إسلام ويب

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [10]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشرك في هذه الأمة باعتبار أعمال الناس وأحوالهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرك في العبادة والتأله، وشرك في الطاعة والانقياد، وشرك في الإيمان والقبول، وينطبق هذا التقسيم على مسالك أكثر الذين ضلوا في التوحيد من هذه الأمة.

    1.   

    أنواع الشرك الثلاثة باعتبار أعمال الناس وأحوالهم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فلا زلنا مع الفتاوى لـشيخ الإسلام وفي مسألة العبودية وحقيقتها وأنواعها، وسيكون درسنا لهذا اليوم مخصص في الفصل الذي خصصه شيخ الإسلام في مسألة الخشية والخوف، وله رحمه الله في هذا الفصل وقفات عظيمة جداً، وفقه ينبغي أن نستفيد منه.

    ولذلك يحسن أن نقف عند بعض المسائل الدقيقة لعنصرتها، وبيان ما بينها من ترابط؛ لأنها مجملة ومركزة كما سترون.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله:

    [فصل: ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:81-82].

    وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13])، فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العُلْويات والسفليات، وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكاً لم ينزل الله به سلطاناً، وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي.

    وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع، فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، دع جليله، وهو شرك في العبادة والتأله، وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول ].

    هذه ثلاثة أنواع من الشرك سيفصل فيها شيخ الإسلام بعد قليل ويضرب لها أمثلة، وهي في الحقيقة من أدق الفهوم التي قرأتها في مفهوم الشرك، وفي تطبيق أنواع الشرك وأقسامه على أنواع أعمال البشر القلبية والعملية، ويستفيد منها من تأملها؛ لأنها تنظم جميع أنواع الشرك التي تحدث من الناس، سواء من ذلك الشرك الأصغر والشرك الخفي، أو الشرك الأكبر؛ يدخل في هذا أنواع الشرك الأكبر والأصغر.

    وهذا التقسيم تقسيم بحسب أحوال أعمال الناس، وينطبق هذا التقسيم الذي سيأتي على مسالك أكثر الذين ضلوا في التوحيد من هذه الأمة، أو من فرق هذه الأمة التي فارقت السنة والجماعة كما سيأتي.

    النوع الأول: شرك العبادة والتأله

    قال رحمه الله تعالى: [ فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة، وبنوع من عبادته أخرى، وبهما جميعاً تارة، ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة ].

    أقسام الشرك التي أشار إليها الشيخ هي:

    الأول: شرك في العبادة والتأله.

    الثاني: شرك في الطاعة والانقياد.

    الثالث: شرك في الإيمان والقبول، ويعني بذلك الشرك في التصديق، أي: أن يصدق في دين الله عز وجل، أو فيما يتعبد به من أقوال وأفعال.

    وإما أن يصدق غير النبي صلى الله عليه وسلم فهذه مسألة خفية تحتاج إلى تأمل وتدبر؛ لأنها تقع في الناس كثيراً، ولا ينتبهون أنها من أنواع الشرك، وسيشرحها الشيخ بعد قليل.

    وأعود فأقول: ينبغي أن نتأمل هذه الأنواع الثلاثة؛ لأن الشيخ سيمثل لها ويعيدها مرة أخرى.

    والأول قد تكلم عنه وضرب له مثلاً في غالية النصارى، ثم غالية الرافضة والتصوف، والفقراء: وهم طائفة من الصوفية العباد النساك، وليس المقصود بهم فقراء المال.

    إذاً: فهم طائفة من العباد والنسَّاك الذين عندهم مبالغة في التنسك إلى حد ترك طلب العيش، والعيش على الكفاف أو على التسول.

    والعامة، أي: عوام الناس الذين يخطئون في مفهوم هذا التوحيد.

    وأما قوله: (ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة)، أي: أنه يستلزمه، فمن أشرك شرك التأله والعبادة وقع في الشرك الثاني، أي: شرك الطاعة، وهذا بالضرورة.

