إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الفقهاء يرتبون أحكاماً كثيرة على الألفاظ التي يتكلم بها المكلف، ومن ذلك ألفاظ الطلاق المعلق. فقد يعلق الزوج الطلاق بمجرد حيض زوجته أو باكتمال حيضها أو بمضي جزء من حيضها. وقد يعلقه بالحمل أو بنفي الحمل أو بنوع الحمل.. أو غير ذلك. وقد بين الفقهاء رحمة الله عليهم أحكام تعليق الطلاق وما يترتب عليها وتفاصيلها.

    1.   

    تعليق الطلاق بالحيض

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    أما بعد:

    فقال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [ فصلٌ: إذا قال: إن حضتِ فأنت طالق طلقت بأول حيضٍ متيقن ]:

    ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الموضع جملةً من المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق بالحيض، وقد قدمنا أن النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم إذا أراد أن يطلق زوجه أن يطلقها في طهرٍ لم يمسها فيه، وبينا أن الإجماع منعقد على تحريم تطليق المرأة إذا كانت في الحيض، وهذا الإجماع مستندٌ إلى النصوص التي ذكرناها، ولذلك غضب صلى الله عليه وسلم على ابن عمر حينما أخبره عمر أنه طلق زوجته وهي حائض.

    تعليق الطلاق بوقوع الحيض

    الطلاق في الحيض ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يكون الطلاق في الحيض، فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد أن دخل بها في حال حيضها فالإجماع منعقد على أنه طلاق حيضٍ محرم.

    القسم الثاني: أن يطلقها تعليقاً بالحيض، فتكون طاهرة، ويقول: إن حضتِ، فهذه المسألة حكمها حكم الطلاق في الحيض، فالرجل إذا قال لامرأته: إن حضت فأنت طالق، فإنه طلاقٌ محرم، وهو طلاق بدعي، وعلى هذا يكون آثماً بهذا النوع من التعليق، فهذا التعليق محرم، واستفدنا من هذه الجملة أن الطلاق في حال الحيض يستوي فيه أن تكون المرأة أثناء الطلاق حائضاً أو تكون المرأة غير حائضٍ فيطلقها معلقاً طلاقها على الحيض، فإذا علق طلاقها على الحيض، فإن الطلاق غالباً يكون مستقبلاً، فيشمل التطليق في الحيض ما يكون حالاً وما يكون مسنداً إلى الاستقبال بصيغة التعليق.

    قال رحمه الله: (إن قال لها: إن حضت فأنت طالق) أي: بينه وبين الله، فإن امرأته طالق إن حاضت حيضة كاملة، يعني: إن دخلت في حيضها، فإننا نحكم بتطليقها إذا تبين حيضها.

    وهذه الجملة تفيد أنه بمجرد دخولها في الحيض وثبوت الحيض بالنسبة لها تكون طالقا، فإن تكلم بهذه الصيغة والمرأة صغيرة لم تحض بعد، كأن يكون عمرها خمس سنوات، أو ست سنوات، أو سبع سنوات، أو ثماني سنوات، فقال لها: أنت طالقٌ مني إن حضت، يعني: إن جاءك دم الحيض فأنت طالق، فننتظر إلى أقل سنٍ تحيض فيه المرأة، ولا نتيقن بكونها حائضاً إلا إذا بلغت تسع سنين على التفصيل الذي قدمناه في كتاب الحيض، وقد ذكرنا رواية البيهقي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة)، أي: تأهلت للحيض لتسع سنين، ومن هنا أخذ طائفة من أهل العلم أن أقل سنٍ تحيض فيه المرأة تسع سنوات، وأبو بكر رضي الله عنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة وعمرها ست سنين، ودخل عليه الصلاة والسلام بها وعمرها تسع سنين، وهذا يؤكد أن تسع سنين تتأهل فيها المرأة للزواج وتتأهل للحيض، فإذا قال رجل: زوجتك ابنتي وعمرها ست سنوات، فعقد عليها، فتم العقد فقال له: إن حاضت ابنتك فهي طالق فحينئذٍ ما قبل سن المحيض تكون في عصمة الرجل ولا يقع الطلاق، فننتظر إلى أقل سنٍ تحيض فيه المرأة، ثم ننظر إلى دم الحيض بصفاته على التفصيل والضوابط التي تقدمت معنا في كتاب الحيض، فلا بد من أمرين:

    أولاً: السن.

    والثاني: أن يكون الدم الذي يجري من المرأة دم حيضٍ لا دم استحاضة؛ لأنه ربما كان عمرها تسع سنين ولا يتبين أن ما يخرج منها دم حيض ولهذا قال المصنف رحمه الله: (بأول حيض متيقن) فعندنا في الحيض شك ويقين، ومسألة أقل سن تحيض فيه المرأة قد بيناها، وكذلك مسألة أقل الحيض قد تقدمت في كتاب الحيض وذكرنا خلاف العلماء -رحمهم الله- في أقل الحيض وأنه تتفرع عليه مسائل عديدة ومنها هذه المسألة، فأنت إذا قلت: إن أقل الحيض يوم وليلة أي: أربع وعشرون ساعة، فلو أن بنتاً عمرها تسع سنوات خرج منها دم لكن هذا الدم استمر سبع ساعات وانقطع فليس بحيض على هذا القول، ولا تطلق المرأة عند من يقول: إنه لا بد أن يستمر أربعاً وعشرين ساعة.

