذلك البائس المحروم، الشاعر النصراني الذي يقول:

    جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت

    ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمضيت

    وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت

    كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

    لست أدري..!

    إلى آخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته؛ حيرة وتردد.

    ذهول يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان، أما نحن المسلمون المؤمنون فلا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة، فإننا نجد في ديننا الإجابات المفصلة عليها، إننا نجد في قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها، إن قرآننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب؟

    وعلمنا أن كل شيء في حياتنا إنما هو لله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] فهل كل شيء في حياتك لله، فلا نعمل إلا ما يرضي الله، ولا نتكلم إلا بما يرضي الله، فلا نرضي إلا الله ولو سخط الناس كلهم، فنحن نردد كل لحظة: لا إله إلا الله، ونعلم أن من عاش عليها صادقاً مخلصاً عاش عزيزاً سعيداً، وأن من مات عليها صادقاً مخلصاً، مات شهيداً في جنة عرضها السماوات والأرض.

    إذاً: فاسمع واعلم أيها المحروم! إن من يعيش لهدف ومبدأ، يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجيء ويحرص على وقته، ولا يجعل دقيقة للفراغ، فإن الفراغ قاتل والعطالة بطالة، وأكثر الناس هموماً وغموماً العاطلون الفارغون، إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس، وتصبح ميداناً لألاعيب الشياطين.

    أيها الأخ! أيتها الأخت! اجعلوا الهمّ هماً واحداً، همّ الآخرة، همّ لقاء الله عز وجل، همّ الوقوف بين يديه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] اجعل عملك خالصاً لوجه الله، احرص على رضا الله، لا تنتظر شكراً من أحد.

    أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! ماذا قدمت لنفسك؟ وماذا قدمتِ لنفسك؟ والله تعالى يقول: وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [البقرة:223] إن من ركب ظهر التفريط والتواني، نزل بدار العسرة والندامة.

    إذاً: فأول العلاج: التفكير الجاد بطريق الاستقامة والالتزام، فكن صاحب هدف، ومبدأ لتشعر بقيمة الحياة، واجعل همك دائماً رضا الله وحده لا رضا غيره، وطاعة الله لا طاعة غيره.

    فعل العبد أسباب الهداية

    ومن أسباب الاستقامة: إرادة الله الهداية للعبد، قال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

    وبعض الجهال والجاهلات يقولون: ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي؟! وأقول: هذه شبهة وحيلة نفسية، ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين.

    والإجابة على هذا نقول: لا بد من فعل الأسباب، فاطلب الهداية واسع لفعل أسبابها وجاهد النفس، وسترى إن شاء الله النتائج، وهكذا في كل أمر تريده لا بد معه من فعل الأسباب.

    أتراك أيها المحروم! إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر، فلو قلنا لك -مثلاً-: لا تدرس ولا تقرأ ولا تسهر، وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح، أتوافق على هذا؟ أتوافقين على هذا؟ بالطبع لا.

    إذاً: لا بد من فعل الأسباب، من ترك جلساء السوء، وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر، والإلحاح بالدعاء أن يفتح الله على قلبك، وأن يثبتك على طريق الحق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يكثر في سجوده من قول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان؟

    ادع الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الاستقامة، وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبع عشرة مرة، إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، ولكن مع الأسف بدون حضور قلب، أو تدبر للمعنى، فاصدق مع الله بطلب الهداية، وجاهد النفس فإن الله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

    إذاً فقبل مرحلة الهداية لا بد من مرحلة المجاهدة وحبس النفس عن شهواتها، تذكر حلاوة الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدة، واعلم أن شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق، فاطلب الهداية من الله بصدق، واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة.

    وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك بالنقاط التالية لتحرص على فعلها:

    أولاً: كن صاحب هدف وعش لمبدأ، واعلم لماذا خلقت.

    ثانياً: اعلم أن إرادة الله فوق كل شيء، لكنها في علم الغيب، فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه، مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان.

    ثالثاً: الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله.

    رابعاً: الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور، فإنهم لا يهدءون حتى تكون مثلهم، وصدق من قال: [ودت الزانية أن النساء كلهن زواني].

    خامساً: مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا.

