إسلام ويب

شرح زاد المستقنع أحكام المياه [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العبد مطالب أن يتطهر ويستعمل الماء في الغسل والوضوء إذا أراد الصلاة والوقوف بين يدي ربه سبحانه، والطهارة لا بد لها من فقه وعلم؛ إذ كيف يميز العبد بين الطاهر والطهور والنجس إلا إذا فهم القواعد والأصول عند الفقهاء التي يعرف بها الفرق بين أنواع المياه، وضابط كل نوع، ومن ثم يعرف الماء الذي يصلح للطهارة من غيره.

    1.   

    أحكام ومسائل في الماء الطهور

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى جميع من سار على نهجه إلى يوم الدين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن استعمل في طهارة مستحبة].

    تقدم أن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله قسموا المياه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: ماء طهور، والقسم الثاني: ماء طاهر، والقسم الثالث: ماء نجس، ثم ابتدأنا ببيان الماء الطهور، وهو الماء الذي شرع الله للمكلف أن يتوضأ ويغتسل به من الجنابة ونحوها، وكذلك يزيل به القذر والنجس العالق بثوبه أو بدنه أو مكانه.

    ثم تكلمنا على بعض المسائل المتعلقة بالماء الطهور، وهي تتلخص فيما إذا ألقي في الماء شيء خارج هل يؤثر فيه أو لا يؤثر، ذكرنا ذلك كله.

    وسنبتدئ ببعض المسائل المتعلقة بتغير الماء إما إلى طاهر أو إلى نجس، فالماء الذي أوجده الله جل وعلا على أصل الخلقة والذي شرع لك أن تتوضأ وتغتسل به، قد يستعمله الإنسان في غسل مستحب، قال المصنف: (وإن استعمل في طهارة مستحبة) بمعنى أنك إذا توضأت بهذا الماء وضوءاً غير واجب، أو اغتسلت به غسلاً غير واجب، ثم جمعت هذا الماء الذي توضأت أو اغتسلت به في إناء، فجاء غيرك يريد أن يتوضأ به أو يغتسل به وضوءاً أو غسلاً واجباً، هل يصح إيقاع الوضوء بماء قد استعمله الإنسان في طهارةٍ مستحبة؟

    استعمال الماء في تجديد الوضوء أو الغسل

    استعمال المياه في الوضوء أو الغسل له صورتان:

    الصورة الأولى: أن يتوضأ الأول ويغتسل وضوءاً وغسلاً واجباً، مثال ذلك: أذن مؤذن الصلاة للمغرب، فتوضأت في طشت، فجمع الطست فضلة الماء الذي توضأت به، فجاء آخر يريد أن يتوضأ بفضلة الماء الذي توضأت به لوضوءٍ واجب، فلو توضأ بهذا الوضوء أيصح وضوءه أو لا؟

    هذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في الماء الطاهر.

    الصورة الثانية: أن تغسل الأعضاء في صورة مستحبة، سواءً كان ذلك وضوءاً أو غسلاً، ومثل المصنف لها بقوله: [كتجديد وضوء وغسل جمعة].

    أولاً: معنى تجديد الوضوء: أن يتوضأ الإنسان وضوءاً كاملاً، ثم بعد أن ينتهي من الوضوء، إما بزمان يسير، أو بزمان كبير كساعة ونحوها، يريد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هذا التجديد.

    دليل مشروعيته ما ثبت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فدل هذا الحديث على مشروعية تجديد الوضوء بالجملة الأولى، فإن السائل لما قال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: يا رسول الله! لو كنا على وضوء، فأكلنا لحم الغنم هل ينتقص هذا الوضوء؟

    فقال: (إن شئت)، فأجاز أن يوقع وضوءاً ثانياً غير واجب عليه، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية إيقاع الوضوء، ولو كان ذلك مرتين أو ثلاثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الوضوء غير مشروع لقال: لا تتوضئوا، وإنما قال: (إن شئت)، فخيره.

    وللعلماء تفصيل في مسألة تجديد الوضوء.

    لكن الذي يهمنا هنا أن تجديد الوضوء مشروع، والدليل على مشروعيته حديث جابر الذي ذكرنا، يبقى السؤال: لو أن إنساناً أخذ الماء الطهور -الذي تقدم ذكره- فتوضأ به لصلاة المغرب وضوءاً وكان قد توضأ قبل ذلك، فالعلماء يسمون طهارة الوضوء الثانية طهارة مستحبة، لقوله: (إن شئت)، أي: حبذ فيه الشرع، وهذا مثال لتجديد وضوءٍ.

    (وغسل جمعةٍ) هذه الكلمة فيها فائدتان:

    أولاً: دقة المصنف حيث جاء بطهارة صغرى مجددة كتجديد وضوء، وطهارة كبرى مجددة كغسل جمعةٍ.

    وغسل الجمعة الصحيح وجوبه، وسنتكلم على وجوبه ودليل وجوبه في كتاب الجمعة إن شاء الله، لكن المصنف يسلك مسلك الجمهور من عدم وجوب الغسل للجمعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) واختلف في إسناد الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله.

    فقال المصنف ومن وافقه: إن غسل الجمعة ليس بواجب، فعلى القول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، لو أن إنساناً اغتسل الجمعة داخل موضع يحفظ ماء الغسل كالموجود الآن من البرك الصغيرة، ولكن هذا الغسل ليس بواجب، إنما هو غسل مستحب، هذا المثال الثاني: (وإن استعمل) أي: الماء الطهور (في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة).

    قال رحمه الله: [وغسلة ثانية وثالثةٍ كره].

    الغسلة المستحبة تأتي على صورتين:

    إما أن تأتي الغسلة المستحبة في طهارة كاملة: كالوضوء والغسل من غير جنابة -أي: من غير الواجب- فهذه طهارة مستحبة كاملة للأعضاء كلها، وقد تأتي بإعادة غسل الأعضاء مرة ثانية وذلك بالغسلة الثانية والثالثة.

    صورة هذه المسألة: لو أن إنساناً ترجح عنده قول بعض العلماء الذين يرون أن استعمال الماء في وضوء أو غسل يوجب سلبه الطهورية، فقال: أنا أحافظ على هذا الماء، فالغسلة الأولى التي أغسل بها وجهي هذه واجبة، فلا أحفظ ماءها، ولكن أغتسل الغسلة الثانية والثالثة للوجه فأحفظ الماء المتساقط منها، ثم غسل يده فغسل الغسلة الأولى للفرض، ثم غسل الثانية والثالثة استحباباً، وحفظ ماء الغسلة الثانية والثالثة، حتى انتهى من جميع أعضاء الوضوء.