    فلو أن امرأة بلغت تسع سنين وجرى معها دم ولم يستتم أربعاً وعشرين ساعة فإنها لا تطلق بذلك الدم، ولا يعتبر ذلك الدم دم حيض، وهذا على مذهب الشافعية والحنابلة الذين يقولون: أقل الحيض يوم وليلة، والحنفية -رحمهم الله- يقولون: ثلاثة أيام، والظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن الحيض لا حد لأقله، وأن المرأة ممكن أن تدفع الدفعة من الحيض، وذكرنا أن هذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديد يدل على أن اليوم أو الليلة أو أن الثلاثة الأيام هي أقل ما تحيض به المرأة، وإنما استندوا في ذلك إلى أدلة نظرية، والصحيح أن الحيض يكون قليلاً وكثيراً ولا ضابط له من حيث الساعات أو الزمان.

    إذا ثبت هذا فنحسب أقل سن تحيض فيه المرأة، فإن كانت السن سن حيض وخرج معها دم الحيض على صفاته فإننا نحكم بكونها طالقاً.

    تعليق الطلاق باكتمال الحيض

    قال رحمه الله: [وإذا حضت حيضةً تطلق بأول الطهر من حيضة كاملة]

    قوله: (وإذا حضت) لاحظ، (إن حضت) بمجرد تيقن الحيض، (وإذا حضت حيضة) هذا له حكم، فهنا لفظ وهنا لفظ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3] وينبغي أن نتنبه إلى أن العلماء -رحمهم الله- حينما يذكرون هذه الألفاظ ويدققون في كل كلمة وكل جملة ليست القضية قضية الحيض فقط، بل القضية قضية تمرين الفقيه وطالب العلم على أن يعطي كل كلمة حقها وقدرها، فقد تأتي مسألة من المسائل التي تتعلق بالحقوق والأموال وتتفرع على هذا الأصل الذي ذكره العلماء في الألفاظ، فأنت إذا عرفت من باب الحيض أن التعليق بالشروط له ضوابط معينة من جهة الألفاظ فتستطيع أن تطرد ذلك في كل شيء يقع، حتى لو أن رجلاً قال لعامل عنده: إن جاءك محمد فأعطه مائة ألف، فاتصل محمد على العامل وقال له: سيأتيك سعد وأعطه المائة ألف، فجاء سعد وأخذها وسرق المال، من يضمن؟ يضمن العامل؛ لأنه قال له: إن جاء وكلمة (إن جاء) ليست كما لو اتصل، ففي الشريعة تقييد وإلزام ولا يقول الإنسان لماذا الفقهاء يقولون: إن حضت وإذا حضت؟ فالشريعة تامة كاملة، ومن تمامها وكمالها أنها تعطي كل لفظٍ حقه، ودلالته ومعناه.

    فلو قال الرجل لزوجته: إن حضت، وقصد حيضة كاملة فحينئذٍ لا تطلق قبل أن تحيض حيضة كاملة، والفرق: أن قوله: إن حضت، مراده الدخول في الحيض، وأما قوله: إن حضت حيضة كاملة أو إن حضت حيضة، مراده إكمال مدة الحيض، فلو قال هذا الكلام أثناء حيضها فإنها تطلق على الأول ولا تطلق على الثاني، حتى تأتي الحيضة التي تلي الحيضة التي قال ذلك فيها؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت حيضة كاملة، أو إن حضت حيضة فإنه أثناء الحيض لم تحض بعد حيضة كاملة من قوله إلى نهاية الحيض، فلو قال لها: (إن حضت حيضة فأنت طالق) وقصد الحيضة الكاملة الثانية، فإن وقع هذا الكلام قبل الحيض ننتظر حتى تبدأ الحيض، فإن حاضت وتمت عادتها من الحيض طلقت، وحكمنا بطلاقها، وإن كانت أيست وانقطع حيضها لم يقع الطلاق؛ لأن الطلاق موقوفٌ على وجود الحيض، وفائدة التعليق وجود الحيض، فلو قال لها وعمرها ستون سنة: إن حضت حيضة فأنت طالق، فبعد الستين انقطع عنها الحيض فحينئذٍ لا تطلق؛ لأن الشرط مركب على وجود حيضة تامة كاملة، حتى ولو قال لها هذا الكلام في آخر حيضة حاضتها من عمرها لم تطلق؛ لأنه لو مضى من الحيضة ثلاثة أيام أو أربع أيام، أو مضى منها ساعة أو مضى منها يوم فإنها لم تحض بعد الشرط حيضة كاملة، مثال ذلك: امرأة عادتها أن تحيض سبعة أيام، فلما صارت في آخر حيضة من عمرها حاضت اليوم الأول فقال لها زوجها في اليوم الثاني: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق، فإنها بعد هذا الشرط حاضت حيضة ناقصة؛ لأنها بقي لها من عادتها ستة أيام، فما دام أنه قد مضى جزءٌ من الحيضة قبل الشرط فالحيضة غير كاملة، فتوفي هذه الحيضة وتنتظر هل تحيض بعد هذا الشرط أو لا؟ فإن لم تحض؛ فحينئذٍ لا يقع الطلاق، وإن طهرت ثم حاضت فإننا ننتظر إلى تمام عادتها ونحكم بطلاقها، فهذا الفرق بين قوله: إن حضت حيضة، وقوله: إن حضت.

