إسلام ويب

الفرق والمذاهب المعاصرة [1]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التفرق والاختلاف سنة الله تعالى في الخليقة, غير أن منه الجائز الكائن في فروع الدين من لدن العصر الأول, وأهله معذورون فيه بما ثبت لهم في ذلك من أعذار, ومنه المذموم الكائن في أصول الدين, وهو ما نهى الله تعالى عنه في كتابه وعده من مسالك المشركين, وأسبابه عديدة, منها الجهل والبدع واتباع المتشابه من النصوص وغير ذلك, وأول نشأته في المسلمين في أحداث الفتنة التي انتهت بمقتل عثمان رضي الله تعالى عنه ونشبت بعدها الحرب بين المسلمين وتميز الخوارج الذين كانوا أول المخالفين للأمة في عقيدتها.

    1.   

    امتحان الله سبحانه الإنسان بالاختلاف والتفرق

    إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأراد أن يبتليه وأن يختبره، وقد ابتلى الله سبحانه وتعالى النوع الإنساني بأنواع متعددة من البلايا والامتحانات، وكان من الأمور التي امتحن الله سبحانه وتعالى بها الإنسان: الاختلاف والتفرق.

    فالله سبحانه وتعالى عندما خلق آدم وأنزله إلى الأرض، استمر هو وبنوه عشرة قرون على الإسلام والتوحيد، ثم بعد ذلك وقع الشرك في حياة الإنسان في قوم نوح عليه السلام، وهذا هو معنى قول الله سبحانه وتعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام هو وأبناؤه كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الشرك بعد ذلك في قوم نوح عليه السلام، وعندما حصل الخلاف في حياة الإنسان أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب، وبين الحق للناس بياناً واضحاً وظاهراً فآمن بالحق أقوام وكفر به آخرون، وكان الخلاف الذي حصل في بداية الأمر في أصل الدين وفي أساسه، ولهذا جاء الرسل الكرامُ بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، فكل نبي يبعثه الله سبحانه وتعالى فإنه يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]. وحصل نوع آخر من الخلاف وهو الاختلاف في اتباع الرسل، فحصل خلاف في اتباع موسى عليه السلام وحصل خلاف أيضاً في اتباع عيسى عليه السلام، وحصل كذلك خلاف في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

    وقد ثبت في ذلك الحديث المشهور وهو حديث الافتراق الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فلما سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ولهذا فإن الخلاف في هذين النوعين وفي غيره من الأنواع التي سيأتي الكلام عليها هو خلاف قدري كوني أراده الله سبحانه وتعالى وابتلى الخلق به.

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] قال المفسرون في قوله: ولذلك خلقهم يعني: خلقهم للاختلاف والتفرق، ابتلاءً وامتحاناً منه سبحانه وتعالى.

    إذاً: الخلاف والتفرق ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وهو سنة جارية قدرها الله سبحانه وتعالى بكل أنواعها سواءً كان الاختلاف في أصل الدين بوجود أديانٍ متعددة، أو كان الخلاف في أصحاب الدين الواحد بوجود فرق ومذاهب وهي داخلة تحت دين واحد وتحت منهاج عام واحد.

    موقف الرسل من الاختلاف والتفرق

    موقف الرسل الكرام عليهم السلام هو: أنهم دعوا إلى ما أمر الله سبحانه وتعالى به من إفراده بالعبادة والكفر بالطاغوت، ولهذا يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فالرسل عليهم السلام خطوا خطاً، ودعوا الناس للالتزام بهذا الخط؛ وبهذا المنهاج وبهذه الطريقة، ولهذا يقول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فلم يكن من طريقة الرسل عليهم السلام جمع هذا الخليط المختلف المتفرق من الناس وصهره في مكان واحد بأخلاطهم وتفرقاتهم المتعددة، وإنما جاءوا بما أمر الله به وجاءوا بكتب الله عز وجل، ودعوا الناس إليها بل إنهم قاتلوهم عليه كما هو معروف من سير الأنبياء والمرسلين.

    والذي يهمنا الحديث عن الخلاف والتفرق الذي وقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد سبقت الإشارة إليه في الحديث المشهور وهو حديث الافتراق عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) وسئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وهو المعني بدراستنا في هذه اللقاءات إن شاء الله تعالى.

    1.   

    تقسيم الخلاف الذي وقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم

    والحقيقة أن الخلاف الذي وقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن نقسمه إلى قسمين رئيسين وداخل كل قسم من هذه الأقسام أقسام أخرى.

    أما القسم الأول: فهو الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه.

    والنوع الثاني: هو الخلاف المذموم الذي لا يعذر صاحبه.

    الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه

    أما الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه: فهو الخلاف الذي حصل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل التي تحتمل دلالات النصوص، وتحتمل أكثر من وجهة نظر، فحصل الخلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مسائل الحلال والحرام، وهذه المسائل التي وقع الخلاف فيها ليست من المسائل التي يذم عليها الإنسان بل يعذر فيها الإنسان، ويدل على ذلك الحديث الثابت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).

    وهكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقع بعض الخلاف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب عليه عقوبة ولم يعده ذنباً، ومثال ذلك: الخلاف الذي حصل للصحابة عندما قال لهم عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) ، ففهمت طائفة أنه ينبغي أن يصلى العصر هناك حتى لو فات الوقت، وفعلاً صلت هناك عند بني قريظة، وفهمت طائفة أخرى أن المقصود الاستعجال والحث وأن هذا العموم ليس كما فهمته الأولى وصلت في الطريق، ثم اتجهت بعد ذلك إلى بني قريظة كما هو معلوم ولم يعنَّف -عليه الصلاة والسلام- هؤلاء أو أولئك.