    فإن الماء في الغسلة الثانية والثالثة لم يفرضه الله على المكلف، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة)، فأصبحت المرتان والثلاث فضلاً لا فرضاً، فهذا الفضل الذي ليس بفرض، لو أن إنساناً حفظ ماءه ثم جاء ثانٍ يريد أن يتوضأ به، فسألك: ما الحكم؟ ومراد المصنف من ذكر هذه الثلاثة الأحوال كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة أن تحفظ القاعدة، وهي: إيقاع طهارة ليست بواجبة.

    (وغسلة ثانية وثالثة كره).

    أي: أن هذا الماء المستعمل في الطهارة الغير الواجبة يجوز أن يتوضأ به الإنسان ولكن على سبيل الكراهة، والسبب في ذلك ما سبق بيانه، فإن أصحاب هذا القول يرون أن استعمال الماء لوضوء وغسل واجب يسلبه الطهورية كما سنبينه.

    وإذا استعمل في طهارة مستحبة فهو متردد بين الطهور السالم والطهور غير السالم فيعطى حكم الكراهة على القاعدة التي سبق بيانها (كره) المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، والصحيح أن من استعمل الماء في طهارة مستحبة لم يكره لغيره أن يتوضأ ويغتسل بذاك الماء، وسنبين ذلك -إن شاء الله- ونبين أدلته وأقوال العلماء فيه.

    تحديد القليل والكثير من الماء بالقلتين

    قال رحمه الله: [وإن بلغ القلتين وهو الكثير].

    أي: اعلم رحمك الله لو أن هذا الماء الذي شرع الله لك أن تتوضأ به -وهو الماء الطهور- بلغ قلتين، والأصل في القلتين حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهذا الحديث صحح إسناده غير واحد، وارتضى الحافظ ابن حجر كما في التلخيص والفتح صحته، والعمل عند جمع من العلماء إما على حسنه أو على صحته، وقال طائفة من العلماء: إنه ضعيف، كما اختاره بعض المحققين ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر ، والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع.

    وعلى العموم بناء على هذا الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، قال لك المصنف: لو أن هذا الماء الطهور بلغ قلتين فهو الكثير.

    (وهو الكثير).

    كلمة: (وهو الكثير) اصطلاحية، بمعنى: أنها ستمر عليك في ثنايا كلام الفقهاء وفتاويهم، فإن قال العالم: يجوز ذلك في الماء الكثير، ولا يجوز في القليل، يؤثر في الكثير ولا يؤثر في القليل، أو العكس، فعندهم أن الكثير هو الذي بلغ قلتين، بناء على مذهب من يقول بصحة هذا الحديث والعمل به، وسنبين مسألة القلتين -إن شاء الله- في موضعها.

    قال رحمه الله: [وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً].

    حديث القلتين -كما قلنا- اختلف العلماء في سنده، والواقع أنه وإن صح الحديث فإن متنه لا يدل على اعتبار القلتين فاصلاً؛ لأن ذلك من باب المفهوم، وليس من باب المنطوق، وهو المفهوم الذي يسميه الأصوليون: مفهوم العدد، وفي مفهوم العدد خلاف، ورجح غير واحد عدم اعتباره، وقد تكلمت على هذه المسألة ببسطها وبيان أدلتها وأقوال العلماء والجواب عن هذا الحديث في شرح بلوغ المرام.

    لكن الخلاصة أن اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير مرجوح، والصحيح -كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين- أن الماء العبرة فيه بأن يتأثر لونه أو طعمه أو ريحه، وأما أن يجعل العبرة فيه بالقليل والكثير فهذا لا يراه المحققون، وبينا وجه ذلك ودليله، لكن هنا لما كان المصنف يرى أن القلتين فرق بين القليل والكثير احتجنا أن نبين مسألة القلتين: فعند العلماء أن القلتين مثنى قلة، والقلة: ما يقل، بمعنى: يحمل، ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [الأعراف:57] أي: احتملته الريح.

    وسميت قلة لأنها تحمل باليد، وهي الجرة، أو الشراب الموجودة الآن وتسمى في العرف: الشربة، أو الزير الصغير الذي يحمل باليد، ولا يزال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونه ويستسقون به، يضعون فيه الماء من الآبار ويجلبونه إلى منازلهم، وهذه القلة تقل باليد، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) بمعنى: أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور، وينبغي أن ننبه على أمور هي:

    هناك ماء بلغ القلتين، وهناك ماء دون القلتين، وهناك ماء فوق القلتين، فأصبح الماء له ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون دون القلتين.

    الحالة الثانية: أن يكون بلغ القلتين.

    الحالة الثالثة: أن يكون فوق القلتين.

    فإن كان دون القلتين، مثلاً: فرضنا أنه قلة واحدة، ومن أمثلتها السطل الموجود الآن، لو أن إنساناً كان عنده ماء على قدر السطل، فهذا يسمى ماء دون القلتين، إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة فعلى حالتين:

    الحالة الأولى: مثلاً: عندك سطل فيه ماء، وجاء صبي وألقى فيه نجاسةً، أو سقطت منك نجاسة في السطل، فإن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فبالإجماع أنه نجس، سواء كانت النجاسة مائعة أو جامدة.

    وإذا كان نجساً فلا يجوز لك لا أن تتوضأ به، ولا أن تغتسل به، ولا أن تزيل به النجاسة؛ لأنه نجس بذاته.

    الحالة الثانية: أن يلقي النجاسة في الماء فلا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، كقطرة بول -أكرمكم الله- ألقاها في السطل، فهل هذه القطرة تمنع من الوضوء والاغتسال من هذا السطل؟ أو وضع الإنسان بمكان غسله سطل ماء فتطاير رذاذ نجاسةٍ على السطل، فشك هل تطاير النجاسة إلى هذا السطل يمنع من الوضوء به؟ مع أنه لم يتغير الماء لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، فهذا محل الخلاف بين العلماء.

    فمن يقول: أعتبر القلتين يقول: كل ما كان دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإني أحكم بكونه نجساً ولو لم يتغير، وهذه فائدة اعتبار القلتين، فهو إذا كان دون القلتين وتغير فبالإجماع ينجس، لكن إذا لم يتغير فعند المصنف وغيره من العلماء وهو مذهب الشافعية والحنابلة أنه يحكم بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه.

