إسلام ويب

الطاقة المعطلةللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تمتلك الأمة كثيراً من الطاقات البشرية، لكن للأسف أكثر هذه الطاقات معطلة لم تقم بدورها في رفعة الأمة، وقليلة تلك الطاقات التي تستثمر بالصورة الصحيحة. ولو وجهت طاقات الأمة التوجيه الصحيح، واستثمرت الاستثمار الأمثل لكان للأمة شأن آخر، ولرأيتها في وضع يسر.

    1.   

    أهمية دراسة المسائل الدعوية العامة دراسة جماعية متأنية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فعنوان هذه المحاضرة: الطاقات المعطلة، ولعلي أتمثل بقول الأميري رحمه الله:

    قم وجه اللاهين بالذكرى إلى النهج القويم

    فالمجد ليس ينال بالدعوى أو الصوت الرخيم

    عبء الرسالة ليس لهواً إنه عبء جسيم

    القول دون الفعل لا يهدي الصراط المستقيم

    هذا الموضوع أيها الإخوة! أحسب أنه يحتاج إلى غيري، وأرى أنني عندما أتجشم نقاش هذا الموضوع، ووضع الحلول له، أنني أرتقي مرتقى لست أهلاً له، ولذا فإني لن أتجاوز قدر إثارة الموضوع، وطرح أو اقتراح بعض الحلول، والتي ليست إلا حلولاً عاجلة وآنية، وأرى الموضوع يستحق أكثر من ذلك.

    وهنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى العمق والموضوعية في طرح قضايا الصحوة وقضايا الدعوة؟ ألا تدركون معي أن الكثير من الموضوعات الأساسية والجوهرية التي تهم الدعوة وتهم الصحوة إنما تطرق ارتجالاً، فهي خواطر يعدها محاضر استجابة للإلحاح عليه من فلان، أو هي خواطر عاجلة يسطرها أيضاً في صحيفة أو في كتيب.

    وقد يكون أيضاً الدافع وراء ذلك ليس هو القناعة بهذه الفكرة، أو الشعور بضرورة طرحها، وإنما نتيجة لإملاء أو ضغوط، فيحصل في الواقع كثير من حالات الإجهاض الفكري لكثير من قضايا الدعوة وقضايا الصحوة، فتطرح طرحاً آنياً، وطرحاً سطحياً لا يتناسب مع عمق وأهمية الموضوع.

    وهنا لست أقلل أيها الإخوة! من الجهود المبذولة، ولا مما يطرح سواء مما يطرحه الإخوة المحاضرون، أو الكتّاب أو غيرهم، بل هناك لا شك أطروحات فعلاً على مستوى ما نحتاج إليه، لكن أشعر أن هناك قضايا كثيرة هي أكبر أصلاً من مفكر واحد، وأكبر من رجل واحد، فيحتاج إلى أن يتنادى إليها عقلاء القوم، وأن يطرح كل ما عنده.

    ألا تستحق قضايا الصحوة أن تعقد لأجلها مؤتمرات وندوات وبحوث لعلاج مثل هذه القضايا التي تعنينا؟ ومن نريد أن يعنى بأمراضنا، ويعنى بتصحيح مسيراتنا إلا نحن؟!

    فليس من المنطق، ولا من المقبول لا شرعاً ولا عقلاً بأي مقياس أو بأي منطق؛ ليس من المقبول أن تكون حلولنا وأطروحاتنا وعلاجنا لقضايا الصحوة، والقضايا الجوهرية حلولاً سطحية.

    وأظن أن هذا الكلام مؤيداً لما قلته قبل قليل، مؤيداً لما قلته أن هذا الموضوع أشعر وأجزم أنه أكبر من حجمي بكثير، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو فقط إثارة هذا الموضوع، والعناية به.

    1.   

    الأسباب الداعية إلى تكاتف طاقات الأمة

    أن الواجب الشرعي في الدعوة والتغيير الأمة كلها مخاطبة به

    نحن في مسيرتنا لتصحيح الواقع، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى طاقات أكثر من الطاقات العاملة الآن بكثير، ونشعر أن هناك طاقات هائلة معطلة يجب أن تستثمر وأن تستغل.

    فنحن نحتاج إلى هذه الطاقات؛ نظراً لأن الواجب الشرعي أصلاً في الدعوة والتغيير مخاطبة به الأمة جمعاء، فكل النصوص التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله عز وجل هي خطاب للأمة كافة، وليست خطاباً لجيل الصحوة وحدهم، ولا للعلماء وحدهم، وللدعاة دون غيرهم.

    ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الواجب -يعني: واجب الدعوة- واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقي.

    ولا أظن أن أحداً الآن يجادل أو يشك في أن واجب الدعوة لم تقم به الطائفة التي نذرت نفسها وبذلت جهدها له، لا لأجل التقصير منها، وإن كان البشر لا يخلو من التقصير، ولكن لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدرتها، فلا نقول: قام به من يكفي إلا عندما تصحح الأخطاء الموجودة في المجتمعات الإسلامية فعلاً، ويصل المسلمون إلى ما يسعون إليه من إقامة الحكم لله سبحانه وتعالى، وإقامة الدولة على شرع الله عز وجل، وإقامة واقع الناس على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فما دام لم يتحقق هذا الواجب، فلا زالت الأمة كلها جميعاً مخاطبة بهذا الواجب.