    تعليق الطلاق بمضي جزء من الحيض

    قال المصنف رحمه الله: [وفي (إذا حضت نصف حيضة) تطلق في نصف عادتها]

    لاحظ الفرق، والعلماء يرتبون المسألة على المسألة، فأنت تقول: إن حضت حيضة كاملة، فمعناه: أنه لو خاطبها بهذا الشرط أثناء حيضها، فإننا نلغي الحيضة التي وقع عليها الشرط، وننتظر إلى طهرها وحيضها من بعد، فلو انقطع حيضها فلا تطلق، وإن حاضت حيضة تامة بعد هذا الشرط حكمنا بطلاقها بمجرد تمام الحيض، ولو قال لها: إن حضت نصف حيضة فأنت طالق، ننظر حينئذٍ إلى عادتها فإن كانت عادتها ثمانية أيام، فمعناه: أن نصفها أن تحيض أربعة أيام، فتتفرع مسائل عديدة، منها: أنه لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكانت قد مضت ثلاثة أيام فإننا نعتد بالأربعة أيام، ونحكم بطلاقها بمضي أربعة أيام بعد الثلاث، فتكون طالقاً في اليوم السابع عند من يوقع الطلاق في الحيض، وإن مضى أربعة أيام وبقيت أربعة أيام فتطلق بعد تمام اليوم الثامن الذي هو الطهر، لكن لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكان قد بقي من عادتها ثلاثة أيام وحيضتها ثمانية أيام فإنها تلغى هذه الحيضة كلها، وتنتظر إلى الحيضة الثانية، فلو أنها توفيت قبل الحيضة الثانية، أو انقطع حيضها قبل الحيضة الثانية لم يتبعها طلاقها.

    فالمسائل كلها تترتب عليها أحكام، إذا علقت الطلاق على شرطٍ معين كلاً أو جزءاً تراعي الكلية في ما يشترط فيه الكلية، والجزء فيما يشترط فيه الجزء، فإن بقي من زمان الحيض ما يتحقق به وصف النصف أو الربع -على حسب ما يذكر من شرطه- حكمنا بوقوع الطلاق بعد ذهاب ذلك العدد الذي اشترط فيما بينه وبين ربه أن زوجه تطلق به.

    هذا بالنسبة لمسألة: إن حضت حيضة، وإن حضت نصف حيضة، فانظر إلى ترتيب المصنف، فهي ثلاث مسائل:

    المسألة الأولى: إن حضت، ومتى حضت، وأي وقتٍ تحيضين، فحينئذٍ نحكم بالطلاق بمجرد دخولها في الحيض على القول الراجح بأن أقل الحيض لا حد له، وأما عند من يشترط اليوم والليلة، أو يشترط ثلاثة أيام فلا نحكم بطلاقها إلا إذا بقي الدم يوماً وليلة، أو بقي ثلاثة أيام على الخلاف المذكور، وأما على القول بأن قليل الحيض وكثيره سواء فتطلق بمجرد دخولها في الحيض، هذه هي المسألة الأولى، ووجه هذه المسألة أن الرجل طلق امرأته فيما بينه وبين الله إذا دخلت في حيضٍ، فبمجرد دخولها في الحيض تطلق.

    المسألة الثانية: يعطي شرطاً أوسع من شرط الدخول، فيقول لها: إن حضت حيضة كاملة، فلا يكفي دخولها في الحيض، ولا يكفي ابتداؤها الحيض أو شروعها في الحيض بل ننتظر إلى تمام عادتها فلو قال لها وهي طاهر: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق فحاضت يوم السبت وماتت الأحد فهي في عصمته، ولا يتبعها طلاقه؛ لأنها لم تحض حيضة تامة كاملة.

    المسألة الثالثة: إن قال لها: إن حضت نصف حيضة أو ربع حيضة فننظر إلى عدد أيام عادتها ونحكم بالطلاق مجزأ فإن قال لها: إن حضت نصف حيضة، لم يخل من حالتين:

    إما أن يتكلم به قبل الحيض فنقول: بمجرد ما تبتدئ الحيضة المستقبلة الآتية نحسب عدد النصف، ونطلقها في نصف عادتها التي ستأتي، هذا إذا كان وقع كلامه قبل الحيض، فتطلق في نصف العادة الآتية، وإما إن قال هذا الكلام أثناء الحيض نظرنا: فإن بقي من أيام عادتها ما يعادل النصف فأكثر طلقناها بمجرد مضي عدد الأيام التي تستوعب نصف العادة، وحينئذٍ نحكم بأنها طالق، فإن مضى من عادتها يومان وعادتها ثمانية، فنحكم بكونها طالقاً بعد مضي أربعة أيام بعد اليومين أي: بعد السادس، ولا ننتظر إلى النصف الثاني وإنما نقول: تتجزأ بالأيام، وأما لو كان اعتد به كاملاً وجعل الطلاق على الحيض كاملاً فالعبرة بكماله، أو جعل الطلاق على بعضه، فالعبرة بذلك البعض، أو جعل الطلاق بمجرد تيقن دخول الحيض وحكمنا بالطلاق.

    وتبين بهذا أن قوله: إن حضت حيضة تامة، أهون من قوله: إن حضت، أو إن حضت نصف حيضة، فإن قوله: إن حضت، مراده: بمجرد دخول الحيضة فيكون طلاقاً بدعياً، وإن قال: إن حضت نصف حيضة فيكون قبل الحيض بدعياً، وإذا بقي من عادتها النصف يكون سنياً؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت نصف حيضة، في أثناء الحيض، وبقي من حيضها النصف فمعناه أنها ستطلق بعد طهرها، فيكون سنياً، فافترق الحكم، والحاصل: أن الطلاق يكون بدعياً إن قصد مجرد وجود الحيض إن حاضت، ويكون سنياً إن قال: إن حضت حيضة تامة، لأنه يقع بعد الطهر، فبمجرد دخولها في طهرٍ لم يجامعها فيه يقع الطلاق سنياً، ويكون محتملاً إن قال: نصف حيضة، فإن قال ذلك قبل الحيض فبدعيٌ؛ لأنه سيقع في نصف العادة، وإن قاله وقد بقي من عادتها ما يستوعب النصف فأكثر فبدعي أيضاً؛ لأنه سيبقى من حيضها يوم أو يومان فيقع الطلاق وهي حائض، وإن قال ذلك ولم يبق إلا القدر الذي اشترط فسنيٌ لأنها تطهر ويكون حينئذٍ طلاقها في طهرٍ لم يجامعها فيه.