    وهكذا لو وقع فيه عطرٌ، أو شيء طاهر من مسك أو زعفران ونحوه، إذا وقع في هذا الماء الذي في السطل نقطة منه، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، يقولون: هذا طاهر وليس بطهور.

    لكن مذهب المحققين وهو مذهب الظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمة الله عليه أن العبرة بتغير الماء، فإن وقعت هذه النجاسة وغيرت لون الماء الموجود في السطل أو طعمه أو ريحه حكم بنجاسته، أما إذا لم تغيره فليس بنجس، وهذا هو الصحيح.

    الحالة الثالثة: إذا بلغ الماء فوق القلتين، فلا ينجس ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته، فلو سألك سائل عن بركة ماء -البركة تبلغ القلتين وزيادة- وقعت فيها نجاسة هل يجوز له أن يغتسل من هذه البركة أو يتوضأ منها؟ تقول له: إن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فالإجماع أنه لا يجوز الوضوء من هذه البركة، أما إذا لم يتغير شيء من أوصافه فالإجماع على جواز التطهر منها، وإن كان هناك بعض الخلاف يحكيه بعض العلماء على مسألة البول في الماء الراكد سنبينه إن شاء الله.

    فعندنا مذهبان:

    مذهب يقول: الفرق عندي بين الماء القليل والكثير هو القلتان.

    ومذهب يقول: المهم عندي تغير الماء بالطاهر والنجس، وهذا هو الصحيح.

    فلما كان المصنف يرجح التقدير بالقلتين قال رحمه الله:

    [فخالطته نجاسة غير بول آدمي، أو عذرته المائعة، فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه، كمصانع طريق مكة فطهور].

    (فطهور) في كلتا الحالتين: إذا بلغ القلتين وخالطته نجاسة من غير بول الآدمي وعذرته، كأن يلقى فيه نجاسة خنزير مثلاً، فإن الخنزير نجس العين والفضلة، فأصبح الماء محل السؤال: هل وقوع النجاسة في هذا الماء الذي بلغ القلتين يوجب الحكم بعدم طهارته إذا لم يتغير؟

    قلنا: إن اتفاق العلماء رحمهم الله الذين اختلفوا في القلتين واقع على أنه يجوز التطهر به، وهو طهور ما دام أنه لم يتغير.

    أما إذا تغير فالإجماع على أنه لا يجوز الوضوء به ولا الطهارة.

    الحالة الثانية: بلغ قلتين وألقيت فيه نجاسة، وغيرته لكن يشق نزحها، كمصانع طريق مكة، وكانوا في أيامهم يستقون على السابلة على الطرق ويكون فيها البرك ونحوها، فمثل المصنف بهذا المثال؛ لأن مكة مورد المسلمين، فكان شيئاً ظاهراً معروفاً عند غالب أو أكثر المسلمين، فمثل به على هذا الوجه.

    (يشق نزحها) أي: يشق إخراج النجاسة من هذا الموضع، وذكروا من أمثلة ذلك أن يكون الموضع ألقيت فيه نجاسة ولم يمكن إخراج هذا النجاسة عن ذلك الموضع كما في الآبار والبرك، ويشق نزح هذه النجاسة، فإن شق النزح فالقاعدة: (أن المشقة تجلب التيسير)، ودليل الحكم في هذه المسألة قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ما دام أن الناس ليس بوسعهم أن يزيلوا هذه النجاسة فيخفف عنهم في التطهر بهذا الماء، ويقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا يكلفهم الله إلا بما في وسعهم.

    تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس

    قال رحمه الله: [ولا يرفع حدث رجلٍ طهور يسير خلت به امرأه].

    هذه مسألة ثانية، فقد ورد في حديث ابن عباس وميمونة وأصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة) فاختلف العلماء فيما إذا تطهرت امرأة من إناء وبقي بعد طهارتها ماء، هل يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من هذا الماء؟

    فمذهب طائفة من العلماء الأخذ بظاهر الحديث، والمسألة لها صور:

    جاءت امرأة إلى سطل من الماء واغتسلت منه فبقي نصف الماء فيه، فاحتاج رجل أن يتوضأ بهذا النصف أو يغتسل به، فهل يصح وضوءه وغسله؟!

    ظاهر الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة).

    فقال أموراً:

    أولاً: فضل يعني: الزيادة.

    ثانياً: فضل طهور لا فضل شرب، فلو شربت من السطل لم يرد الخلاف، ولو غسلت بعض أعضاء الطهارة لا يرد الخلاف، لكن يقع الخلاف إذا حصلت الطهارة الكاملة، فلو أنها غسلت يدها أو وجهها من سطل فليس هذا بفضل طهور، وإنما محل الخلاف أن تتطهر طهارةً كاملة، إما طهارة صغرى كأن تتوضأ من الماء أو تغتسل منه، فيبقى بعد غسلها من السطل بقية، فهل من حق الرجل أن يتوضأ أو يغتسل به؟

    قولان عند العلماء مشهوران، أصحهما: أنه لا يجوز لظاهر الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وطائفة من أصحاب الحديث والظاهرية، على أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل من فضل ماء خلت به المرأة، إذاً هناك شروط:

    أولاً: أن يكون المغتسل بهذا الماء أو المتوضئ امرأة، فلو كانت صبية طفلة صغيرة اغتسلت من السطل لا يقع الخلاف؛ لأن الخلاف في المرأة، والصبية ليست بامرأة.

    ثانياً: أن يكون هناك تطهر كامل، إما من حدثٍ أصغر، أو من حدثٍ أكبر، فلو استعملته في شرب أو غسل وجه، أو جزء من أعضاء الوضوء والغسل لم يقع الخلاف.

    ثالثاً: أن تخلو المرأة بذلك الماء، فلو اغتسلت أو توضأت أمام زوجها أو محرمها، واحتاج أن يتوضأ بعدها أو يغتسل فلا حرج، لأنها لم تخلُ به، إذاً أين محل الخلاف؟ فيما إذا تطهرت وكانت امرأة وخلت به، ففي هذه الحالة هل يجوز للرجل أن يتوضأ بهذا الماء؟ قلنا: الصحيح عدم جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وظاهر النهي التحريم.

    وخالف الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا: يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من فضل طهور المرأة، ودليلهم حديث أم المؤمنين عائشة : (أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تقول له: دع لي، ويقول لها: دعي لي) وجه الدلالة: أنها إذا غرفت الغرفة الأولى فإن الباقي الذي اغترف منه النبي صلى الله عليه وسلم فضلة، ثم لما اغترفت الثانية فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم الغرفة بعد غرفتها الثانية فقد اغترف من فضل.