    ولهذا مثل هذا الخلاف الذي تحتمله النصوص ويكون فيه اجتهاد لا يكون فيه تعنيف ولا ذم ولا يترتب عليه عقوبة، ولهذا لما جاء بلال عليه السلام بتمرٍ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده تمر رديء فباعه بتمر جيد أقل منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه، عين الربا) ، ولم يجعله صلى الله عليه وسلم مرابياً ولم يرتب عليه اللعنة.

    والقاعدة في حال هذا المجتهد: هو كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) قال رحمه الله تعالى: المجتهد لا نعصّمه ولا نؤثمه.

    لا نعصّمه: يعني: لا نقول: إنه معصوم لا يخطئ.

    ولا نؤثّمه: يعني: لا نرتب عليه باجتهاده إثماً.

    وهذه قاعدة ذهبية ممتازة؛ فإن المجتهد لا يعتبر معصوماً في اجتهاده، ويرد عليه في اجتهاده إذا أخطأ فيه، وقد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم رد بعضهم على بعض في بعض الاجتهادات، فردت عائشة رضي الله عنها على ابن عمر ، ورد ابن مسعود على عثمان ، وردت المرأة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يحدد مهراً معيناً ويعاقب من زاد عليه، وأنواع مختلفة من المسائل التي وقع فيها الخلاف في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا ما بين مصيب ومخطئ لكن لا تثريب في ذلك.

    والضابط في مسألة الخلاف غير المذموم: هو أن يكون الاستدلال من الكتاب أو السنة، يعني: يكون مصدر الاستدلال معتبراً، وتكون طريقة الاستدلال معتبرةً عند أهل السنة ويكون النص محتملاً للقول الذي اختاره القائل.

    وقد كتب شيخ الإسلام رحمه الله رسالته المشهورة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)؛ لبيان أعذار أهل العلم في هذا الاختلاف، فإنه لا يمكن لإنسان أن يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعتقد أنه قاله، إلا إذا كان عنده دليل آخر يعارضه ويعتقد أن قوله عليه الصلاة والسلام السابق منسوخ، فإنه إذا كان كذلك حصل من بعضهم أنه قد يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم الأول لاعتقاده أنه منسوخ.

    بعض الأعذار التي ذكرها شيخ الإسلام لأهل العلم في خلافهم غير المذموم

    ولهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب أنواعاً من الأعذار منها:

    أنه في بعض الأحيان قد لا يكون هذا الحديث بلغ ذلك القائل المجتهد.

    والأمر الثاني: أنه قد يكون بلغه، لكنه لم يثبت عنده بإسناد صحيح، والحديث إذا لم يثبت فهو في حكم الملغى الذي لا تقوم له دلالة.

    وكذلك من أعذارهم أنه قد يكون جاءه الحديث وقد يكون ثابتاً عندهم، لكن قام معارض آخر دل على أن الأول ناسخ والثاني منسوخ، وهكذا يحصل كثير من الأعذار لأهل العلم الذين خالف بعضهم القول الصحيح في هذه المسألة أو تلك.

    ومما ينبغي أن يتنبه له في مسألة الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه: أن يكون المخالف المجتهد مجتهداً حقاً، أي: يكون ممن توفرت فيه شروط الاجتهاد، أما إذا لم يكن من المجتهدين وكان أقل، أو لم تتحقق فيه أدوات الاجتهاد فإن اجتهاده لا يكون مقبولاً.

    والحق في مسائل الاجتهاد، أن المجتهد لا يتعذب، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32] وأيضاً الحديث السابق الذي أشرنا إليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فنص على أن الثاني منهما مخطئ، ولهذا من الخطأ أن يقول القائل: إن كل مجتهد مصيب! إلا إذا كان مقصوده ومراده أنه أصاب في الطريقة، لكنه أخطأ في النتيجة، وأصاب المصيب في النتيجة.

    ومما ينبغي أن يتنبه له في مسألة الاجتهاد ومسألة الخلاف غير المذموم: هو أن بعض أنواع الخلاف قد يكون ما بين مجتهد وصاحب زلة، يعني: في بعض الأحيان يكون المجتهد مجتهداً إذا تحققت فيه شرائط الاجتهاد، وإذا بذل وسعه واجتهد في تحصيل الحق ثم توصل إلى قول من الأقوال، فإنه يكون في الحالة هذه مأجور إذا أخطأ ولا يكون موزوراً.

    أما إذا لم يبذل جهده في تحصيل الحق أو لم تكن عنده أدوات الاجتهاد، فتكلم في الدين وأفتى فيه بغير علم؛ فإن هذه تسمى زلة، والزلة من جنس الذنوب والمعاصي التي يعاقب عليها الإنسان؛ ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والأئمة المضلين. فزلة العالم من الأمور التي تهدم الدين عندما لا يبذل جهده في طلب الحق.

    وكذلك من المسائل المتعلقة بالخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه: أن اجتهادات أهل العلم الموجودة في الكتب وأقوالهم ليست مجال اختيار يختار الإنسان ما شاء من الأقوال، ويترك ما شاء من الأقوال، بل لا بد أن يختار قولاً من الأقوال ومرجحاً شرعياً، فيكون عنده مرجح شرعي عنده لأجله اختار هذا القول.

    والمرجح الشرعي: هو الذي يدل عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنة.

    ولهذا أخطأ الدكتور يوسف القرضاوي مثلاً:

    عندما ظن أن أقوال أهل العلم هي مجال اختيار يُختار الأيسر منها، فقد ذكر في كتابه (فتاوى معاصرة) أنه إذا وُجد أقوالٌ متعددة لأهل العلم فإنه يُختار الأيسر على المسلمين؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن أقوال أهل العلم مختلفة متناقضة، وليست مثل المباحات التي ينتقي منها الإنسان ما شاء ويدع ما شاء، وإنما هي أقوال متعارضة ما بين صواب وخطأ، والواجب على الإنسان أن يجتهد في طلب الحق، وأن يكون مرجحاً عنده بأخذ هذا على ذاك، وأن يكون المرجح شرعياً من الكتاب أو السنة.