    إذاً: فالأصل شرعاً أن تعمل كل هذه الطاقات لخدمة هذا الدين، وللدفاع عن الأمة، ولإعادة واقع الأمة إلى الواقع الشرعي.

    ضخامة الفساد والانحراف في الأمة يفرض ضرورة تكاتف جهود وطاقات الأمة

    الأمر الثاني: أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين بقدر من الضخامة فلا يمكن أن يقوم بإزالته الدعاة فقط وحدهم ما لم تسر الأمة وراءهم، ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا جماعة ولا فئة من الناس، فهو أكبر بكثير من طاقات هؤلاء.

    فالانحراف في العقيدة، والانحراف في المفاهيم والتصورات، والجهل بأحكام الدين، والانحراف في السلوك، وأبواب ومجالات الخلل في واقع الأمة وواقع المجتمع مجالات واسعة أكبر من أن يحيط بها، أو أن يسد هذه الأبواب وهذه الثغرات الداعية فلان أو فلان، أو حتى جماعة من الجماعات، أو فئة من الفئات، فما لم تتضافر الجهود، وتعمل كافة طاقات الأمة على درء هذا الفساد، فسنظل نسير سير السلحفاة.

    اختلاف طاقات الناس وتخصصاتهم يوجب تكاتف جميع طاقات المجتمع

    كذلك الأمر الثالث أيضاً الذي يدعونا إلى ضرورة تشغيل كافة الطاقات والعناية بها: اختلاف طاقات الناس، وتخصصاتهم، وقدراتهم، فالناس مثلاً منهم العالم ذو العقلية العلمية الفذة الذي يستطيع أن يؤصل المسائل الشرعية، ويستطيع أن يعلم الناس، ومنهم الواعظ الزاهد الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس، وقد يصل إلى قلوب الناس ما لا يصل إليه العالم، ومنهم الخطيب، ومنهم المفكر، ومنهم أصحاب المواهب والطاقات المتنوعة، وكل هذه الطاقات نحتاج إليها، والأمة كل الأمة، المفكرين، المثقفين، المتعلمين، الأميين، النساء، كل طبقات المجتمع بحاجة إلى من يخاطبها بهذا الدين.

    وطبقات المجتمع وشرائح المجتمع طبقات متفاوتة، فتحتاج إلى أنواع وألوان من الخطاب، وإلى أنواع من القدرات، ولذا فإن الأمة تحتاج إلى كل طاقة وكل قدرة، فكل إنسان يملك موهبة، وكل إنسان بارع في أي تخصص له مجال مفتقر إليه، وقد لا يقوم به غيره.

    ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم

    الأمر الرابع: أن الدعاة وحدهم والقادة وحدهم لا يمكن أن يصنعوا شيئاً:

    وهذا ليس شأن هذه الأمة فقط بل الأمم السابقة كذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

    فهذا النبي ما قام وحده، وهذا النبي ما قاتل وحده وإنما قاتل معه ربيون كثير، وعندما يتخلى هؤلاء عن النبي فقد لا يصنع شيئاً، أعني: أنه قد لا يتحقق له النصر والتمكين في دار الدنيا، ونجد مصداق ذلك في قصة موسى مع بني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:20-21].

    فدعا موسى بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: الأرض المقدسة مكتوبة لهم فيحتاج الأمر إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة فقط، فرفض بنو إسرائيل أن يستجيبوا لدعوة موسى، فقام رجلان بواجب المناصرة والتأييد لموسى، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، فالقضية تحتاج فقط إلى مجرد الدخول على القوم الجبارين، وحينئذٍ إذا دخلتموه فإنكم غالبون، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].

    وحينئذٍ صرحوا بأنهم لا يملكون أي استعداد إطلاقاً لدخول الأرض المقدسة، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24] فحتى ما قالوا: اذهب أنت وربنا، أو أنت والله سبحانه وتعالى، وإنما بلغ سوء أدبهم مع موسى أن قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فالقضية ما تعنيهم، القضية تعني موسى، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] يعني: نحن عندنا استعداد أن ننتظر الآن في هذا المكان، واذهب أنت وقاتل، وإذا فتحت المدينة حينئذٍ لدينا استعداد أن ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.

    فقال موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].

    وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].

    وحرمت عليهم أربعين سنة، وبقوا في التيه أربعين سنة، ثم ولدت ذرية تربت على القسوة، وعلى الجدية، وتركت حياة الذل والاستعباد، فلما جاء بهم يوشع بن نون خطب بهم فقال: لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يدخل بها وهو ينتظر أن يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى داراً وهو ينتظر أن يسكنها، ثم ذكر كل ما يقطع الناس ويعلقهم في الحياة الدنيا، فجاء بهذه الصفوة، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، وكانت الشمس ستغيب على ليلة السبت، وقد حرم عليهم القتال يوم السبت، ففتح الله عليهم.

    إذاً: مع وجود موسى، ومع وجود هارون، ومع وجود الرجلين اللذين يخافان الله سبحانه وتعالى، مع ذلك عندما تخلى الأقوام لم ينتصر موسى، ولم يدخل الأرض المقدسة.

    الشاهد هنا: أن الداعية وحده، أو القائد وحده لا يمكن أن يصنع شيئاً ما لم تسر الأمة وراءه، وما لم يكن معه ربيون كثير، يقاتلون في سبيل الله، ولا يهنون، ولا يستكينون، ولا يضعفون لما أصابهم في سبيل الله.

