إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عاقبة الإجارة إما سلامة وإما ضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وهي مما تعم به البلوى، والضمان في الإجارة لا يختص بالأجير في كل أحوالحا؛ لأن الشارع حفظ حقوق كل من الأجير والمستأجر، فجعل الأجير ضامناً في الأحوال، كما جعله غير ضامن بشروط منها: ألا يتعدى ولا يقصر، وأن يكون العمل مأذوناً به. كما أن الشارع جعل أهل الحجامة والطب والبيطرة غير ضامنين لما تجنيه أيديهم إذا عرف حذقهم.

    1.   

    من صور الإتلافات

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ، ولا حجام وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم، إن عرف حذقهم].

    الإجارة إذا وقعت بين الطرفين لم تخل من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون على السلامة، فتستأجر الأجير فيقوم بالعمل على الوجه المطلوب دون حدوث أي ضرر من هذه الإجارة، فحينئذ لا إشكال.

    والحالة الثانية: أن تستأجر الأجير، وأثناء قيامه بمهمة الإجارة المطلوبة يحدث الضرر، كأن تستأجر عاملاً ليقوم بعمل فيصلح شيئاً في الدار أو نحو ذلك، فيكسر ذلك الشيء، فيتلفه بالكلية أو يتلف بعضه ويعطل المنافع الموجودة فيه، ففي هذه الحالة يرد السؤال: هل الأجير يتحمل المسئولية عن العين التي تطلب منه المنفعة بإصلاحها والقيام عليها؟

    وهذا يشمل كثيراً من الإجارات، سواء كان ذلك في الأشخاص أو كان في الحيوانات، أو كان في المركوبات أو كان في العقارات، فأنت إذا استأجرته ربما أنه يستأجر لإصلاح الإنسان -كالطبيب يقوم على إصلاح بدن الإنسان- فيحدث ضرراً بطبه، فيعطل منفعة العضو الذي يراد علاجه، أو يحدث ضرراً في مكان آخر، فيكون -بإذن الله عز وجل- سبباً في علاج موضع ولكن يحدث الضرر في موضع آخر، هذا في إصلاح الآدميين، وربما تستأجره لإصلاح حيوان كالبيطار، فيقوم بعلاج الدابة فيفسدها، أو تعتل صحتها بسبب الأدوية والعقاقير أو نحو ذلك، أو تستأجره لإصلاح جدار فينهدم أثناء إصلاحه، أو إصلاح زجاج فينكسر ويتهشم، أو إصلاح الأمور الأخرى من المرافق المتعلقة بالبيوت والدور ونحو ذلك.

    فكل هذه صور قد تقع في بعض الأحيان، فالإجارة إما سلامة وإما ضرر، ففي حال السلامة لا يسأل السائل، ولكن يرد السؤال في حال الضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، فمسائل الضمان في الإجارة لا تختص بالأجير، بل لربما أنك تستأجر سيارة للنقل فيكون في السيارة ضرر يؤثر على صحة الراكب، أو تستأجر شيئاً من أجل أن تقضي مصلحة منه، فيخرج ذلك الشيء من المصلحة إلى المضرة، وكل هذه المسائل تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وتعم بها البلوى، وتكثر منها الأسئلة والشكوى، ويحتاج طالب العلم إلى معرفة أحكامها وموقف الشريعة الإسلامية الذي أنصفت فيه الطرفين: فأعطت الأجير حقه، وأعطت المالك حقه.

    فيرد السؤال: ما هي الضوابط؟ وما هي الأمور المعتبرة التي ينبغي العمل بها في مسائل الضمان؟

    فشرع رحمه الله في بيان هذه المسائل؛ لأن بيان الإجارة يستلزم بيان الآثار المترتبة على الإجارة، وقد تكون هذه الإتلافات والأضرار الناجمة تعطل الإجارة فيما بقي من المدة، وكل هذا يبحثه العلماء ويبين مسائله الفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة، فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه المسائل والدلالة على هذه الأحكام.

    فقوله: (ولا يضمن).

    الضمان: غرامة الشيء التالف إما بمثله أو بقيمته، فالعلماء رحمهم الله إذا قالوا: عليه الضمان. بمعنى: أنه يأتي بمثل الشيء الذي أتلفه إن كان له مثلي، أو يأتي بقيمته إن تعذر وجود المثلي.

    وتوضيح ذلك: أن الضمان يفتقر إلى وجود إتلاف وضرر، وهذا الإتلاف سواء كان كلياً أو كان جزئياً فإنه إذا فعل شخص بمال غير بدون حق فإن الله عز وجل ألزمه أن يضمن لأخيه المسلم حقه، فمن أتلف الشيء حتى تعطلت منافعه بالكلية ولم يمكن الارتفاق به على وجه، وأصبح تالفاً بدون وجه حق، نقول له: اضمن مال أخيك. وذلك لأنه إذا أتلف الشيء على هذا الوجه فقد تعدى وظلم، فيجب عليه ضمان تعديه وظلمه، فعلى اليد أن تضمن جنايتها كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فلما اكتسب الجناية وأتلف مال غيره وجب عليه أن يضمن ذلك المال، وتعين عليه أن يقوم برد مثل ذلك المال.

    فمثلاً: لو أتلف سيارة لأخيه المسلم بدون وجه حق، نقول له: تأتي بمثل هذه السيارة في مواصفاتها، وبمثلها في شكلها وتعطيها لأخيك. فإن تعذر وجود مثل هذه السيارة نقول: تضمن بقيمتها.

    فإذاً الضمان: غرامة الشيء التالف -أي: أنه لابد من وجود شيء تالف- إما بمثله إن كان له مثلي، ويضمن المثلي بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، فإذا كان مكيلاً يضمن بمثله كيلاً وبمثله وزناً وبمثله جودة ورداءة وغلاءً ورخصاً... إلى آخره كما سيأتي -إن شاء الله- في الضمان.

    1.   

    الفرق بين الأجير الخاص والأجير العام

    وقوله: [ولا يضمن أجير خاص].

    الأجير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالأجير الخاص، والقسم الثاني: ما يسمى بالأجير المشترك.