    ومجرد التيسير على الناس ليس مرجحاً شرعياً، كما استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا خطأ في فهم هذا الحديث، فإن هذا الحديث هو في الأمور المباحة المتعددة التي يجوز للإنسان أن يأخذ هذا أو يتركه إلى الآخر، لكن أقوال أهل العلم ليست هي من المباحات التي يأخذ الإنسان منها ما شاء ويترك ما شاء منها.

    الخلاف المذموم الذي لا يعذر صاحبه

    أما الخلاف المذموم الذي لا يعذر صاحبه، فهو الخلاف في أصل الدين، أو الخلاف في قاعدة من قواعد الدين، أو الخلاف في فرع من الفروع، لكنه خلاف مبني على الهوى فإن الهوى يصير المسألة إلى تفرق واختلاف، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

    والخلاف في أصل الدين كخلاف اليهود والنصارى ونحوهم، فهذا لا شك أنه خلاف مذموم وهذا معروف، والخلاف في قاعدة من قواعد الدين: هو كخلاف الفرق الضالة في أصول الدين كمن خالف في الصفات مثلاً، فأولها أو شبه صفات الله عز وجل بصفات خلقه، أو خالف في أصل آخر من أصول الدين كالقدر، فاختار مذهب الجبرية، أو اختار مذهب القدرية مثلاً، أو في أصل الإيمان فظن أن الإيمان هو التصديق، أو في قاعدة من قواعد الدين إذا خالف في أي قاعدة فإن خلافه هذا يكون مذموماً، وداخل في التفرق الذي سبق أن أشرنا إليه في الحديث السابق.

    ولهذا لم يعرف أن الصحابة رضوان الله عليهم خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو خالفوا صريح القرآن في أصل من أصول الدين أبداً، وإنما اتفقوا واجتمعوا على أصول الدين ومسائل الاعتقاد.

    1.   

    الأمور الموصلة إلى التفرق والاختلاف

    والأمور الموصلة إلى التفرق والاختلاف والبدع والخلاف المذموم كثيرة ومتعددة منها:

    الجهل

    الجهل؛ فإن الجهل يوصل الإنسان إلى البدع وإلى التفرق والاختلاف المذموم، ولهذا لما ظهرت ظاهرة في زمن الصحابي ابن مسعود رضي الله عنه في العراق، كانوا يجتمعون، ويقول له أحدهم: نسبح كذا، ويسبحون بصوت واحد وبشكل جماعي، ويقول: نحمد الله كذا، فيحمدون الله بنفس العدد الذي يطلبه، فأنكر عليهم ابن مسعود رضي الله عنه وحصل لـابن مسعود رضي الله عنه مجموعة من الأحداث، مثل هؤلاء أصحاب البدع التي وقعت في العبادات في زمنه، ويمكن مراجعة كتاب (البدع والنهي عنها) لـمحمد بن وضاح القرطبي رحمه الله تعالى.

    البدع

    ومن الأمور التي توصل أيضاً إلى التفرق والاختلاف: البدع.

    فإن البدع توصل إلى التفرق والاختلاف يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] قال الإمام البغوي : هم أهل البدع والاختلاف.

    فأهل البدع والأهواء هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.

    فالبدع تجعل الناس على فرق وعلى آراء مختلفة، كما هو ظاهر في الحديث السابق، وهو حديث الافتراق ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كل فرقة من هذه الفرق تتبنى مقالة من المقالات الضالة، وتكون مبنية على الأهواء، ثم يجتمع عليها الناس فتكون فرقة، وتلك يكون حالها مخالفاً، والتي يليها يكون حالها كذلك؛ وهكذا يتفرق الناس إلى فرق متعددة ويكون السبب الأساسي هو الابتداع.

    اتباع المتشابه

    ومن الأمور التي توصل إلى التفرق والخلاف أيضاً: اتباع المتشابه.

    فإن اتباع الهوى والمتشابه، من الأمور التي توصل لذلك، يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] والمحكم هو الواضح البين، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يعني: غير واضحة ولا بينة ومحتملة، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.. إلى آخر الآية.

    فيتبين من هذه الآية: أن أهل الزيغ وأهل الانحراف يتبعون المتشابهات، وهي الآيات غير الواضحة في الدلالة، يتبعونها بسبب الهوى ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل القرآن، يعني: الوصول إلى حقائقه وكيفياته.

    ولهذا ذم الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين يتبعون المتشابه، وقد حصل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً يقال له صبيغ بن عسل كان يتتبع المتشابهات، فناداه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أعد له عراجيد النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ . قال: وأنا عبد الله عمر . فأخذ الجريد وضرب به رأسه حتى سال الدم على وجهه وهو يقول: دعني يا أمير المؤمنين! والله! لقد ذهب ما أجد برأسي، ثم أمر به فبقي في البصرة لا يخرج منها، فلما خرجت الخوارج، قالوا: هيا يا صبيغ ! فقال لهم: نفعتني موعظة العبد الصالح. ورفض أن يخرج معهم.

    ترؤس علماء السوء وجهال الناس

    ومن الأمور التي توصل إلى التفرق أيضاً والاختلاف: ترؤس علماء السوء وجهال الناس.

    وهذا واضح في قول عمر عندما قال: الأئمة المضلين. فإن من صار إماماً يفتي الناس بغير حق صار ذلك من أعظم أسباب التفرق والاختلاف، وأيضاً يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور العلماء، وإنما ينتزعه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) ، وأيضاً اتباع الآباء والأجداد والعوائد.. ونحو ذلك.