    ولذلك يقول الشافعي عن الليث بن سعد : كان الليث أفقه من مالك ، ولكن لم يكن له أصحاب يقومون بفقهه، فـالليث بن سعد على الأقل في رأي الإمام الشافعي أفقه من مالك ، ومالك أخذ شهرة ومكانة وأتباع لم يأخذها الليث بن سعد ، بل لعلك -للأسف- تجد بعض طلبة العلم قد لا يعرف من هو الليث بن سعد ! فما الذي جعل مالكاً يقوم وينتشر مذهبه؟ أنه كان له أصحاب يقومون بمذهبه، فمع أن الليث بن سعد أعلم منه إلا أن علمه لم يكتب له البقاء؛ لأنه لم يكن هناك من يقوم بعلمه، ولم يكن هناك من يسير وراء الليث بن سعد كما كانوا مع الإمام مالك رحمه الله.

    تكاتف جميع طاقات الأمة لصد مكر الأعداء وعدوانهم

    الأمر الخامس: أنه عندما تعمل كل الطاقات، وعندما يسير الجميع في ركاب الصحوة، فستفوت الفرصة على المتربصين بالأمة الدوائر وما أكثرهم، وهاأنتم الآن ترون مصارع إخوانكم في كافة أنحاء العالم الإسلامي، والقوم هم القوم، تشابهت قلوبهم، والقضية واحدة، فقد يختلف التوقيت، وقد يختلف الأسلوب، لكن يجب أن تعلموا حقيقة لا شك فيها أن الأعداء يكيدون لهذه الصحوة، ويتآمرون عليها.

    فعندما تكون الصحوة محصورة في إطار معين، وفي فئات معينة فإنه يسهل على الأعداء أن يضربوا هذه الصحوة، ويسهل على الأعداء أن يصنعوا ما يشاءون، لكن عندما تتحول الصحوة إلى تيار جارف، وعندما يكون على الأقل المتعاطفون مع الصحوة جزءاً منها وأناساً عاملين، عندما ننجح فعلاً في توظيف هؤلاء فإننا نفوت فرصة ثمينة على هؤلاء الأعداء فلن يستطيعوا أن يضربوا الصحوة؛ لأنهم حينئذٍ سيواجهون المجتمع، وسيواجهون الأمة بدلاً من أن يواجهوا مجموعة يخيلون للناس أنهم متطرفون، أو أصوليون، أو غلاة، أو غيرها من المصطلحات التي يطلقونها على هؤلاء.

    أقول: إذاً لهذه الأمور الخمسة ولغيرها كان لابد من أن تستثمر كافة هذه الطاقات، فالفساد واسع ولا يمكن أن يحيط به آحاد من الناس، والناس طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم تختلف، وكذلك القائد والداعية والموجه للأمة ما لم يسر وراءه أتباعه ويقفوا وراءه، ويشعروا أنهم جزء منه فلا يستطيع أن يصنع شيئاً.

    كذلك لا شك أن استغلال هذه الطاقات، وتشغيل هذه الطاقات فيه تفويت وقطع للطريق على الأعداء الذين يتربصون بالصحوة.

    1.   

    أصناف الطاقات المعطلة في الأمة

    بعد ذلك ننتقل إلى الحديث عن أصناف هذه الطاقات المعطلة، والمعذرة أيها الإخوة! فقد أتحدث عن أصناف من الخيرين، بل ومن الذين نتمنى أن نجالسهم، ونستفيد منهم، فلا يعني أني أتهم جميع الناس، بل أقول فئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف هم لا زالوا طاقة معطلة.

    الأمر الثاني: ليست القضية يا إخوة! التراشق بالتهم، ولا القضية اتهام بالتقصير، بل القضية قضيتنا جميعاً، القضية قضية تذكير، القضية أننا ندعو هؤلاء جميعاً إلى أن يقفوا في خندق واحد لمواجهة تيار الفساد، ولمواجهة الأعداء، والقيام بالمهمة.

    ثالثاً: إنني حين أقول ذلك أعرف أنني أول المقصرين، وأعرف أني أهمل كثيراً مما أملكه من طاقات ومواهب على ضآلتها، وعلى سذاجتها، وأني أبخل بكثير مما أستطيع أن أقدمه، ولكن القضية قضية تناصح، وتعاون على البر والتقوى قبل أن تكون تراشق بالتهم، أو اتهام للناس بالتقصير؛ لأني أخشى أن يقول أحدكم بعد ذلك: وماذا بقي من طبقات المجتمع عندما تتهم كل هذه الطبقات بأنها طاقات معطلة، أو أن هؤلاء مقصرون؟!

    من الطاقات المعطلة المتفاعلون مع الدعوة والمحبون لها

    أول هذه الطبقات وأهمها: هم ما يمكن أن نسميه -وهذا مصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح- الصف الثاني للصحوة، ونعني بهم الناس الذين يتفاعلون مع قضايا الصحوة، فتجده مثلاً يتابع ما يطرحه الدعاة إلى الله عز وجل، ويتضامن معهم، فهو مثلاً يحضر المحاضرات العامة، ويقرأ الكتب والإصدارات التي يصدرها هؤلاء، ويتحدث عن الصحوة مع غيره في المجالس، ويتابع ويتفاعل مع قضايا الصحوة داخل نفسه، ويبدو ذلك أيضاً في حديثه مع الناس.

