إسلام ويب

كتاب التوحيد [6]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • توحيد الربوبية والأسماء والصفات ركنان عظيمان من أركان التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى من العبد إيماناً ولا عملاً دون تحقيقه، وهناك قوادح توصل صاحبها إلى الشرك في الربوبية، ومنها: إنكار القدر أو إنكار مرتبة من مراتبه، وإنكار النعمة ونسبتها إلى غير الله تعالى، والأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله، والتألي على الله، وسوء الظن به، وجحد شيء من الأسماء والصفات قادح في توحيد الأسماء والصفات.

    1.   

    الشرك في توحيد الربوبية وصوره

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد.

    فهذا الدرس في موضوع: الشرك في توحيد الربوبية والأسماء والصفات.

    وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله عز وجل في الخلق والرزق والتدبير، وهذا هو أدق تعريف لتوحيد الربوبية، وقد عرّفه بعض العلماء بأنه توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك.

    لكن التعريف بأنه هو توحيد الله بالخلق والرزق والتدبير أدق؛ لأن تعريفه بأنه: توحيد الله بأفعاله يرد عليه أن أفعاله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: أفعال لازمة، وهذه لا تدخل في توحيد الربوبية، كالنزول، والضحك، والغضب، ونحو ذلك، وأفعال متعدية، وهذه تدخل في توحيد الربوبية، وعليه فإن تعريف التوحيد بأنه توحيد الله بأفعاله فيه إجمال، والتعريف الأول أدق.

    1.   

    الإيمان بالقدر وعلاقته بتوحيد الربوبية

    تحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في موضوع الشرك في توحيد الربوبية في كتاب التوحيد في موضوعات متعددة، ومنها القدر، فالقدر داخل في توحيد الربوبية، وجهة دخوله في توحيد الربوبية هي أن القدر من أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته، وقد بحث الشيخ موضوع القدر في بابين:

    الباب الأول: (باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله)، والباب الثاني عن منكري القدر.

    والقدر له أربع مراتب:

    المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله سبحانه وتعالى الشامل لكل شيء، للماضي والمستقبل.

    والمرتبة الثانية: كتابة الله سبحانه وتعالى للمقادير، ويشمل ذلك كل شيء، فإنه كتب سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.

    والمرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة العامة، فلا يمكن أن يحصل في كون الله سبحانه وتعالى وفي خلقه إلا ما شاءه وأراده سبحانه وتعالى.

    والمرتبة الرابعة: خلقه سبحانه وتعالى لأفعال العباد، فكل أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى.

    وهذه المراتب الأربع هي قواعد القدر الأساسية، فمن آمن بها جميعاً فقد آمن بالقدر، ومن لم يؤمن بها جميعاً فهو غير مؤمن بالقدر، وسيأتي الكلام على حكم منكر القدر.

    فنبدأ أولاً بالباب الرابع والثلاثين، وهذا الباب هو الذي تحدث فيه عن الصبر على أقدار الله المؤلمة.

    من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله.

    وقول الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]

    قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت).

    ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، أوشق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية).

    وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة).

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط). حسنه الترمذي .]

    هذا الباب يتعلق بموضوع الصبر على أقدار الله سبحانه وتعالى، والصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة.

    وعكس الصبر على أقدار الله: السخط من أقدار الله، فالصبر على أقدار الله من الإيمان، والسخط يدخل في الكفر، وسيأتي الحديث عن أنواع السخط، وما يترتب عليها من الأحكام.

    فأما الصبر على أقدار الله عز وجل فلا شك في أنه من الإيمان، والصبر عموماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصف الإيمان يقول الله عز وجل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، والمقصود بالإيمان هنا: الإيمان بالقدر، ولهذا فسّرها علقمة بذلك كما سيأتي، فقوله تعالى: يَهْدِ قَلْبَهُ يعني: يجعل قلبه مهتدياً مطمئناً؛ لأن الإنسان إذا صبر على قدر الله عز وجل المؤلم فإنه يطمئن قلبه بذلك.

    وعلقمة هو ابن وقّاص ، وهو من علماء الكوفة، ومن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، قيل: إنه صحابي، وقيل: إنه تابعي، والصحيح أنه تابعي.

    يقول رحمه الله تعالى: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

    فالإنسان إذا أصابته المصيبة فإنه يجب عليه الصبر، ويستحب له الرضا، والفرق بين الرضا والصبر.

    أن الصبر يكون مع وجود الألم والتعب والمشقة النفسية.

    وأما الرضا فإنه درجة عالية في الإيمان تجعل الإنسان راضياً بما قدره الله عز وجل وقضاه من هذه المصيبة التي جاءته، ويمكن أن يسمى الرضا عن الله سبحانه وتعالى في أقداره.

    وأما الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) فإن كلمة (كفر) هنا جاءت نكرة، وقد سبق أن بيّنا أنه إذا وصف العمل أو القول بأنه كفر وكان اللفظ معرفاً بـ(أل) فإنما يقصد به الكفر والشرك الأكبر، وأما إذا كان نكرة فإنه يقصد به الكفر الأصغر والشرك الأصغر.

    فالأولى: (الطعن في النسب)، والمقصود بالطعن في النسب عيب الأنساب، كأن يعيّر قبيلة كذا بكذا، أو يعيّر هذا الشخص بوالده أو بوالدته أو بجد له، فهذا كله طعن في نسبه.

    الثانية: (والنياحة على الميت) والنياحة على الميت نوع من أنواع السخط، والنياحة على الميت تكون بالقول، وسميت نياحة أخذاً من نوح القمري، وهو صوت للحمامة عندما تغرد، وذلك أن الشخص إذا مات له ميت فبدأ بالبكاء والصياح واستمر فإنه يُخرِج صوتاً كهذا.

    السخط على الأقدار وخطره على التوحيد

    والسخط على قدر الله عز وجل يكون على ثلاثة أنواع: السخط بالقلب واللسان والجوارح.

    فأما السخط بالقلب فهو بغض قدر الله عز وجل، أو بغض الله سبحانه وتعالى بسبب هذا القدر الذي حصل، وهذا كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لأنه مناقض للمحبة، وقد سبق أن بيّنا أن من شروط (لا إله إلا الله) محبة الله سبحانه وتعالى، وأن من زالت عنه محبة الله فأبغض الله عز وجل فهو كافرٌ ولا شك في ذلك.

