إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب العدد [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أنواع المعتدات من يجري معها الحيض، ومنهن من لا يجري معها الحيض إما لصغر أو لكبر، وكل واحدة منهن لها حكمها الخاص وتفصيلاتها عند العلماء رحمهم الله في كتبهم.

    1.   

    عدة الحائل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة: الحائل ذات الأقراء].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان عدة المرأة التي تحيض؛ لأن الله تبارك وتعالى قسّم المعتدات إلى أقسام، كما بيّن المصنف رحمه الله، ومن هذه الأقسام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: ذوات الأقراء، فقال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الآية الكريمة: هل المراد بالقرء: الحيض، أو المراد بالقرء: الطهر؟

    وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن المرأة تحيض، ويجري معها الدم أياماً معدودة ثم ينقطع، ثم يعاودها بعد ذلك في الحيضة الثانية، فما بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية طهر، فهل مراد الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن تكون العدة ثلاثة أطهار، بمعنى: أن تمر عليها ثلاثة أطهار متتابعة يحتسب فيها طهر الطلاق؟ فالسنة في الطلاق إذا طلق الرجل زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر : (مره فليراجعها وليطلقها حائلاً أو حاملاً) .

    فالحائل: هي المرأة التي لا حمل فيها، وتكون حائضاً وتكون طاهراً، فهل المراد: أن يمر عليها ثلاثة أطهار: الطهر الأول الذي طلقت فيه، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثاني، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثالث؟ ففي هذه الحالة ثلاثة أطهار، وإذا طهرت ثلاثة أطهار خرجت من عدتها، أو المراد أن تحيض ثلاث حيضات، فإذا طلقها في الطهر انتظر حتى تأتيها الحيضة الأولى بعد الطهر، فتحتسب الحيضة الأولى ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثانية ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثالثة؟ فهذه ثلاث حيضات.

    1.   

    المراد بالقرء واختلاف العلماء فيه

    اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] هل المراد بالقرء الطهر أو الحيض على قولين مشهورين عن الصحابة والتابعين، وأئمة العلم رحمة الله عليهم أجمعين:

    القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر

    وحينئذٍ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس ، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.

    وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـسالم بن عبد الله بن عمر ، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار.

    القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض

    وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضاً عن ابن عباس ، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه.

    أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر

    واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثاً، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكراً، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

    ثانياً: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس :

    فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

    فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر.

    كذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن)، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لِقُبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في)، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب.

    وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر.

    وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضاً دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين.

    قالوا: إن الله تعالى يقول: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصاً؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذٍ يكون الطهر ناقصاً، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة)، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء).

    ثانياً: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض.

    هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود.

    وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءاً؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعاً من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكراً دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

    كذلك أيضاً الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملاً يجاب عنه بوجهين:

    الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصاً فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجهاً واحداً، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذٍ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة.

    الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقاً من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء.

    أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذٍ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماماً في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحداً يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد ، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً)؛ لأنه كان مبرزاً في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه.

    وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار.

    هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلاً، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله.

    1.   

    عدة المختلعة الحائل

    اتفق أصحاب القولين على أن الأصل في العدة: ثلاثة قروء، إما بالحيض -ثلاث حيضات- أو بالطهر -ثلاثة أطهار- على التفصيل الذي ذكرناه.

    ولكن استثنيت عدة المختلعة، فاختلف العلماء رحمهم الله فيها، فبعض العلماء يقول: إن الحائل من ذوات القروء إذا كانت مخالعة لزوجها فإن عدتها حيضة واحدة على المذهب، وهذا ما اختاره أئمة المذهب من أنها تعتد بحيضة واحدة، وقيل: بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار على القول بأن القرء هو الطهر، أما الذين يقولون: إن المختلعة عدتها عدة المطلقة المعتادة فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـثابت : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأمره أن يطلق المختلعة، فدل على أن الخلع طلاق، فإذا كان الخلع طلاقاً؛ فإن الله عز وجل يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فدخلت في هذا العموم بدليل الكتاب والسنة من جهة لفظ الآية وورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تطلق.

    والذين قالوا: إنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها استدلوا بحديث الربيع رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تستبرئ بحيضة من خلعها وترجع إلى بيت أهلها، وكذلك قالوا في حديث ابن عباس الأول الذي رواه أصحاب السنن، والثاني عند أبي داود في سننه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرت المختلعة أن تستبرئ بحيضة)، قالوا: وهذا يدل على أن عدتها حيضة واحدة.

    بناء على ذلك: لو خالع الرجل زوجته فدفعت له المهر فإنها تستبرئ بحيضة واحدة على القول الثاني وتخرج من عدتها، وتصبح مستثناة من هذا العموم، فالأصل فيها ثلاث حيضات، ولكن تحيض حيضة واحدة يستبرئ بها رحمها، قالوا: والعقل يدل على هذا؛ لأن المختلعة إذا طلقها طلقة واحدة فليست طلقتها رجعية، يعني: ليس من حقه أن يراجعها؛ لأن المقصود أن يفسخ النكاح الذي بينهما، فلو كان من حقه أن يرتجعها لفات المعنى الذي من أجله شرع الخلع؛ لأن الخلع يقصد منه دفع الضرر عن المرأة، فالمرأة إذا كرهت زوجها ولم يكن بزوجها عيب يوجب الخيار لها، كأن تكون لا تريده ولا تحبه، نقول لها: ادفعي له المهر كما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم) فخالعت جميلة بنت أبي بن سلول ، وامرأة ثابت رضي الله عنه وأرضاه وقالت: (إني أخشى الكفر بعد الإسلام) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسخ العقد برد المهر لزوجها، فإذا ردت المهر دل على أنها لا تريد أن ترجع إليه ولا تريد استمرار الحياة الزوجية معه، فأمرت شرعاً برد المهر إلى زوجها حتى يفسخ هذا العقد، فإذا ردت له المهر ردت له حقه، فلو كان له عليها سلطان لاستضرت المرأة؛ لأنه بمجرد ما يطلقها يراجعها بعد الطلاق، وحينئذٍ يكسب المهر ويكسب رجوعها مرة ثانية، فيفوت المقصود.