    وهم قطاع كبير في المجتمع، لكن لا يصنع شيئاً وراء ذلك، ولا يقدم أي عمل، وغاية ما يقدمه هو -كما قلت- مجرد التفاعل مع قضايا الصحوة، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الكثير الآن من طبقات المجتمع يتفاعلون مع قضايا الصحوة، ومع رواد الصحوة، بدليل أنك تجد مثلاً رواج الشريط الإسلامي، وتجد أن الآلاف يسمعون الشريط الإسلامي، وتجد المحاضرات التي تقام لكبار قادة الصحوة مثلاً أن يحضرها الآلاف من الناس، وهي إنما تقام مثلاً في مدينة واحدة فقط، والآخرون لا يتيسر لهم الحضور، فهذا مظهر من مظاهر التفاعل مع قضايا الصحوة.

    والتفاعل مع كافة الأطروحات التي يطرحها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ورواد جيل الصحوة، ولكن القضية عند الكثير تقف عند هذا الحد، فهو يسمع الأشرطة، ويحضر المحاضرات، ويقرأ ما يكتب، ويتفاعل فقط داخل نفسه، لكن ما وراء ذلك لا يصنع شيئاً.

    أقول: للأسف أن الكثير ممن يتفاعلون مع قضايا الصحوة هم من هذه الفئة، ولو نجحنا فقط في توظيف هذه الطاقات، لو نجحنا في توظيف الذين يستمعون إلينا فعلاً النجاح التام لاستطعنا أن نصنع الشيء الكثير، لكن متى ننجح في ذلك؟ وهذا ما أدعو إليه.

    وهذا لا يعني أني أتهم المتحدثين، أو أتهم الدعاة، أو أتهم جيل الصحوة بأنهم قاصرون وعاجزون، كلا فكونهم يكسبون هذا التأييد هذا دليل على أنهم يملكون قدراً كبيراً من النجاح، لكن أقول: نريد أن ننتقل خطوة أكبر من ذلك، أكثر من مجرد أن يسمع حديثنا الناس، أكثر من مجرد أن يتفاعل مع حديثنا الناس، بل أن نستطيع أن نصنع جهود عملية من وراء ما تحدث به.

    أن نحرك هذا الجيل الذي يسمع لنا ويؤيدنا، بل أقول يا إخوة! وأنا واثق مما أقول: إن أكثر طبقات المجتمع يتضامن ويؤيد الصحوة، ويقف مع قضايا الصحوة، ولكن تبقى القضية قضية مشاعر قلبية، تبقى القضية تضامن وشعور داخلي قد يتجاوز إلى الحديث في المجالس، والدفاع وتبني قضايا الصحوة، لكن ما وراء ذلك هو ما نريده.

    من الطاقات المعطلة في المجتمع كثير من طلاب العلم

    ثم أنتقل إلى طبقات أخرى قد تكون طبعاً داخلة تحت هذه الطبقة التي أشرت إليها، ومن أهم هذه الطبقات طبقة من طلاب العلم، فطبقة كبيرة من طلاب العلم للأسف هم من الطاقات المعطلة، والأمة أحوج ما تكون إليهم، وهنا أذكر بما قلته قبل قليل، فلا يعني هذا أبداً أنني أتهم طلاب العلم أنهم مقصرون، بل إننا نأنس بحديثهم، والجلوس إليهم، والاستفادة منهم، ونحن جميعاً عالة عليهم.

    ولكن أقول: هناك فئة من طلاب العلم بقي الخير قاصراً عنده على نفسه، ويتعلل بأنه عاجز، وبأنه ما عنده قدرات، وبأن واقع المجتمع لا يتطلب ذلك إلى غير ذلك، فيتعلل بعلل وأصناف ووسائل شتى سبق أن تحدثت عنها في حديث سابق، وفي محاضرة سابقة؛ لذا لا أحتاج إلى العودة إليها، كنت تحدثت عنها في محاضرة بعنوان: فتن التهرب من المسئولية.

    وحتى نأخذ صورة فقط عن حجم هذه الطاقات فإنك عندما تنظر إحصائيات خريجي الدراسات الشرعية فإنك تصاب بذهول، هذه الأرقام الهائلة في مقابل الجهود المبذولة الآن، وفي مقابل فعلاً مدى انتفاع الناس بها.

    فمثلاً: خريجي الدراسات الشرعية في جامعة الإمام وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ (9656) طالباً، فهؤلاء لم يتخرجوا من هذه الجامعة في كافة الدراسات، وإنما من الدراسات الشرعية في المرحلة الجامعية وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ فقط، وانظر ما قبل عام 92هـ، وما بعد عام 1409هـ من أعوام، فهذه الأفواج الهائلة من خريجي الدراسات الشرعية أين هم؟

    وجامعة أم القرى من عام 1401هـ - 1402هـ إلى عام 1409هـ بلغ أيضاً عدد خريجي الدراسات الشرعية (4027) طالباً، وخذ بعد ذلك سائر الخريجين من أقسام الدراسات الإسلامية والدراسات الشرعية في سائر الجامعات.