    وأما النوع الثاني من السخط على القدر فهو السخط باللسان والكلام، كالصياح مثلاً، أو ذكر محاسن الميت، ونحو ذلك، وهذا يعتبر من الكفر والشرك الأصغر، ووجه اعتبارنا له من الشرك أو الكفر الأصغر هو وصف النبي صلى الله عليه وسلم له بالكفر، فإنه قال: (هما بهم كفر) فالنبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالكفر، وبناء على هذا فإنه يكون من الكفر الأصغر.

    وأما السخط بالجوارح فمثل شق الجيوب، ولطم الخدود، فهذا تسخط بالفعل، وهو -أيضاً- يدخل في الكفر؛ لكونه تسخُط على قدر الله عز وجل، إلا أنه ليس من الكفر الأكبر، بل من الكفر الأصغر.

    قوله: (ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)).

    قوله: (ليس منا) من ألفاظ الوعيد، فيحتمل أن يكون كفراً أكبر، ويحتمل أن يكون كفراً أصغر، والمقصود به هنا الكفر الأصغر لا الكفر الأكبر، وهذا يدل على أن عكس السخط -وهو الصبر على أقدار الله- واجب؛ لأن عكسه -وهو السخط- محرم، ولهذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اعتبره من الكبائر فقال: (ليس منا من ضرب الخدود) وهو واضح، (وشق الجيوب) وهو شق جيب القميص، وهو مدخل الرأس في القميص.

    قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) يحتمل أن يكون المقصود به ما كان عند الجاهلية من دعاوى في ذكر محاسن الموتى، وقد كانوا يستأجرون نوائح للبكاء على الميت، ويندبونه ويذكرون محاسنه.

    وأما حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له بالعقوبة في الدنيا) وهذا دليل على أن العقوبة إذا حصلت للإنسان في الدنيا وصبر واحتسب فإنها خير له؛ لأنها تكفير لذنوبه وخطاياه.

    قال: (وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)، وهذا من الاستدراج والعياذ بالله.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء)، فمن ابتلي ببلية فلا يعني ذلك بالضرورة أن تكون عقوبة على معصية، وإنما قد تكون رفعة له في الدرجات، وقد تكون تكفيراً لذنوبه، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عظم الجزاء مع عظم البلاء) معناه أنه إذا كان البلاء عظيماً فصبر فإن الجزاء يكون عظيماً، وليس مجرد وجود البلاء العظيم كاف في عظم الجزاء؛ لأنه قد يبتلى ببلاء عظيم ثم يسخط ولا يصبر.

    ما جاء في إنكار القدر وخطره على التوحيد

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في منكري القدر.

    وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم .

    وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).

    وفي رواية لـأحمد : (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).

    وفي رواية لـابن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار).

    وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبي بن كعب ، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار، قال: فأتيت عبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه.]

    الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وقد جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى) كما جاء في بعض الروايات.

    حكم منكري القدر

    فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ولا يستقيم إيمان العبد إلا إذا آمن به، فالمنكر للقدر بكل المراتب الأربع كافر كفراً أكبر عند العلماء، وهو ليس من المسلمين، ولهذا فإن ابن عمر عندما جاءه اثنان من أهل البصرة فقالا له: إنه ظهر عندنا أقوام يتقفرون العلم -أي: ينتسبون إلى العلم- يقولون: لا قدر والأمر أنُفْ -أي: أن الأمر الذي يقوم به الإنسان جديد، وليس فيه قدر مكتوب سابقاً فقال لهم ابن عمر رضي الله عنه: لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنه كان يرى كفر من أنكر القدر؛ لأن ابن عمر في هذا الحديث بيّن أن صدقة الإنسان لو كانت عظيمة لا يقبلها الله عز وجل منه إلا إذا كان مؤمناً بالقدر، والله عز وجل يقبل الصدقة من أصحاب المعاصي، بل ومن أصحاب الكبائر، ولا يقبل الصدقة وغيرها من العبادات من الكفار، ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ، وهو رجل كريم غني من أهل مكة من الكفار، كان يضع السفرة الكبيرة فيجتمع عليها الفقراء والمساكين، وكان يطعم الطعام، ويقسم الكساء على الناس، فقالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).

    وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن الكفار لا يقبل منهم أي عمل بقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] فأعمالهم مثل الرماد الذي يوضع على رأس جبل في يوم شديد الهواء فلا يبقى منه شيء، ولهذا يقول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] فالشرك يحبط العمل، فلا تقبل معه الصدقات، وهذا يدل على أن من أنكر القدر كله فليس من المسلمين، ولا من المؤمنين، ولا من الموحدين، أما من أنكر بعض مراتب القدر فهو بحسب المرتبة التي أنكرها، وبحسب نوع الإنكار، فمن أنكر علم الله سبحانه وتعالى فهو كافر بإجماع السلف، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا.

    فمن أنكر صفة العلم لله عز وجل فهو كافر، أما من أنكر شيئاً من المراتب الثلاث الباقية فإنكاره إما أن يكون إنكار تكذيب، وإما أن يكون إنكار تأويل.

    فأما إنكار التكذيب فهو أن ينكر تكذيباً لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، فمن أنكرها وهو مكذِّب فليس بمسلم إجماعاً؛ لأن المسلم لا يمكن أن يكذب بخبر الله عز وجل.

    وأما من أنكرها وهو متأول فإن الحكم على المتأول ينقسم إلى قسمين: فإن كانت له شبهة في التأويل قريبة من حيث اللغة العربية فلا يكفّر، بل هو من أهل البدع؛ وأما إذا لم تكن له شبهة من حيث اللغة العربية فإنه يكفّر.

    مثال الأول: من أوّل بعض صفات الله عز وجل، كتأويل الأشعرية لليد بأنها القدرة، فهذا ليس بكفر، بل هو بدعة؛ لأن اليد تستخدم في لغة العرب بمعنى القدرة، فيقال: فلان له يد قوية، أي: له قدرة قوية يستطيع أن يعمل، وقد تفسر بمعنى النعمة، فيقال: فلان له يد عليك، وليس المقصود اليد الحقيقية، فمثل هذا لا يكفّر صاحبه، لكن يعتبر من أهل البدع؛ لأنه حرّف معاني كلام الله عز وجل، فالله عز وجل نسب لنفسه هذه الصفات، فلا يجوز لنا أن نغير معانيها، فإذا احتج بعض الناس بأن هذا يستلزم تشبيه الله بخلقه نقول: نحن نثبت هذه الصفات وننفي عنها المشابهة، أما أن نغير المعاني فهذا لا يصح ولا يجوز، بل هو من البدع.