    النوع الثاني: شرك الطاعة والانقياد لغير الله عز وجل

    وأما النوع الثاني: فهو شرك الطاعة والانقياد لغير الله عز وجل.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك ].

    هذا هو النوع الثاني.

    قال رحمه الله تعالى: [ وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة، وقد (قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعدي بن حاتم رضي الله عنه لما قرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فقال: يا رسول الله! ما عبدوهم، فقال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم).

    فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرعه، إما ديناً وإما دنيا، وإما دنيا وديناً، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئاً في طاعته بغير سلطان من الله، وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ.. وغير ذلك ].

    يعني بذلك: أنه يخرج من الطاعة الممنوعة من أوجب الله طاعته، وهؤلاء لا تعد طاعتهم من الطاعة الممنوعة كالرسل، وطاعة الأمراء بالمعروف، وطاعة العالم أيضاً بالاهتداء والاقتداء، وطاعة الوالد بالمعروف، واتباع الشيخ بالمعروف، أي: على نهج سليم أو مع الدليل.

    فهذه الأمور مما أمر الله به، أي: طاعة هؤلاء بشروطها، إذ هي من الطاعة التي أمر الله بها.

    النوع الثالث: شرك التصديق

    وأما الشرك الثالث، أعني: شرك التصديق، فهو أخذ الخبر وتصديقه في أمر الدين أو في أمر التشريع، وفيما يتعبد به عن غير الكتاب والسنة، وهذا يفعله كثير من عوام الفرق، فيصدقون شيوخهم الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضعون في الدين أشياء من عندهم، فيصدقونهم بمجرد دعاوى لا أصل لها، وليس عندهم على ذلك برهان ودليل.

    قال رحمه الله تعالى: [ وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة، بل وبعض المتفقهة والمتصوفة، بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية، ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها، ومدح بعضها وبعض القائلين، وذم بعض بلا سلطان من الله، ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول، ولا يخاف إشراكه بالله شخصاً في الإيمان به، وقبول قوله بغير سلطان من الله.

    وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين، والشهداء الصادقين.. وغير ذلك ].

    لأن طاعة هؤلاء واتباعهم إنما هي بأمر الله عز وجل، فطاعة المرسلين بأمر الله، وطاعة العلماء الراسخين في العلم فيما عليه دليل أو برهان، وكذلك الشهداء والصادقين، أي: الذين أخلصوا الدين لله، وصدقوا في نقلهم عن الله عز وجل، فهؤلاء يصدقون.

    إذاً: فقوله: (وبهذا يخرج)، أي: يخرج من المنع الذي يوقع في الشرك، أي: شرك التصديق.

    1.   

    أقسام الطاعة والتصديق

    قال رحمه الله تعالى: [ فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع ].

    قوله: (وأما) تفصيل لغير المشروع.

    غير المشروع في باب الطاعة والتصديق

    قال رحمه الله تعالى: [ وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال، فإنه كما قال القائل: ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له. ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك ].

    هذه معان دقيقة أرجو تأملها؛ لأن كثيراً من الناس يغفل عنها في مسألة الاستعانة بالخلق، وفي مسألة مد اليد إليهم والطمع بما عندهم، إذ إنها من أعظم أسباب ضعف الورع في النفس، ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، ومن أعظم أسباب عدم الانصياع لأوامر الله عز وجل، وربما يكون هذا أيضاً من الأمور التي جرت إلى أشياء كثيرة في عبادات الناس وأعمالهم وتعاملهم مع بعضهم، لذا فأرجو تأملها جيداً؛ لأنها غالبة في أحوال الناس اليوم وخاصة فيما يتعلق بالمصالح والمنافع، وعلاقات الناس التي تبنى على ذلك.

    إذاً: ففيها معان دقيقة ذكرها الشيخ من فقهه في هذه العقيدة، فأرجو تأملها وتطبيقها على أحوال الناس؛ لعلنا نستفيد منها.