    وخذ بعد ذلك طلبة العلم وخريجي حلق المساجد الذين قد يكون الكثير منهم يفوق هؤلاء الخريجين، وقد تقول لي مثلاً: إن الكثير من خريجي الدراسات الشرعية ليسوا على المستوى المطلوب، وقد تقول: إنهم ضعاف، وقد تقول: فيهم كذا وكذا، لكن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون طالب الدراسات الشرعية خاصة في هذا العصر يشعر بدوره، ويرى أثر العلم عليه، ومهما كان فعلى الأقل قد أتيحت له فرصة لدراسة العلم الشرعي لم تتح لغيره، وأما كونه مهملاً، وكونه مقصراً، فهذا أصلاً مظهر من مظاهر تعطل الطاقات.

    فالمفترض أن صاحب الدراسات الشرعية سواء كان في المرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية، أو المراحل العليا، المفترض ألا يفارقه هذا الشعور: أن يرى أن الناس بحاجة ماسة إلى علمه.

    وعندما تنتقل مرحلة أخرى أيضاً إلى قطاع أكبر مثلاً فستجد أن خريجي مثلاً المعهد العالي للقضاء، والمعهد العالي للدعوة الإسلامية، وهو يمنح درجات عالية: الماجستير والدكتوراه، في الفترة نفسها (731) طالباً هؤلاء أصحاب تخصصات عليا في الدراسات الشرعية، ناهيك عمن يأخذ أو يحصل على الشهادات العليا من غيرها مثلاً من كليات الجامعة، أو من الجامعات الأخرى، أو ممن هم -كما قلت- رواد المساجد الذين الكثير منهم أفضل بكثير من حملة الشهادات العالية، فأين هذا الرقم الهائل؟ وأين أثرهم في الواقع؟

    وأساتذة ثلاثة جامعات فقط: أساتذة الدراسات الشرعية في جامعة الإمام، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية من السعوديين وحدهم في عام 1409هـ بلغ عددهم (906)، وهؤلاء لا شك أنهم على مستوى أعلى منا جميعاً، أعلى منا نحن الذين نتحدث عنهم، فنحن -كما قلت- لا نوجه التهمة، ولا نؤيد هذا المنطق أن نوجه التهم للناس بالتقصير والإهمال، لكن أقول: عندما تنظر إلى هذه الأرقام وغيرها، وتنظر إلى الجهود المبذولة: الدروس العلمية في المساجد، والمحاضرات، والواجبات المنوطة بهؤلاء، تتساءل أين البقية؟

    ولا أبالغ أيها الإخوة! إذا قلت: إنه لو عمل ربع هذه الطاقات فقط لتغير الأمر، فتجد الآن مثلاً عندما يكون لأحد الإخوة قدر ضئيل من العلم، ومستواه الفكري قدراته ضئيلة ومحدودة، فبمجرد أن تظهر له محاضرة أو محاضرتان في التسجيلات، وأصبحت أشرطته تتداول، إلا تنهال عليه الطلبات الهائلة التي لا يستطيع حتى أن يوفق بينها.

    وأقول أيها الإخوة: لو أن فقط هذا الصنف من المحاضرين تفرغ لنشاط المحاضرات وحدها، وتفرغ لتلبية الطلبات التي ترد عليه لم يستطع أن يلبي جميع هذه الطلبات، فكيف به وهو منوط به أعمال أخرى كثيرة، ناهيك عن ظروفه ومشاغله الخاصة.

    أين البقية؟ لو كان كل واحد من هؤلاء من طلبة العلم يشعر بدوره وواجبه، ويقوم بجهد ولو كان ضئيلاً لتغيرت الصورة، ولخف العبء على أولئك الذين -وأنا أولهم- يعرفون أنهم ليسوا أهلاً لترقي مثل هذه المراقي أو هذه المنابر التي نتحدث من خلالها، وأرى أنه لو قام بعض هؤلاء الأكفاء بواجبهم لما استطعنا أن نجد لنا مكاناً في مثل هذه المنابر، ولبحثنا عن مكان آخر نستطيع أن نقدم منه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، لكن الإنسان عندما يجد الساحة فارغة يرى أنه غير معذور إذا لم يدل بدلوه.

    من الطاقات المعطلة بعض خطباء الجوامع

    طبقة أخرى أيضاً، وفئة أخرى من الطاقات المعطلة: بعض خطباء الجوامع:

    أقول: يا إخوة! خطبة الجمعة بحاجة إلى إعادة نظر، ولا شك أن هناك فئة من الخطباء لسنا نحن نتحدث عنهم ولا نقيمهم، بل أظن أن ثناءنا عليهم يعتبر غضاً من شأنهم، فهم أكبر من أن نثني عليهم، وأكبر من أن نشيد بدورهم، لكن البقية أين دورهم؟ فمثلاً هل هو وضع طبيعي أن يوجد في مدينة مثل مدينة الرياض عشرة خطباء أو خمسة عشر خطيب يجتمع الناس حولهم، والبقية الذين يتحدثون لسائر المسلمين ما شأنهم؟ وما دورهم؟

    ولو نجحنا في توظيف خطباء الجوامع وحدهم فعلاً، وأصبح خطيب الجمعة يشعر بأن القضية أمانة مسئولية، وأن خطبة الجمعة تستمع إليها الملائكة، وأن خطبة الجمعة يجب على كل مسلم أن يسعى إليها، وأنه يجب عليه الإنصات، إنها أمر الله سبحانه وتعالى للمسلمين جميعاً بأن يسعوا إلى ذكر الله، وأن يسعوا ليسمعوا هذا الذكر.