    وهذا الحديث يجاب عليه من وجوه:

    أولاً: أن محل الخلاف فيما إذا خلت، وهنا عائشة اجتمعت مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    وثانياً: أن محل الخلاف أن تكمل الطهارة، وعائشة لم تكمل الطهارة.

    وعلى هذا فنجمع بين الحديثين ونقول: هنا نصان خرجا من مشكاة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي نهى عن التطهر بفضل المرأة توضأ مع عائشة ، ففهمنا أن النهي لا يشمل الذي فعل، فاشترطنا خلو المرأة به، فدليل الشروط التي ذكرناها هو ما ورد في هذا الحديث، فيعتبر هذا الحديث مقيداً لإطلاق الحديث الذي سبق النهي فيه، وبناءً على هذا نخلص بفائدة وهي:

    عدم جواز أن يتوضأ الرجل أو يغتسل من بقية وضوء أو غسل المرأة بشروط ذكرناها.

    ثم يرد السؤال: إذا كان لا يجوز له فهل إذا فعل نقول بإثمه وصحة وضوئه وغسله، أو نقول بإثمه وعدم صحة وضوئه؟

    وجهان للعلماء:

    فمن يرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، يقول: لو اغتسل الرجل من هذا الماء أو توضأ به لم يصح لا غسله ولا وضوءه، وهي مسألة أصولية، وقد تكلمت عن هذه المسألة بإسهاب أيضاً في شرح بلوغ المرام، فنكتفي هنا بالقول الراجح من أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل أو يتوضأ من فضل طهور المرأة بالشروط التي ذكرناها.

    (ولا يرفع حدث رجل طهور).

    مفهوم ذلك أن المرأة لو اغتسلت بفضل المرأة، ما الحكم؟ يجوز، والوضوء صحيح والغسل صحيح، محل الخلاف إذا كان رجلاً.

    يرد السؤال: لو أن خنثى أراد أن يتوضأ ويغتسل بفضل امرأة، فهل الخنثى ملحق بالرجال أو ملحق بالنساء؟

    الخنثى له حالتان:

    الحالة الأولى: الخنثى البين، الذي بان كونه ذكراً أو كونه أنثى، وذلك بأمارات الرجولة أو أمارات الأنوثة، فهذا لا إشكال فيه، فإن ظهرت فيه علامات الرجولة فحكمه حكم الرجل، لا يتوضأ ولا يغتسل من فضل المرأة، وإن ظهرت فيه علامات الأنوثة فالحكم واضح بين.

    الحالة الثانية: الإشكال عند العلماء في الخنثى إذا كان مشكلاً، بمعنى: ليس فيه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة، ولم يتميز، فهذا فيه ما لا يقل عن ثمانين مسألة، حيرت العلماء رحمة الله عليهم، هل يعطى حكم الرجل أو يعطى حكم المرأة؟ من ناحية الطهارة ومن ناحية الصلاة عليه وتغسيله وتكفينه إلى غير ذلك، المهم من هذه المسائل هذه المسألة، بعض العلماء يقول: الخنثى حكمه حكم المرأة؛ لأن اليقين فيه أنه في درجة المرأة، والشك أنه ارتفع إلى درجة الرجل؛ لأن الله فضل الرجل على المرأة وقال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] فقالوا: نعطيه اليقين لكونه في حكم الإناث، وعلى هذا فيجوز له أن يتوضأ من فضل المرأة، لأنه آخذ حكم المرأة.

    وعلى الوجه الثاني قالوا: فيه شبهة، فليس بمحض الأنوثة ولا الرجولة، فارتفع عن الأنوثة المحضة، ونزل عن الرجولة الكاملة، فأصبح بين بين، فلا يتوضأ بفضل المرأة، لأنه ليس بامرأة، فاشتبهنا في حكمه.

    (ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة).

    الطهور اليسير مثل: الذي في السطل، ومثل: الذي في الإناء المعروف، هذا يعتبر ماء طهوراً يسيراً، ولو قلنا بعموم هذا الحكم لصارت مصيبة؛ لأن البرك يغترف منها النساء، فلو أن امرأة اغترفت من بركة واغتسلت هل نقول: هذه البركة بكاملها لا يجوز للرجال أن يتوضئوا ويغتسلوا منها؟

    فالجواب: أن هذا الحكم هو في الطهور اليسير، فالماء الموضوع في الأواني هو الماء الذي ورد فيه النص، وأما غيره فيبقى على الأصل.

    (يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة).

    قال بعض العلماء: شرط خلوها أن تكون في موضع لا يراها الرجل، وقال بعض العلماء: تكون فيها خلوة نكاح، بمعنى: أن لا تراها الأنظار، أو ترخى عليها الأستار ونحو ذلك.

    المسألة الأخيرة: هل نهي الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويغتسل بفضل طهور المرأة تعبدي أو معلل؟ الصحيح أنه تعبدي لا نعقل علته، حكمة منه سبحانه، قال: هذا الماء توضئوا منه، وهذا الماء لا تتوضئوا منه، هذا الماء اغتسلوا منه وهذا الماء لا تغتسلوا منه، يبتلي عباده بما شاء، فليس الأمر معللاً، ولهذا يقولون: هذا الحكم تعبدي، بمعنى: لا يجري فيه القياس.

    قال رحمه الله: [لطهارة كاملة عن حدث].

    أي: بسبب حدث، فلو تطهرت طهارة كاملة لغير حدث كالغسلة المستحبة، فوجهان للعلماء:

    قال بعض العلماء: حكمه حكم الغسلة الواجبة.

    والصحيح القول الثاني: أنه ليس حكمه حكم الغسلة الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بفضل طهور المرأة) والطهور الغالب فيه: الواجب، فيعطى حكم الغالب ويهدر النادر.

    1.   

    أحكام ومسائل في الماء الطاهر

    قال رحمه الله: [وإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه].

    الآن سنبدأ بالطاهر، وكل الذي تقدم فيما مضى ماء أباح الله الوضوء، وهو الماء الطهور.

    وذكرنا الأحكام العارضة على الماء الطهور، يبقى السؤال: كيف أدخل المصنف المسألة الأخيرة في الماء الطهور؟

    الجواب: أن الماء الذي هو فضل طهور المرأة هو في الأصل طهور، ولكن حكم الشرع عبادة، ولذلك ألحقه بالماء الطهور، ولم يلحقه لا بالنجس ولا بالطاهر، وإلا فكل كلامنا الذي تقدم هو في الماء الذي أذن الله به.