    ومثال المتأوِّل الكافر: الباطنية الذين قالوا في قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فقالوا المقصود بالبقرة هنا: عائشة ، فليس هناك ارتباط بين مسمى البقرة وبين اسم عائشة ، وليس هناك ارتباط بين حقيقة البقرة وبين عائشة ، وليس هناك استخدام في لغة العرب من قريب ولا من بعيد لكلمة البقرة يراد بها عائشة ، ولم يستخدم أحد من الشعراء ولا من الأدباء ولا من العرب السابقين كلمة (بقرة) يريد بها عائشة رضي الله عنها، فهذا لا شك في أنه كفر مخرج عن الإسلام.

    إذاً: الحق في مسألة التأوُّل أنَّه ليس كل متأوِّل يعذر، وليس كل متأوِّل يكفّر، بل لا بد من التفصيل فيها على النحو السابق الذي بيّنا، فإذا كان المنكر لبقية المراتب الثلاث عنده شبهة فإنه لا يكفّر، ولهذا فإن أهل العلم لهم قاعدة في تكفير أهل البدع، حيث يقسمون البدع إلى قسمين: بدع مكفّرة، وبدع غير مكفّرة، فأصحاب البدع غير المكفّرة لا يكفّرونهم، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: إن الأشعرية بإجماع العلماء ليسوا كفاراً؛ لأنهم أرادوا الدفاع عن الحق والسنة، وأرادوا الدفاع عن الإسلام، ولكنهم أخطئوا ذلك ووقعوا في البدع، ومع ذلك فهم من أهل البدع وليسوا من أهل السنة.

    فرق القدرية

    يدخل في منكر القدر القدرية الذين أنكروا القدر بالجملة، والذين أنكروا القدر وقالوا: إن الله يعلم ما يفعل العبد، ولكنه لم يكتب شيئاً ولم يشأ من العباد شيئاً، ولم يخلق أفعالهم، بل العباد يخلقون أفعال أنفسهم، وهؤلاء يسمون القدرية، وهم المعتزلة.

    والنوع الثاني: الجبرية، وهم الذين أثبتوا القدر، ولكن أنكروا معناه الحقيقي الشرعي.

    فالقدرية والجبرية مع أن كل واحد منهما على النقيض من الآخر إلا أن كلاً منهما يعتبر منكراً للقدر؛ لأن معنى إنكار القدر هنا هو إنكار القدر المشروع الذي بيّنه الله عز وجل وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقدرية أنكروا، والجبرية أثبتوا، إلا أن الإثبات ليس إثباتاً شرعياً، فهو يتضمن إنكار القدر بالمعنى الشرعي.

    والجبرية قالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي والذنوب، وإنهم معذورون لذلك.

    وأما القدرية فقالوا: إن الله عز وجل لم يكتب مقادير العباد، ولم يخلق أفعالهم، بل العبد يخلق فعل نفسه، فنسبوا الخلق إلى العبد، ولهذا سماهم السلف مشبهة الأفعال مأوِّلة الصفات، فهم معطِّلة ومشبِّهة في ذات الوقت، معطِّلة بالنسبة لبقية الصفات، ومشبِّهة بالنسبة لأفعال الله سبحانه وتعالى، حيث شبّهوا العباد بالله في كونهم يخلقون ويقومون بهذه الأعمال بدون أن تكون هناك قدرة وإرادة من الله عز وجل عليهم.

    والإيمان الصحيح بالقدر يكون بالإيمان بالمراتب الأربع التي سبق أن أشرنا إليها، ويكون بما ورد في حديث عبادة بن الصامت ، وبما ورد في الحديث الأخير -وهو حديث ابن الديلمي -: أن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله بتقدير الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    إنكار النعمة وخطره على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83].

    قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.

    وقال عون بن عبد الله : يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.

    وقال ابن قتيبة : يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا.

    وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: إن الله تعالى قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..) الحديث وقد تقدم: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.

    قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً.. ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.].

    هذا الباب يتعلق بموضوع إنكار النعمة، وموضوع إنكار النعمة يتعلق بالربوبية؛ لأن النعمة من خلق الله سبحانه وتعالى، فيجب أن نثبتها لله سبحانه وتعالى، فمن نسب النعمة لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك بحسب حاله في نسبة النعمة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

    يقول الله عز وجل: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ يعني: يعرفون أن هذه النعمة من الله سبحانه وتعالى، ثم قال: ثُمَّ يُنكِرُونَهَا يعني: ينسبونها إلى غير المنعم.

    قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.

    وظاهر العبارة أنه لا شيء فيها، فقوله: (هذا مالي) يقال فيه: نعم هو ماله، (ورثته عن آبائي) يقال: قد يكون ورثه عن آبائه، ولكن بحسب ما قام بقلبه، فإن ذكره على سبيل الحكاية فهذا لا شيء فيه، وإن ذكره على سبيل أن هذا جاءه بسبب الإرث، فنسب هذه النعمة إلى السبب، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الإرث سبب حقيقي كوني وقدري، وهو في نفس الوقت شرعي، لكن الشرك وقع فيه من جهة نسبة هذه النعمة إلى أهله أو إلى وراثته.

    أقسام نسبة النعمة إلى غير الله

    يمكن أن نقسِّم نسبة النعمة إلى غير الله عز وجل إلى أقسام:

    القسم الأول: أن ينسبها إلى سبب حقيقي.

    القسم الثاني: أن ينسبها إلى من يعتقد فيه التأثير.

    القسم الثالث: أن ينسبها إلى سبب وهمي وليس حقيقياً.

    فأما القسم الأول -وهو الذي نسبتها إلى سبب حقيقي- فهو نوعان:

    النوع الأول: أن ينسبها إلى سبب حقيقي على سبيل الحكاية، فهذا لا شيء فيه، وهو جائز.

    والنوع الثاني: أن ينسبها إلى غير الله عز وجل وهي سبب حقيقي، لكن على سبيل تعظيم السبب، وضعف إيمانه بأن هذه النعمة من جهة الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع شرك أصغر، ولا يعتبر من الشرك الأكبر؛ لعدم وجود عبادة معينة ومحددة صرفها لغير الله، وقد سبق أن بيّنا أن الضابط في الشرك الأكبر هو صرف العبادة لغير الله، واعتبرنا ذلك من الشرك الأصغر لأنها من الوسائل التي توصل إلى الكفر الأكبر، مثل إنكار النعمة عن الله بالكلية.