    ومن هنا قلنا: إن مراد الشرع من الخلع: دفع الضرر عن المرأة، فترد المهر ويفسخ النكاح بينهما، ويؤمر بتطليقها على ظاهر الحديث الصحيح: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) وتخالعه ولو لم يرض، فإذا خالعته على هذا الوجه يقولون: إن مقصود الشرع فسخ النكاح، وإذا كان مقصوده فسخ النكاح خالف الأصل المعروف في الطلاق؛ لأن المرأة إذا طلقها زوجها الطلقة الأولى فإنه يعطى مهلة العدة حتى يراجع نفسه وتراجع نفسها، فإن كان العيب منه ندم وراجعها، وإن كان العيب منها ندمت وأصلحت ورجعت إليه إذا كانا يريدا إصلاحاً وعودة للنكاح، وبناء على ذلك قالوا: هذا المعنى غير موجود في المختلعة، وليس هناك وجه لردها إلى زوجها، فلا تطول العدة عليها، ولما كانت العدة يخشى منها أن تكون المرأة حاملاً فتستبرئ، فعلى هذا الوجه تستبرئ بحيضة واحدة، فإن حاضت تلك الحيضة وخرجت منها دل على أنها حائل، وحينئذٍ علمنا خلو الرحم وحققنا مقصود الشرع من دفع الضرر عن الزوجة.

    فالخلاصة: أن المرأة إذا كانت حائلاً -غير حامل- وكانت من ذوات الحيض، فإنها في هذه الحالة تعتد بثلاثة أطهار على أصح قولي العلماء رحمهم الله، واستثنى فقهاء الحنابلة المرأة المختلعة فإن عدتها عندهم حيضة واحدة على ظاهر حديث الربيع وحديث ابن عباس ، وكلا الحديثين فيه كلام، فإن صحا قويا على الاستثناء وإلا بقيت العدة على الأصل.

    قال المصنف رحمه الله: (الحائل ذات الأقراء).

    يعني: جنس المرأة الحائل من ذوات الأقراء.

    ذوات: صاحبات الأقراء: يعني: ممن يحضن، لأن المرأة إما أن تكون حاملاً وإما أن تكون حائلاً، فالحامل التي عدتها وضع الولد، وإذا كانت حائلاً غير حامل فإما أن تكون من ذوات الحيض وإما أن تكون قد انقطع عنها الحيض لليأس، أو لم تحض بعد كالصغيرة، فبين رحمه الله أنها من ذوات الأقراء، يعني: ممن يحضن.

    قال المصنف رحمه الله: [-وهي الحيض-].

    وهي الحَيض أو الحِيضْ على الجمع لأقراء، قلنا: القرء: هو الحيض، الأقراء: هي الحيض. يعني: يريد أن يفسر القرء بالحيض كما ذكرنا أنه مذهب الحنابلة.

    قال المصنف رحمه الله: [المفارقة في الحياة].

    يعني: التي فارقها زوجها في الحياة فعدتها عدة الطلاق، لكن إذا فارقها ثم مات عنها فهذه قد قدمناها وهي عدة الوفاة، وسبق الكلام عليها.

    1.   

    عدة المبعضة الحائل

    قول المصنف رحمه الله: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة].

    إن كانت حرة فعدتها ثلاث حيضات كاملة؛ لأن الله يقول: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، إن كانت مبعضة، يعني: بعضها حر وبعضها رقيق، فمثلاً: أمة اشتراها رجلان أحدهما أعتق نصيبه، والثاني بقيت في ملكيته، فحينئذٍ نصفها حر ونصفها رقيق، فالمبعضة هذه إذا وقع عليها الطلاق تكون عدتها ثلاث حيضات؛ لأن الأصل عند الحنابلة أن الأمة تشطر العدة في حقها كما ورد عن عمر رضي الله عنه، فإذا شطرت العدة -يعني: تكون على النصف- فإنه ليس هناك نصف حيضة، فعندهم إما أن تكون الحيضة ثلاثة قروء كاملة أو قرئين، لأنه ليس هناك قرء ونصف؛ لأن الحيض لا يتشطر، فحينئذٍ جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان، وإذا كان الأمة عدتها حيضتان فحينئذٍ إذا وجد في الأمة حرية -مثلما ذكرنا- وكان نصفها حراً فعندها كسر من الحرية، فتزيد على القرئين بزيادة فتصبح حيضتان وشيء، فإذا كانت الحيضة لا تشطر فتدخل في الحيضة الثالثة.

    والأصل في الأمة أو المملوك أنك تعطيه نصف ما تعطي الحر، وهذا طبعاً على القياس، وهي مسألة مشهورة عند علماء الأصول: (تعارض العموم مع القياس) فالعموم في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] هذا عام، والحقيقة أن القول بعدم التشطير من القوة بمكان على ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وهو الأصل.

    لكن على كل حال في مسألتنا: إذا كانت العدة ثلاثة قروء وأردنا تشطير الثلاثة قروء فإنها لا تشطر، وإذا كان لا يمكن تنصيفها ففي في هذه الحالة ستحسب النصف الموجود كاملاً وتقول: الأمة عدتها قرءان، فإذا قلت: إن لها قرئين في عدتها فإن دخلتها حرية زادت عن القرئين؛ لأنها أمة من وجه وحرة من وجه ثانٍ، فدخلت بالوجه الثاني -وهو وجه الحرية- في جزء الحيضة الثالثة؛ لأنه إذا كان -مثلاً- ربعها أو نصفها حراً فالمنبغي أن يحسب حساب هذه الحرية، ولكن هنا لا يمكن تشطير الحيضة الثالثة، فأصبحت عدة المبعضة ثلاثة قروء، والحرة ثلاثة قروء.

    هذا وجه قوله رحمه الله: إنها ثلاث حيضات.

    1.   

    عدة الأمة الحائل

    قال المصنف رحمه الله: [وإلا قرءان].