    قال رحمه الله تعالى: [ فالمؤمن يريد ألا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله، ولمن أطاع الله ورسوله، وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه، فإذا قصد دفع هذا السلطان ].

    أي: إذا قصد بالاستغناء عن مالهم دفع هذا السلطان كان حسناً، والعبارة تحتاج إلى تفصيل، وكأن هذا استثناء منه.

    المقاصد الحسنة والفاسدة في ترك قبول أموال الناس

    قال رحمه الله تعالى: [ فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسناً محموداً يصح له دينه بذلك، وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموماً، وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم ويترك أموالهم لهم.

    فهذه أربع مقاصد صالحة: غنى نفسه، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم ].

    ذكر الشيخ رحمه الله أربعة مقاصد صالحة، أي: في عدم الانتفاع من الناس:

    أولاً: غنى نفسه.

    ثانياً: عزتها؛ حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم.

    ثالثاً: سلامة مالهم.

    رابعاً: سلامة دينهم.

    قال رحمه الله تعالى: [ وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم، فلا يذهبها عنهم، ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه، ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم، ومنفعة لهم أن يبقي لهم مالهم ودينهم، وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه، ويتألفون بالعطاء لهم، فكذلك في إبقاء أموالهم لهم، وقد يكون في ذلك أيضاً حفظ دينهم، فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضاً في أنواع من المعاصي، ويتركون أنواعاً من الطاعات، فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة.

    وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة، فتلك مفاسد أخر، وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم، فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلاً أو فقيراً إليهم، ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره، فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة، فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع، لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم.

    وللرد وجوه مكروهة مذمومة، منها: الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم ].

    كما ذكر الشيخ هناك أربعة مقاصد حسنة، سيذكر هنا الوجوه المذمومة، أو أربعة مقاصد فاسدة.

    قال رحمه الله تعالى: [ ومنها: التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك، فهذا مذموم أيضاً.

    ومنها: البخل عليهم، فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم، فقد يترك الأخذ بخلاً عليهم بالمنافع.

    ومنها: الكسل عن الإحسان إليهم، فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل ].

    هنا قد حدد الأربعة المقاصد الفاسدة في الرد للعطاء، لكن قد تكون غير متميزة.

    حال السلف في ترك قبول المال من الآخرين وقبول أخذه

    قال رحمه الله تعالى: [ فالحاصل: أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنها، أو لجلب المنفعة للناس، أو دفع المضرة عنهم، فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها، وهو منفعة لها، وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد، وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم، ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلاً قد يضرهم، وقد يتركه لمضرة الناس، أو لترك منفعتهم، فهذا مذموم كما تقدم، وقد يكون في الترك أيضاً مضرة نفسه أو ترك منفعتها، إما بأن يكون محتاجاً إليه فيضره تركه، أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا، فيتركها من غير معارض مقاوم، فلهذا فصلنا هذه المسألة، فإنها مسألة عظيمة، وبإزائها مسألة القبول أيضاً، وفيها التفصيل، لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول، ولهذا يعظِّم الناس هذا الجنس أكثر، وإذا صح الأخذ كان أفضل، أعني: الأخذ والصرف إلى الناس ].

    كما كان يفعل الإمام أحمد رحمه الله، إذ كان من دأبه رد هدايا الأمراء والسلاطين، لكنه مرة أخذها ووزعها على الناس، أو أكثر من مرة فيما أذكر، وعلل ذلك في بعض المواقف التي أخذ فيها المال أنه خشية سوء الظن من السلطان به، أو أن يبني على ذلك أحكاماً تضر بأهل العلم، فأخذ المال ووزعه والناس يرون ويشاهدون.