    وأما القسم الثاني: فهو نسبة النعمة إلى معظّم يعتقد فيه التأثير، فهذا من الشرك الأكبر، ومثاله: أن ينسب نعمة إلى ولي من الأولياء ميت، أو إلى نبي من الأنبياء ميت، أو ينسبها إلى النجوم مع اعتقاده أن النجوم مؤثرة، كما كان حال الصابئة، وكما هو حال كثير من المشركين الذين يعتقدون أن للنجوم تأثيراً في الحوادث الأرضية، فهذا شرك أكبر.

    وأما القسم الثالث: فهو أن ينسبها إلى سبب وهمي ليس حقيقياً، فهذا شرك أصغر، مثل التمائم التي سبق أن أشرنا إليها.

    أما إنكار النعمة عن الله سبحانه وتعالى فينقسم إلى أقسام:

    القسم الأول: أن ينكرها عن الله عز وجل تكذيباً، فهذا من الشرك الأكبر.

    القسم الثاني: أن ينكرها عن الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنه لم يفعلها مطلقاً، فينسب كل الأنعام إلى غير الله عز وجل، وهذا كفر أيضاً.

    القسم الثالث: ألا ينكر النعمة صراحة، وإنما ينكرها بالتضمن، بأن ينسبها إلى غير الله تعالى، فتدخل فيها الأحكام التي سبق أن أشرنا إليها في أنواع نسبة النعمة لغير الله عز وجل.

    ولهذا نلحظ أن تفسير السلف رضوان الله عليهم للآية السابقة جاء بأكثر من معنى، فقد جاء بالكفر الأكبر، وجاء بالكفر الأصغر.

    فقوله تعالى: (( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا )) جاء في قول مجاهد : هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.

    وهذا نوع من أنواع نسبة النعمة لغير الله عز وجل، من جهة أنه نسبها إلى سبب حقيقي ليس على سبيل الحكاية المجردة.

    وقال عون بن عبد الله : يقولون: لو لا فلان لم يكن هذا.

    وهذا من النوع الذي ينسب النعمة إلى سبب وهمي ليس حقيقياً.

    وقال ابن قتيبة : يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا.

    وهذا نسبة النعمة إلى الآلهة ممن يعتقدون فيها التأثير، وهذا هو الكفر الأكبر، وجميع هذه الثلاثة سبق أن تحدثنا عنها.

    وقال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثيرة.

    نسبة النعمة إلى النفس من دون الله عز وجل وقدحه في التوحيد

    قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في قول الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50]

    قال مجاهد : هذا بعملي، وأنا محقوق به.

    وقال ابن عباس : يريد من عندي.

    وقوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

    قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب.

    وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف].

    هذا الباب فيه نسبة النعمة إلى النفس، فبدلاً من أن يثني المرء على الله عز وجل بأن هداه وأعطاه، وأنه سبحانه وتعالى أكرمه وفضّله بهذه النعمة التي عنده ينسبها إلى نفسه كما فعل قارون عندما نسب إلى نفسه الأموال والخزائن الكثيرة التي كانت العصبة من الرجال تتعب وتنوء بحمل مفاتيحها، فضلاً عن المال الذي هو داخل هذه الخزائن.

    فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] يعني: بحذقي، وفهمي، وقدراتي، وإمكاناتي، وحسن تدبيري، وهكذا.

    يقول الله عز وجل: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50] يعني: إذا أصابه ضر -كالفقر أو المرض، أو أي نوع من أنواع البلاء- ثم مسّه الله عز وجل برحمة منه نسبها إلى نفسه، فقال: هذا بجهدي، وهذا بقدرتي، أو نسبها إلى غير الله، كقوله: هذا من فعل الطبيب الحاذق الذي استطاع أن يستأصل الورم مثلاً، أو أن يعطيني علاجاً قوياً مؤثراً، أو نحو ذلك، فهذا كله من الشرك.

    قال مجاهد : [هذا بعملي] يعني ما عنده من الرزق وما عنده من الخير.

    [وأنا محقوق به] يعني: أنا مستحق له.

    وقال ابن عباس : [يريد: من عندي]، يعني: نسبه إلى نفسه.

    وقوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] هذه قصة قارون ، قال قتادة : [على علم مني بوجوه المكاسب]، يعني: أنا رجل صاحب مواهب وقدرات، وهذا الرزق الذي بين يدي بقدراتي وإمكاناتي وحسن تخطيطي وتدبيري، فنسب النعمة إلى نفسه ولم ينسبها إلى الله عز وجل.

    وقال آخرون: [على علم من الله أني أهل له]، وهذا تفسير ثان، يعني: أن الله أعطاني ذلك لمكانتي عنده، وهذا من الغرور الذي يحصل لبعض الناس إذا أوتي خيراً.

    وهذا معنى قول مجاهد : [أوتيته على شرف]، ثم ساق حديثاً طويلاً في قصة الأبرص والأقرع والأعمى، وأن الله عز وجل أرسل إليهم ملكاً، وأن بعضهم أنكر نعمة الله سبحانه وتعالى، وبين كيف كانت عقوبة الأقرع والأبرص وكيف كانت مثوبة الأعمى.

    وهذه كلها بابها واحد، وهو ما سبق أن بيّناه من موضوع نسبة النعمة إلى غير الله سبحانه وتعالى على التفصيل السابق.

    1.   

    الأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله وخطره على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وقوله: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله).

    وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. رواه عبد الرزاق .]

    هذا الباب يتعلق بخصلتين سيئتين تتعلقان بالشرك في توحيد الربوبية:

    الأولى: هي الأمن من مكر الله عز وجل، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى يقتضي ترك ركن من أركان الإيمان، وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى.

    والثانية: اليأس من روح الله عز وجل، واليأس من روح الله سبحانه وتعالى يقتضي ترك ركن من أركان الإيمان، وهو الرجاء.

    ولهذا ذكر أهل العلم أن هناك ثلاثة أعمال من أعمال القلوب تعتبر أصول الإيمان، وهي: الخوف، والرجاء، والمحبة، وعندما تكلم أهل العلم عن الخوف والرجاء قالوا: إنهما كالجناحين للطائر. والتشبيه يقتضي أمرين:

    الأمر الأول: أنه لا بد من وجود الاثنين.