    استعمال الألفاظ الموهمة والمجملة

    ومن الأمور الموصلة إلى التفرق والاختلاف: استعمال الألفاظ الموهمة والمجملة.

    ولهذا نهى السلف الصالح رضوان الله عليهم عن استعمال الألفاظ الموهمة، مثل: لفظ الجسم مثلاً، أو العرض، أو الحيز، أو بعض الاصطلاحات التي تكون مشتملة على حق وباطل؛ فإن مثل هذه الاصطلاحات التي تكون مشتملة على حق وباطل لا يصح نفيها بإطلاق ولا يصح إثباتها بإطلاق؛ لأن في نفيها بإطلاق نفي لبعض الحق وفي إثباتها بإطلاق إثبات لبعض الباطل، والواجب هو أن ينفي الإنسان الباطل وأن يقبل الحق منها.

    ومثل هذه الاصطلاحات المجملة لا يجوز أن يحاكم الناس عليها، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتب كثيرة له مثل: (التدميرية) مثلاً، ومثل (درء التعارض العقل والنقل)، ذكر -رحمه الله- أن هذه الألفاظ الموهمة مثل: الجسم والحيز والجهة ونحو ذلك لا يجوز نفيها بإطلاق ولا قبولها بإطلاق، فإذا قال قائل: هل تقول أن الله جسم؟ فلا يصح أن تقول: ليس بجسم؛ لأنها في اصطلاح المتكلم أن الصفات جسم، فيدل هذا على أنك نفيت الصفات، ولا يصح أن تقول: هو جسم، ولا يصح أن تقول: ليس بجسم؛ وإنما الواجب أن تستفصل فتقول: ماذا تعني بجسم؟ إذا كنت تعني بالجسم: البدن كما هو معروف في اللغة! فإن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وهو لا يشبه المخلوقين.

    وأما إذا كنت تعتقد بأن إثبات الصفات من الجسم! فإنا نثبت لله الصفات ولا نسميها بهذا الاسم؛ لأن هذا الاسم الذي هو اسم الجسم لم يرد في القرآن ولا في السنة، فهو بدعة من جهة اللفظ.

    اتخاذ مصدر للعقيدة غير الكتاب والسنة

    وأيضاً من الأمور التي توصل إلى التفرق والخلاف: اتخاذ مصدر للعقيدة غير الكتاب والسنة.

    فإذا اتخذ متخذ مصدراً للعقيدة غير الكتاب والسنة تعددت المصادر فاختلف الناس، ولهذا لما جاء أهل الكلام واتخذوا العقل مصدراً للتلقي فصاروا مباينين لأهل السنة الذين مصدرهم هو الكتاب والسنة، فجاء الصوفية واتخذوا كشفاً مصدراً آخر، فصاروا ثلاثة مذاهب، ثم جاء الشيعة وجعلوا الإمام المعصوم مصدراً من مصادر تلقي العقيدة، فصاروا أربعة؛ وهكذا كلما اتخذ إنسان مصدراً من المصادر فإنه يخالف أهل السنة ويفترق عنهم، والله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

    ترك طريقة السلف وفهمهم للنصوص

    ومن الأمور التي توصل إلى التفرق والخلاف أيضاً: ترك طريقة السلف وفهمهم للنصوص.

    فإنه إذا تركت طريقة السلف في فهم النصوص، انحرف الإنسان وتعددت الأفهام وتعددت المقالات التي يتوصل إليها الإنسان بتعدد هذه الأفهام.

    لكن فهم السلف وطريقة السلف رضوان الله عليهم في فهم النصوص: هي طريقة معينة محددة دلت عليها النصوص الشرعية؛ فيجب على الإنسان أن يكون مع سلف هذه الأمة في فهمها، وفهمهم معتبر والدليل على اعتبار فهمهم قول الله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، والشاهد هو: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

    فمن اتخذ سبيلاً غير سبيل المؤمنين في منهاجهم وطريقتهم وفهمهم فإن العقوبة الواردة في الآية حاصلة له.

    وأيضاً مما يدل على أن فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم معتبر: حديث الافتراق، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عنها قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فقوله: وأصحابي، دليل على أن فهم أصحابه معتبر.

    وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم..) إلى آخر الحديث.

    كل هذه النصوص تدل على أن فهم الصحابة وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم معتبرة في تلقي العقائد، وأن مخالفة هذه الطريقة توصل إلى التفرق والخلاف المذموم.

    1.   

    الأدلة من الكتاب والسنة على ذم التفرق والاختلاف

    وقد ذم الله سبحانه وتعالى التفرق والخلاف، يقول الله عز وجل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فنهى عن التفرق وأمر بالاعتصام بحبل الله عز وجل، والله عز وجل يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وقد ثبت من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وخط من حوله خطوطاً ثم قرأ هذه الآية.

    وأيضاً يقول الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، ويقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] وقد سبق أن ذكرنا كلام البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية، وأن المقصود بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أهل البدع والأهواء.

    وأيضاً يقول الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32]، فدلت هذه الآية على أن التفرق أو الاختلاف من صفات المشركين، وقد نهينا عن التشبه بالمشركين كما هو معلوم، ولهذا فإن هذه الصفة وهي التفرق والاختلاف الواقع في الأمة هي من ضمن الأمور التي حصلت في الأمم السابقة المشركة.

    1.   

    الناجون من التفرق والاختلاف المذموم هم أهل السنة والجماعة

    أهل السنة والجماعة، وهذا المصطلح لم يظهر إلا متأخراً، يعني: في زمن الفتنة عندما وقعت، فصار الناس يسمون أصحاب السنة المحضة الذين يتبعون الآثار، أهل السنة والجماعة، ويسمون ما عداهم أهل البدع والاختلاف والتفرق.