    1.   

    تعليق الطلاق بالحمل

    تعليق الطلاق بإثبات الحمل

    قال رحمه الله تعالى: [فصلٌ: إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف]

    قبل أن ندخل في تفصيلات العلماء في مسألة الحمل نحب أن نمهد بتمهيد نستوعب فيه هذه المسائل.

    أولاً: أقل الحمل: مدة زمانية لا يمكن أن يوجد الحمل في أقل منها، وأكثر الحمل: مدة زمانية الغالب بالعادة والتجربة أنه لا يجاوزها الحمل، وكلتا المسألتين تتفرع عليهما مسائل مهمة، وقد تتفرع عليها مسائل تتعلق بإنقاذ الأرواح كما سيأتي، فأقل الحمل ستة أشهر في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة لا تضع الحمل التام قبل الستة من حيث الأصل الغالب والذي دل عليه دليل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فأثبت سبحانه أن حمل الجنين وفطامه بعد الولادة من الرضاع يستغرق الجميع ثلاثين شهرا، يعني: سنتين ونصفاً إذ هي ثلاثون شهراً، 24 شهراً للسنتين، و6 أشهر لنصف سنة، فنصت الآية على أن الحمل مع الرضاع والفطام من الرضاع يستغرق ثلاثين شهراً، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233].

    وانظر إلى جمال هذا القرآن وجلاله وكماله وعظمته وما أودع الله فيه من الحكم والأحكام، فالآية تأتي في مسائل النفقات على المرضعات، وإذا هي تتعلق بمسائل الحمل، فانظر كيف يرتبط القرآن كله بعضه ببعض، ولذلك استنبط علي رضي الله عنه من هذه الآية أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه إذا كان الرضاع له سنتان من ثلاثين شهراً فما يبقى إلا ستة أشهر، فإذا ثبت أن أقل الحمل ستة أشهر تفرع عن ذلك مسائل كثيرة، منها: لو أن رجلاً تزوج امرأة، ودخل عليها ثم توفي عنها، فاعتدت المرأة عدة الوفاة التي هي الحداد، وبعد أن تمت لها العدة جاء رجل ونكحها، فولدت لأربعة أشهر، فإنه يكون ولداً للزوج الأول وليس ولداً للزوج الثاني، على تفصيل في المسائل؛ لأنه لا يمكن نسبته إلى الماء الثاني، ولا بد بعد جماع الثاني أن نحسب الستة الأشهر، فما وقع من حملٍ قبل الستة الأشهر فهو منسوب للماء الأول من حيث الأصل، وهكذا مسألة أكثر الحمل، تتفرع عليها مسائل حتى في مسألة الإمكان ودفع الشبهة بزنا المرأة، ولذلك قالوا عن مالك رحمه الله: إنه حملت به أمه أربع سنين، وقالوا: هذا أكثر ما وجد في أقصى الحمل ولذلك يقولون: قد يعلق الجنين ويتأخر وتضعه أمه بعد طول زمان، ومن أعجب ما ذكروه من القصص المشهورة عن عمر رضي الله عنه أن امرأة تزوجها رجل ودخل بها ثم توفي عنها ثم اعتدت عدة الوفاة، وبعد مضي المدة تزوجها رجلٌ ثانٍ، فوضعت الولد لأربعة أشهر أو لثلاثة أشهر، والمرأة معروفة بالصلاح، ومن بيت صالح، ولا يعرف عنها أي ريبة فهي مستقيمة صالحة، فاحتار عمر رضي الله عنه في أمرها، فجمع المهاجرين، فأفتوا أن هذا زنا وأنها ترجم، وجمع الأنصار وأفتوا أنها ترجم؛ لأنها اعتدت عدة الوفاة ومضى زمن إمكان الحمل وبعد ذلك ولدت، ولا يمكن نسبته لزوجها الأول فيما نظره الصحابة، وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً فإذا أعياه الأمر عند الرجال جمع النساء، فلما وجدهم مجمعين على أنها ترجم -وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الحمل دليل على الزنا، كما في صحيح البخاري عنه في القصة المشهورة في آية الرجم- جمع النساء فقامت امرأة عجوز وقالت: إن هذه المرأة علقت من زوجها الأول، ولما أصيبت بالحزن والفاجعة ركن الجنين في رحمها، فلما تزوجت الثاني انتشت وانتشى الفرج بماء الثاني وجماع الثاني، فولدته، فحمد الله عمر أنه لم يرجم المرأة، وعمل بقولها، ولذا قال العلماء: قد يعلق الجنين ويتأخر، ومن الأطباء المتأخرين من يؤكد هذا ويعلل ذلك بضعف الرحم وغير ذلك من الأمور التي تؤثر في وقت وضع الحمل، فمسألة أقل الحمل وأكثر الحمل مهمة جداً تتفرع عليها مسائل في الطلاق كما يذكره المصنف رحمه الله، وتتفرع عليها مسائل في الحقوق، مثل مسألة شق بطن المرأة إذا كان في بطنها جنين، فلو توفيت وهي حامل وفي بطنها جنين فهل نشق بطنها أو لا نشقه، إن كان الجنين تمت له ستة أشهر فجمهور العلماء على أنه يشق بطنها ويستخرج الجنين، وأنه إذا لم تتم له ستة أشهر فلا يشق بطنها، فهذه كلها من المسائل المترتبة على مسألة أقل الحمل وأكثره.