    لو كان كل خطيب يشعر بهذا الشعور، ويشعر بثقل الأمانة والمسئولية ويعتني بما يقدمه للناس لتغيرت الصورة. ولمَ لم ينجح هؤلاء فعلاً في توظيف الناس في خدمة دين الله سبحانه وتعالى؟ لمَ لم ينجح هؤلاء في أن يتوب على أيديهم عدد كبير من العصاة؟

    لما ترى الكثير مثلاً من هؤلاء الخطباء عندما يأتي لخطبته فكأن الخطبة جبل ثقيل يريد أن يتخلص منه، فيجمع النصوص من هنا وهناك، مجموعة أحاديث، وبعض الآيات، وقال فلان وقال فلان من الناس، ويقرأ الخطبة، والجميع ينظر إلى ساعته ينتظر أن تنتهي هذه الخطبة ليغادر المسجد.

    فمثلاً: هل هؤلاء الخطباء يعالجون قضايا الشباب وانحراف الشباب فعلاً بعمق؟ سبق أن أجريت دراسة لمجموعة من الشباب، فكان 75% منهم يرى أنه لا يستفيد من خطبة الجمعة، ويرى أن خطبة الجمعة لا تدعوه إلى الالتزام والاستقامة، يعني: أنها لا تعالج قضايا الشباب.

    وأنا أجزم أن خطيب الجمعة لو عالج مشكلة من مشاكل الشباب، لو عالج قضية مثلاً المعاكسات الهاتفية، وتحدث عنها فعلاً بعمق، وبعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن أساليب الإثارة، وبعيداً عن مجرد استثارة العواطف، وتحدث عنها حديثاً علمياً، وبذل جهد فعلاً، وأحضر وقائع، لاستطاع أن يقنع الكثير من الناس، وأن يقنع الآباء والفتيات والشباب.

    ولو تحدث للشباب بمنطق العقل، ومنطق الإقناع عن النهاية لطريق الشهوات والسير وراءها، وتحدث عن الضريبة التي يدفعها هؤلاء عندما يسيرون في طريق الغواية، ولو تحدث عن كثير من هذه الأمراض، وأنا لا أريد أن تكون خطب الخطيب بهذا الشكل، أنا أريد من خطيب الجمعة أن يخصص له خطبة في الشهر أو كل شهرين يهتم فيها بقضية من قضايا المجتمع، ومشكلة من مشاكل المجتمع فإن الناس جميعاً يخرجون وهم يشعرون أن القضية تعنيهم، ويشعرون أن الخطيب قدم لهم شيئاً جديداً.

    فيجتهد الخطيب ويقرأ، ويطلع، ويتابع الدراسات والإحصائيات، ويتابع ما يطرح في الصحف، ويستطلع آراء الناس ويستفيد، ويجمع من هنا وهناك، ثم يقدم مادة جيدة للناس، لو أن الخطباء سلكوا هذا الأسلوب وهذا المنهج، وصار عندهم عمق في طرح هذه القضايا لصنعوا الشيء الكثير.

    وليس عيباً أيها الإخوة! ليس عيباً أن يقول الشاب: أنا ما عندي قدرة على خطابة الجمعة، فليس المؤهل كي تكون إمام جامع أن تكون مجرد شاب ملتزم، ليس صحيحاً أن كل شاب ملتزم يكون خطيباً، بل أحياناً ليس كل طالب علم مؤهلاً لأن يكون خطيب جمعة.

    فالخطابة لها مواصفات معينة، فما الذي يمنع الإنسان أن يقول: والله هذا المكان ليس لي، وأنا غير مؤهل لأن أتولى خطابة الجمعة، ويتولاها من هو خير مني.

    ثم افترض أنك توليت الخطابة، فما الذي يمنعك أنك تستعين بأحد الناس الذين عندهم قدرات؟ فإذا كان هناك شخص مثلاً تعرف أنه ليس خطيب جمعة، فتطلب منه يوم من الأيام أن يقدم خطبة، وأنت مستهلك فحتى لو كنت أكثر منه طاقة فالناس قد سمعوا كل ما عندك، فعندما يأتي هذا الرجل فإنه يستطيع أن يقدم لهم شيئاً كثيراً بجهد قليل؛ نظراً لأنه لأول مرة يقف أمامهم.

    فما الذي يمنع خطيب الجمعة أن يدعو فلاناً من الناس ويقول: أريدك أن تقدم خطبة للناس؟ وما الذي يمنعه أن يتقدم إلى فلان أو فلان من الناس ويقول: أريد أن أخطب في هذا الموضوع، فأعطني بعض العناصر، وأعطني بعض الأفكار، ويسترشد بآراء الغير؟

    وأنا لا أدعو الخطيب إلى أن يسلك هذا الأسلوب في كل خطبة؛ فهذا أمر يصعب عليه، لكن أقول مثلاً: ليجعل خطبة واحدة في الشهر، أو خطبة كل شهرين يعتني بها هذه العناية.