    وكما نلاحظ أن لفظ أهل السنة والجماعة مركب من اتباع السنة واتباع الجماعة.

    فاتباع السنة: هو باتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وأقواله في العقائد والأعمال.

    واتباع الجماعة يعني: المحافظة على جماعة المسلمين، والحرص على الائتلاف، والبعد عن التفرق والاختلاف.

    ولهذا إذا قال قائل: إن أهل السنة بتوضيحهم للسنة أنهم يفرقون الأمة، فقد أخطأ خطأً كبيراً؛ فإن الذي يفرق الأمة هو البدع، والذي يرد الأمة إلى الاجتماع هو السنة واتباع الحق، فإن الحق هو الذي يجتمع عليه، والباطل لا يجوز أن يجتمع عليه، وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الجماعة من وافق الحق ولو كنت وحدك.

    1.   

    الأدلة على أن الفرق الواردة في الحديث ليسوا كفاراً

    وأما الفرق الواردة في الحديث، فهي فرق أصحابها من أهل البدع والأهواء ليسوا كفاراً، والدليل على أنهم ليسوا من الكفار، وأن هذا الحديث حديث الافتراق ليس معني به الفرق التي خرجت عن دائرة الإسلام أمران:

    الأمر الأول: هو مقابلة الاختلاف والتفرق باليهود والنصارى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة..) فبين أن الافتراق داخل الأمة هذا من جهة، ومن جهة ثانية ورد في بعض ألفاظ الحديث: (ستفترق أمتي..) والإضافة هنا تدل على أن هذا التفرق والاختلاف هو داخل مسمى الأمة، وليس خارجاً عنها، فدل هذا على أن هذه الفرق الضالة الواردة في هذا الحديث ليست فرقاً كافرة خارجة عن الإسلام؛ ولهذا من خرج عن الإسلام ببدعته لا يدخل في هذا الحديث، قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: كنا لا نعد الجهمية من فرق الاختلاف الثلاث والسبعين فرقة الواردة في الحديث.

    لم يكونوا يعدونها من هذه الفرق، بل كانوا يكفرون الجهمية، وكان يقول ابن المبارك رحمه الله: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية.

    إذاً: هذه الفرق ليست فرقاً كافرة خارجة عن الإسلام، وإنما هي فرق مبتدعة خارجة عن السنة إلى البدعة، لكنها ليست خارجة إلى الكفر المخرج من الملة.

    1.   

    ظهور بعض البدع في عهد النبي الكريم والصحابة وحسمهم لها

    وهذه الفرق لم تظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المخالفات وبعض البدع، لكن حسمها النبي صلى الله عليه وسلم ووضح الحق فيها؛ فإن الزمن كان زمن التشريع.

    ويمكن أن نمثل لهذا بمثالين..

    المثال الأول: هو ما ثبت في الصحيحين أن ثلاثة جاءوا إلى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فسألوهن عن عبادته عليه الصلاة والسلام، فكأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الثالث: أما أنا فأصلي ولا أنام، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه البدع وخرج إلى الناس وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني)، ولا شك أن هذه الأفعال بدع؛ فإنها من الرهبانية المخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) المقصود (بسنتي): طريقتي ومنهاجي، فهي تشمل الواجب والمستحب، وليست السنة في عرف الفقهاء التي تعني: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. فإن هذا مصطلح متأخر اصطلح عليه الفقهاء في الأوامر التي لم تأت على سبيل الإلزام، ويسمونه المندوب أيضاً.

    والمثال الثاني: هو عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتناقشون في القدر، هذا يضرب بآية وهذا يأتي بآية، فغضب عليه الصلاة والسلام كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: (أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (هذا الذي أهلك الأمم قبلكم) فكل البدع التي ظهرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم خطرها، وتراجع الذين حصلت منهم؛ وذلك أن الزمن زمن تشريع وأنه عليه الصلاة والسلام موجود يبين الحق للناس.

    وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تظهر فرق ضالة بشكل فرقة، وإنما ظهرت بعض البدع فواجهها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة صبيغ بن عسل السابقة هي مثال من الأمثلة التي تدل على مواجهة الصحابة رضوان الله عليهم لهذه البدع، وأيضاً قصة الذين كانوا يسبحون بالحصى، وقد ذكرها ابن وضاح في كتابه: (البدع والنهي عنها) وقد أنكر عليهم ابن مسعود ، وأيضاً قصة الذين يسبحون تسبيحاً جماعياً هي مثل ذلك، ويوم من الأيام جلس عبد الله بن خباب بن الأرت مع بعض أصحابه يقول لهم: سبحوا كذا وكذا. ثم يسبحون. ثم يقول لهم: احمدوا الله كذا وكذا. فيحمدون. ثم يقول لهم: كبروا الله كذا وكذا. فيكبرون. فجاء رجل وأخبر أباه خباباً فناداه! وضربه على رأسه بجريد النخل وهو يصيح ويعد أنه لا يعود إليها مرة أخرى، وهذا الخبر أيضاً رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها.

    فكل البدع التي حصلت في زمن الصحابة رضوان الله عليهم واجهوها مواجهة قوية وحاسمة، ولم تظهر البدع على شكل فرق إلا عندما وقعت الفتن.

    1.   

    ظهور الفرق الضالة عند وقوع الفتنة وقتل عثمان

    عندما وقعت الفتنة وقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحصل الاقتتال يوم الجمل ويوم صفين، خرجت الخوارج على الناس ببدعة في أصل من أصول الدين وهو الإيمان، وكفَّروا مرتكب الكبيرة، ثم بعد ذلك خرجت الشيعة وحصل أيضاً أن خرجت القدرية في زمن الصحابة، ثم خرجت المرجئة بعد ذلك، وهذه الأربع هي أصول الفرق الضالة التي ظهرت في بداية الأمر، ثم حصل أن ظهرت الفرق في تاريخ المسلمين بعد ذلك.