    والأمر الثاني: أنه لا بد من الاعتدال فيما بين هذين الاثنين، فإن الطائر لا يمكن أن يطير بجناح واحد، وكذلك لا يمكن أن يطير وأحد جناحيه أقل من الآخر، بل لا بد من أن يكونا مستويين.

    ولهذا روى أبو نعيم في الحلية عن مكحول أنه قال: (من عبَد الله بالحب وحده فهو زنديق)، ومن عبَد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبَد الله بالخوف وحده فهو حروري، يعني: من أهل حروراء من الخوارج.

    أما الأمن من مكر الله فمعناه: أن الإنسان يأمن من عقوبة الله سبحانه وتعالى، ومكر الله المقصود به نوع من أنواع العقوبة، وهو الإيقاع بمن أراد أن يعاقبه من حيث لا يشعر، فهذا هو مكر الله سبحانه وتعالى، والمكر ليس بصفة نقص، بل هو صفة نقص إذا ابتدأه الإنسان بدون سبب، أما إذا كان المكر عقوبة لمن يستحق ذلك فهذا وصف محمود يدل على القوة والقدرة، ولهذا لا يصح أن يوصف الله عز وجل بالمكر مطلقاً، ولا أن يؤخذ من هذا الوصف اسم فيقال: الله الماكر مثلاً، وينسب إليه فيقال: عبد الماكر مثلاً، وإنما يؤتى بهذا الوصف منسوباً إلى الله عز وجل عند وجود مقتضاه، كقوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30].

    فإن العقوبة قد تأتي بشكل واضح يشعر به الإنسان، وقد تأتي بشكل لا يشعر به، فتسمى مكراً.

    أقسام الأمن من مكر الله

    الأمن من مكر الله ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: هو الأمن المطلق من مكر الله عز وجل، بحيث يزول الخوف من الله عز وجل من قلب العبد كلية، وهذا النوع من الكفر الأكبر المخرج عن الملة.

    والنوع الثاني: الأمن من مكر الله نسبياً وجزئياً لا مطلقاً، فيوجد في الإنسان خصلة من خصال الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى هي التي تجرئه على المعاصي والذنوب، وتجعله يقترف كثيراً من الذنوب والمعاصي دون شعور بالخوف، ولكن لا يعني هذا انتفاء أصل الخوف، بل أصل الخوف من الله موجود، فإذا خوّف خاف، وإذا تذكر خاف، وهذا الأصل في وجود الخوف في قلب الإنسان هو أصل الإيمان، فإذا انتفى بالكلية وخرج جذر الخوف من قلب الإنسان من الله عز وجل خرج من الإيمان، يقول الله عز وجل: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ وهذا إنكار عليهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] وهذا وصف لأهل الكفر.

    اليأس من رحمة الله

    وأما الخصلة الثانية فهي القنوط من رحمة الله عز وجل، ومعنى القنوط من رحمة الله: اليأس من رحمة الله، والشعور بأنه لا يمكن لرحمة الله أن تناله مطلقاً، والقنوط من رحمة الله عز وجل طعن في قدرة الله عز وجل ورحمته، فالقنوط المطلق كفر مخرج عن الإسلام، والقنوط المطلق: هو الذي لا يكون معه رجاء مطلقاً، بحيث لا يوجد عنده أصل الرجاء، فهذا كفر مخرج عن الملة.

    والنوع الثاني من القنوط: هو القنوط الذي يجعل الإنسان يخاف من عدم المغفرة إلى درجة سوء الظن بالله عز وجل، ولكن يبقى عنده أصل الرجاء، فهذا ليس بكفر أكبر، بل هو من الكفر الأصغر والشرك الأصغر.

    والدليل على أن اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر هو قول الله عز وجل في قصة يوسف عليه السلام: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] وروح الله: رحمة الله سبحانه وتعالى، واليأس: هو القنوط، يقول الله عز وجل: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، فلا بد من وجود أصل الرجاء عند العبد، ولهذا جاء في حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله) واليأس معناه: القنوط، والقنوط معناه: اليأس، وروح الله: رحمة الله، ثم قال: (والأمن من مكر الله) فهذه أمور معدودة في الكبائر.

    وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. رواه عبد الرزاق ، وإسناده صحيح.

    ويلحظ في كلام ابن مسعود التفريق بين القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، وقد ذكر بعض الشُرَّاح فرقاً لطيفاً، وهو أن القنوط استبعاد لرحمة الله، واليأس استبعاد لزوال المكروه؛ فكأن اليأس مرتبط بالمكروه الذي يحصل للإنسان، مثل المرض والبلاء ونحو ذلك، والقنوط كأنه من الأمور المتعلقة بالذنوب والمعاصي، فإذا أذنب وعصى فإنه قد يصل إلى مرحلة يقنط فيها من رحمة الله.

    فهذا هو التفريق الذي ذكره بعض الشُرَّاح، وإن كان أن القنوط واليأس بمعنى واحد في العموم.

    1.   

    ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله وأثر ذلك على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله.

    عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله). رواه ابن ماجه بسند حسن].

    هذا الباب متعلق بالشرك في توحيد الربوبية، ووجه علاقة هذا الموضوع بتوحيد الربوبية أن من لم يقنع بالحلف بالله فإن ذلك يدل على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، وهذا نقص في توحيده، فمن حُلف له بالله وهو يعرف أن الحالف صادق، ثم لم يقنع دل ذلك على أنه لا يعظّم الله سبحانه وتعالى، وليس لله مكانه في قلبه.

    وهناك فرق بين نوعين من الناس: نوع يحلف وهو كاذب وتعرف أنه كاذب، فهذا لا يلزم أن تصدّقه؛ لأن الشك ليس في الحلف، بل الشك في الشخص الحالف.

    والنوع الآخر المقصود بهذا الحديث، وهو من عُرف بالصدق ثم حُلِّف بالله عز وجل، فلم يقنع بالحلف، بل يريد أن يحلف بمعظّم آخر، أو يريد أن يقنعه بأمر آخر غير الحلف، كأثر من الآثار المادية ونحو ذلك، فهذا لا شك في عدم تعظيمه لله عز وجل، وهذا يدل على نقص في توحيد هذا الإنسان، والحديث هو عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم) وهذا من الشرك؛ لأن الحلف تعظيم، فإذا حلف بغير الله فمعنى هذا أنه عظّم غير الله عز وجل، والأصل في الحلف بغير الله أنه شرك أصغر، وأنه من الشرك الذي يتعلق بالألفاظ، وسيأتي الحديث عنه في شرك الألفاظ.

    قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدُق)، وهذا أمر بأن يبتعد الإنسان عن الكذب في الحلف بالله؛ لأن من كذب وهو يحلف بالله عز وجل فقد وقع في اليمين الغموس إن كان ما يحلف عليه أمراً ماضياً، وإن كان أمراً مستقبلاً دل ذلك على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، والحلف بالله في أمر ماض كقوله مثلاً: والله لقد حصل قبل أيام كذا وكذا وهو كاذب، فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنم، ومن حلف بالله مستقبلاً وهو ينوي أنه لن ينفذ، أو جاء الوقت ولم ينفذ كان ذلك دليلاً على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، قال: (ومن حلف له بالله) أي: من حلف له بالله من شخص صادق (فليرض) يعني: فليرض بالحلف بالله سبحانه وتعالى، (ومن لم يرض فليس من الله) وهذا وعيد شديد يدل على أن من لم يقنع بالحلف بالله عز وجل فهو غير معظّم لله.

    وبعض الناس -مثل أصحاب القبور- قد يأتي ويحلف بالله عز وجل كثيراً ولا يصدُق، ولا يمكن أن يحلف بالولي مرة واحدة ويكذب، وذلك لأن هذا نابع عن عقيدة فاسدة عنده، وهي أن الولي له تأثير على أولاده، وماله، وصحته، وأهله، ويقول: الله عز وجل غفور رحيم، ويأمن من مكر الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    ما جاء في الإقسام على الله وأثره على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في الإقسام على الله.

    عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك). رواه مسلم .

    وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.]

    هذا التألي على الله عز وجل، والإقسام عليه عز وجل، وهو من سوء الأدب معه والإدلال عليه سبحانه وتعالى، وهذا راجع إلى عدم تعظيمه لله عز وجل، وهو مناف للتوحيد، ولهذا نحن جعلناه متعلقاً بتوحيد الربوبية؛ لأنه ليس في قلبه تعظيم لله سبحانه وتعالى.

    ولقد جاء في هذا الحديث: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) فهذا يدل على وجود عجب في قلب هذا الإنسان.

    ولهذا فإن كثيراً من الناس قد يحتقر بعض أصحاب المعاصي إلى درجة أنه يشعر بأنهم من أهل النار والعياذ بالله، وأنه هو -لحصول بعض الطاعات منه- من أهل الجنة، وهذا خطأ، فإن الواجب أن ينظر الإنسان إلى نفسه بنظر المقصر ولا يتألى على الله عز وجل، فقد تكون عند الآخر معصية واحدة، وعندك معاص كثيرة وأنت لا تشعر بها، فقد يكون عندك رياء، أو سمعة، أو أي معصية من المعاصي، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتألى على الله عز وجل، فيقول: والله لا يغفر الله لفلان، أونحو ذلك من العبارات.

    1.   

    ما جاء في الاستشفاع بالله على خلقه وخطره على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله: [باب: لا يستشفع بالله على خلقه.

    عن جبير بن مطعم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللهً! نُهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، سبحان الله!) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك! أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). وذكر الحديث، رواه أبو داود .]

    هذا الباب متعلق بمسألة عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإن هذا الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نستشفع بالله عليك، يعني: نتوسط بالله عندك، فالشفاعة: هي الوساطة، يعني: ندعو الله عز وجل بأن يتوسط عندك فتدعو الله عز وجل، وهذا عدم تعظيم لله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يستشفع به على أحد من خلقه، بل هو -سبحانه وتعالى- مالك الشفاعة، وهو معطيها سبحانه وتعالى، وهذا اللفظ يدل على عدم تعظيم الله عز وجل، وهو منافٍ لتوحيد الربوبية من جهة أنه عدم تعظيم لله سبحانه وتعالى.

    وهذا ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر؛ لأنه يتعلق باللسان، وغالب الناس لا يقصد حقيقة أن الله عز وجل أقل شأناً من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون معنى اللفظ خطير، لكن قد لا يكون صاحب هذا اللفظ يقصد ذلك المعنى، ولهذا لم يرتب النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الردة عليه، ولم يستتبه النبي صلى الله عليه وسلم.

    أما الإقسام على الله عز وجل السابق فهو بحسبه، فإن كان تألى على الله عز وجل -بمعنى أنه قال: والله لا يغفر الله لفلان- من جهة أنه رأى أن هذا العبد مفرّطاً فالحبوط الموجود في العمل هو حبوط جزئي، وإن كان المقصود أنه إلزام لله عز وجل بأن الله لا يغفر لهذا الشخص؛ فهذا لا شك في أن الحبوط المقصود به حبوط كلي، ويكون ناقلاً عن الملة، فالإقسام على الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يتألى شخص على الله عز وجل تألياً مطلقاً تاماً، فهذا من الشرك الأكبر.

    والثاني: أن يرى أن هذا الشخص صاحب معصية، فيرى أنه من أهل النار، وهذا يكون الحبوط فيه حبوطاً جزئياً، والشرك فيه شركاً أصغر.

    1.   

    ظن السوء بالله وخطره على توحيد الربوبية

    قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154].

    وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]

    قال ابن القيم في الآية الأولى: فسِّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل.

    وفسِّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسِّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله.

    وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.

    فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.

    وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.

    فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.

    ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟

    فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً]

    هذا الباب: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] المقصود به هو ظن السوء بالله سبحانه وتعالى، وهو متعلق بتوحيد الربوبية؛ لأنه عدم ثقة بأفعال الله عز وجل وأخباره وأقواله سبحانه وتعالى، وقد فسّره ابن القيم رحمه الله ونقل كلام أهل العلم في تفسيره، بأمرين: الأمر الأول: هو ظن أن الله عز وجل لن ينصر رسوله ولن يظهر أمره، وأن أمر هذا الدين سيضمحل.

    والأمر الثاني: هو ظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، وهذا يدل على أنهم من المنكرين للقدر.

    بناء على ذلك نقول: حكم الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية إذا كان المقصود به أن الله عز وجل لن ينصر هذا الدين تكذيباً لخبر الله عز وجل، وتكذيباً لوعده سبحانه وتعالى بظهور هذا الدين، حكمه أنه كفر أكبر مخرج من الملة، ولهذا جعل الله هذه الصفة -وهي الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية- في هؤلاء المنافقين.