    والأصل يا إخوة! أن يكون خطباء الجوامع كلهم فعلاً يسيرون وراء هذا المنهج، لكن عندما يكون الخطباء المشهورون يأتي الناس إليهم، والذين لم يصلوا معهم سيسمعون الأشرطة التي تطرح في التسجيلات، لكن أريد من يخاطب الناس الذين لا يصلون إلا الجمعة، أريد من يخاطب الناس الذين لا يسمعون الخطب والمحاضرات وإنما يسمعون أشرطة الغناء الساقط، وإنما يتابعون الأفلام الساقطة، فأحدهم يأتي لصلاة الجمعة نظراً لأنه ملزم أن يحضر خطبة الجمعة، فأريد من يخاطب هؤلاء، فهذا لا يبحث عن فلان وفلان من الخطباء المشهورين وإنما يصلي في أقرب مسجد إليه.

    فأقول: يا إخوة! أشعر -وهي وجهة نظر شخصية قد توافقون عليها- أن الكثير من خطباء الجوامع لا يؤدي دوره، ومرة أخرى أقول: لست هنا أوجه التهمة والتقصير، بل لا شك أن هذا الخطيب يذكر الناس بالله، ويبذل جهداً، ولا نغمطهم حقهم، لكن ليس مجرد الحرص وحده كافٍ، بل يجب أن يفكر، ويقيم خطبته، ويستفيد من آراء مثلاً بعض من يصلي معه، فقد يصلي معه بعض الناس فمن هو أكثر منه علماً، وأكثر منه قدرة، فيستنير بآرائهم، فنسلك كل الوسائل لتحسين أسلوب الخطبة، وأداء الدور السليم لها.

    من الطاقات المعطلة طلاب المدارس

    كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: طلاب المدارس:

    كثير من طلاب المرحلة الثانوية والمرحلة المتوسطة فعلاً أشعر أنهم طاقات معطلة، لماذا؟ نأتي مثلاً إلى ثانوية من الثانويات كم فيها من الشباب الملتزمين الذين تجدهم رهن الإشارة، هم -كما قلنا- من الطبقة التي تحدثنا عنها في البداية من الجيل الثاني للصحوة، فعنده استعداد يسمع أي توجيه، وعنده استعداد ينفذ أي برنامج يطرح عليه، فيستجيب لأي أمر ولأي توجيه، فكم ستجد مثلاً في هذه الثانوية؟

    أفترض مثلاً أنا وجدنا ثلاثين شاباً، ففي بداية السنة كان عندنا ثلاثون شاباً، وانتهت السنة فما النتيجة؟ وما أثر هؤلاء الشباب؟ وكم شاب اهتدى على أيديهم؟ وكم زاد العدد؟ قد يزيد العدد خمسة .. ستة، بمقابل الخسائر التي نخسرها، وقد تكون هذه الزيادات أحياناً نتائج عفوية لم تكن وراءها جهود مبذولة.

    لكن لو كان هؤلاء الطلاب مثلاً فعلاً طاقات عاملة، وأنا ما أريد من الطالب أن يهتدي على يديه جميع الطلاب، لكن لو كان للطالب محاولة واحدة كل شهر، وأشهر الدراسة إذا حذفنا أيام الامتحانات والإجازات وغيرها ستكون ستة أشهر، سيكون عندك كم محاولة في السنة؟ ست محاولات، وإذا كان عندي ثلاثون طالباً، فكم سيكون عندي من المحاولات؟ ستكون مائة وثمانين محاولة.

    افترض يا أخي! أننا نجحنا بنسبة 10% فقط، 10% من جهودنا نجحت، 90% فاشلة فكم سيهتدي على يد هؤلاء الثلاثين شاباً؟ سيهتدي ثمانية عشر، أي: أكثر من النصف، يعني: عندما ننجح بنسبة 10% فسيزيد العدد بمقدار النصف، مع أن المفترض ألا تكون محاولة الشاب مجرد مرة واحدة في الشهر، والمفترض أن تكون النتائج أكثر من 10%، يعني: من كل عشر محاولات تنجح محاولة واحدة، فافترض أن نسبة النجاح 5%، وأن 95% من الجهود التي يبذلها هؤلاء الشباب في استصلاح الشباب الآخرين تفشل، فستكون النتيجة أن يهتدي على يد كل ثلاثين شاباً تسعة شباب، يعني: بمقدار الثلث.

    وتخيل معي بعد أربع سنوات أو خمس سنوات كم سيزيد الرقم؟ تخيل النتائج التي تحصل بعد ذلك لو أجدنا استغلال هذه الطاقات.

    وهؤلاء الشباب والطلاب الذين لديهم تقصير لا أحملهم المسئولية وإنما أحملها الأساتذة، وأحملها موجهيهم، فهؤلاء عندهم استعداد، بدليل أنك عندما تقترح عليهم أي اقتراح تجد أنهم يبادرون في تنفيذه، لكن يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم ويقول: هذا هو الطريق، وبحاجة إلى من يشير لهم وسيسيرون بمجرد الإشارة.

    ألا توافقون أيها الإخوة! أن هذا أيضاً هو الآخر قطاع كبير معطل فعلاً، ولو أن هؤلاء الشباب أدوا أدوارهم لتغيرت الصورة.

    إذاً: إذا استطعنا أن نوظف هؤلاء الشباب فسننجح كثيراً.

    وعلى كل حال هناك خواطر كثيرة حول هذا الموضوع: موضوع الطلاب سبق أن أشرت إليها في المحاضرة السابقة، ولعلي أيضاً أن أخصص لهذا الموضوع إن شاء الله محاضرة مستقلة.