    إذاً: هذه الفرق الضالة الأربع هي أصول الفرق التي ظهرت في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج أولاً، ثم الشيعة ثم القدرية ثم المرجئة ولم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم في فرقة من هذه الفرق؛ وعندما نتحدث عن هذه الفرق بشكل مفصل سيتضح لنا أنه لا يوجد أحد من الصحابة رضوان الله عليهم تلبس ببدعة أو تلبس بفرقة من هذه الفرق، بل إنهم جاهدوهم وقاتلوهم وتبرءوا منهم جميعاً.

    أما نفاة الصفات وهم الجهمية، فإنهم لم يظهروا إلا بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم، وكان أول نفاة الصفات هو الجعد بن درهم الذي ظهر في آخر الدولة الأموية، وقتل في بداية الدولة العباسية، كما هو معلوم وأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان بعد ذلك، ثم انتشرت بسبب تبني الدولة العباسية لها، وانتشرت أكثر عندما تبنى بعض مقالات الجهمية أبو الحسن الأشعري وبعد رجوعه عن الالتزام، وسنتحدث عن ذلك بشكل مفصل إن شاء الله.

    1.   

    الكلام في الفرق له ما يبرره

    الحقيقة أن الكلام في الفرق له ما يبرره، فإن هذه الفرق فرق موجودة ومستمرة إلى الآن في الواقع المعاصر الذي نعيشه، والذين يقولون إن هذه الفرق أكل عليه الدهر وشرب، وأنها انقرضت وأنه لا وجود لها الآن، فهؤلاء مخطئون خطأً كبيراً، بل إن هذه الفرق لها وجود معاصر وقوي في حياة المسلمين، وعندما نتحدث عن الفرق بشكل مفصل سنتحدث في كل فرقة من الفرق عن واقعنا المعاصر الذي تعيش فيه الآن؛ فوجودها الواقعي مع كونها تنخر في جسد الأمة المسلمة بالتفرق والاختلاف وإظهار البدع، هذا مبرر للرد عليها وتحرير الأمة من التورط فيها، كما أن تمييز الحق من الباطل من أعظم الواجبات التي تجب على أتباع الرسل الكرام؛ فإن الله عز وجل ذم بني إسرائيل عندما خلطوا بين الحق والباطل، كما قال الله عز وجل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] ، فلبس الحق بالباطل وخلط الحق بالباطل من أعظم الفتن التي حصلت في بني إسرائيل ونهانا الله عز وجل عمّا نهى بني إسرائيل عنه.

    ولهذا فإن الفرق هذه تخلط الحق بالباطل وتلبس على الناس دينهم.

    فيجب على أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الحق أن يعرفوه أولاً ويتميزوا به.

    وثانياً: يعرفوا الباطل ويحذروا منه، والهدف من معرفة الباطل هي الحذر منه، وهي مقصد من المقاصد الشرعية؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ، فبين الله سبحانه وتعالى أن الرسل الكرام يأتون بالأمر بعبادة الله عز وجل، وهذا يقتضي معرفة الحق في ذاته.

    وأيضاً الكفر بالطاغوت، وهذا يقتضي معرفة الباطل والكفر به؛ فإن الكفر بشيء لا يعرفه الإنسان غير متحقق وغير واقع، لكن عندما يعرف الإنسان الباطل لمعرفة بطلانه والكفر به ولمعرفة ضلاله، هذا مقصد من المقاصد، ولا يعني هذا: أنه بالضرورة أن يعرف الإنسان تفصيلات هذه الفرق، لكن يمكن أن يعرف أصولها العامة التي خالفت بها السنة، وإذا وجد متخصصون في حياة الأمة يشفونها من التورط في هذه البدع، فلا شك أن هذا من فروض الكفاية التي ينبغي على الأمة العمل والإتيان به.

    ولهذا روى الراوي ابن طاهر المقدسي عن أبي إسماعيل الأنصاري وهو الهروي العالم المشهور، والسني روى عنه أنه قال: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي: اترك مذهبك، وإنما يقال لي: اسكت عمّن خالفك. فأقول: لا أسكت، ولهذا فإن السكوت على الباطل لا شك أنه خطر عظيم.

    والباطل يتنوع، قد يكون كفراً، وقد يكون بدعة، وقد يكون معصية؛ فالواجب هو إبطال الباطل وإحقاق الحق.

    1.   

    الفرق بين الفِرَق والمذاهب المعاصرة

    هناك فرق بين الفرق والمذاهب المعاصرة.

    الفرق المقصود بها: هي الفرق التي ظهرت داخل الأمة المسلمة، كـالمعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والصوفية مثلاً، والخوارج..، ونحوهم.

    وأما المذاهب المعاصرة: فهي المذاهب التي نشأت وظهرت في أوروبا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى بلاد المسلمين عن طريق الاستعمار، وعن طريق الاستشراق، وعن طريق التغريب والمدارس، التي نشطت في تغريب الأمة، كالعلمانية، والديمقراطية، والحداثة، والمدارس الأدبية: كالرومانسية مثلاً، وغيرها.

    هذه اصطلح على تسميتها المذاهب المعاصرة.

    فالفرق: هي التي ظهرت في الأمة المسلمة.

    وأما المذاهب المعاصرة: فهي المذاهب التي نشأت في أوروبا ودخلت إلى العالم الإسلامي وقد أثرت في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام.

    ونحن بهذه اللقاءات لا يمكن أن نعرض لكل الفرق، ولا يمكن أن نعرض لكل مذاهب العصر، ولهذا سنقتصر في حديثنا في هذه اللقاءات عن الفرق الضالة تقريباً، وفي كل لقاء نأخذ فرقةً من هذه الفرق، ونذكر أصولها العامة وما يتعلق بها من أحكام.