    وأما إذا كان المقصود بالظن هنا: أنهم يظنون أن ما يحصل لهم من المصائب، وما يحصل لهم من النعم ليس بقدر الله عز وجل، فذلك داخل في الموضوع الذي سبق أن شرحناه، وهو حكم إنكار القدر؛ وقد بيّنا حكم إنكار القدر بالتفصيل.

    الشعور بالإحباط من انتصار دين الله من سوء الظن بالله

    هناك نوع من الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية لا يدخل في الكفر الأكبر، وهو الشعور بالإحباط في انتصار هذا الدين مع الإيمان بوعد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بخبر الله سبحانه وتعالى في انتصاره، فهذه المشاعر التي تحصل عند كثير من الناس عندما يرى أحدهم جهامة الباطل وقوته، ويرى ضعف أهل الحق، قد يخالطه شعور بأنه لن ينتصر هذا الدين مع وجود أسلحة الدمار الشامل، ولن يظهر هذا الدين، ولن تكون له صولة وجولة بشكل كبير.

    فنقول لمن هذا حاله أولاً: لا يشترط في ظهور هذا الدين أن يكون له دولة عظيمة وكبيرة، وإنما ظهور هذا الدين هو ظهور حجته وبيانه، واستمراره وعدم انقطاعه، وقبول كثير من الناس له.

    ثانياً: أن الله عز وجل أخبر أن هذا الدين سيظهر، ولا بد من الإيمان بخبر الله عز وجل ووعده، ولا بد من التصديق بذلك، ومن شك فهو على خطر في عقيدته، وأما من خالطته مشاعر وهو غير شاك فذلك دليل على ضعف الإيمان عنده، ولكن لا يخرجه ذلك من الملة، وإنما يخرج من الملة من كذّب خبر الله أو شك فيه، مع أن الواقع هو أن الحق منتصر ولله الحمد، وليس الانتصار دائماً بالسيف، وإنما يكون بالحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، قال الشيخ عبد الرحمن با بطين : ظاهرين بالحجة دائماً. يعني: أصحاب حجة وبيان، وبالسيف أحياناً، فقد تكون لهم دولة في بعض الأحيان وقد لا تكون لهم دولة في بعض الأحيان.

    1.   

    بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومكانته

    قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]].

    هذا فيه بيان أن المشركين ما عظّموا الله عز وجل، ولا عرفوا قدره ومكانته وكبرياءه وعظمته، مع أن الأرض يوم القيامة ستكون في قبضة الله عز وجل، ولهذا ستأتي أوصاف تبيّن أن الله عز وجل هو الكبير المتعالي سبحانه وتعالى، وأنه صاحب الكبرياء سبحانه وتعالى، وتبيّن أن الإنسان إذا عظّم الله عز وجل فإنه يكون موحداً توحيداً صحيحاً، وكل ما سبق من نسبة النعمة لغير الله، أو عدم القناعة بحلف من حلف بالله عز وجل وهو من الصادقين المعروفين، أو من أقسم على الله وتألى عليه، أو استشفع به على غيره، أن كل ذلك يدل على عدم تعظيم الله عز وجل ومعرفة منزلة الله.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]).

    وفي رواية لـمسلم : (والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك وأنا الله).

    وفي رواية للبخاري : (يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه.

    ولـمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟.

    وروي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.

    وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد : حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس).

    قال: وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض).

    وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

    أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله . ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله . قاله الحافظ الذهبي رحمه الله، قال: وله طرق.

    وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو داود وغيره].

    هذا الباب الأحاديث المذكورة فيه كلها تدل على تعظيم الله عز وجل ومكانته وكبريائه سبحانه وتعالى، وقد عقده المصنف ليبيّن أمرين مهمين:

    الأمر الأول: أن تعظيم الله سبحانه وتعالى ومعرفة كبريائه سبحانه وتعالى، ومعرفة منزلة الله سبحانه وتعالى سبب في البعد عن الشرك في الربوبية، سواء في إنكار القدر، أو في الإقسام على الله، أو في التألي عليه، أو في الاستشفاع به على غيره من خلقه، أو نحو ذلك من أنواع القدح في الربوبية التي سبق أن أشرنا إليها.

    الأمر الثاني: أنه أراد أن يختم كتابه (كتاب التوحيد) ببيان برهان من أعظم براهين توحيد الألوهية، وهو عظمة الله سبحانه وتعالى وكبرياؤه، فإن من عرف عظمة الله عز وجل وكبرياءه عرف أنه هو المعبود وحده، وأنه هو المستحق للعبادة وحده دون شريك، فهذا برهان من براهين توحيد الألوهية، ولهذا ختم به المصنف رحمه الله كتابه.

    وبقي معنا موضوع واحد، وهو: إنكار توحيد الأسماء والصفات.

    وهذا الدرس سميناه: الشرك في توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وكل الأبواب السابقة تجتمع في موضوع واحد، وهو: الشرك في توحيد الربوبية، كإنكار القدر، أو الاستشفاع بالله عز وجل على خلقه، أو الإقسام، أو نحو ذلك من الأنواع التي سبقت جميعاً، فكلها تجتمع في معنى واحد، وهو: الشرك في الربوبية، ومنها ما يكون بسبب سوء الظن في الله، ومنها ما يكون بسبب إنكار أفعال الله عز وجل ونسبة النعمة إلى غيره، ونحو ذلك من الأنواع.

    وبقي معنا إنكار الصفات؛ إذ الشيخ لم يتحدث عن موضوع صفات الله عز وجل في هذا الكتاب المتعلق بالتوحيد إلا في باب واحد تقريباً، وهو الباب رقم تسعة وثلاثين.

    وهناك باب يتعلق بأسماء الله سبحانه وتعالى، ولكن أبرز ما فيه هو التوسل، ولهذا سنتحدث عنه قريباً إن شاء الله تعالى

    1.   

    الأسماء والصفات وحكم من جحدها أو جحد شيئاً منها

    قال المؤلف رحمه الله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات.

    وقول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30].

    وفي صحيح البخاري : قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟!

    وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!

    ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]].

    توحيد الأسماء والصفات ثابت لله عز وجل، وهو نوع من أنواع التوحيد الثلاثة.