    فأما الأجير الخاص -ويسميه بعض العلماء الأجير المنفرد-: فهو الذي تعاقدت معه على مدة معلومة تستحق منفعة هذا الأجير خلال المدة كلها، كأن تستأجر شخصاً ليعمل عندك في بيتك أو مزرعتك شهراً، فإنه يسمى بالأجير الخاص، فإنه خلال الشهر تكون مدة الشهر كاملة مستحقة لك أنت، ولا يجوز له أن يصرف هذا الاستحقاق والمنفعة لشخص آخر؛ فصار مختصاً بك، فيقال له: الأجير الخاص.

    وهناك نوع ثان: وهو الأجير العام والمشترك، مثل: الخياط الذي يخيط الثياب فهو ليس مختصاً بك، وإنما يقوم بعمل لك ولغيرك، ومثل: النجار والحداد ونحوهم ممن يقومون بإجارة العمل، ولذلك يقول العلماء: غالباً ما يكون الفرق بين الأجير الخاص والعام: أن الأجير الخاص ينصب العقد ويتعلق بالمدد، وأما الأجير العام فإنه يتعلق بالأعمال. فالأجير العام غالباً ما يكون في الأعمال مثل الحدادة والنجارة والمقاولات ونحوها، هذا أجير عام؛ لأنه يعمل لك ولغيرك، وبإمكانه أن يشتغل لثلاثة أشخاص في يوم واحد، بل ولربما لعشرين أو لثلاثين شخصاً، فهو لا يختص بشخص معين، إنما لك عليه أن يقوم لك بالعمل فقط، فهذا أجير مشترك، ولا يستوجب عليه أن يكون مفرغاً لك بعينك، أما الأجير الخاص فلابد أن يكون مختصاً بك.

    هناك فرق بين الاثنين في الضمان: فالأجير الخاص فيه شبهة من جهة كونه مختصاً بك والغالب في قيامه بالأعمال أن يكون وكيلاً عنك، وتعلمون -كما تقدم معنا في الوكالة- أن الوكيل أمين لا يضمن إلا إذا فرط، فيصبح فقه المسألة في الأجير الخاص: أنك إذا جئت بعامل أو خادم إلى البيت، فإن هذا الخادم أو العامل إذا عمل في البيت صار كالوكيل عنك في الأعمال التي طلبت، بخلاف الأجير المشترك، فإن الأجير المشترك ليس فيه هذا المعنى، وإن كان فيه خصوص التوكيل للعمل نفسه لكن فيه ضمان.

    ففرق طائفة من العلماء رحمهم الله في مسائل الضمان في الإجارة بين الأجير الخاص والأجير المشترك، فقال رحمه الله:

    (ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ).

    مثل: الخدامة في البيت، لو أنها قامت بإصلاح مكان طلب منها إصلاحه، فقامت بعملها على الوجه المطلوب فانكسر الزجاج أو تهشم أو انكسر الباب، فإنها إذا قفلت الباب -مثلاً- بالقفل المعتاد، ولكن سقط الباب وعلمنا أنه سقط قدراً أكثر من سقوطه فعلاً، فنقول: لا تضمن. كما لو أنها مسحت فانكسر؛ لأنك وكلت، فهي في كونها مستحقة خلال المدة وأعمالها هذه منحبسة لك صارت كالوكيلة عنك؛ ولذلك لا تضمن، لكن هناك شروط لعدم ضمان العامل.

    1.   

    الأحوال التي ينتفي فيها ضمان الأجير الخاص لما جنت يداه

    لو جئت بعامل في مزرعة فقام على مكينتها لإدارة الماء، فأدار المكينة بالطريقة المعتادة المتبعة عند أهل الخبرة فانكسرت المكينة أو حدث بها عطل، نقول: كما لو أدرتها بنفسك فتعطلت؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك تأخير، فالعمل الذي قام به قام به بأمرك، فأنت الذي أمرته، فحينئذٍ كما لو أنك أنت الذي أدرته، فلو قلت له: أنت في المزرعة تقوم على مصالحها وتؤدي مصالحها. فقام بها على الوجه المعتبر، فكل عمل يقوم به على الوجه المعتبر كأنك قائم مكانه، فما يضمن إلا إذا تعدت يده أو فرطت، فإن تعدت يده أو فرطت خرج عن كونه وكيلاً لك إلى كونه متعدياً مفرطاً؛ فيضمن.

    إذاً: فقه المسألة في الأجير الخاص: إذا أقمته للقيام بعمل لمدة معينة في مزرعة أو دار أو غير ذلك، فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه التعدي أو التفريط.

    وعلى هذا: قال المصنف رحمه الله:

    أن يكون عمل الأجير مأذوناً له فيه

    (ما جنت يده) يعني: ما وقع بسبب فعله، لكن بشرط: أن يكون مأذوناً له في هذا الفعل، فمثلاً: لو أن عاملاً قام بعمل في نخل، وقد قلت له: هذه النخلة لا تفعل فيها شيئاً، فجاء وفعل، فإنه يضمن؛ لأنه ليس عنده الإذن الذي يكون به وكيلاً يسقط عنه الضمان فتكون يده يد أمانة، فلما عصاك وتجاوز حينئذ نقول: يضمن. وعلى هذا نقول: لا يضمن إذا قام بما طلب منه، وكان قيامه على الوجه المعتبر الذي لا إفراط فيه ولا تعد، وعلى هذا يعتبر الأجير الخاص غير ضامن.

    وهذا قول جماهير العلماء، وهناك من خالف وقال بتضمين الأجير مطلقاً، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه، حتى إنه أثر عن علي رضي الله عنه أنه ضمن الأجراء وقال: لا يصلح للناس إلا هذا. أي: كأنه يرى أن حقوق الناس لو قيل: إن الأجراء لا يضمنون؛ تلفت أموال الناس، لكن حين يقال: إن الأجير يضمن؛ فيكون هناك نوع من الصيانة.

    ولكن الأثر عنه مرسل، والصحيح عنه رضي الله عنه أنه لم يضمن الأجير الخاص، وعلى هذا: فإن العمل على أن الأجير الخاص لا يضمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وهذا النص له مفهوم -سنبينه إن شاء الله- يدل على أن من قام بالأعمال على الوجه المعتبر، وكان ذلك بدون تفريط وبدون تقصير، فإنه لا يلزم بضمان ما وقع من يده؛ لأنه الأشبه فيه أنه قضاء وقدر، وإذا كان خاصاً ففيه شبهة الوكالة، ولذلك النظر الصحيح والأصل الصحيح من كونه وكيلاً -كما قررناه في كتاب الوكالة- يقتضي عدم تضمين أمثال هؤلاء.