    1.   

    من المؤلفات في الفرق والمذاهب والرد عليها

    أما المؤلفات في الفرق والمذاهب المعاصرة؛ فعندما ظهر أهل البدع رد عليهم أهل العلم في زمانهم.

    من المؤلفات مثلاً: كتاب الإمام أحمد رحمه الله (الرد على الزنادقة والجهمية) ألفه في الرد على مقالة المعتزلة في خلق القرآن وفي نفي الصفات، وأيضاً كتاب (الرد على الجهمية) لـعثمان بن سعيد الدارمي ، والدارمي هذا غير الدارمي صاحب السنن، فـالدارمي صاحب السنن هو عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، والمؤلف في العقيدة هو عثمان بن سعيد له كتاب (الرد على الجهمية) وله كتاب رد على بشر المريسي العنيد ، وكتاب الإمام أحمد مطبوع وموجود، وكتب الدارمي مطبوعة أيضاً وموجودة، ومن الكتب كتاب (الاستقامة والرد على أهل البدع) لـأبي عاصم قشيش بن أصرم ، وقشيش بن أصرم النسائي هذا كان من أهل العلم الكبار ومن أهل السنة المشهورين، وقشيش بن أصرم لم يبق كتابه إلى الآن مستقلاً، وإنما هو موجود، ومن الكتب كتاب (التنبيه والرد) للمنقلي ، وهو أحد الكتب التي تكلمت عن الفرق الضالة، والكتب التي أشرنا إليها جميعاً كتب أهل السنة والجماعة.

    وأيضاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتب متعددة في الرد على الفرق الضالة، فرد على القدرية والشيعة بكتاب (منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية)؛ وهو في الحقيقة مدون في الرد على كثير من الفرق الضالة، لكن في الرد على الشيعة والقدرية بوجه خاص، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الفلاسفة في كتابه (الصفدية)، وأيضاً في غيرها من الكتب، ورد على الأشاعرة في عامة كتبه ومن أكبر الكتب التي رد بها على الأشاعرة: (درء تعارض العقل والنقل) و(التدميرية)، و(بيان تلبيس الجهمية)، ويقصد بالجهمية رحمه الله:

    الأشاعرة، فإن الأشاعرة جهمية؛ لأنهم موافقون لمقالات الجهمية في نفي الصفات، وفي الإيمان وفي القدر وفي غيرها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

    وبعض السلف كان يعتبر الجهمية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    الجهمية الأولى: وهم الغلاة أتباع جهم بن صفوان، الذين ينفون الأسماء والصفات.

    والجهمية الثانية: هي جهمية المعتزلة، الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات.

    والجهمية الثالثة: هي جهمية الأشاعرة والماتريدية، وهم أقل غلواً منهم.

    هذه الكتب تقريباً، هي الكتب التي تحدثت عن الفرق من كتب أهل السنة.

    وهناك كتب أخرى كـ(الفرق بين الفرق) للبغدادي مثلاً، وكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني وهذان الكتابان لعلماء الأشاعرة؛ فإن البغدادي من علماء الأشاعرة وكذلك الشهرستاني ، والبغدادي له في علم الكلام كتاب (أصول الدين)، والشهرستاني له في علم الكلام كتاب (نهاية الإقدام عن علم الكلام)، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله.

    ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون على حذر عند قراءته في هذه الكتب، فإنهم في بعض الأحيان يطلقون أهل السنة، ويقصدون به الأشاعرة لا يقصدون أهل السنة.

    ومن الكتب أيضاً في الفرق كتاب (مقالات الإسلاميين) لـأبي الحسن الأشعث ، وهذا الكتاب كتبه عندما رجع إلى السنة فإنه ذكر مقالات المعتزلة وذمها ونقدها، وذكر مقالات الكلابية وقال: هذه مقالة أبي سعيد عبد الله بن سعيد بن كلاب ونقدها، ثم قال: وأما مقالة أهل السنة والحديث ثم ذكرها، وهذا مما يدل على أنه رجع عن مقالات ابن كلاب وإن كان الرجوع ليس رجوعاً تفصيلياً، كما قد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه.

    ومن الكتب أيضاً المعاصرة السهلة في الفرق الضالة كتاب (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة)، والتي طبعته الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وأعني بها: الطبعة الثانية، فإن الطبعة الثانية التي طبعت في المجلدين طبعتها ممتازة، وفيها الكثير من الفوائد، وأما الطبعة الأولى فكان عليها ملاحظات، وأما الطبعة الثانية فقد استفادوا من الملاحظات التي نصحهم بها بعض أهل العلم، وعدلوا هذه الملاحظات في طبعتهم الثانية، ويمكن أن يستفاد منها وتقرب كثيراً من الفوائد.

    وأيضاً من الكتب السهلة كتاب (الفرق والمذاهب المعاصرة) للدكتور ناصر العقل والدكتور ناصر القفاري ، وهو عبارة عن منهج كان يدرس في المعاهد العلمية، ثم طبع مستقلاً في كتاب، وهو أيضاً كتاب مبسط وسهل وممتاز يمكن أن يقرب كثيراً من المعلومات والفوائد.

    1.   

    نشأة التفرق والاختلاف في حياة الأمة

    أما الحديث عن نشأة التفرق والاختلاف في حياة الأمة وظهور البدع على شكل فرق ضالة؛ فيمكن أن نشير إلى بعض رءوس الأقلام في هذا الموضوع، ثم نتحدث بعد ذلك عنه بالتفصيل في الكلام على الخوارج.