    فقبل أن ندخل في تعليق الطلاق على الحمل لا بد أن يُعلم ما هو أقل الحمل وأكثر الحمل، بحيث يمكن أن ننسب هذا الحمل لكونه وقع بعد الشرط أو قبل الشرط، فالرجل إذا علّق الطلاق على وجود الحمل فله طريقتان:

    الطريقة الأولى: يعلق الطلاق إن ثبت الحمل، فيقول لزوجه: أنت طالقٌ إن كنت حاملاً، فعلق الطلاق على وجه الإثبات، وأثبت الطلاق بثبوت الحمل، فإذا ثبت أنها حامل حكمنا بالطلاق، وإذا ثبت أنها غير حامل حكمنا بعدم وقوع الطلاق، ومن قبل لم يكن عندهم من الآلات والوسائل ما يبين حمل المرأة من عدمه، ولربما انتفخ بطن المرأة بمرض وعلة، فيظن أنها حامل، فلا بد من معرفة بعض الضوابط: ضابط الزمان كما ذكرنا أقل الحمل وأكثر الحمل، وضابط استبراء الرحم، فالمرأة إذا حاضت بعد ذلك القول دل ذلك على أنها ليست بحامل فلا يقع الطلاق عند من يقول: إن الحامل لا تحيض؛ لأن الفرج ينسد بالحمل ويخرج الدم بعد النفاس والولادة.

    فيقول لها: أنت طالق إن لم تكوني حاملاً، وهذا هو النوع الثاني من الصيغ، الأول: صيغة الإثبات والثاني: صيغة النفي، فمعنى ذلك: أنه إذا وجد الحمل فلا طلاق، وإن لم يوجد الحمل وكانت بريئة وخُلُواً من الحمل فإنها طالق، فإذاً: نحتاج إلى معرفة هل هي حامل أم ليست بحامل؟

    الطريقة الثانية: يعلق الطلاق على نوع الحمل، هل هو من الذكور أو من الإناث فيقول مثلاً: أنت طالقٌ طلقة واحدة إن كان حملك ذكراً وأنت طالقٌ طلقتين إن كان حملك أنثى، فعند ذلك لا بد أن نعرف ما الذي في بطنها، هل هو ذكر أم هي أنثى؟ ولربما خرج اثنان ذكر وأنثى، ولربما خرجت بنتان، ولربما خرج ذكران.

    ثم تأتينا مسألة الولادة وفيها مشكلة؛ لأنها إذا ولدت الأول صارت مطلقة، ثم إذا جاء الثاني فبمجرد وضع الثاني تصبح أجنبية، لأنها إذا طلقت صارت رجعية، إذا كان طلقة واحدة، فإذا جاء الحمل الثاني ووضعت فإن الطلاق الذي علق على الحمل الثاني لا يقع؛ لأنها قد خرجت من عدتها وأصبحت أجنبية بوضعه، فيختلف الحمل وتختلف المسائل بين الحمل في نوعه، وبين الحمل في خروجه، فنوع العلماء بين مسائل الحمل كحمل، وبين مسائل الولادة كولادة، فعندنا تعليق بالحمل، وتعليق بالولادة .

    قال رحمه الله: (إذا علقه بالحمل فولدت في أقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف):

    إذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، إن قال هذا الكلام في أول محرم من هذه السنة فإذا وضعت ما في بطنها قبل تمام ستة أشهر فإننا تأكد أنها كانت أثناء التلفظ حاملاً، فمثلاً: وضعت الجنين في ربيع الثاني، فنتأكد بأن الجنين هذا لا يمكن أن يخرج بهذه الصفة، ولا يكون حملاً كاملاً إلا ببلوغ ستة أشهر، وإذا ثبت أن عمره ستة أشهر فإنك على يقين أنه أثناء الكلام كانت المرأة حاملاً، وهو يقول: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فأثبت الطلاق بثبوت الحمل، ويثبت الحمل إذا ثبت الزمان الذي يدل على وجوده.

    إذاً: إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق فولدت لدون ستة أشهر فقد تحققنا أنه أثناء تلفظه كانت المرأة حاملاً وبينه وبين الله أنه طلق امرأته إن كانت حاملاً في تلك الساعة، ولو أنها ولدت بعد الستة أشهر، مثلاً: قال لها هذا الكلام في أول محرم، وولدت في رمضان وهذا بعد الستة الأشهر قطعاً، فحينئذٍ يرد الإشكال هل كانت أثناء كلامه حاملاً أو لا، هذا يحتاج إلى تثبت، فنسأل: هل وقع جماعٌ بعد قوله: إن كنت حاملاً، فإن كان جامعها بعد محرم كأن يكون جامعها في ربيع أو جامعها في ربيع الثاني، نقول مثلاً: جامعها في صفر، قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق في أول محرم، ثم في صفر جامعها، وولدت في رمضان فإننا نقع بين احتمالين، إما أن نقول: إنها حملت بالجماع الثاني، وحينئذٍ لا طلاق؛ لأنه وقع الحمل بعد الشرط والشرط متعلقٌ بأن تكون حاملاً في محرم، فلما جامعها بعد محرم وولدت في رمضان والمدة مدة حمل، فالقاعدة: أننا ننسب الحكم إلى أقرب حادث.