    أن ينتج الإتلاف عن خطأ لا عن تعدٍ أو إهمال

    وقوله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنته يده خطأً].

    (ما جنت يده خطأً) فهناك الخطأ وهناك التعمد وهو القصد للإتلاف والضرر، فإذا قلت: لا يضمن. يترتب أمران، وإذا قلت: يضمن. يترتب أمران أيضاً.

    إذا قلت: لا يضمن. أسقطت عنه المؤاخذة من المكلفين -هذا الأمر الأول- وأسقطت عنه المؤاخذة من رب العالمين، فالشخص الذي تقيمه للقيام بعمل معين في مزرعة أو أرض -وهو الأجير الخاص- ونصح لك واتقى الله فيما أمرته، وأدى ذلك الشيء الذي أمرته به على الوجه المعتبر؛ فإنه إذا وقع منه خطأ بدون قصد ولا تعد ولا تفريط؛ فليس من حقك أن توبخه أو تسبه أو تشتمه، فإن فعلت ذلك فقد ظلمته؛ لأنه غير ضامن أصلاً، وما من وجه شرعي يخولك الأذية والإضرار، فيصبح سبه وشتمه وقهره وأذيته وتوبيخه من الاستطالة في عرض المسلم واستباحتها بدون حق.

    وهذا أمر يفرط فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، ونحب أن ننبه عليه إن كثيراً من أصحاب الأعمال بمجرد ما يقع الخطأ من عامله بدون تقصير يقوم بتوبيخة وسبه وشتمه، وهذا لا يجوز، وكل هذا السب والشتم إما حسنات تؤخذ منه أو سيئات -والعياذ بالله- يحملها على ظهره، فلا يجوز أن يستباح عرض العامل أو الأجير ما لم يفرط، فإن الله تعالى يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] وصاحب العمل غير مظلوم، فحينئذ ليس من حقه أن يظلم أخاه المسلم بالسوء، هذا بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة لحكم الله عز وجل وشرعه فإنه لا يطالب بالضمان في الدنيا، ولا أيضاً تتعلق مسئولية الآخرة؛ لأنه إذا أدى ما وجب عليه خليت نفسه وبرئت ذمته من الإثم في الآخرة كما برئت ذمته من تبعة الدنيا لسقوط الضمان عنه.

    فقوله: (خطأً) خرج القصد كما ذكرنا، فلو جاء -مثلاً- بالزجاج ومسحه بطريقة عفوية فانكسر الزجاج، قلنا في هذه الحالة: لا يضمن. لكن لو جاء بالزجاج قاصداً وكسره، نقول: يضمن؛ لأنه في الحالة الأولى أخطأ، وفي الحالة الثانية تعمد.

    من مسائل الخطأ أيضاً: لو أنه حمل الزجاج فزلجت يده وسقط الزجاج وانكسر، أو تهشم بعضه، أو حصل منه ضرر على فراش أو نحوه، أو حمل مائعاً فانكب على فراش فأفسده أو أتلفه أو أضر به، وكان هذا الحال كله على سبيل الخطأ، إن زلجت يده ولم يتعاط أسباب التفريط، لكن لو كانت يده مبلولة وفيها لزوجة، أو غسل الزجاج بمادة لزجة، ثم جاء بعد لزوجته وأخذه، فهنا نوع من التساهل والتفريط له حكمه الخاص الذي سيأتي.

    إذاً: لابد من أن يكون ذلك من قبيل الخطأ، وألا يكون قصده الضرر، وثانياً: ألا يفرط؛ لأنه قد يخطئ وهو مفرط، الآن مثلاً: يأتي العامل وتقول له: إذا جاء المساء فعليك أن تقفل باب المزرعة. ولكنه ترك الباب مفتوحاً، فهذا تساهل وتقصير؛ فحينئذ نقول: إنه مقصر، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر. وعكسها -عدم التعدي- الخطأ، وعدم التقصير إذا أدى العمل على وجه معتبر فجاء شيء وأتلفه قضاء وقدراً.

    إذاً على هذا: الأجير الخاص لا يمكن أن تحمله المسئولية إلا إذا تعدى أو قصر.

    1.   

    أمثلة في تعدي وتقصير الأجير في عمله

    ومعنى (يتعدى): يجاوز الحدود، كأن يأتي إلى شيء يحمل برفق فيحمله بعنف، أو يأتي إلى شيء يوضع برفق فيضعه بقوة، نحن نعلم في هذه الحالة لو أنه حمل كتباً ثم جاء ورماها بقوة، فتمزقت الكتب، فهذا تعد وإساءة، فنقول له حينئذ: تضمنها؛ لأن هذا من باب التعدي. فلو حملت المرضع أو الخادم الصبي ثم رمته بقوة، فنقول: إن هذا تعد واعتداء؛ لأن مثل هذا ما يوضع بقوة، وإنما يوضع برفق، فمسائل الضمان لا تنحصر من حيث الصور والأمثلة، وإنما نذكر نحن أمثلة على حسب اختلاف الإجارات، وإلا القاعدة فيها: ألا يوجد تعد وألا يوجد تقصير، فإذا وجد التعدي أو التقصير فقد فتح العامل والأجير على نفسه باب المسئولية، ويتحمل تبعة كل ما ينشأ على تعديه وكل ما ينشأ على تقصيره.

    (ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أيضاً؛ لأنه سيأتي إن شاء الله ذكره في الحجام والبيطار، وهذه الأمور -يعني: القول: إن الأجير لم يتعد ولم يقصر- تضبط بضوابط معينة، أي: أمر تصدره للأجير فإن مقتضى عقد الإجارة يلزمه بالتقيد بذلك الأمر، فلو طلبت منه أن يفتح شيئاً في حدود معينة ففتحه أكثر من ذلك الحد أو أقل وترتب على ذلك ضرر ضمن؛ لأنه في هذه الحالة قصر؛ فإن فعل ذلك وكان -والعياذ بالله- عن قصد ونية، أي: لو أنه فتحه أكثر مما يستحق عن قصد فترتب الضرر، فحينئذ -والعياذ بالله- يكون جناية وعدواناً، لكن إذا فتح الشيء وهو غافل ففتحه أكثر مما يستحق، أو أنقصه عما يستحق فحصل الضرر، فنقول: يضمن.