    سادساً: أتبع السيئة الحسنة تمحها، وكلما وقعت بذنب أو معصية فأكثر من فعل الخيرات .. تصدق .. أطعم المساكين .. صل ركعتين .. أحسن إلى الوالدين .. احرص على كل خير، فإن الله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).

    سابعاً: تب كلما وقعت في ذنب أو معصية، وإياك إياك والملل من التوبة، ولو تبت من الذنب الواحد ألف مرة، واحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان، فربما يحدثك الشيطان أنك منافق أو مخادع لله بكثرة توباتك، والمهم أن تكون صادقاً في التوبة والندم والإقلاع، وكلما رجعت للذنب بضعف النفس ارجع للتوبة، قال الإمام النووي : (باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة) وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحه بتوبة عبده، وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعاً؛ لكن إياك والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي، واعلم أن الله شديد العذاب كما أنه غفور رحيم.

    فالخلاصة: أكثر من الاستغفار والتوبة، واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وآله وسلم صح عنه: (أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة) فكيف بي وبك أيها الحبيب! على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا؟!

    فيا أيها المحب! يا أيها الإخوة! أيتها الأخوات! لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن الله عز وجل قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبة فقال الله له: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، غفرت لعبدي، غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) والحديث متفق عليه.

    وعن عقبة بن عامر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أحدنا يذنب، قال صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا) أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير ، وقال في المجمع : إسناده حسن.

    فيا أخي الكريم! إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك، والمهم أن تكون جاداً في التوبة صادقاً فيها، فأغلق أبواب الشيطان، وسد المنافذ، وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك. حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح!

    1.   

    قبل الهاوية

    أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت الغالية! لست بعيدة، وإنك قريب جداً، إن السعادة والراحة في الاستقامة وأنت قريب منها، المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق.

    قال ابن القيم في الفوائد : اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت، فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب. انتهى كلامه.

    فيا أيها المحب! ارجع إلى فطرتك وإلى الخير في نفسك، ستجد أنك قريب من الهداية، والهداية قريبة منك.

    فإذا استقام على الهداية ركبنا     يخضر فوق هضابنا الإقدام

    وترف أغصان السعادة فوقنـا     وتزول من أصقاعنا الأسقام

    إن الدنيا بأموالها ومناصبها وقصورها لا تستحق قطرة دمعة منك، أو حتى هماً أو زفرة من زفراتك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً) كما عند الترمذي، والله عز وجل يقول: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت:64].

    فيا أيها المحب! إن نفسك غالية، وربما اليوم أو غداً أو بعد غدٍ قالوا: مات فلان، والموت حق، ولكن شتان بين من مات على صلاح وهداية وبين من مات على فسق وغواية، فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترار بالصحة.

    فكم من صحيح مات من غير علة     وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

    ربما تضحك، وتسعد وتنام مسروراً، وقد لا تصبح:

    يا راقد الليل مسروراً بأولـه     إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

    فيا أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة، وكل ذلك بالإيمان الصادق بالله عز وجل.

    نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا جميعاً، وأن يغفر لنا جميعاً، وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين!

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    طرق ووسائل لدعوة العصاة والمنحرفين

    السؤال: ما هي الطريقة المثلى في دعوة الشباب الذين أصبحت الرياضة همهم الأكبر مع حبهم للدين؟

    الجواب: طبعاً رسم الخطة يطول لمثل هؤلاء، ولكن هو فقه يؤتيه الله عز وجل من يشاء، وهي الحكمة يؤتيها الله عز وجل من يشاء.

    ولكني أقول للأحبة وللشباب الصالحين: رفقاً رفقاً بإخوانكم، فربما كنتم يوماً من الأيام أمثالهم، وربما سرتم في يوم من الأيام على طريقهم، فهوينى عليهم، وكلمة طيبة وإرشاداً، مرة بشريط، ومرة بكلمة، ومرة برحلة، ومرة بغير ذلك؛ حتى تجد أنهم بدءوا الطريق وعرفوه، المهم أن تسعى لربط هذا القلب بالله عز وجل، قلبك وقلب أخيك أن يكون لنا صلة بالله سبحانه وتعالى.

    إذاً: ليس من المناسب أن نأتي لأمثال هؤلاء الشباب الذين تعلقت قلوبهم بالرياضة -مثلاً- فنقطع عليهم الطريق، أو نريد منهم الانتقال مباشرة من حب الرياضة إلى حب الدين، أو من الجلوس الملاعب إلى الجلوس في المساجد والحلق.