    وهذا إذا كانت أمة وليس فيها شائبة الحرية وليست مبعضة بل كلها أمة، وهناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ولكنه ضعيف، والصحيح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت أمة فالمذهب على أن عدتها قرءان. أي: حيضتان.

    1.   

    عدة من فارقها زوجها حياً ولم تحض

    قال رحمه الله: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر].

    الرابعة من المعتدات: من فارقها حياً، يعني: ليس هناك عدة للوفاة، (ولم تحض لصغر) أي: من أجل كونها صغيرة، أو لعلة الصغر (أو إياس) والله جل وعلا ذكر هذا النوع في آية الطلاق فقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] فقوله: (واللائي لم يحضن) عطف على قوله: (واللائي يسن) يعني: عدة الآيسات وعدة الصغيرات اللاتي لم يحضن ثلاثة أشهر.

    توضيح المسألة: أن هذا النوع من النساء لا يحيض؛ إما لأنها طلقت وهي صغيرة، كرجل قال لرجل: زوجتك ابنتي، -حتى ولو كانت صغيرة مثلما ذكرنا أنها يجوز العقد عليها- فزوجه ابنته وهي صغيرة، ثم كبرت البنت ودخل عليها ولم تحض بعد ثم طلقها، ففي هذه الحالة إذا طلقها بعد الدخول عليها، أو زوج صغير من صغيرة ودخل عليها وجامعها، فإذا حصل الدخول ولزمت العدة من طلاقها فإنها حينئذٍ تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه لا حيض معها، ولا يمكن احتساب الطهر ولا الحيض، فسقط القرء ورجع إلى الاعتداد بالأشهر، هذا إذا كانت صغيرة، وكذلك إذا كانت كبيرة أيست من المحيض، وانقطع دم الحيض عنها كامرأة عمرها ستون سنة فانقطع عنها دم الحيض، فهذه تعتد بالأشهر.

    وقد جعل الله عز وجل الثلاثة الأشهر مكان الثلاثة القروء، فهذه المرأة تعتد ثلاثة أشهر تامة كاملة من ابتداء الشهر أو من أثناء الشهر على تفصيل من حيث الجملة، وتعتد بثلاثة أشهر تامة كاملة، وتعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالأشهر الشمسية وجهاً واحداً عند العلماء؛ لأن الأشهر التي تناط بها الأحكام الشرعية هي الأشهر القمرية، ويحتسب الشهر بهلاله، فإن كان ناقصاً فإنه كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة) فجعل التسعة والعشرين كالثلاثين، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وهذا يدل على أن وصف (أمية) وصف شرف للأمة، وليس بوصف عار أو منقصة؛ لأن الأمية لا تقترن بالجهل، الأمية هي عدم القراءة والكتابة، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه أعلم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجد الرجل كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك عنده علم، فالعلم شيء والأمية شيء آخر، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية) هذا يدل على أنه وصف شرف -كما يقول العلماء- للأمة: (لا نكتب ولا نحسب) دل على أن الشهور لا تدخل في الحساب الفلكي، ولا يحكم بدخولها أو خروجها بالحساب الفلكي؛ وهذا تيسير من الله عز وجل ورحمة، فأبقاهم على الفطرة يخرج الناس ويتراءون الهلال، إن رأوه كان الشهر ناقصاً، وإن لم يروه فالشهر كامل، يمشون على هذا كما مشى عليه أسلافهم من قبل، فالمرأة تحتسب الثلاثة الأشهر بهذه الطريقة، إن كانت كاملة فكاملة وإن كانت ناقصة فناقصة، وإن جمعت بين الكمال والنقص فلا إشكال.

    وإن كانوا يقولون: لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، أي: من السنن المعروفة أنها لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، فقد يكون النقص في شهرين لكن لا يكون الثالث ناقصاً غالباً.

    1.   

    عدة الأمة التي لا تحيض لصغر أو إياس

    قال المصنف رحمه الله: [وأمة شهرين].

    اختلف المذهب في الأمة، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.

    الرواية الأولى: توافق مذهب الإمام مالك وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله: أن الأمة تعتد كالحرة ثلاثة أشهر، ولا تشطر عدتها؛ لأن الله عز وجل نص على أن عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، ولم يرد ما يدل على استثناء أو تخصيص في هذه الآية الكريمة فتبقى على الأصل.

    الرواية الثانية تقول: تنصف عدة الأمة إذا كانت بالأشهر كما تنصف عدتها بالحيضات، وبناء على ذلك: اختلفوا على روايتين التي هي القول الثاني والثالث، فهناك رواية تقول: عدة الأمة شهر ونصف؛ لأن الله جعل في الأصل عدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وهذا قول للشافعي أيضاً.

    الرواية الثالثة: أن الشهر لا يتشطر، وعلى القول بأنه لا يتشطر يصير مثل الحيض، فقالوا: إن الشهر لا يتشطر؛ لأنه بدل عن القرء، والقرء لا يتشطر، والبدل يأخذ حكم مبدله، فلا بد أن تعتد بشهرين، وهذا ما عليه المذهب من أنها تعتد بشهرين، وهو ضعيف من جهة الأصل ومن جهة النظر.

    1.   

    عدة المبعضة التي لا تحيض لصغر أو إياس

    قال المصنف رحمه الله: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر].

    إذا قلنا: إن الأمة تعتد شهراً ونصفاً، وإذا فرضنا أن النصف منها حرة فحينئذ نحسب الشهرين على أنها أمة، وإذا حسب الشهران على أنها أمة فالنصف الذي فيها يكون بخمسة عشر يوماً وتضاف إلى الشهرين، وحينئذٍ تعتد شهرين ونصفاً، فإذا كان الثلث قالوا: يضاف ويجبر الكسر في اليوم وتعتد بالعشرة، يصبح لها عشرة أيام؛ لأن الشهر تسعة وعشرين يوماً فالأصل تمام الشهر ثلاثين يوماً، فثلث الثلاثين عشرة، فتعتد شهرين وعشرة أيام، وقس على ذلك، وهذا معنى قوله رحمه الله: (ومبعضة بالحساب).

    ويجبر الكسر في اليوم، إذا كان مثلاً نصف يوم وثلث يوم فإن الكسر يجبر.

    1.   

    عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه

    يقول المصنف رحمه الله: [الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه].

    المرأة إذا ارتفع حيضها تنقسم إلى قسمين:

    الأول: إما أن تعلم السبب: كالرضاع، أو مرض معين إذا أصاب النساء ارتفع حيضها.

    الثاني: أن يكون ارتفاع حيضها بسبب لا تعرفه والأطباء لا يعرفونه.

    فإن كان بسبب تعرفه فلها حكم، وإن كانت بسبب لا تعرفه فلها حكم، والمصنف رحمه الله فصل في الأمرين فقال:

    (ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة).

    صورة المسألة: امرأة -في الأصل- تحيض، ثم انقطع عنها الحيض، فإذا انقطع عنها الحيض فتحتاج أول شيء أن تتأكد أن انقطاع الحيض ليس للحمل؛ لأنها إذا حملت -غالباً- انقطع حيضها، فإن تأكدت من أنها ليست بحامل، وأن انقطاع دمها ليس للحمل فتمكث مدة الحمل الغالبة، ومدة الحمل الغالبة تسعة أشهر، فإذا تحققنا بمضي التسعة أشهر أنها غير حامل فإنها تبدأ بالعدة، لأنها ليست من ذوات الحيض فتنتقل إلى عدة الأشهر، فتضيف ثلاثة أشهر إلى التسعة، فتصبح عدتها سنة كاملة، تسعة أشهر للاستبراء والتأكد من أنها غير حامل، وثلاثة أشهر عدة المطلقة إذا لم تكن من ذوات الحيض.

    وهذا الحكم قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحداً خالفه، ولم يعارض فيه أصلاً، بل إن الأصول تدل عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملاً، فتعتد عدة الحامل ثم بعد ذلك تعتد عدة الأشهر؛ لأنها ليست بحائل، فالمنتزع الذي انتزعه رضي الله عنه فقه صحيح من الأصول الشرعية؛ لأن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فالستة الأشهر أقل ما يكون من الحمل، فإذا ثبت هذا يقولون: نأخذ الحد الغالب وهو التسعة الأشهر؛ لأن الستة هي الحد الأقل، والغالب هو التسعة، والأكثر إلى أربع سنوات مثلما ذكرنا، فيؤخذ بالغالب وهو التسعة الأشهر، فنقول لها: تمكث غالب مدة الحمل وهو تسعة أشهر حتى نتحقق أنها غير حامل، ثم بعد ذلك تعتد بعدة الأشهر، هذا بالنسبة لقضاء عمر رضي الله عنه وقد عمل به الجمهور.

    1.   

    عدة الأمة إذا ارتفع حيضها ولم تدر سببه

    يقول المصنف رحمه الله: [فعدتها سنة تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً].

    الإشكال على المذهب الذي يقول: إن الأمة تشطر وتنصف عدتها، فهل ننصف التسعة الأشهر، وننصف الثلاثة الأشهر أم لا؟

    الجواب: من جهة الحمل لا تنصيف؛ لأنه لا تختلف الأمة عن الحرة فيه، فالمرأة من حيث هي إذا حملت حرة كانت أو أمة تمكث تسعة أشهر على الغالب، فتبقى التسعة الأشهر كما هي.

    إذاً: ما الذي يشطر؟

    تشطر العدة التي هي الثلاثة الأشهر، فهنا: هل تكون شهراً ونصفاً أو شهرين أو شهراً؟ خلاف في المذهب، والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه شهر.

    نحن قلنا: إن التشطير ليس بوارد أصلاً، والذي نرى أنها تعتد ثلاثة أشهر كاملة، وهذا ظاهر القرآن، وبناء على ذلك نرى أنها سنة كاملة في الأمة وفي غير الأمة. هذا من حيث الأصل.

    1.   

    عدة من بلغت ولم تحض

    يقول المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض والمستحاضة الناسية والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر].

    عدة من بلغت ولم تحض: امرأة عمرها خمسة عشر سنة، فإذا بلغت خمس عشرة سنة فقد بلغت؛ لأن البلوغ يكون بالحيض، ويكون بالاحتلام، ويكون بالحمل، ويكون بالسنوات التي هي خمس عشرة سنة كما ذكرنا في علامات البلوغ..

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمان عشرة حولاً ظهر

    وهذا على خلاف حديث بني قريظة، والصحيح أن إنبات الشعر علامة إذا كان حول العانة.

    أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولاً ظهر

    فالمالكية عندهم أن يسن البلوغ ثماني عشرة سنة، والحنفية قدموا الأنثى فجعلوها سبع عشرة سنة، والذكر ثماني عشرة سنة، وأما الحنابلة والشافعية فقالوا: خمس عشرة سنة لحديث ابن عمر ، -وهو حديث صحيح- أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وفي رواية البيهقي : (ورآني قد بلغت) ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق لما بلغته هذه السنة، وأبلغه بها الزهري رحمه الله، كتب إلى الولاة في الآفاق: انظروا من بلغ خمس عشرة سنة فاضربوا عليه الجزية، ومن كان دونها فاجعلوه في الذرية -يعني: لا تضربوا عليه جزية- فهذا يدل على أن خمس عشرة سنة هي السن المعتبر للبلوغ.

    فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة ولم تحض فحينئذٍ ليست من ذوات الحيض، وهي بالغة، فتبقى على الحكم؛ لأن الله يقول: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فجعل (اللائي لم يحضن) شاملاً للصغيرة وللكبيرة التي بلغت.

    1.   

    عدة المستحاضة الناسية

    (والمستحاضة الناسية).

    تقدم معنا في كتاب الطهارة ضوابط المستحاضة والفرق بينها وبين الحائض، وبينا أن دم الاستحاضة دم فساد وعلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) فقوله عليه السلام: (إنما ذلك عرق) اختلف فيه هل هو العاند أو العاذر أو العاذل، وقد بينا هذا وبينا سبب تسميته بهذه الأسماء، وهو دم فساد وعلة، فإذا استحاضت المرأة وجرى معها الدم على هذا الوجه فإنه لا يمكن ربط العدة بها -بالنسبة للمستحاضة-؛ فإذا نسيت عادتها -يعني: كانت لها عادة قبل أن ترتبك ثم نسيتها- مثل: امرأة كانت عادتها خمسة أيام أو ستة أيام ثم ذهبت في غيبوبة أو حصل لها حادث، ثم أفاقت من غيبوبتها ورجع لها عقلها ولم تتذكر كم كانت عادتها، واستحيضت، فحينئذٍ هي معتادة في الأصل لكنها أنسيت عادتها.