    الخلاصة: أن الذي تقدم الكلام عليه فيما مضى هو ماء أذن الله لنا أن نتوضأ به ونغتسل، وهو الماء الذي يزيل النجاسة عن البدن والثوب والمكان.

    وسنبدأ الآن بالنوع الثاني: وهو ماء ليس بنجس، ولكن لا يجوز للإنسان أن يتوضأ ولا أن يغتسل به، لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً وهو الماء الطاهر.

    الماء الطاهر نريد أن نعرفه ونعرف أحكامه؛ حتى إذا جئت تتوضأ لا تتوضأ بمثله، وإنما تتوضأ بالنوع الأول، وإذا جئت تغتسل لا تغتسل بمثله، وإنما تغتسل بالنوع الأول، وقس على هذا بقية الأحكام.

    تغير الماء الطهور بشيء طاهر

    (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه).

    قلنا: الماء الطهور الذي تقدم الكلام عليه ماء باقٍ على أصل خلقته كماء البئر، وماء النهر، ونحو ذلك من المياه، لكن الماء الذي معنا الآن ماء خرج عن أصل خلقته، بمعنى: أنه تغير عن حالته الحقيقية فوضع فيه شيءٌٌ طاهر.

    مثال ذلك: عندك سطل ماء أخذته من بئر، لو سألك سائل عن هذا الماء الذي أخذته من البئر: من أي أنواع المياه؟

    تقول: هذا ماء طهور؛ لأن الله قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] وقال عن هذا الماء الذي أنزله من السماء: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ [المؤمنون:18] فدل على أن ماء البئر ماء طهور.

    أخذت هذا الماء الطهور من البئر، أو من النهر، أو نزل من السماء مطر على ذلك السطل فملأه، فإن بقي على خلقته قلنا: توضأ به واغتسل، وأزل به النجاسة، والحكم: أنه يزيل النجاسة ويرفع الحدث.

    لكن جاء صبي فصب في هذا السطل زعفران، أو وضع فيه صابونة، فتغير لون الماء وأصبح بلون الصابون، أو بقي لونه كما هو لكن جئت تطعم الماء فإذا هو بطعم الصابون، أو بقي على لونه الحقيقي وطعمه الحقيقي ولكن رائحته رائحة صابون لما ألقى الصابونة فيه، فالماء خرج عن أصل خلقته الطهورية إلى شيء جديدٍ وهو الطاهر، فالسؤال: ما حكم هذا الماء؟

    المصنف سيأتي بأمثلة كلها فيها: ماء طهور وقع فيه شيء طاهر فسلبه الطهورية، ولذلك العلماء يقولون: سلبه الطهورية، فتحتاج حتى تعرف الماء الذي أذن الله لك في أن تغتسل وتتوضأ به أن تعرف هذا النوع وهو الطاهر، فهو طاهر ولكن لا يتطهر به، فقال رحمه الله:

    (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه).

    تغير اللون، أو الطعم، أو الريح هذه قاعدة مطردة.

    إذا تغير شيء بشيء فإن كان نجساً فغير اللون أو الطعم أو الرائحة فاحكم بنجاسته، وإن كان التغير بطاهر فهو طاهر وليس بطهور، وبالإجماع أنه يوصف بكونه طاهراً إن تغير بطاهر.

    (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه).

    أخذ هذا الماء ووضع فيه باقلاء أو باذنجان أو فاصوليا أو غير ذلك من المطعومات ثم طبخه، فأصبح لون الماء بلون الفاصوليا أو الباذنجان ونحوها، فهنا تغير بطاهر فتقول: هذا ماء طاهر تغير بالطبخ، بل حتى ولو لم يطبخ ووضعت فيه هذا الطاهر فتغير لونه أو طعمه أو ريحه حكم بكونه متغيراً.

    (أو ساقط فيه).

    جاء صبي فأخذ محبرة فرماها في السطل، فأصبح لون الماء الموجود في السطل بلون الحبر، أزرق أو أحمر أو أسود المهم أنه تغير بلون هذا الحبر فتقول: هذا ماء طاهر.

    حكم الماء المستعمل

    قال رحمه الله: [أو رفع بقليله حدث].

    هذه المسألة التي سبق الإشارة إليها؛ مثالها: شخص أخذ سطلاً فتوضأ وضوءاً واجباً عليه، أو اغتسل غسلاً من الجنابة، وحفظ الماء في طشت ونحوه، فجاء رجل آخر يريد أن يتوضأ بهذا الماء، فللعلماء في هذا الماء ثلاثة أقوال:

    القول الأول: الماء طهورٌ، وهو مذهب الظاهرية، ورواية عن مالك ، وقول للشافعي ورواية عن أحمد رحمة الله على الجميع.

    بمعنى: أن الماء باق على أصله، ولو توضأ به مائة شخص، فما دام أنه لم يتغير فهو ماء طهور كأنه نزل من السماء.

    القول الثاني: أن الماء إذا كان يسيراً فهو طاهر وليس بطهور، وعليه مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو رواية عن مالك، وأيضاً رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك يقولون: هذا الماء لا تتوضأ به ولا تغتسل، لكنه ليس بنجس، فلو وقع على ثوبك أو وقع على بدنك أو وقع على سجادتك التي تصلي عليها لم ينجسها.

    القول الثالث وهو أشدها: أن الماء إذا توضأ به أحد حكم بنجاسته، وهي رواية في مذهب الحنابلة وأيضاً قول القاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع.

    فعندما ثلاثة أقوال في الماء الذي توضئ به أو اغتسل به من الجنابة: منهم من يرى أنه طهور ويجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، ومنهم من يرى أنه طاهر وليس بطهور، فلا يجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، لكنه ليس بنجس، والقول الثالث -وهو أشدها-: أنه نجس.

    دليل من قال بطهوريته: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، قالوا: نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الماء لا يتأثر بشيء إلا ما غير اللون أو الطعم أو الرائحة، وهذا مجمع عليه، وهذا لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو باقٍ على الطهورية.

    الدليل الثاني: ما رواه أحمد وابن ماجة : (الماء لا يجنب) فدل على أن الاغتسال من الماء والانتفاع به في الطهارة لا يوجب زوال وصف الطهورية عنه، هذا حاصل أدلة من قال: إنه طهور.

    أما من قال: إنه طاهر فقالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم)، نهى الرجل أن يغتسل بالماء الدائم، قالوا: وما معنى هذا النهي إلا كونه يسلبه الطهورية، هذا القول الثاني.