    ومعنى ذلك: أنه إذا كان عندك حادثان: قريب وبعيد، واليقين للقريب تنسب للقريب؛ لأنه ما دام مضت ستة أشهر بعد محرم، ولم تلد، ووضعت بعد ستة أشهر من الجماع الثاني فالغالب على الظن أنه من الجماع الثاني، وهذا لقاعدة: (أن الحكم ينسب لأقرب حادث) ومن فروع هذه القاعدة: إذا نام نومتين، أو ثلاث نومات، نام قبل الفجر، وصلى الفجر ونام بعد الفجر، وصلى الضحى ونام بعد الضحى، وصلى الظهر ونام بعد الظهر، ولم يستيقظ إلا على صلاة العصر ووجد أثر المني في ثيابه، فهل نقول: إنه أمنى في النومة الأخيرة، فلا يلزمه إلا إعادة العصر إن كان صلى، أو هو النوم الذي في الضحى فيلزمه إعادة صلاة الظهر والعصر إن كان قد رآه بعد العصر، أو للنوم الذي بعد الفجر للحكم كذلك، أو للنوم قبل الفجر فيعيد الفجر والظهر والعصر جميعاً؟ فننسب ذلك لأقرب حادث؛ لأنه ما دام عندنا عدة احتمالات فإننا نأخذ باليقين، فنحن لا نشك أنه في آخر نومة كان جنباً، ونشك فيما قبل ذلك، والأصل أنه طاهر، وكذلك هنا هل ننسب الحكم لأقرب جماع يمكن أن يتخلق منه الولد، أو ننسبه لأبعد جماع؟ أصبح عندنا أصلان، واليقين أنها زوجته، وتبقى العصمة كما هي؛ للقاعدة التي تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) فإن قلت: إن هذا الولد تخلق بجماعٍ قبل الجماع الثاني، وكان موجوداً أثناء الشرط فتطلق المرأة، فنلغي اليقين من كونها زوجة، فهذا خلاف الأصل، فتقول: أقرب حادث هو الجماع الأخير الذي هو قبل وضع الجنين بستة أشهر، ولا ننسب الولد للجماع قبل الشرط، وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها طالقاً، وهذا على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله- وهو شبه مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماع بعد قوله إن كنت حاملاً فأنت طالق ومضت أكثر من ستة أشهر، بحيث -مثلاً- مضت ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر بعد الشرط فإننا ننسب الحمل للجماع الثاني بشرط أن يكون بين الجماع الثاني وبين ولادة الولد ستة أشهر فأكثر.

    فلو وقع الجماع الثاني قبل ولادة الولد بشهرين، أو قبله بشهر فلا تأثير لهذا الجماع.

    إذاً: لو قال لامرأته: إن كنت حاملاً فأنت طالقٌ وولدت قبل مضي ستة أشهر تحققنا أنها كانت حاملاً أثناء الشرط فتطلق، وإن وضعت جنينها بعد ستة أشهر ففيه تفصيل: إن كان الوضع بعد الستة أشهر وكان قد جامعها بعد اشتراطه نظرنا إلى المدة ما بين الجماع الثاني وبين وضعها، فإن كانت مدة ممكنة أن ينسب إليها الولد حكمنا بكونها غير طالق، وأن الولد للجماع الثاني، وإن كانت مدة لا يمكن أن ننسب إليها الولد حكمنا بكونها طالقاً.

    هذا إذا وضعت قبل الستة أشهر فتطلق، وإذا وضعت بعد ستة أشهر وحصل الجماع، وأما إذا وضعت بعد الستة أشهر ولم يقع جماع فينبغي أن لا تجاوز أكثر الحمل، فإذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالقٌ ومضت ثلاث سنوات ووضعت فإنه حينئذٍ يحكم بكونها طالقاً؛ لأن أقصى مدة للحمل أربع سنين، ولم تتم الأربع السنين، ولا يبعد ولا يستحيل أن تحمل لأنه قد جامعها قبل الشرط، وهذا الولد بيقين أنه إذا كان ولده فإنه قد انتشى بالجماع قبل الشرط، والحاصل: أنها إذا وضعت فوق ستة أشهر فالمسألة فيها تفصيل: إن وقع جماعٌ بعد الشرط ومضت مدة فيما بين الوضع وبين الجماع يمكن أن ينسب فيها الولد للجماع الثاني فلا يقع طلاق، وإن لم يجامع المرأة فننظر إلى أكثر الحمل، فإن وضعت الولد قبل أربع سنين فإنه قد تحققنا أنها حملت من الجماع الذي قبل الشرط، ويكون ولداً له وحينئذٍ تكون طالقاً.

    قال رحمه الله: (إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف):

    حكمنا بطلاقها منذ حلف؛ لأنه قال: إن كنت حاملاً فأنت طالقٌ، فحينئذٍ نحكم بكونها طالقاً منذ أن حلف، وتكون قد خرجت من عدتها في الوقت، هذه المسألة إذا كانت وضعت في أقل من ستة أشهر.