    وعلى كل حال: إذا أنسيت عادتها بأي وجه من الوجوه وأصبحت مستحاضة فلابد من أمرين: لابد أن تكون مستحاضة لا تستطيع أن تميز الحيضة عن استحاضتها، ونسيت أيام عادتها، فحينئذٍ تعتد بالأشهر، وتنقل إلى حكم المعتدات بالأشهر، وبعض العلماء يفصل فيها وعندهم كلام كثير في هذا النوع من النساء، ومنهم من يجعلها ترجع إلى التمييز، وترجع إلى غالب الحيض وتحتسب غالب الحيض كما يقع في العبادة، وقد تقدم معنا حديث الترمذي -والذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله ومنهم الإمام البخاري رحمة الله عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة التي استحيضت وقالت: (إني أثج ثجاً، فقال عليه الصلاة والسلام: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) فجعل عادتها ستة أيام أو سبعة.

    لكن الإشكال عندهم أنه لابد أن تنسى عادتها من كل الوجوه، وقالوا: في الحديث لم تنس من كل وجه، ويمكن أن تحتسب عادتها في أول الشهر أو منتصف الشهر أو آخر الشهر، وقال الحنابلة: نرجع إلى الأشهر، قالوا: لأنها إذا أنسيت العادة وقلنا: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في بداية الشهر يحتمل أن تكون عادتها في آخر الشهر، وحينئذٍ ربما حكمت بخروجها وهي لا زالت في عصمة زوجها الأول، ومن هنا قالوا: نقطع الشك باليقين ونقول: ثلاثة أشهر لكل حيضة منها شهر؛ لأنه يحتمل أن تكون حيضتها في أول الشهر ويحتمل أن تكون في منتصف الشهر، ويحتمل أن تكون في آخر الشهر، والأصل أنها زوجة ولا تخرج من الزوجية إلا بيقين، فنقول: إذا اعتدت ثلاثة أشهر فقد جزمنا أنها قد خرجت من عدتها.

    1.   

    عدة المستحاضة المبتدأة

    يقول المصنف رحمه الله: [والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر].

    والمستحاضة المبتدأة التي لأول مرة يأتي معها الدم، وقد فصلنا في أحكامها.

    أي: ابتدأها دم الحيض، لأول مرة تحيض.

    فالمرأة المبتدأة من هي؟

    قلنا: هي المرأة التي لأول مرة يبتدئها الحيض، فإذا كانت لأول مرة تحيض فحينئذٍ ليست لها عادة، وتحتاج إلى ثلاثة أشهر لكي تثبت عادتها، فلا نستطيع أن نحدد كم عادتها، فأصبحت في حكم الأصل؛ لأنها هي في الأصل من اللائي لم يحضن، فلما جاءت تحيض وحاضت الحيضة الأولى، والحيضة الثانية، والحيضة الثالثة وهي مستحاضة والدم يجري معها ولم ينقطع رجعت إلى حكم الأصل، فاستصحبنا حكم الأصل، فجعلناها من ذوات الأشهر، ولا يمكن أبداً أن نجعل لها غالب الحيض، كالتي أنسيت عادتها.

    1.   

    عدة الأمة المستحاضة

    يقول المصنف رحمه الله: [والأمة شهران].

    لما ذكرناه من التنصيف، والصحيح: أنه لا تنصيف.

    يعني: إذا كانت المستحاضة التي نسيت عادتها أمة، فعدتها شهران لما ذكرناه سابقاً، وهكذا إذا ابتدئت وكانت أمة مبتدأة فإنها تعتد بشهرين.

    1.   

    عدة من ارتفع حيضها وعلمت السبب

    يقول المصنف رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته].

    هذه الجملة بين فيها رحمه الله النوع الثاني من اللاتي انقطع عنهن دم الحيض، وهن اللائي عرفن سبب انقطاع الدم، فإذا عرفت المرأة سبب الانقطاع انتظرت حتى يعود الدم، فإذا انقطع لحمل انتظرت حتى تضع حملها، وإذا انقطع لمرض انتظرت حتى يذهب المرض ثم تعتد، ما الدليل؟

    لأن الله ألزمها بالقرء، وليست بآيسة، وليست ممن لا يحيض، فبقيت على الأصل، فتنتظر حتى يعود لها حيضها، وقال بعض العلماء: إنها تعتد سنة، وهذا القول استصحب حكم عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: إذا طال عليها الأمر وطالت بها المدة فلها أن تعتد سنة، فإذا مضت عليها سنة ولم يعد لها حيضها فقد خرجت من عدتها، والقول هذا وجيه وقوي جداً؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، والأول أصح من جهة الأصل، ووجه القول بأنها تستثنى إذا طالت: أنه واضح الآن استبراء رحمها وتبين استبراء رحمها، وكونها إذا مضت عليها سنة خرجت من عدتها هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين، وأيضاً سماحة الشيخ ابن إبراهيم المفتي رحمة الله عليه يرون هذا، وبناء على ذلك يقولون: إنها تستثنى.

    1.   

    الأسئلة

    عدة المطلقة المنقطع حيضها

    السؤال: ألا تندرج الثلاثة الأشهر تحت التسعة وذلك في التي ارتفع حيضها؛ لأن ما يتحقق في الثلاثة الأشهر قد تحقق في التسعة ؟

    الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فلا يحصل الاندراج في هذا؛ لأن المعنى لا يتحقق، فالتسعة الأشهر استبراء من الحمل، والثلاثة الأشهر عدة تعبدية، فكيف يدخل هذا في هذا؛ لأن الأول يقصد منه التأكد من أنها غير حامل، والثاني يقصد منها عدة شرعية، وبناء على ذلك: هي في الأول تمكث التسعة الأشهر من أجل أن تتأكد من الحمل، ولا تمكثها على أساس أنها عدة طلاق، ولا تصح منها عدة طلاق؛ لأنها لو نوت في التسعة الأشهر عدة الطلاق لما صح ذلك لاحتمال أنها حامل، وعلى كل حال فهذا التداخل لا يصح، ولذلك لا يحكم به، وتبقى على الأصل من أنها تحتسب السنة تامة كاملة، والله تعالى أعلم.