    هذا بالنسبة للتعدي في تنفيذ الأوامر، وقد يكون التعدي من جهة العرف، فقد لا تأمره بشيء، فتأتي بشخص يقوم بعمل وأنت لا تعرف هذا العمل، كالكهربائي والنجار والحداد، وما عندك أمر إلا أن تقول له: أصلح لي هذا الشيء. فحينئذ يتعدى إذا خرج عن ضوابط أهل الخبرة في عمله على هذا الشيء الذي يريد إصلاحه، فلو قال أهل الخبرة وأهل الصنعة: إنه يصلح بطريقة معينة، فمثلاً: يمر بمرحلتين، فأصلحه على مرحلة واحدة وتركه، فهذا تقصير، وعليه فلو جئت تشغل الجهاز ففسد فهنا يضمن؛ لأنه قصر في إصلاحه، صحيح أنك لم تخاطبه ولم تقل له: أصلحه على مرحلتين أو افعل فيه كذا وكذا؛ لأنك لا تعلم، لكن العرف يخاطبه وأصول الصنعة ومقتضيات المهنة تلزمه أن يتقيد بهذا العمل، فأنت حينما قلت له: أصلح. كأنك تقول له: أصلح رحمك الله بما جرى عليه العرف؛ ولذلك المسكوت عنه في العقود مردود إلى ما تعارف عليه الناس.

    وقد يكون التعدي من جهة -والعياذ بالله- قصد العدوان، فتعطيه أمراً أن يصلح شيئاً وهذا الشيء لا يمكن استصلاحه إلا بالرفق، فجاء بالعنف والقوة قاصداً إتلافه، فإنه يجب عليه ضمان ما ترتب على ذلك القصد السيئ من الضرر، فبعض العمال والأجراء -والعياذ بالله- يقدم على إتلاف الشيء في موقف معين أو عمل معين وهو يريد بذلك أن ينتقم، والله سبحانه وتعالى هو المطلع على الضمائر، وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]... وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4] فالله لا تخفى عليه الخوافي، فإذا فعل هذا الفعل عن قصد وأذية فإنه يصبح في هذه الحالة بينه وبين الله مؤاخذ، وبينه وبين الله يجب عليه ضمان هذا الحق كاملاً، وعليه إخبار صاحب الحق عن حقه والتحلل منه، وإلا تحمل مسئوليته، فهو إن لم يضمن في الدنيا فسيضمن في الآخرة، وإذا لم يحلل نفسه في الدنيا فسيعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة.

    فلذلك من حيث التعدي قد يكون التعدي بالأوامر فيجاوز هذه الأوامر، أو قد يكون على ما يضبط بالعرف، فهناك أشياء تحفظ بدرجات معينة ونظام معين وترتيب معين، فيخرج العامل عن هذه الأصول فيضمن.

    كذلك هناك شيء من الضمان يدخل بسبب الجهل، فكل شخص ادعى صنعة وليس من أهلها، أو كان من أهلها ولكن جاءه عمل خارج أو مجاوز لحدود علمه، فإن أي شيء يترتب من الضرر على فعله يضمنه، وهذا سنقرره -إن شاء الله- في ضمان الأطباء، فمثلاً: لو أن رجلاً ادعى أنه يحسن الكهرباء، فجئت به من أجل إصلاح أجهزة، وهو لا يعرف إصلاحها، فأفسدها وأتلفها أو عطل بعض منافعها، فإنه يضمن تعدى أو لم يتعد، كل ذلك يوجب الضمان عليه، فالجهل موجب للضمان.

    كذلك لو كان من أهل هذه الصنعة -كصنعة الكهرباء- وهو يتقن قسماً ولا يتقن قسماً آخر، والقسم الذي لا يتقنه يجب عليه شرعاً أن يقول: لا أعلم هذا الشيء. أما إذا أقحم نفسه فيه فإنه يضمن.

    هذا من حيث الأصول العامة: أن الضمان للأجير الخاص إذا وكلته فإن يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر.

    وعلى هذا: فإنه يجب على المسلم أولاً ألا يحكم بكون الأجير الخاص ضامناً إلا إذا توفرت دواعي الضمان، ووجدت الأمارات والعلامات والشروط التي يجب توفرها للحكم بضمانه.

    1.   

    لا ضمان على الحجام إذا عرف حذقه

    وقوله: [ولا حجام].

    الحجامة هي: إخراج للدم الفاسد من البدن بالمص، ولها مقامعها المعروفة وطريقتها المشهورة، وتكون متعلقة بالأوعية الدموية، وأما الفصد، فإنه يكون للعروق، وكلاهما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرعيته، ودل الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام باعتباره، كما في الحجامة أنه احتجم وأمر بالحجامة (إذا اشتد الحر فاحتجموا، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) وكذلك أيضاً الفصد، ثبت عنه في الصحيح أنه أرسل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيباً، فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه، وهذا يدل على مشروعية الفصد.

    فالحجامة صنعة لا ينبغي لأحد أن يقوم بها إلا إذا كان من أهلها، وهي تحتاج إلى معرفة بالطب، وليس كل من أخذ محاجماً فهو حجام، وقد تدخل على الإنسان ضرراً لا يعلمه إلا الله عز وجل! فهي سلاح ذو حدين، إذ أن هناك مواضع في الجسد لو حجمت أهلكت الإنسان، وهناك مواضع في البدن لو حجمت استقامت صحته، وهناك أوقات لا تحسن فيها الحجامة ولا تصلح، وهناك أوقات تصلح فيها الحجامة، فهي علم مستقل. وأطباء المسلمين المتقدمون ألفوا في الحجامة الكتب، فهي ليست صنعة لكل من هب ودب؛ لأنها تتعرض لأخطر الأشياء بعد الدين وهو الجسد؛ لأن أجساد الناس وأرواحهم متوقفة -بعد الله عز وجل- على الطب، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول في الطب: إنه ثلث العلم، وكان يقول: ضيعوا ثلث العلم. وكان يقول رحمه الله قولته المشهورة: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب. فالطب ليس بالسهل، فأرواح الناس وأجسادهم أمانة عند الحجام، فهناك مواضع لو حجمت أذهبت ذاكرة الإنسان، وأصبح -والعياذ بالله- كثير النسيان، وهناك مواضع لو حجمت لربما أصابته بالشلل والعياذ بالله، فهي خطيرة وليست بالسهلة.