    فهذه صورة من الصور، وهذا من فقه السلف، فقد كانوا يتورعون عن أخذ الهدايا والعطايا، لكنه ليس ذلك دائماً، بل إذا رأوا أن في رد الهدية مضرة، أو رأوا أن في أخذ الهدية مصلحة لأناس آخرين، كأن يكون هناك فقراء محتاجون، وفي أخذ الهدية لإعطائها إياهم مصلحة؛ فإن هذا أمر معتبر.

    وبالمناسبة أحب أن أطبق بعض ما ذكره الشيخ على حالنا اليوم، وذلك فيما يتعلق بمسألة المنافع المتبادلة بين الناس، إذ أصبحت العلاقة بين الناس الآن في الغالب مبنية على تبادل المنافع، فتجد أكثر الناس يحرص على أن يعطي ليأخذ، أو أن ينفع ليكسب، أو أن يساعد احتياطاً لحاجته في المستقبل، أو أن يسعى لتحسين علاقاته بالآخرين؛ لأنه يرى أن هذا سينفعه عند الحاجة في الحال أو المآل، وهذه كلها مقاصد أحياناً تضعف الإيمان في القلب، وتقسي القلوب، وتضعف المعاني القلبية التي ذكرها الشيخ، بل إن هذه مقاصد شر، والطامة أنها أصبحت من الأعراف والعادات، بل وغفل عنها كثير من طلاب العلم والوعاظ، مما أدى إلى ضياع بعض المعاني الشرعية، أو فقدناها إلا نادراً.

    ومن ذلك فقدان الزيارة في الله عز وجل، فالآن أكثر الناس إذا زاره أحد من إخوانه أو أصدقائه أو جيرانه، أو ممن يعرفه أو لا يعرفه، فإن أول ما يرِدُ في ذهنه أن له حاجة؛ لأن الزيارة في الله قد انعدمت، وما كان ينبغي أن يكون ذلك، بل ينبغي لطلاب العلم الذين يعرفون هذه المعاني أن يكونوا قدوة للناس في هذا الأمر، وأن يكثروا من الزيارات في الله عز وجل، فإن الزيارة في الله كادت أن تفقد، مع أنها في السابق كان لها معنى عظيم، وكانت تمارس بشكل ظاهر بين الناس يعرفها الصغير والكبير، والجاهل والعالم.

    والأعجب أننا اليوم إذا تحدثنا عن مسألة الزيارة في الله فكأنها مسألة تاريخية تُذكر للصالحين سابقاً، وهذا هو الواقع.

    أيضاً من الظواهر السيئة الموجودة عندنا بسبب ذلك: قلة المجالسة على مبدأ الجلساء الصالحين، فتجد المجالسة والمخالطة بيننا أحياناً، أو اختيار الأصدقاء والجلساء للشخص قد لا تكون مبنية على اختيار الجلساء الصالحين بالمعنى الدقيق، وإنما مبنية على الحاجة، والتحسب للطوارئ.. ونحو ذلك، وهذه مسألة تضعف الأعمال القلبية.

    ومن ذلك أيضاً: ضعف الحسبة في تبادل المنافع بين الناس، فتجد أكثر ما يعمله الناس حتى من أعمال الخير أحياناً لا يكون فيه شيء من الحسبة، أو الأمر مختلط فيه بين المقاصد وبين الاحتساب، حتى إن أكثر الناس الآن يفسرون أعمال البر بأن المقصود بها تحسين العلاقة بين الطرفين، وهذه مسألة يجب أن يتنبه لها، ثم إن هذا يؤدي إلى ضعف المقاصد الشرعية في قلوب الناس، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض، وفي تبادل المنافع بينهم.

    فضعف الحب في الله، وضعفت معاني الألفة والاجتماع والجماعة؛ لأن الناس قد تنافرت قلوبهم بسبب أن أكثرهم يظن أن ما يأتيه من إخوانه من منافع -حتى في أعمال الحسبة وغيرها- غالباً تكون لمقاصد دنيوية.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755990186