    حكم تحية المسجد لمن دخل المسجد وقت غروب الشمس

    السؤال: إذا دخل الإنسان المسجد قبل صلاة المغرب بوقت يسير، فهل يظل واقفاً إلى الأذان أم يجلس؟

    الجواب: إذا كان الوقت يسيراً فهو مخير بين أن يقف خروجاً من الخلاف، وبين أن يجلس وهو الأصح والأقوى، أما الصلاة أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء فالنصوص قوية وصريحة بالإمساك عن الصلاة في هذا الوقت، حتى إن بعض العلماء يقول: هذا الموضع خارج من الخلاف بين العلماء؛ لأن النصوص فيه قوية جداً: (فإذا طلعت -يعني: عند طلوعها- فأمسك عن صلاتك فإنها تطلع بين قرني شيطان) لأنها عبادة المشركين، فالمشركون يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها، وتكون بين قرني شيطان؛ لأن الشيطان يأتي بينهم وبين الشمس، فيكون سجودهم للشيطان لا للشمس، لأنهم يعبدون الشيطان في الحقيقة ولا يعبدون الشمس، لأن الشمس تبرأ إلى الله عز وجل من عبادتهم، فهذا الوقت نهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، ومشابهة للمشركين، فالعلة فيه قوية، ولذلك نقول: وقت الطلوع والغروب لا خلاف فيه -وهذا أمر يخلط فيه البعض- وقد جزم غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم بأنه خارج عن موضع الخلاف، وأنه لا يصلى فيه تحية المسجد ولا النوافل، لكن الفرائض فيها أدلة ونصوص واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا لمكان الفرضية المحتمة، والشرع يخالف بين الفرض وغير الفرض، ومن هنا لا وجه لأن يصلي أثناء الطلوع وأثناء الغروب، فإما أن يقف وإما أن يجلس وهذا هو الأقوى، وهي رخصة من الله وفسحة، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً في مسجده كما في الصحيح في قصة كعب بن مالك لما نزلت توبته ودخل عليه كعب بن مالك بعد صلاة الفجر، والحديث في سياقه يدل على أنه لم يصل تحية المسجد؛ لأن النص نص على أنه لما دخل قال: (فاستقبلني طلحة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه)، ولم يذكر تحية المسجد ولا الصلاة، ولذلك هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن ذوات الأسباب بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس لا تصلى؛ لأن الصلاة أثناء الطلوع والغروب تشبه بالمشركين، وما بين الصلاة وما بين الغروب والطلوع ذريعة، ولذلك نهي عنها من باب سد الذرائع، لأنها ذريعة ينتهي بها إلى الوقت المحذور، فنهي عن الصلاة في هذين الوقتين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا صليت العصر فأمسك عن الصلاة) ما قال: إلا تحية المسجد أو استثنى بل قال: (فأمسك عن الصلاة)، ونهاه عن أن يصلي كما في الصحيح، فهذا يدل دلالة قوية على أنه لا يصلى على أصح القولين، والله تعالى أعلم.

    حكم شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب

    السؤال: هل يجوز شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب، علماً أن بائع الذهب لا يبيعه بنفس قيمة الرصيد للعملة؟

    الجواب: إذا كانت العملة رصيدها ذهباً كالجنيهات والدولارات والدنانير والليرات -فهذه كلها رصيدها ذهب- فلا يشترى بها الذهب إلا إذا تحققت المثلية؛ لأن الورق له رصيد، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في الحقيقة؛ لأنه أخذ ودفع الورق مستنداً على الرصيد، ومستند الدين لا يلغى بحال، ولو ألغي عرفاً لا يلغى شرعاً، ولذلك لو قيل: إنه يلغي، فالله ما أمرنا بزكاة الأوراق، وإن قيل: الورق له قيمة فورق الكتب له قيمة وورق الصحف له قيمة. إذاً: القيمية في الورق لا تستلزم أنه تجب فيه الزكاة، وإذا ثبت هذا: فإن هذه الأوراق ينظر إلى رصيدها، فما كان فضة لا تشترى به الفضة إلا مثلاً بمثل، وما كان ذهباً فلا يبادل بذهب إلا بإدخال الوسيط، فالدولار يحول إلى ريال ثم يحول إلى جنيهات ونحو ذلك، ولا ينقل من ذهب إلى ذهب ولا يشترى به الذهب، وإنما يشترى الذهب بالفضة وتشترى الفضة بالذهب خروجاً من شبهة الربا؛ لأن قاعدة الربا: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) يعني: إذا لم نتحقق من المثلية بمبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة فإنه لا يجوز البيع؛ وأصل هذه القاعدة مستنبط من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة القلادة التي غنمها من خيبر، فإنه اشتراها بعشرين ديناراً وقيل: بأكثر من خمس وعشرين ديناراً ثم وجد فيها بعد فصلها من الذهب ما يعادل خمسة وعشرين ديناراً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع القلادة حتى يفصل الذهب عنها؛ لأنه إذا كان معها الفصوص جهل الوزن، فجعل عليه الصلاة والسلام الجهل بالوزن حتى تتحقق المثلية كالعلم بالتفاضل، فيحرم بيعها حتى تفصل، ومنه استنبط العلماء والأئمة هذه القاعدة في الربا: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) فكل شيء يباع بمثله من نفس صنفه لابد أن نتحقق من المثلية فيه، صاع بصاع، كليو بكيلو، فإذا شككنا وليس عندنا شيء يجزم بأنه متساوٍ امتنعنا من البيع؛ لأن جهلنا بهذا التماثل كأننا تحققنا من التفاضل، أي: يقع الربا شئنا أم أبينا، فقالوا: من هذا الحديث تستنبط القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل). والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الخطبة وعقد النكاح

    السؤال: يزعم بعض الناس أنه بمجرد خطبة النكاح يجوز الدخول بالمرأة؛ لأن الإيجاب والقبول قد تم. فما صحة هذا الأمر ؟!