    فإذاً: لا يجوز لأحد أن يتعاطى الحجامة إلا إذا كان عالماً بالمواضع التي تحجم وكيفية الحجامة، فلابد أولاً من العلم بالمواضع؛ لأنه قد يعرف كيف يحجم، ويعرف لون الدم الفاسد من الصالح، ويعرف زمان الإمكان بسحب المحاجم وتركها، وطريقة التشريط، وطريقة المص، قد يعرف هذا، لكن لا يعرف المواضع، وهذا أكثر ما يقع فيه الجهل، فقد تجد حجاماً يحسن الشرط ويحسن المص، لكن ما يحسن معرفة المواضع، ولذلك ينبغي أن يكون عالماً بهذه المهمة على الوجه المطلوب.

    ثانياً: إذا كان عالماً يجب عليه شرعاً أن يؤدي العمل وفق المتبع عند أهل الخبرة؛ لأنه قد يكون عالماً ولكن لا يحسن التطبيق، وقد يكون عالماً ولا يتم التطبيق؛ أي: أنه متساهل، فإذا كان جاهلاً بالصنعة ضمن، وإذا كان عالماً بالصنعة جاهلاً بتطبيقها ضمن، وإذا قام بالصنعة وكان عالماً بتطبيقها ولكنه لم يتم العمل على الوجه المتبع عند أهل الخبرة ضمن.

    إذاً: كلها مداخل للضمان؛ لكن إذا أدى الحجامة على الوجه المعتبر، وعرف الموضع الذي يحجم، وأتم الحجامة على الصورة والصفة المعتبرة، فلا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في سنن أبي داود وغيره في الحديث الصحيح أنه قال: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) (من تطبب): تفعل، أي: تكلف، مثل: تحلم وتصبر إذا لم يكن من أهل الحلم لكنه تكلف الحلم، وكذلك أيضاً تصبر، هذه الصيغة تدل على أنه تكلف الطب وليس من أهل الطب.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) عام، ولذلك قرر الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله برحمته الواسعة في كتابه النفيس العظيم (الطب النبوي) وهو منتزع من (زاد المعاد في هدي خير العباد) قرر أن قوله: (من تطبب) عام، وأن الطب بجميع فروعه يدخل تحت قوله: (من تطبب)، وأنه من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكل من يقوم بأي مهمة طبية لا يعرفها، أو يعرفها ولكن ليس تمام المعرفة المعتبرة التي تؤهله بشهادة أهل الخبرة للقيام بذلك الشيء الذي قام به فإنه متطبب.

    فقال: يمكن أن يكون المتطبب حجاماً. لأنه إذا تعاطى ذلك فإنه قد دخل في الطب، صحيح أن الطب عام، ولكن من الطب الحجامة؛ ولذلك يعتبر متطبباً إذا تعاطى الحجامة ولا يعرفها، وكذلك أيضاً الفصاد، قال: إذا تعاطى الفصد ولا يعرفه فقد تطبب، وكذلك الجراح إذا تعاطى الجراحة وهو لا يعرفها فقد تطبب... وهكذا بقية الأطباء، حتى علم الأعشاب، لو قال -مثلاً-: خذ العشب الفلاني، أو ضع العشب الفلاني، أو افعل بالعشب الفلاني، أو العشبة الفلانية علاج لكذا ودواء لكذا. فإنه تطبب إذا لم يكن على بينة وعلم.

    إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) يدل على تضمين الحجام؛ لأن الحجامة من الطب، وعلاج يتادوى به، ومن مجالات الطب، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب).

    لا ضمان على الحجام إذا حجم بالصفة والطريقة المعتبرة.

    ويشترط في الحجام ما يأتي:

    أولاً: أن يكون عالماً بالحجامة.

    وثانياً: أن يشهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بهذا.

    وثالثاً: أن يؤدي هذه الحجامة بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة.

    فلو أنه كان عالماً، وكان مستطيعاً للتطبيق، وطبق ما علم في حدود أهل الخبرة، ولكنه قام بالعمل بدون إذن صاحبه، فجاء إلى شخص وحجمه بدون إذنه، فهذا يضمن؛ لأن الإذن هو الذي فيه التوكيل الذي يسقط الضمان، فأصبح هناك أربعة شروط لابد من توفرها: العلم بالحجامة، والقدرة على تطبيق ذلك العلم على الوجه الصحيح، وأن يقوم بالمهمة وفق الأصول المتبعة عند أهل العلم بالحجامة، وأن يأذن الشخص المريض أو وليه بفعل الحجامة، وهذا الشروط الأربعة على التفصيل الآتي:

    قلنا: أن يكون عالماً. فإذا كان جاهلاً ليس من حقه شرعاً أن يعرض أرواح المسلمين وأجسادهم للتلف، فيضمن.

    ثانياً: أن يكون قادراً على التطبيق. الآن ربما تقرأ كتاباً في الحجامة وتتصور الحجامة، وربما تقرأ كتاباً في الجراحة الطبية وتتصورها، لكن لو وقفت أمام الدماء والعروق والأشلاء والقطع لما أحسنت التصرف؛ لأن التطبيق شيء والعلم شيء آخر، ولذلك لابد مع العلم من القدرة على التطبيق، وأن يكون هذا التطبيق الذي طبقه موافقاً للأصول المتبعة عند أهل الخبرة؛ ولذلك نستطيع أن نضمِّن أعرف الناس بالطب إذا خرج عن السبيل المتبع عند أهل الخبرة، فعلمه وقدرته على التطبيق محكومة بالضوابط والأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا خرج عنها صار متحملاً للمسئولية، وخارجاً عن السنن الذي جعله الله علاجاً ودواءً للأجساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يجعل داءً إلا وجعل له شفاء ودواء) فقال: (جعل له شفاء ودواء) فهذا الجعل نعرفه عن طريق أهل الخبرة والمعرفة، فلما جاء وخرج عن حدود أهل الخبرة وتطبيقاتهم فقد خرج عن السنن الذي جعله الله سبحانه وتعالى علاجاً، فصار مخاطرة ومجازفة واجتهاداً يتحمل مسئوليته وتبعته.