    تعليق الطلاق بنفي الحمل

    قال المصنف رحمه الله: [ وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق ]:

    (إن لم تكوني حاملاً) هذا عكس: إن كنت حاملاً، وخلاصة الإثبات كالآتي:

    قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، قالها في أول محرم مثلاً، فإن مضى بعد قوله أقل من ستة أشهر فوضعت فقد تحققنا أن الولد كان موجوداً أثناء الشرط، وأنها حاملٌ أثناء الشرط فتطلق، وإن ولدت بعد ستة أشهر ففيه تفصيل: إن وقع جماع بعد الشرط وأمكن أن ينسب إليه الولد فلا إشكال فهي غير طالق؛ لأنه الظاهر والقاعدة: (أنه ينسب الحكم لأقرب حادث) فنحكم بكونها امرأة له ولا يحكم بطلاقها، وأما إذا لم يقع جماعٌ فنقول: ما جاوز الستة الأشهر -بشرط أن لا يجاوز أقصى مدة الحمل- فإنه يوجب الحكم بكون الولد كان موجوداً؛ لأن الولد تخلق من الجماع، والجماع إنما وقع قبل الشرط، وقلنا: إنه بالعادة والتجربة أنه يمكن أن يبقى الجنين مركوناً في البطن حملاً أربع سنين، فمعنى ذلك: أنها لو وضعت قبل تمام الأربع سنين فهو ولده، وإذا كان ولده ولم يجامع بعد الشرط فمعنى ذلك أنه ولده من الجماع قبل الشرط، وإذا ثبت أنه ولده من الجماع الذي قبل الشرط، فتحققنا أنها حين الشرط كانت حاملاً.

    أما النفي بأن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، العكس بالعكس، عكس الأحكام السابقة، أول شيء: قلنا في الإثبات: إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالقٌ ووضعت لأقل من ستة أشهر تطلق، وهنا إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق ووضعت لأقل من ستة أشهر فلا تطلق، لأنه ثبت بوضعها في أقل من ستة أشهر أنها كانت حاملاً وقت قوله ذلك، فحينئذٍ لم يتحقق الشرط، لأن الطلاق عند تعلقه بالإثبات يفتقر للإثبات، وعند تعلقه بالنفي يفتقر إلى النفي، والنفي إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق غير موجود؛ لأنها كانت حاملاً حينئذٍ، ففي حالة الإثبات إن ولدت بدون ستة أشهر طلقت وفي حال النفي إن ولدت بدون ستة أشهر لم تطلق؛ لأن المسألة الأولى ثبت فيها موجب الطلاق فحكمنا بطلاقها، وفي المسألة الثانية انتفى موجب الطلاق فلم يحكم بطلاقها، فلو جامعها خلال الستة الأشهر وأمكن أن ينسب الولد للجماع الثاني فوضعت الولد في رمضان، وكان قد قال لها: إن لم تكوني حاملاً، في المحرم، وجامعها في صفرٍ فإننا نحكم بأن الولد من صفر، وأنها كانت في محرم خلواً من الحمل، فتطلق من حين قوله: إن لم تكوني حاملاً، عكس الإثبات، فهو إذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً فولدت من دون ستة أشهر تحققنا أنها كانت حاملاً، وإن مضى أكثر من ستة أشهر وجامعها بعد ذلك جماعاً يمكن أن ينسب إليه الولد فحينئذٍِ ثبت أنها لم تكن حاملاً فتطلق عليه منذ أن تلفظ بالشرط، لكن لو جامعها جماعاً ثانياً بعد الشرط، ووضعت لأربعة أشهر بعد الجماع الثاني فإنها لا تطلق لأن الجماع الثاني لا ينسب له ولدٌ ويكون حينئذٍ الولد موجوداً أثناء الشرط ومنسوباً للجماع الذي قبل الشرط، فإذا نسبت الولد للجماع الذي قبل الشرط فحينئذٍ كانت حاملاً، وهو يقول: أنت طالق إن لم تكوني حاملاً فلا تطلق، فالنفي عكس الإثبات، فإذا عرفت الإثبات عرفت النفي.

    الاستبراء بحيضة عند احتمال وقوع الطلاق المعلق بنفي الحمل في البائن

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن قال إن لم تكوني حاملاً فأنت طالقٌ حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن ]:

    (حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن) إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإن حاضت بعد ذلك فقد ثبت عندنا أنها لم تكن حاملاً؛ لأن الحامل -كما اختاره المصنف وطائفة من العلماء- لا تحيض، واستدلوا بقوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] فمن العلماء من قال من أسماء الحيض: الضحك، واختاره بعض أئمة اللغة، وإن كان بعض المفسرين ضعف هذا القول واختار غيره، قالوا: ضحكت: بمعنى حاضت فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود:71-72] ما قالت: أألد وأنا آيسة، لأنه نزل معها الحيض، قالوا: صار قولها: يا ويلتا أألد وأنا عجوز قرينة على أن معنى ضحكت إنما هو الحيض، وليس ضحك التعجب؛ لأنها وجدت ما يدل على إمكان الحمل منذ خروج الدم، وهذا من قدرة الله عز وجل وهو على كل شيء قدير.

    فدلت الآية على أنه إذا وجد الحيض أمكن الحمل، وعلى ذلك: ينقطع الحمل بانقطاع الحيض، وقالوا على هذا أيضاً: ينقطع الحيض بوجود الحمل، ويتعلق كلٌ منهما بالآخر، فالشاهد: أن المرأة إذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالقٌ احتمل أنها خلو، وإذا كانت خلواً أي: ليست بحامل فإنها حينئذٍ تكون طالقاً عليه منذ أن تلفظ، فإذا كان الطلاق طلاقاً بائناً بأن تكون هي الطلقة الأخيرة وقد طلقها طلقتين من قبل وبقيت طلقة واحدة فحينئذٍ ينبغي أن يُحتاط للاحتمال؛ لأنه لو جامعها لاحتمل أن تكون حاملاً، فيكون جامع الأجنبية المحرمة.