    أما القول الثالث والأخير وهو قول الذين قالوا: إنه نجس، فاحتجوا بحديث النهي: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) قالوا: في رواية عند أبي داود : (ويغتسل فيه).

    قالو: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ويغتسل فيه) فشرك وجمع بين الغسل في الماء وبين البول فيه، فدل على أن من اغتسل في الماء كمن بال فيه فهو نجس.

    والصحيح من هذه الأقوال أنه طهور، وليس بنجس ولا طاهر، أي: لا يحكم بكونه نزل إلى مرتبة الطاهر.

    أما دليل الرجحان: أولاً: صحة ما ذكره أصحاب هذا القول.

    ثانياً: أن القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنه طهور، ونحن شككنا في سلب الطهورية فنبقى على الأصل.

    ثالثاً: استدلال أصحاب القول الثاني بأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم علته كونه يسلب الطهورية مردود، فإن العلة يحتمل أن تكون خوف تغير الماء وسلبه الطهورية، فاحتمل الوجهين، فجاءت رواية: (وليغترف منه ..) لتفيد أن العلة هي خوف إفساد الماء على الغير، ولذلك الراوي وهو أبو هريرة يقول: لعله أن ينتفع به غيره فيشرب منه ونحو ذلك، فدل على أن علة النهي عن الاغتسال في الماء الدائم ليست سلب الطهورية، وإنما هي خوف تلوث الماء وإفساده على من يأتي بعده.

    رابعاً: استدلال من يقول: نهى عن البول والغسل، فدل على أن الغسل كالبول، هو استدلال بدلالة الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة ضعيفة عند الأصوليين، ودليل ضعفهما ظاهر القرآن قالوا: لما قرن الاثنين دل على أن حكمهما واحد، فهذه الدلالة استعملها العلماء في هذه المسألة وفي مسألة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196] قال بعض العلماء: العمرة واجبة لأن الله قرنها بالحج، فدلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، كما نبه عليه صاحب المستصفى وغيره.

    وجه ضعفها -كما قال المحققون وأشار إلى ذلك الإمام النووي في المجموع- ظاهر التنزيل، فإن الله عطف الشيئين المتغايرين في الحكم، فقال سبحانه: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] كلوا من ثمره، هذا أمر للإباحة (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أي: أبحت لكم أكل ثمر الشجر، ثم قال: (وَآتُوا حَقَّهُ) أي: الزكاة وهي واجبة، فعطف غير الواجب على الواجب، فدل على أن الشرع قد يعطف على المتغايرين حكماً ومرتبةً، فلا يستقيم استدلالهم بالعطف الموجود في حديث النهي عن البول في الماء الراكد، بدليل رواية الصحيح: (ثم يغتسل فيه ..).

    وعلى هذا: فالذي يترجح أن الماء إذا توضأت به وحفظته أو اغتسلت به وحفظته جاز لغيرك أن يتوضأ ويغتسل به، لكن المصنف درج على قول من يقول: إنه طاهر وليس بطهور ولا نجس.

    حكم الماء الذي غمس القائم من النوم يده فيه

    قال رحمه الله تعالى: [أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل].

    مثلاً: عندك ماء يسير تريد أن تتوضأ منه لصلاة الفجر، فقمت لصلاة الفجر، وإذا بالماء في إناء -والإناء هو المفتوح، بخلاف الإبريق الذي يكون مغلقاً، فمحل الكلام في الإناء الذي تغترف منه كالقدر- وأردت أن تغترف منه، فالسنة الواردة في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) فتمسك بالإناء وتميله قليلاً إلى كفك، ثم إذا ملأت الكف بالماء غسلت كلتا اليدين الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فتطهر يداك، ثم بعد ذلك تغترف للمضمضة والاستنشاق، وتغسل بقية الأعضاء، لكن أن تأتي وتدخل يدك إلى الإناء مباشرة فهذا منهيٌ عنه.

    وبناءً على ذلك قال بعض العلماء من السلف وغيرهم: علة النهي أنهم كانوا في بلادٍ حارة، وكان الناس لا يعرفون عند قضاء الحاجة الغسل بالماء، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، فربما عرق الإنسان أثناء نومه فجالت يده فأصابت العرق المتنجس في الموضع، وربما أصابت العضو، أو أصابت نجاسة خارجة من العضو، فنهى الشرع عن إدخال اليد في الإناء حتى لا يفسد الماء.

    وبناءً على ذلك فعندنا مسائل في المستيقظ من النوم:

    أولاً: لا يجوز له أن يدخل يده في الإناء حتى يغسلها، والغريب أن بعض الأطباء يقول: ثبت طبياً أن أكثر حالات الرمد -هذا المرض المعروف الذي يصيب الصغار- سببها أن الأطفال يستيقظون من النوم، فيجعلون أصابعهم في أعينهم قبل غسلها.

    وهنا تظهر حكمة الشرع، فإنه إذا انتقلت النجاسة إلى الإناء والإنسان في الوضوء يرفع الماء إلى وجهه لغسله فربما كان ذلك طريقاً لأذية البدن أو حصول الضرر، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

    وقال بعض العلماء: بل أبلغ من ذلك معجزةً أن الشرع فيه أولاً أن تتمضمض ثم تستنشق ثم تغسل وجهك؛ لأن الماء إذا كان فاسداً أدركت فساده بالذوق، فإن عجز الذوق أدركته بالشم؛ مع أن العين أشد حساسية من الأنف، والأنف أشد حساسية من الفم، إلا أنه ثبت طبياً أن في الفم من أجهزة المناعة أضعاف ما في الأنف، وفي الأنف أضعاف ما في العين، فهذا من أبلغ ما يكون في حكمة الشرع في مسألة غسل اليدين للمستيقظ من النوم.

    وبناءً على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد في الإناء، على مذهب من يقول: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، يتفرع على هذا القول أن السطل الذي دون القلتين لو غمس القائم من النوم يده فيه شككنا فيه: فيحتمل أن فيه نجاسة ويحتمل أنه ليس فيه نجاسة، فقال: هو طاهر وليس بطهور؛ لأن النجاسة مشكوك فيها، فقال: نجعله طاهراً لا يتوضأ به ولا يغتسل، ولا نقول: هو نجس؛ لأننا لم نتحقق من النجاسة، ولا نقول: هو طهور، لأنه لم يبق على أصل خلقته، هذا هو وجهه.

    قوله: (من نوم ليل).

    وحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) للعلماء فيه أقوال: بعض العلماء يقول: لا يجوز إدخال اليدين في الإناء من نوم الليل والنهار، وهو مذهب الظاهرية.