    مثال: لو أن المريض يحجم في نقرة الرأس، فجاء وقال: أنا أفضل أن تكون في النقرة اليمنى ولا تكون في الوسط. فانحرف يميناً أو شمالاً، أولاً: هو يعرف كيف يحجم، أي: عنده علم، ثانياً: عنده قدرة على التطبيق، ثالثاً: لم يطبق وفق أصول أهل الخبرة؛ لأن أصول الخبرة تستلزم أن يضع في هذا الموضع.

    من أمثلتها أيضاً: أن يحدد الموضع ويحدد المكان للحجامة، فيقوم بالحجامة، ولكن المتبع عند أهل الخبرة أنه يعالج الجرح بعد انتهاء الحجامة وينظفه قبل الحجامة؛ لأنه إذا جاء يجرح ينبغي أن يكون قد قام بتنظيف مكان الجرح، فإذا لم يحتط وعاجل بجرحه قبل تنظيف المكان فتسمم المكان، أو حدث ضرر بسبب هذا التفريط والخروج عن الأصل المتبع عند أهل الخبرة، وهو أنه لا يمكن أن يقوم بحجم موضع إلا بعد تنظيفه وتهيئته للحجامة، فنقول: هذا خروج؛ مع أنه عالم وقادر على التطبيق، وعنده معرفة، ولكن خرج عن السنن المتبع عند أهل الخبرة، وهذه ضوابط مهمة.

    الأمر الرابع: أن يوجد الإذن، فإذا وجد الإذن وأذنت له أن يحجم لي فإنني في هذه الحالة وكلته لعلاج نفسي، فكأني أنا الذي أعالج نفسي؛ ولأني إذا أذنت تحملت مسئولية الآلام، ورضيت بالضرر المترتب على وجود الألم والمشقة المترتبة عليه، فإذا لم آذن لم أرض لنفسي هذا الضرر، فعند إقدامه عليه بدون وجود إذن يضمن.

    إذاً: لو كان المريض مغمى عليه، أو كان صبياً صغيراً لا يحسن النظر في مصلحة نفسه، يقوم وليه مقامه، فللولي أن يقوم مقامه ويأذن، فإذا جاء وليه وقال له: احجم هذا الصبي. وكان أبوه أو عمه وهو قائم على أمره حينئذ يعتبر إذناً موجباً لسقوط الضمان.

    1.   

    مسائل في عدم ضمان الطبيب

    وقوله: [وطبيب وبيطار].

    أي: ولا ضمان على الطبيب، والطب هو حفظ الصحة الموجودة واسترداد الزائلة بإذن الله عز وجل، والطب نوعان: طب وقاية، وطب علاج ودواء. فالطبيب لا يخرج عن هذين الأمرين: إما أنه يحرص على بقاء الصحة كما هي -وهذا ما يسمى بالطب الوقائي- وإما أن يسترد شيئاً زال -بقدرة الله عز وجل- بسبب المرض، وفي الجسم ثلاث خصائص: السوداء، والصفراء، والبلغم. فإذا اعتدلت واستوت فالجسم في صحة وعافية بقدرة الله عز وجل، ولا يصيبه مرض إلا إذا خرج أو إذا زاد أو طغى أو بغى واحد من هذه الثلاثة.

    فهذا الطب يقوم على الجانبين، والأطباء من حيث هم ينقسمون إلى أقسام: فهناك علاج بالدواء، وهناك علاج بالجراحة، والعلاج بالدواء -أيضاً- على فروع وأقسام، منه ما يتعلق بالأعضاء، ومنه ما يتعلق بالنفس والروح، فالطب النفسي شيء والطب الجسدي شيء آخر، وكلها مجالات في الطب، فإذا قال: (ولا طبيب) يشمل جميع هذه الأقسام.

    ثم إذا قلنا بالطب فهناك أشخاص ينزلون منزلة الطبيب وهم مساعدو الأطباء كالممرضين والمحللين والمصورين بالأشعة... ونحوهم ممن يستعان بهم -بعد الله عز وجل- في القيام بالمهمات الطبية، فهؤلاء كلهم لهم علوم ولهم ضوابط ولهم أصول معروفة عند أهل الخبرة والاختصاص، فالطبيب لا يضمن بشرط أن يكون عالماً بالطب، بمعنى: أن يكون قد شهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بالعمل الطبي، عنده معلومات تؤهله للقيام بالمهمات الطبية، عالماً، قادراً على التطبيق كما ذكرنا، ثالثاً: أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا وجدت هذه الشروط في شخصه انضاف إليها في المريض وجود إذن من المريض بالمداواة، فأصبحت أربعة شروط.

    لكن الشرط الأخير في الإذن بالمداواة تستثنى منه الحالات الطارئة، فالأطباء في الحالات الطارئة لهم الحق أن يعالجوا، ولهم الحق أن يداووا إذا لم يوجد من يأذن لهم بشرط وجود الإذن العام، مثل ما يوجد مثلاً في المستشفيات من اللجان الطبية التي تأتيها الحوادث العاجلة، مثلاً: حينما يأتينا المريض مغمى عليه، قد لا نعرف عنوان أوليائه، ولو غرمنا عنوانه واتصلنا بأوليائه فقد لا يحضرون إلا بعد وفاته، فتكون حالة لابد أن تجرى العملية لها، فهذا نقول: فيه إذن عام. وهذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله، ويعتبر إذن ولي الأمر العام إذناً للأطباء، ما دام عند الأطباء إذن عام من الولي العام بمعالجة مثل هذه الحالات الطارئة فيستلجأ إلى الإذن العام؛ لأن السلطان ولي من لا ولي له، والحالات الطارئة يفتقد فيها من يلي حفظ النظر، فولي الأمر له الحق أن يفوض لهذه الجهات أن تعالج الحالات الطارئة ولو لم يوجد الولي، ولم يوجد إذن من المريض نفسه.