    كما تعلمون أن الفتنة التي حصلت في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، التي ذهب ضحيتها خليفة المسلمين، كانت فتنة مدبرة ومخطط لها، فقد جاء عبد الله بن سبأ الذي يكنى بـابن أبي السوداء من اليمن وكان يهودياً فأعلن إسلامه، ثم دخل أراد أن يفعل في الأمة الإسلامية كما فعل بولس شاول كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله في مقدمة كتابه منهاج السنة النبوية أن عبد الله بن سبأ أراد أن يعمل في أمة الإسلام كما عمل شاول في النصرانية؛ فإن شاول رجل يهودي كان يؤذي النصارى وكان رجلاً يتمتع بعقلية قوية وعلم بالأديان والمذاهب التي كانت منتشرة في تلك الفترة، فأعلن أنه تنصر ثم أدخل في دين النصارى كثيراً من العقائد المخالفة لما جاء به المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فجاء بفكرة التثليث وجاء بفكرة العودة، يعني: عودة المسيح مرة أخرى، وجاء بفكرة أنه ابن الله، وبأفكار متعددة، وهكذا أراد ابن سبأ أن يعمل في أمة الإسلام كما عمل هذا الرجل بالنصرانية، لكنكم كما تعلمون أن هذه الأمة أمة محفوظة، ومحفوظ كتابها كما قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، ومحفوظة أيضاً في منهاجها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    وكذلك يبعث الله عز وجل على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، فنلاحظ أن هذه الأمة محفوظة من جهتين: من جهة أن الكتاب محفوظ، ومن جهة أخرى أن الطائفة تحفظ هذا الدين بوجودها، وأن هذه الطائفة ليست بمجرد أنها موجودة في الحياة، وإنما هي ظاهرة، والظهور يقتضي أن يكونوا دعاة وأن يكون لهم قوة، ولهذا خصص بعض أهل العلم هذه الطائفة بأنهم أهل العلم، كما قال الإمام البخاري : هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، وهم جزء من الفرقة الناجية الواردة في الحديث السابق كما يراه البعض، وهذا يدل على أن هذه الأمة محفوظة.

    ولهذا لما جاء ابن سبأ من اليمن جلس في المدينة فترة ثم انتقل إلى أطراف البلدان الإسلامية، فلما انتقل إلى أطراف البلدان الإسلامية كان الوضع الموجود في حياة المسلمين في تلك الفترة أن الأمة توسعت في الفتوحات بشكل كبير، ولهذا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتحت بلاد الشيشان الموجودة الآن، وانظروا الفرق الكبير والمسافة بين تلك البلاد وبين المدينة، إذ توسعت الأمة توسعاً كبيراً جداً في زمن بسيط، وحكمت رقعةً كبيرةً جداً، وأسلم أعداد كبيرة من أصحاب الديانات السابقة، من المجوس، ومن الملاحدة، ومن اليهود، ومن النصارى، ومن غيرهم، أسلموا في وقت قصير، ولم يكن هناك فرصة للصحابة رضوان الله عليهم أن يربوا هذه الأعداد الكبيرة من المسلمين الجدد، وأنتم كما تعلمون أن هؤلاء المسلمين الجدد لا يعرفون أحكام الدين بشكل سليم، علماً أنه أسلم طوائف كثيرة من هؤلاء بغرض الدس في دين الإسلام والمسلمين، ولهذا ظهرت ظاهرة الزنادقة بعد ذلك.

    الشاهد: أنه أسلم أعداد كبيرة جداً من المسلمين في وقت قصير، فلم يتمكن الصحابة رضوان الله عليهم من تربيتهم، فكانوا فرصة مناسبة لـعبد الله بن سبأ وأمثاله من دعاة الفتنة، فجمع عبد الله بن سبأ وغيره من دعاة الفتنة جمعوا معه بعض أصحاب الغوغاء وانتقدوا انتقادات على عثمان بن عفان رضي الله عنه بعضها هو مصيب فيها، وبعضها هي اجتهادات اجتهدها كالإتمام مثلاً في عرفات وفي منى، وبعضها الآخر وإن أخطأ فيها إلا أن خطأه مغمور في بحر فضله وصحبته ومكانته، وليس الاعتراض على هذه الأخطاء يكون بقتله أو إيذائه كما حصل؛ ولهذا يظهر أن هذه الطائفة التي ظهرت على عثمان بن عفان رضي الله عنه ليس هدفها الرد على هذه الملاحظات، وإنما كان هدفها إيجاد شق كبير في المجتمع الإسلامي وقد كان.

    فقدر الله عز وجل أن تأتي هذه الطائفة ويناقشهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم يرجعون بعد ذلك إلى أقوامهم، ثم يعودون إلى عثمان ، ويزورون عليه كتاباً ويتآمرون على قتله، وقد يقول قائل ومن حقه أن يقول ذلك: لماذا لم يقف الصحابة رضوان الله عليهم في صف عثمان ؟

    نقول: وقف الصحابة رضوان الله عليهم في صف عثمان .

    فإن قيل: إذا وقفوا في صف عثمان فكيف تأتي هذه الفتنة من الأعراب الأجلاف والفساق وهؤلاء، ويقتلون خليفة المسلمين، والصحابة رضوان الله عليهم ينظرون؟

    وللجواب على هذا أقول: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه منع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من التدخل في هذا الأمر، ولهذا لو رجعتم إلى كتب التاريخ لوجدتم كثيراً من المرويات التي فيها: أن علي بن أبي طالب وأن أبا هريرة رضي الله عنه وأن عدداً من الصحابة أرادوا قتال مثل هؤلاء، منهم عبد الله بن عمر وغيره، أرادوا قتال هؤلاء، وأن يدفعوا عن خليفة المسلمين، فمنعهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال: لا أريد أن يهراق دم مسلم بسببي فنهاهم عن ذلك، ولهذا تسوروا عليه وقتلوه في قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756298305