    ومنهم من يقول: لا يجوز إدخالها من نوم الليل خاصة، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من المحدثين.

    ومنهم من قال: باستحباب غسلها كما هو مذهب الجمهور.

    والصحيح مذهب الظاهرية، أن النهي على العموم، والذين يقولون بتخصيص نوم الليل -كما درج عليه المصنف- يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل فقالوا: الحكم يختص بنوم الليل دون النهار.

    والصحيح أنه يشمل نوم الليل والنهار والحكم معمم، والسبب في ذلك أن قوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) خرج فيه النص مخرج الغالب، والذي خصه بالبيتوتة بنى على مفهوم الحديث، والقاعدة: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وهي مسألة أصولية، وحبذا لو يرجع إلى شرح عمدة الأحكام، فقد ذكرت فيه أقوال العلماء وأدلتهم والراجح من تلك الأقوال بدليله كما ذكرنا.

    فالمصنف رجح أن غمس اليد في الإناء قبل غسلها لا يجوز من نوم الليل دون نوم النهار، والشرط أن يكون النوم موجباً للوضوء؛ لأن النوم إذا كان يسيراً لا يوجب الوضوء؛ لأنه لا يزول به الشعور، فالشخص في هذه الحالة يدري أين باتت يده، بخلاف ما إذا زال الشعور، فيحتمل أن تجول اليد إلى مكان فيه نجاسة.

    حكم آخر غسلة أزيلت بها النجاسة

    قال رحمه الله: [أو كانت آخر غسلة زالت بها النجاسة فطاهر].

    مذهب طائفة من العلماء أن النجاسة تغسل ثلاثاً على الأقل:

    الأولى: لإذهاب عين النجاسة.

    والثانية: لإذهاب أثر النجاسة.

    والثالثة: للاستبراء واليقين.

    فغالباً الغسلة الثالثة يذهب بها عين النجاسة وأثر النجاسة، فتأتي على نقاء من موضع، فيكون الماء المنفصل من هذه الغسلة طاهراً وليس بنجس، لكن لو أن هذه الغسلة وجد فيها أثر النجاسة، فتغير لون الماء بها أو طعمه أو ريحه، فإنه يحكم بكونها نجسة، فمحل كونها طاهرة ألا تتأثر.

    1.   

    الأسئلة

    العبرة بتغير أحد أوصاف الماء حتى ولو أصابه بول أو غائط

    السؤال: إذا وقعت عذرة الآدمي المائعة أو بوله في الماء الذي يشق نزحه، فما حكمه؟

    الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فهذه المسألة سبقت الإشارة إليها في قول المصنف: (فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة)، كما ذكره رحمة الله عليه، فقلنا: استثنوا العذرة أو البول لحديث الصحيحين عن أبي هريرة : (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) فقالوا: إذا وقع هذا البول أو هذه العذرة في ماء راكد ولو كان فوق القلتين سلبه الطهورية، والصحيح أنه لا يسلبه الطهورية إلا إذا غير لوناً أو طعماً أو رائحة.

    ولذلك القول باعتبار التأثير وتغير اللون والطعم والرائحة يريح طالب العلم والمكلف؛ لأننا لو قلنا بالقلتين سيظل الإنسان يوسوس: هل بلغت خمسمائة رطل عراقي أم لم تبلغ؟ أو مائة وثمانية بالدمشقي -وهي وحدة قياس، قالوا: ذراع وربع في ذراع وربع في ذراع وربع- ويجلس على البركة ويحاول أن يعرف هل بلغت القلتين أم لا، ويصيبه من الوسوسة والتعب ما الله به عليم، والشريعة شريعة سماحة ويسر وتخفيف على العباد.

    ولذلك تجد المذهب الذي يقول باعتبار القلتين يفرع عليها مسائل دقيقة جداً ومظنية فرحمة الله عليهم، وهم العلماء الذين نتطفل على علمهم، ولكن الحمد لله الذي جعل لنا فرجاً ومخرجاً، وجعل الأمر راجعاً إلى التأثير، فاختيار المحققين مثل: شيخ الإسلام وغيره أن العبرة بالتأثير، ولذلك تنظر للماء إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء طاهر، فإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، فقل هذا متغير، وإن لم يتغير فقل: هذا باقٍ على أصله، فأصبح الأمر مرده إلى المؤثر الحقيقي، والله تعالى أعلم.

    الدليل على اعتبار تغير الماء للحكم بنجاسته

    السؤال: وهذا سائل يقول: فضيلة الشيخ ما الدليل على أن العبرة بالتغيير باللون أو الطعم أو الريح، وأنه بذلك تعرف النجاسة؟

    الجواب: عندنا دليلان: دليل شرعي ودليل حسي.

    أما الدليل الشرعي: فهو موجود، وهو أن الإجماع منعقد على أن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجس أنه نجس، وحكى هذا الإجماع غير واحد، منهم الإمام النووي في المجموع، والإمام ابن المنذر في الإشراف، وحكاه الإمام ابن قدامة في المغني، وحكاه كذلك صاحب البحر الزخار وغيرهم، فحكموا أن الماء المتغير لونا أو طعماً أو ريحاً بنجاسة يحكم بنجاسته، وهناك رواية من حديث أبي سعيد: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) وهي ضعيفة، ويقول العلماء: إنها ضعيفة السند صحيحة المتن، وهذه من أمثلة الحديث ضعيف السند صحيح المتن؛ لأن الحديث قد يكون صحيح المتن، كما لو جاء حديث في فضل الصلاة وله أصل في الصحيح، فنقول: إن المتن صحيح لوجود أصله، لكن سنده ضعيف، فنحكم بضعف سنده لا معناه، ولذلك تجد العلماء رحمهم الله كـشيخ الإسلام يقولون: وهذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح.

    وكذلك الحديث الذي معنا: (إلا ما غير لونه...)، فهذا دليل الشرع والإجماع المنعقد.

    ومن قال: إن الماء الذي خالطته نجاسة وأصبح لونه لون النجاسة، أو طعمه طعم النجاسة، أو ريحه ريح النجاسة، أنه ماء طهور، فهذا يعتبر شاذاً عن الإجماع، ومتبعاً غير سبيل المؤمنين، نسأل الله السلامة والعافية.

    إياك والشذوذ عن إجماعات العلماء رحمة الله عليهم! فإن الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في اتباع من خلف.