    ولذلك القاضي ومن في حكمه ممن له ولاية عامة ينظر لمصالح الناس وإن كانوا غير موجودين؛ لأنه ما جعل ولياً لأمر الناس إلا من أجل مصالحهم، فهذا يسمى بالإذن العام.

    هذه أربعة شروط لابد من توفرها: أن يكون الطبيب عالماً، فإذا كان الطبيب جاهلاً ضمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن).

    وسيلة معرفة حذق الطبيب في مهنته

    وهنا سؤال: متى نحكم للطبيب بأنه عالم بالطب؟

    هذا يفتقر إلى جهات لها حق أن تأذن للطبيب وتشهد له أنه أهل للطب، وفي زماننا الشهادة الطبية بمزاولة المهنة الطبية من الجهات المعتبرة تعتبر دليلاً على علمه، موجبة لسقوط الدعوى عليه أنه جاهل، بمعنى: لو جاء شخص وقال: هذا لا يعرف الطب. وعند الطبيب شهادة من جهة معترفة معتبرة، نقول: أبداً، قول المريض: إن الطبيب لا يحسن، ساقط؛ لأن أهل الخبرة شهدوا له أنه طبيب، وأذنوا له بمزاولته لمهنة الطب.

    وكما ذكره الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة كـالماوردي والإمام النووي -رحمة الله على الجميع- كلهم قرروا أنه لابد من وجود معرفة وعلم، وفصل بعض العلماء وقال:بشهادة أهل الخبرة. والمصنف هنا -الإمام ابن قدامة رحمه الله- يقول: (إن عرف حذقهم) فيدل على أنه قد اختبر، ولذلك الجهات المتخصصة في الطب لا تعطي هذه الشهادة إلا بعد اختباره في العلم النظري والعلم التطبيقي، فنحن نعتبر هذه الشهادة موجبة لزوال التبعة والمسئولية في قوله: (من تطبب). هذا إذا شهد له أهل الخبرة.

    في بعض الأحيان قد تثبت خبرة الإنسان وحذقه بالتجربة، وهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله في أحوال مستثناة، وهذا في القديم، ومثل ما يقع في الطب الذي يزاول.

    مثلاً: رجل نشأ في بيت معروف بالطب، وأخذ عن والده هذا الطب، وعرفنا أنه في أغلب علاجه لأهل القرية وأهل المدينة أنه يصيب، وجاءت حالة معينة وأخطأ، فنقول: هذا رجل معروف بالحذق، فننزل المعروف عنه عرفاً منزلة شهادة تزكي علمه، ما لم يكن هناك شيء معين يدل على أنه تعدى أو أنه تجاوز فهذا أمر آخر يستثنى، لكن نحن نقول: يحكم للطبيب بجواز أن يزاول ذلك العمل عند شهادة أهل الخبرة بثبوت كونه عالماً بهذه المهنة الطبية.

    ثالثاً: التطبيق: أن يكون قادراً على التطبيق، وقلنا: هذا يعرف بالتجربة، أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، وهذا يحتاج إلى شهادة أهل الخبرة، وبناء على ذلك: تتفرع المسألة: أن كل دعوى ضد طبيب أنه أخطأ ينبغي الرجوع فيها إلى الأطباء المتخصصين في هذا المجال، فلو أنه عالج عيناً أو أذناً أو قلباً وادعى المريض أنه أخطأ، وأنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فنقول: يسأل أهل الخبرة بهذا المجال الذي هو فيه، فإن قال أطباء العين أو أطباء القلب أو أطباء النظر أنه أخطأ، أو أنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل المهنة ضمن، وإن قالوا: إنه عمل ما لزم، وأدى عمله وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة سقط عنه الضمان، وما نوجب الضمان عليه، فالطبيب إذاً لابد من توفر هذه الشروط كلها فيه حتى يسقط عنه الضمان، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه الطب...) فلما قال: (يعرف) دل على أن من عرف منه الطب بالتجربة وشهادة أهل الخبرة أنه لا يدخل في الصنف المذكور في الحديث؛ لأن الحديث فيه منطوق وفيه مفهوم، فمنطوقه: وجود الضمان على الطبيب الجاهل، ومفهومه: لا ضمان على الطبيب العالم الذي عرف منه إحسانه وإتقانه للطب.

    وقوله: [وبيطار].

    وهو الذي يداوي ويعالج الحيوان.

    أمثلة في تعدي الطبيب أو تقصيره

    وقوله: [لم تجن أيديهم].

    بمعنى: أنها لم تتعد، مثلاً: في الجراحة لو كان يقطع عضواً تالفاً من المفصل، فزاد عن المفصل، فحينئذ يضمن هذه الزيادة، ولو قال: قصدت أن أؤذيه. صارت جناية، وفيها القصاص إن أمكن القصاص، ولذلك فإن ضمان الطبيب إما أن يوجب القصاص إذا كانت متعمداً، كأن يسقيه دواء يعلم أنه يقتله واعترف أنه يريد قتله، فيجب عليه القصاص، وهذا بالإجماع؛ لأنه خرج عن كونه طبيباً إلى كونه قاتلاً وقاصداً القتل.

    الأمر الثاني: في بعض الأحيان لو لم يقر، وجاءت الدلائل الواضحة، يقول -مثلاً-: وضعت له جرعة في حدود سبعين غراماً -مثلاً-، والسبعون غراماً عرف في علمه وطبه أنها قاتلة، وقيل له: وضعت له سبعين؟ قال: نعم. وتعلم أنها قاتلة؟ قال: نعم. نقول في هذه الحالة: كونك تعترف بالقتل أو لا تعترف لا يهمنا؛ لأنك تعلم أنه إذا سقي هذه الجرعة فسيموت، فإذا كانت الجرعة في الغالب تقتل، فعندها يصبح قاتلاً متعمداً سواء أفضت إلى الموت أو لم تفض، هذا بالنسبة للضمان في الجناية (ما لم تجن أيديهم)، فإذا جنت يده -يعني: قصد القتل- أوجب القصاص، الذي هو القود كما تكلمنا.