    والأسماء الثابتة لله عز وجل هي الأسماء الحسنى، والمقصود بالحسنى: التي بلغت الغاية في الحسن والجمال والكمال لله سبحانه وتعالى، والصفات: هي الصفات العليا الثابتة لله سبحانه وتعالى، والصفات تنقسم إلى أقسام متعددة بحسب جهة التقسيم، فهي تنقسم باعتبار تعلقها بذات الله عز وجل إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.

    أما الصفات الذاتية: فهي الصفات التي لا تنفك عن الله عز وجل، ولا تتعلق بالمشيئة، مثل العلم، والحياة، والإرادة، والعينين، واليدين، والوجه، ونحو ذلك من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل بأي وجه من الوجوه.

    النوع الثاني من الصفات: الصفات الفعلية، وقد يعبّر عنها بعض العلماء بالصفات الاختيارية، وهي الصفات التي يفعلها الله سبحانه وتعالى بإرادته ومشيئته واختياره، فإذا شاء فعلها وإذا لم يشأ لم يفعلها، فهي متعلقة بمشيئة الله عز وجل، مثل الكلام، والضحك، والغضب، والنزول، والاستواء، ونحو ذلك من الصفات التي تسمى بالصفات الفعلية.

    والصفات الفعلية تنقسم إلى قسمين: صفات لازمة لذات الله عز وجل ليس لها أثر متعد، وصفات متعدية إلى الخلق، وتسمى صفات الربوبية.

    ومثال الصفات اللازمة: الضحك، والغضب، والنزول، والاستواء.

    ومثال الصفات المتعدية: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير، ونحو ذلك.

    ومن جحد الأسماء والصفات ففي توحيده خلل؛ لأنه يجب أن يسمي الله بما سمى به نفسه وبما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فمن جحد شيئاً من أسماء الله، أو من صفات الله سبحانه وتعالى فقد وقع في خلل وقدح ونقض للتوحيد، والجحد: معناه الإنكار.

    والإنكار ينقسم إلى قسمين: إنكار تكذيب، بحيث يكذّب بأسماء الله عز وجل أو ببعضها، أو يكذّب بصفات الله عز وجل أو ببعضها، فالمكذِّب لو كذّب بصفة واحدة أو باسم واحد فهو كافر وليس بمسلم.

    القسم الثاني: جحود من جحد شيئاً من أسماء الله عز وجل وصفاته، أو جحدها جميعاً يكون متأولاً، فعنده جحد التأول أو التأويل، وهذا النوع من أنواع الجحد يدخل في قاعدة تكفير المتأول التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنه إذا كان تأوله قريباً، وكانت عنده شبهة وإشكال من حيث اللغة فلا يكفر، وإنما يكون تأوله بدعة مخالفة لطريقة الصحابة رضوان الله عليهم وسلف هذه الأمة، وأما إذا كان تأوله بعيداً من حيث اللغة فهذا كفر مخرج عن الملة، والشيخ إنما ساق هذه الأدلة ليدلل على هذه القضية، ومن ذلك قول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] فإنكار أسماء الله سبحانه وتعالى من صفات الكفار، فقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] يعني: لا يؤمنون به، ولهذا لما جاء سهيل بن عمرو قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكتب كتاب الصلح بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم) فقال: أما الرحمن فلا نعرفه، قل: (باسمك اللهم)، ولهذا قال الله عز وجل عنهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] وكفرهم بالرحمن لا يعني أنهم ينكرون وجود الله، وإنما يكفرون بالاسم، فهم يعترفون بوجود الله بدليل قول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ولكن يكفرون بأن يكون هذا اسماً لله سبحانه وتعالى، وفي صحيح البخاري قال علي : حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! ولهذا روي عن ابن مسعود أنه قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

    وهذه الآثار ساقها الشيخ هنا ليبيّن أن كثير من الناس ممن يتكلم في الأسماء والصفات قد لا يحسن الكلام فيها، فيشكك الناس فيها، ولا يعني هذا أننا لا نتكلم مع الناس في الأسماء والصفات، فالقرآن مليء بالأسماء والصفات، والسنة مليئة، ويقرؤها العامي والصغير والكبير، والقرآن يقرؤه كل مسلم، ومع هذا لم يكن مصدر إشكال، وإنما المقصود أنه في طريقة حديث الإنسان عن الأسماء والصفات قد يثير بعض الشبه أو الإشكالات أو بعض الأمور التي يكون فيها تشكيك للآخرين، فلا يجوز أن يكون الحديث عن الأسماء والصفات بهذه الطريقة، ولهذا قال: [حدثوا الناس بما يعرفون]. يعني: بما يعرفون من فطرهم المعروفة أن الله عز وجل له الأسماء الثابتة والصفات الثابتة، وأنها على حقائقها لا نعرف كيفيتها، وأنه لا يعرف كيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى، وقال: [أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!] يعني: يمكن للإنسان أن يبحث بعض الأحيان في مسألة من المسائل في الأسماء والصفات فيشكك الناس، كأن يذكر لوازم ذلك، فيبدأ يشككهم، فيقول مثلاً: كيف ينزل الله عز وجل ثلث الليل الآخر وهو مستو على عرشه؟! مع أن هذه لا إشكال فيها، فنحن لا نعرف ذات الله سبحانه وتعالى.

    والشاهد من هذا هو أن طريقة المناقشة مع العوام لا تُذكر فيها صفات الله عز وجل بطريقة غير صحيحة.

    وبالجمع بين قول علي بن أبي طالب ، وقول ابن مسعود ، وقول ابن عباس رضي الله عنه يتضح أن المقصود ليس هو ترك الكلام في الأسماء والصفات، بل عرضها بطريقة مشككة، ويدل على ذلك فعل ابن عباس، فإنه ذكر بعض أسماء الله وصفاته عند رجل فأصابته رعشة وانتفض، فغضب ابن عباس وقال: [ما فرق هؤلاء؟] يعني: ما الذي أخاف هؤلاء؟ [يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه]، يعني: عند ما يسمع شيئاً يُشكل عليه فيهلك، وهذا خطأ، وقوله هذا لا يدل على أن أسماء الله عز وجل وصفاته من المتشابه، وإنما المقصود هو أن هذا الرجل ظن بأسماء الله عز وجل ظناً فاسداً، وهو أنها تشبه شيئاً من خلق الله عز وجل، ولهذا أصابته هذه الرعشة، فلو أنه لم يخطر بباله أنها تشبه صفات المخلوقين لما حصل له ذلك.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756239950