    أقول: هذا يبدو صعباً، ولكن علينا أن نكون رفقاء، وأن نسعى مع إخواننا بتؤدة وحكمة وكلمة طيبة، وسنجد أثر ذلك معهم، لكن من المؤسف أنني أسمع كثيراً من بعض الرياضيين ومن بعض الشباب المحبين للرياضة -مثلاً- كلامهم على بعض الشباب الطيبين، أو انتقاداتهم على بعض الصالحين، وقد تكون هذه الانتقادات خاطئة -والكثير منها خاطئ إن شاء الله- ولكن منها ما هو صواب إذا أردنا أن نقف على العلاج، فهناك بعض الانتقادات التي توجه إلى بعض الصالحين، فعلى الصالح أن يراجع نفسه، وأن يعلم عندما يسمع أمثال هؤلاء أو غيرهم من إخوانه أنه لا يمثل نفسه فقط وإنما يمثل هذا المنهج وهذه الشريعة التي يدين الله عز وجل بها، ومن استعان بالرفق، واستعان بالله عز وجل، وسأل الله عز وجل أن يعينه على هداية فلان أو أن يهدي فلاناً، أعانه الله؛ فإن مما لا شك فيه أن الدعاء واللجوء إلى الله سيفتح الطريق لكل مسلم.

    ونتمنى أن نحمل همّ إيصال الخير لإخواننا، يقسم بعض الناس أنه ما سمع في يوم من الأيام موعظة، ولم يسمع ذكر الله عز وجل، لماذا؟ مع أنه -ما شاء الله- ما أكثر الصالحين والخيرين في الحي من الشباب والفتيات.

    مسئولية من هذا الأمر؟

    إنه مسئولية الصالحين والصالحات أمثالكم بارك الله فيكم، أن نوصل الخير للناس بقدر ما نستطيع، إن إهداءك شريطاً واحداً لشاب من الشباب ولأخ من إخوانك بأي طريقة ربما يفتح الله عز وجل به قلوباً عمياً وليس قلباً واحداً.

    وأذكر أن إحدى التائبات تقول عن نفسها: أنها كانت مغرمة جداً بالأغاني خاصة الغربية، حتى إن حجرتها مليئة بالصور للموسيقيين الغربيين، تقول: فمرة نزلت من السيارة في المدرسة وإذا بقدمي ترتطم بشيء قاسٍ فنظرت إليه فأخذته، فإذا به شريط أبيض، فوضعته في شنطتي ظناً مني أن فيه مادة -أي موسيقى غربية- تصلح لي، تقول: ثم وصلت إلى غرفتي وبعد أيام وأنا أقلب في شنطتي وجدت ذلك الشريط فأخذته فإذا به موعظة عن الموت، تقول: فانقلب حالي، واستمعت إلى الشريط وتغيرت نفسي، وعلمت أني على خطأ، تقول: بعد ذلك قمت على جميع الأشرطة التي عندي فاستبدلتها، وعلى جميع الصور فأحرقتها، وقد هداني الله عز وجل، وأصبحت من الأخوات النشيطات في الدعوة إلى الله عز وجل.

    هذا بسبب شريط وجدته ملقى على الأرض.

    فلماذا نحرم أنفسنا الخير، والدال على الخير كفاعله (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)؟!! فالله الله بإيصال الخير للإخوة أو للناس جميعاً بقدر ما نستطيع، فأنتم شهداء الله في الأرض أيها الأحبة.

    قصة موت أحد الصالحين

    هذه قصة من أحد الإخوة يحب المشاركة فيها فلا بأس أن نختم بها، يقول: أحد أقاربي مات بالمستشفى، وقد كان رجلاً صالحاً حافظاً لكتاب الله يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهل قيام الليل، يقول الطبيب: كان يتكلم وهو في غيبوبة ولا أعلم ماذا يقول، وعندما تثبت الطبيب فإذا به يقرأ القرآن وهو في الإنعاش ومات على ذلك.

    نسأل الله عز وجل أن يتقبله عنده، وأن يرحمنا برحمته، وأن يحسن خاتمتنا جميعاً، إنه هو الولي على ذلك والقادر عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756194360