    أما الدليل الحسي: فإن هذا الماء الذي أنزله الله من السماء، إن بقي على أصل خلقته فهو الماء الذي شرع الله له أن يتطهر به، وإن لم يبق على أصل خلقته وتغير، فحكمه حكم ما غيره، ألا ترى أنك تقول: ماء زعفران، ماء ورد، فتعطيه حكم ما غيره، فدلالة الحس معتبرة كما أن دلالة الشرع معتبرة، بشرط ألا تصادم دلالة الحسن النقل الصحيح المعتبر.

    حكم الماء الذي تخالطه مادة الكلور

    السؤال: إذا تغير لون الماء الموجود في البركة بمادة الكلور مثلاً، فهل هذا الماء طهور؟

    الجواب: إذا وجد طعم الكلور في البركة أو رائحته أو لونه، فإنه يحكم بكون الماء طاهراً غير طهور، والله تعالى أعلم.

    اعتبار القلتين للفرق بين القليل والكثير عند الفقهاء

    السؤال: نرجو إعادة الكلام على اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير؟

    الجواب: قلنا: القلتان قدر معين من القلال التي تقل باليد، فإن بلغ الماء قلتين، بمعنى: أن هذا القدر الموجود في بركة أو في حوض أو في خزان إذا بلغ القلتين ثم وقعت فيه نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، قلنا: الإجماع على أنه طهور، ويجوز أن يتطهر به، ولا حرج على المكلف في ذلك، فإن تغير فحكمه حكم ما غيره على التفصيل الذي سبق الإشارة إليه.

    الحكمة في عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة

    السؤال: في مسألة إذا خلت المرأة بالماء، ما الحكمة في عدم جوازه في هذه الحالة فقط؟

    الجواب: على الله الأمر، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وليس هذا فقط، بل: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] أي حرج، فجاءت نكرة، والنكرة تفيد العموم في أساليب العرب: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] فنسأل الله أن يرزقنا التسليم، فالتسليم هو: الإسلام، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الإسلام هو الاستسلام لله.

    فمن استسلامك لله إذا جاءك الخبر أن تقول: سمعت وأطعت كما قال أبو هريرة لـابن عباس: (يا ابن أخي! إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال) بمجرد ما يصح الخبر ضع رأسك في التراب وقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.

    وسبحان الله ما سلم عبد لنص كتاب أو سنة إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولذلك شق على الصحابة قول الله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] وعظم عليهم هذا الأمر؛ لأن قلوبهم تعامل الله وتعبده، فخافوا مما أكنوا ومما أظهروا أن يحاسبهم الله به، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إن الله يقول كذا وكذا، -فشق عليهم الأمر- فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما زدتم على ما قالت بنو إسرائيل) يعني: كونكم تعترضون وتستثقلون هذا الحكم على أنفسكم، ما يجعلكم أنتم وبني إسرائيل إلا سواء، فقال: (قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل جبريل من السماء بالتخفيف والتسهيل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال الله: قد فعلت) كما في الصحيح.

    إذاً: إذا جاءك الحكم وقيل لك: يا فلان لا يجوز؛ لأن الله قال.. أو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.. فقل: سمعت وأطعت، ولا تزيد ولا تنقص على هذه الكلمة، وبإذن الله سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً.

    ولكن ما أن يقول العبد -والعياذ بالله-: كيف هذا..؟ لا ما يمكن! كيف يفتيك العالم الفلاني بعدم الجواز؟ هذا ما نقبله!! فيرد السنة والنقل بالعقل فهذا هو العار والشنار وخزي الدنيا والآخرة، وربما أفضى إلى النار وبئس القرار.

    لا يجوز تحكيم الأهواء والآراء في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بل بمجرد ما يأتيك الشيء استسلم لله، فإن الاستسلام مظنة الفرج، ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال الله عنه: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] استسلم لأمر الله، ما قال: يا رب! كيف أقتل ابني فلذة كبدي؟ ولكن جاء الأمر فقال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فجاء الابن الصالح: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] إذا كان الله أمر فأنا مستسلم، حتى ورد في الخبر أنه قال: يا أبت أكفأني على وجهي، حتى لا تدرك عطف الأبوة وحنان الأب فلا تأتمر بأمر الله: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] استسلم لله، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:103-105].

    إذاً التسليم هو مظنة الفرج، وأما كون الإنسان يحكم رأيه فهذا ليس بإيمان، وكون الإنسان تأتيه السنة فيحكم رأيه، ويقول: الذي يوافق العقل نعمل به، والذي يصادمه لا نعمل به، كيف هذا! ما يمكن!! كيف ما يجوز؟ لا، كيف يحل؟ كيف يجب؟ هذا كله -والعياذ بالله- عدم تسليم لله ورسوله.

    يقول بعض السلف: (لا يؤمن على الرجل إذا ترك سنة أن يهلك)، يعني: في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال أبو بكر : (والله لا يبلغني شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل) صلوات الله وسلامه عليه.

    فإذاً التسليم والمتابعة المجردة والالتزام هو الهداية وهو التوفيق والسعادة والرحمة؛ لأن الله يقول: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] اتبعوه في كل ما جاءكم.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغتسل من فضل المرأة) إذاً لا أغتسل والمرأة المؤمنة لا تقول: الإسلام يفضل الرجل على المرأة؟! بل تقول: الله هو الحكم العدل الذي هو أعلم بعباده، وأحكم في خلقه، فرغمت أنوف الكفار الذين يدعون أن الإسلام يفرق بين الرجل والمرأة، أبداً بل نحن راضون مسلِّمون، هذا هو الإيمان، وعندها تكون الرحمة والرضا ويكون التوفيق وانشراح الصدر.

    ويا لله..! هناك أقوام بمجرد ما تبلغهم السنة يطيرون بها فرحاً، والناس في السنن على أحوال ومراتب، أعظمها وأجلها -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- من تتشوق نفسه إلى معرفة السنة.

    فإذا بلغك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقل: الحمد لله الذي بلغني معرفة هذه السنة.

    الأمر الثاني: تسأل الله المعونة في امتثال أمره واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فتجد نفسك تتشوق للخير، ولا تزال تعمل بالأحاديث والسنن، حتى تكتب من أهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك القوم الذين وجوههم ناضرة في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يحشرنا وإياكم في زمرتهم.

    فالمقصود: أن الواجب علينا أن نسلم، ولا داعي للبحث عن العلل، وآراء الرجال، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وعقل ناقص لا يستطيع أن يعرف الحكم والأسرار من الله العظيم الكامل جل جلاله وتقدست أسماؤه، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756411145