    الجواب: الإيجاب والقبول يتم عقداً بحضور الشاهدين العدلين، فإذا زوج الولي موليته بحضور شاهدين عدلين تم العقد، لكن الخطبة أن يأتي ويقول للولي: يا فلان! مثلك أهل أن يتزوج منه، أو بيتك بيت شرف وفضل، وإني راغب في بيتك، أو أريد ابنتك، فليس بعقد وإنما هي حكاية الرغبة، ولا تأخذ حكم العقد، ولذلك لا يكون العقد إلا بإيجاب وقبول أنه نكاح، وصادر من الولي والزوج أو من يقوم مقامهما كالوصي ووكيل الزوج، فإذا حصل الإيجاب والقبول بحصول شاهدين عدلين؛ فإنه حينئذٍ يصح النكاح ويحكم بانعقاده، أما ما قبل هذا من خطبة فإنها لا تستلزم ثبوت العقد، وحينئذٍ المرأة لا تزال أجنبية حتى يثبت عقده عليها، والله تعالى أعلم.

    حكم وضع الغترة سترة في الصلاة

    السؤال: يضع بعض الناس الغترة أو الشماغ عند الصلاة على الأرض فما حكم ذلك الفعل؟

    الجواب: بعضهم يضعها أشبه بالسترة مثل أن ينفخها أو يعليها إذا لم يجد سترة، فهذا بعض العلماء يراه سترة وبعض العلماء لا يراه سترة؛ لأنها غير ثابتة، فإذا تحركت الريح انخسفت، فلا تكون ثابتة إلا إذا لفت ودورت حتى تكون أشبه بمؤخرة الرحل، أما إذا وضعها حتى لا تشغله أثناء الصلاة بالرفع والوضع فهذا خلاف الأولى؛ لأن الأفضل والأكمل في المصلي أن يكون بغترته، والله يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، أي: عند كل صلاة، من باب إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، فالأكمل والأفضل أن يكون بغترته ولا يعبث بالغترة.

    وعلى كل حال فالأكمل والأفضل ألا ينزعها عن رأسه؛ لأنها حالة كمال وإجلال وتعظيم للشعيرة، فهذا أكمل وأفضل، لكن هذا الفعل لا يستطيع أحد أن يقول: إنه حرام، بل نقول: خلاف الأولى.

    وهل خلاف الأولى مكروه؟

    وجهان للعلماء: وصحح غير واحد -ومنهم الحافظ ابن دقيق رحمه الله- أن خلاف الأولى لا يستلزم أن يكون مكروهاً، والله تعالى أعلم.

    النهي عن البيع في المساجد

    السؤال: وزعت قصاصات من الأوراق في المسجد فيها طلب شراء أشرطة الدروس من التسجيلات الإسلامية، فهل هذا يعد من قبيل البيع في المسجد؟

    الجواب: نعم. هذا داخل في النهي ولا يجوز، وللأسف بلغني في درس جدة ودرس مكة أنه وزعت هذه القصاصات للمذكرات وللأشرطة، وهذا من البيع، والمساجد ما بنيت لهذا، فإذا أراد صاحب التسجيلات أن يعرض شيئاً فليعرضه خارج المسجد، أما المسجد فلذكر الله عز وجل، ولذلك لا أرى شرعية هذا الشيء ولو كانت دروسي، فلا يجوز هذا الشيء ولا يشرع، فمحل البيع والتجارة معروف، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فعلى الإخوة أصحاب التسجيلات أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يفعلوا هذا لا في الدروس ولا في المحاضرات، وأن يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع داخل المسجد، والإجماع منعقد على تحريم البيع داخل المسجد كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لا البيع ولا العرض والترغيب، حتى بعض التقاويم التي فيها دعاية للمؤسسات لا ينبغي أن تكون داخل المسجد؛ لأنه ليس المقصود التقويم، وإنما المقصود الدعاية للمؤسسة، والتجارة، ولذلك نقول لصاحب هذا التقويم: إذا كنت تريد وجه الله عز وجل فاطمس الدعاية حتى يتبين أنك تريد التقويم، ولا تريد أن تدعو إلى مؤسستك أو تجارتك، ولذلك من ناحية شرعية: التقاويم التي فيها دعاية تطمس الدعاية أو تخرج من المسجد؛ لأن المساجد ما بنيت إلا لذكر الله عز وجل، وبعض الأحيان يفقد غريب محتاج ضالته فينشدها في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجدتموه ينشد ضالته) رجل محتاج منكوب مكروب.. (فقولوا: لا ردها الله عليك) مع أنها شريعة رحمة ويسر، إلا إن المساجد لم تبن لهذا، وتكفي الدنيا خارج المسجد، وأما المساجد فليس فيها إلا ذكر الله، وليس فيها إلا تعظيم الله، وتمجيده وتوحيده، وتقديسه بالأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، يتخلى الناس في المساجد من نكد الدنيا وقذرها، فيتطهرون بالإقبال على الله، وبالتوبة والإنابة إليه عز وجل.

    ولذلك قال أبو الدرداء لرجل يبتاع في المسجد: (يا هذا! إن أردت البيع فاخرج خارج المسجد، فإنك في سوق الآخرة) يعني: هذا ليس مكان البيع والشراء، فالمساجد لله وحده لا شريك له.. وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، ولذلك لا يجوز أن يقدس فيها أحد ولا أن يمجد فيها أحد، ولا أن تفعل فيها أشياء لتمجيد أشخاص أو ذوات أبداً إلا الله وحده لا شريك له، فهي أماكن عبادة وذكر لا يجوز لأحد أن يستغلها لأغراض دنيوية، وعلى الجميع أن يتقوا الله عز وجل سواء في مسائل البيع أو غيرها، وأن يعظموا شعائر الله عز وجل نسأل الله العظيم أن يوفقنا لذلك وأن يعيننا عليه، والله تعالى أعلم.