    ثانياً: قد يسقط عنه القصاص إذا لم يقصد قتله وتعاطى الطب عن جهل ولكن أخطأ، وحصل الضرر، نقول له: تضمن، ويكون الضمان، إذا أتلف يد المريض فيها نصف الدية، نقول له: تدفع نصف الدية. لكن لو أنه دفع نصف الدية هل ينتهي كل شيء؟ لا، الطبيب الجاهل لا يجوز تركه، بل يعاقب، ونص الأئمة والعلماء على أنه يجلد ويشهر به إذا كان التشهير يردع غيره؛ لأن هذا أمر يتعلق بأرواح الناس وأجسادهم، والأمر ليس بالسهل، فيجلد ويشهر به، ويعزر على قدر الجناية وعلى قدر العلم الذي ادعى معرفته.

    فادعاء معرفة العلوم الطبية التي تؤدي إلى الخطر، مثل العقاقير السامة، والعمليات الخطرة، ليس كادعاء العمليات البسيطة والعلاج بالأشياء البسيطة، كل شيء له تعزيره الذي يناسبه، وهذا يرجع إلى القاضي وسيأتينا في باب التعزير.

    فقوله: (لم تجن أيديهم) فتجني يده بالقص والعدوان -والعياذ بالله- وهذا يوجب القصاص، وتجني يده بالمجاوزة للحدود المعتبرة عند أهل الخبرة، فيأتي إلى شيء يجهله خارج عن تخصصه، فمثلاً: لو أن طبيباً متخصص في الأذن جاء لعلاج عين فهذه جناية؛ لأن العين ليست من تخصصه، صحيح أن الأطباء يلمون بالمعلومات العامة في الطب، وكل طبيب لابد أن تكون عنده معلومات عامة ثم يتخصص، لكن نحن نتكلم إذا انتقل من العين إلى الأذن؛ لأن هذا فيه تخصص، فعلاج الأذن لا يمارسه إلا من تخصصه، لكن هناك عند الأطباء ضوابط معينة يحتكم إليها ويرجع إليها، وهي المواد والقوانين التي وضعت بالتجربة والاستقراء ووضعها أهل الخبرة والمعرفة، إذا خرج الطبيب عن تخصصه إلى تخصص ليس له، وتعاطى أو عمل أو زاول شيئاً يجب عليه فيه الرجوع إلى المتخصص وإحالة المريض إليه يضمن.

    لكن هناك أحوال طارئة، وهناك أحوال مستثناة لها أحكامها وضوابطها المعروفة في عرف الطب يرجع إليها.

    الشاهد: أننا نضمن الطبيب إذا جنى بالجهل، وإذا تجاوز حدود معلوماته أو تكلف شيئاً، أو فعل شيئاً لا ينبغي فعله، أو قصر في حفظ صحة المريض فتلفت صحة المريض.

    مثلاً: الآن عندنا أدوية معينة توضع بترتيب معين عند الأطباء، فعالج المريض وقصر في هذا الترتيب، أو لم يخبر المريض بطريقة استعمال الدواء، أو أعطاه الجرعات على مواعيد متباينة، كل هذا جناية، لكنها مبنية على التقصير وليست على التعدي والقصد.

    وقوله: [إن عرف حذقهم].

    حذق الشيء إتقانه وكونه ماهراً فيه، وقال رحمه الله: (إن عرف حذقهم)؛ لخطورة الأجساد والأرواح، فلا ينبغي لكل طبيب أن يتولى الطب، بل ينبغي أن يكون حاذقاً، وهذه أمانة ومسئولية؛ ولذلك لا يجوز في المستشفيات الأهلية أو نحوها أن تضع طبيباً إلا إذا كان على درجة من الحذق، خاصة إذا كان يتعامل مع كثير من الناس، فينبغي على صاحب المستشفى أو نحوه أن ينصح لله ولعامة المسلمين، فلا يأتي بكل طبيب، والله سائله ومحاسبه إذا وقف بين يديه إن فرط في اختيار الأطباء لعلاج الناس؛ فلا يختار للناس إلا من يرضاه لنفسه ويأمنه على نفسه، فكما يأمنه على نفسه يأمنه على أنفس المسلمين وعلى أرواحهم، ولا يذهب ليأخذ طبيباً لا يعرف منه حذق، ويأتي ويضعه في موضع يعلم أن كثيراً من الناس سوف يراجعونه ويحتاجون إليه، فينبغي في هذه الحالة أن يعرف حذق الطبيب وإتقانه؛ نصيحة للأمة، ودفعاً للضرر المترتب على غير الحاذق.

    1.   

    مسألة في تعدي الراعي

    قال رحمه الله: [ولا راع لم يتعد].

    الراعي الذي يرعى الغنم أو البهم له ضوابط:

    أولاً: لا ينبغي أن يتعدى في رعايته للغنم، وهو يعتبر أجيراً خاصاً لا يضمن إلا إذا فرط، والتفريط: أن يرعى الغنم في أرض مسفعة، فهذه الأرض المسفعة إذا أدخل الغنم فيها وهو يعلم أنها مسفعة ضمن، لكن لو أمره صاحب الغنم وقال له: ارعها هنا، وقم بالرعي في هذا الموضع. فإنه لا يضمن؛ لأن الضمان يسقط عن الراعي بالإذن.

    كذلك أيضاً يتحمل الراعي الضمان إذا قصر، مثل: تقصير في سقي الغنم، وحفظ الأغنام المريضة، أو قصر في إرضاع صغير الغنم وصغير البهم، فكل ذلك يوجب الضمان، فيتقيد الراعي بالأصول المتبعة في إجارة الرعي، فإذا قصر في هذه الأصول وتساهل فيها حتى حصل الضرر ضمن، وإذا تجاوز الحدود التي حددت له وحصل الضرر ضمن، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر؛ لأن أغلب مسائل الضمان تدور على هذين الأصلين: التعدي والتقصير، فقال رحمه الله: (ولا راع) أي: لا يضمن الراعي، ويقال: إن جماهير السلف والخلف قالوا بعدم تضمين الراعي، وقال الشافعي: لا أعرف أحداً ضمنه. يعني: لا يعرف أحداً ضمن الراعي، فالراعي أجير خاص؛ لأنك وكلته بالرعاية فيكون أجيراً خاصاً، لا يعرف تضمينه، وعلى هذا فإن يده تعتبر يد أمانة ما لم تتعد أو تفرط كما قررناه فيمن قبله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962929