    أما لو كانت الطلقة رجعية وجامعها فالرجعية فيها وجه أنها في حكم الزوجة، فالأمر أخف، وهذا الذي جعل المصنف يفرق بين الطلقة الرجعية والطلقة البائنة.

    المسألة تقول: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فأثبت الطلاق بنفي الحمل فإذا أثبت الطلاق بنفي الحمل وكانت المرأة لم يبق من طلاقها إلا تطليقة واحدة فإنه يحتمل أنها طالق فلا يجوز له أن يغرر بنفسه بجماع امرأة أجنبية منه، فلا بد أن نتحقق ونتأكد أنها حلال؛ لأنه بمجرد ذكره لصيغة الشرط على هذا الوجه جعل امرأته مترددة بين كونها حلالاً له إذا كانت حاملاً، وبين كونها حراماً عليه إذا كانت حائلاً أي: غير حامل، فنحتاج إلى الاحتياط، وهذا الاحتياط صيانة للفروج فيجب عليه أن يستبرئها بحيضة فإن ظهر أنها غير حامل طلقت، وإن ظهر أنها حامل لا تطلق.

    قال المصنف رحمه الله: [ وهي عكس الأولى في الأحكام ]:

    كما ذكرنا.

    تعليق الطلاق بنوع الحمل

    ثم قال رحمه الله: [ وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً ]:

    إن قال: أنت طالقٌ طلقة إن كان الذي في بطنك ذكراً، وأنت طالقٌ طلقتين إن كان الذي في بطنك أنثى، فجعل الطلاق مرتباً على وجود الحمل، لكن فصل في عدد الطلاق، فبينه وبين الله أنه إن كان رحم المرأة قد ضم ذكراً فهي طالق طلقة، وإن ضم أنثى فهي طالق طلقتين، فإن احتواهما البطن معاً طلقت ثلاثاً؛ لأنه علق الطلاق على وجود الجنس، ذكر كان أو أنثى، فلا نلتفت إلا لوجود الشيء.

    وقال رحمه الله: [ وإن كان مكانه (إن كان حملك أو ما في بطنك) لم تطلق بهما ]:

    وإن كان حملك ذكراً فطلقة، وإن كان حملك أنثى فطلقتين بمعنى: إن كان الرحم اختص إما بذكر وإما بأنثى، وهذه الصورة يسمونها: صورة المحض، يعني: إن كنت تحملين ذكراً فطلقة، وإن كنت تحملين أنثى فطلقتين، فكأنه رتب الطلاق على الوجود المتمحض، يعني: أطلقك طلقة إن حملت ذكراً محضاً، وأطلقك طلقتين إن حملت أنثى محضاً، فإن حملت الاثنين لم يتحقق الشرط، لأن مراده: إذا خلص الرحم بواحدٍ منهما، فلا يقع الطلاق بمجوعهما؛ فيُفرق بين الأمرين، للفرق بين الصيغتين.

    فقوله: إن كنت حاملاً بذكرٍ فطلقة، وإن كنت حاملاً بأنثى فطلقتين فإنه جعل الطلاق مرتباً على وجود الذكر والأنثى، سواءً كانا موجودين معاً، أو كانا موجودين بانفراد، ولا يقصد التمحض، وليست الصيغة مما تحتمل التمحض.

    لكن إن قال: (إن كان حملك أو ما في بطنك لم تطلق بهما).

    لقصد المحضية، أي: بيني وبين الله إن كان هذا الحمل أنثى فطلقتين، وإن كان ذكراً فطلقة فحينئذٍ ننظر إلى الحمل متمحضاً بالذكورة ومتمحضاً بالإناث.

    فهذا الفرق بين المسألتين، في المسألة الأولى جعل الأمر مرتباً على وجود الذكر ووجود الأنثى بغض النظر عن المحضية وعدمها، وفي المسألة الثانية العكس.

    1.   

    الأسئلة

    كيفية وقوع الطلاق المعلق بالحيض إذا كانت المرأة ليس لها عادة منضبطة

    السؤال: لو كانت المرأة ليست لها عادة بأن كانت يأتيها الدم مرة يومين ومرة ثلاثاً أو أربعة أيام فعلق الطلاق بالحيضة الكاملة، أو نصف الحيضة فكيف يقع الطلاق في هذه الحالة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالمرأة إذا لم تكن لها عادة فإنها تنتقل إلى التمييز، والتمييز المراد به أن تميز الدم: تميزه بلونه، وتميزه برائحته، وتميزه بغلظته ورقته، وبوجود الألم؛ لأن دم الحيض يخرج من قعر الرحم، فيكون حارقاً مؤلماً ودم الاستحاضة يخرج من عرق العاذل أو العاند على حسب الروايات فيميز كما قال بعض العلماء:

    باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز الدمِ

    أي: ميز دم الحائض بلونه، كأن يأتيها في اليوم الأول أحمر غامقاً شديداً، ثم ينقطع بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام ويصير أحمر فاتحاً، فأيام الأحمر الغامق يثبت الحيض به، وأما أيام انفتاح الدم وضعفه فيكون استحاضة، واستدلوا لذلك بالحديث الذي في السنن -ومن العلماء من حسن إسناده- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) وقوله: (يعرف) أي: له عرف ورائحة، وعلى هذا قالوا: إنه يدل على أن التمييز معتبر، فتميزه وتبني على التمييز، ويكون حكمه حكم المميزات، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756181324