    الشكوى إلى الله علاج كل هم وكرب

    السؤال: أعاني من ضيق شديد، وأحلام مزعجة، فادع الله لي، وما المخرج منها ؟

    الجواب: نسأل الله العظيم أن يعجل لنا ولك ولكل مسلم مكروب منكوب بالفرج.

    أخي في الله! الشكوى إلى الله، ومن أنزل بالله حاجته وفاقته أوشك أن يتأذن الله له بالفرج العاجل، فاجعل شكواك إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، واجعل توكلك على الحي القيوم وسبح بحمده، فإنه يعلم حالك، وأرأف بك من نفسك التي بين جنبيك، فهو أرحم الراحمين، وهو رب العالمين، منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، فهو الله الذي لا إله سواه، ولا رب عداه، فاجعل حاجتك عند الله جل وعلا، واعلم أنك بين منزلتين:

    إن صبرت وسكت وجعلت بثك وحزنك إلى الله وحده رفعت درجتك، وكفرت خطيئتك، وأفرغ عليك الرحمن صبراً، فعاد البلاء نعمة عليك في الدين والدنيا والآخرة، فقويت نفسك، واستجمت روحك، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى، حتى إن بعض المؤمنين المخلصين المحسنين إذا زال عنهم البلاء تألموا، فهم يجدون في البلاء من لذة مناجاة الله ما لا يجدونه إذا فارقهم، وهذا من كمال إيمانهم وتوحيدهم وتعلقهم بربهم، فكن ذلك الرجل رحمك الله.

    وأما إذا اشتكيت وأخذت ذات اليمين والشمال فأنت بين أمرين:

    إن اشتكيت شكوى للعلاج والأخذ بالأسباب كشكوى المريض إلى طبيبه فهذا من تعاطي الأسباب، وقد اشتكى عليه الصلاة والسلام فقال: (وا رأساه)، وأما إذا كان إخباراً بالحال فلا بأس كما اشتكى عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، وأما إذا كانت الشكوى تسخطاً من القضاء والقدر فقد ضاقت النفس، وعزب الرشد، وحينها يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن سخط فعليه السخط)، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تتسخط على قضاء الله وقدره، وارض بما قسمه الرحمن، وانظر إلى من هو أشد بلاء وضرراً، واحمد الله جل وعلا على عافيتك.

    الوصية الأخيرة: ما من بلاء إلا بسبب ذنب، وإذا أراد الله بعبده خيراً نبهه لحقوق الناس ومظالمهم، فلعل مظلوماً ظلمه، أو محروماً حرمه، فتفقد نفسك، فلربما آذى العبد قريباً فقطع رحمه فابتلاه الله بهذه المصائب، ولربما ظلم ضعيفاً، أو حرم ذا حق حقه، أو آذى ولياً من أولياء الله، كأن يغتاب العلماء أو يقع فيهم أو ينتقصهم؛ لأن هذه الأمور غالباً عقوبة الله فيها أليمة وشديدة، خاصة أذية الوالدين والقرابة، وأذية أهل الفضل وأهل العلم، والصالحين والأتقياء، والظلم والبهت، والاستهزاء بالناس، فهذه دائماً تسلط على الإنسان النكد والهم والغم، وتجعل نفسه في ضيق وكرب: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33]، ما ظلم الله عز وجل عباده، ولكن ما وقعت بهم هذه البلايا إلا بسبب ظلمهم وأذيتهم وإصرارهم على اعتدائهم على حدود ربهم، فالواجب على المسلم أن يتفقد نفسه، وسعادة المؤمن وحسن حاله في الدنيا أنك تجده يعرف من أين يؤتى، فقل أن ينزل به بلاء إلا وألهمه الله سبب ذلك البلاء، وهذا إذا قلت سيئاته وكثرت حسناته، عندها يعلم من أين يؤتى، أما -والعياذ بالله- من عظمت سيئاته وأحاطت به خطيئته، فعندها لا يزال يبتلى ويبتلى حتى ينزل الله به نقمته فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، نسأل الله السلامة والعافية.

    فعلى كل حال أوصيك بهذه الأمور:

    أولها: الالتجاء إلى الله وحده لا شريك له، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد وعدك بالفرج، فما من منكوب ولا مكروب يصدق مع الله في دعائه وسؤاله ورجائه إلا صدق الله معه، وما من عبد ينادي ربه في ظلمة ليل أو ضياء نهار وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا الله جل جلاله، معتقداً من خالص قلبه أن الله قادر على إزالة كربه، يناديه نداء صدق وهو يعتقد ربوبيته وألوهيته وقدرته على خلقه إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فإما أن يزيل البلاء بالكلية، وإما أن يفرغ على هذا الحبيب المؤمن الولي الصالح صبراً، فلو أنه نزل عليه البلاء كأمثال الجبال لم يشعر من ذلك بشيء، ولذلك عليك أن تركز على هذا الأساس وهو الالتجاء إلى الله عز وجل.

    ثانياً: تأخذ بالأسباب والتي منها أن تعرف من أين أتيت، فتفقد ما بينك وبين قرابتك من الوالدين والقرابة، وكذلك أيضاً ما بينك وبين صالحي العباد من العلماء والأئمة الأموات والأحياء، فتستغفر الله من ذنوب وقعت بها في حقوقهم، وتسأل الله العفو عنك.

    والوصية الأخيرة: الاستكثار من الأمور التي توجب الرحمة والتي من أعظمها وأجلها: أولاً: سماع القرآن وكثرة تلاوته، قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، فالذي يكثر من سماع القرآن يبدد عنه الهم والغم، وكذلك أيضاً الذي يكثر من تلاوته فإن الله يشرح به صدره.

    ثانياً: مما يزيل الله به الهم والغم ويعجل به الفرج من الأعمال الصالحة: كثرة الاستغفار، فإن الله عز وجل أخبر أنه لا يعذب من استغفر، ولذلك من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، فتستغفره قائماً وقاعداً، وممسياً ومصبحاً، تستغفره على كل حال، وتسأله الرحمة في سائر الأحوال.

    نسأل الله بعزه وجلاله أن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755813167