    من الطاقات المعطلة أصحاب المواهب

    كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: أصحاب المواهب أو الموهوبون:

    وللأسف نحن أسوأ الأمم والمجتمعات برعاية الموهوبين، فالدول الأخرى عندها شيء اسمه رعاية الموهوبين، وهو غير موجود في مجتمعاتنا إطلاقاً، فهناك مدارس خاصة بالموهوبين، ودراسات خاصة، ومؤتمرات خاصة لتدريس الموهوبين ورعايتهم، وهناك دراسة أجراها مكتب التربية العربي لدول الخليج عن واقع الموهوبين في دول الخليج العربي فإذا قرأتها فستنصدم عندما ترى ما فيها من النتائج.

    فهناك سؤال وجه لوزارات التعليم في دول الخليج: هل توجد إدارة أو جهة مسئولة عن الموهوبين؟ فالجميع أجاب بلا ما عدا البحرين.

    وهناك أسئلة أخرى: هل توجد خطط تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد تشريعات تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد مناهج دراسية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد برامج تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل يوجد معلمون متخصصون في التعامل مع الموهوبين؟ وهل هناك متابعة للطلاب الموهوبين؟

    فالجميع أجاب: بلا.

    فهذا واقع الموهوبين عندنا، لكن نحن لا نخاطب أولئك فلهم من يتحدث معهم، نخاطب الدعاة والأساتذة، فنقول: يجب أن نلتفت إلى هذا الجانب، أعني: الطاقات الموهوبة، وهذا أمر شرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، فالناس يختلفون: طاقات ومواهب.

    والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء ..) إلى آخر الحديث.

    ويقول: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).

    فعل كل حال ليس هذا وقت التأصيل لهذه القضية، لكن هذه القضية معروفة شرعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان فئة من الناس يعلم أن لإيمانهم ودخولهم في الإسلام أثراً في خدمة الإسلام والمسلمين.

    فما مدى عناية الأساتذة بهؤلاء الموهوبين؟ أنت أستاذ تدرس في مدرسة وعندك طالب شاعر، أو عندك طالب ذكي، أو عندك طالب يملك أي مواهب معينة وقدرات معينة، فما مدى عنايتك بتوجيهه ورعايته؟

    وبعبارة أخرى: ما مدى عنايتك بتوظيف مثل هذه الطاقة لخدمة الأمة؟ فبدلاً من أن يكون هذا شاعراً شعبياً يكتب في صفحة الأدب الشعبي، وبدل من أن يمدح فلاناً وفلاناً من الناس نريده يا أخي أن يوظف هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.

    وأنا أمامي مرحلتان مع هؤلاء الموهوبين:

    المرحلة الأولى: أن يكون هذا الموهوب أحد المتابعين، أو أحد العاملين فعلاً في جيل الصحوة، وحوله إلى إنسان مهتدي وإنسان عامل، إنسان فعلاً يشعر بأن الدعوة هي همه وهي كل شيء، إذا ما نجح في الأمر هذا، ولم أنجح في تربيته التربية الكاملة على الأقل يا أخي أوجد عنده قناعات، على الأقل أكسبه كمؤيد، وكرجل على الأقل محايد، وقد تكون كلامات محدودة أوجهها لمثل هذا الموهوب تجعله يوجه مساره إلى خدمة هذا الدين، وخدمة قضايا الأمة.

    ويجب أيضاً أن ينتبه إخواننا الكرام إلى أن الموهوب ليس هو الذكي فقط، لا، لا شك أن الأذكياء طبقة من طبقات الموهوبين، لكن غيرهم كل من يملك طاقة وقدرة وموهبة ليست عند الآخرين فهو رجل موهوب نحن بحاجة إلى توظيفه.

    ولذا فأنا هنا أدعو الأساتذة الذين يملكون الغيرة فعلاً على واقع الأمة أن يحرصوا على هؤلاء ويعتنوا بهم، سواء في استصلاحهم وهدايتهم لأن فيهم الخير الكثير، أو على الأقل في دعوتهم وتوجيههم بكافة الوسائل؛ لتوظيف طاقاتهم لخدمة قضايا الأمة.

    من الطاقات المعطلة أصحاب المهن الحرة

    كذلك من الطاقات المعطلة: أصحاب المهن الحرة

    كالتجار مثلاً، فالآن الصحوة لها انتشار طيب في قطاع التعليم وقطاع الطلاب، لكن ما مدى انتشار الصحوة في قطاع التجار، وفي قطاع العمالة، فالقطاعات الأخرى تجدها قطاعات بعيدة فعلاً عن هذا الأمر.

    وسنعطيكم تصوراً بسيطاً جداً لذلك، فمثلاً هناك مشكلة نعاني منها كثيراً في المجتمع وهي مشكلة السفور، فتخيلوا لو وجد عندنا مثلاً في سوق من الأسواق خاصة أسواق الملابس الجاهزة، أو الأسواق التي تعرض منتجات تحتاج إليها المرأة، لو كان عندنا في هذا السوق أكثر من تاجر مستقيم ملتزم، أو على الأقل -بعبارة أوضح- أكثر من تاجر واستطعنا أن نوظفه لخدمة الدعوة فعلاً، فعندما تأتيه امرأة متبرجة يقول لها: أنا أرفض أن أبيع للمرأة المتبرجة. يرفض أن يبيع للمرأة المتبرجة، ويضع لافتة على المحل يكتب فيها آية أو حديثاً، ويقول: لذا نرفض أن نبيع للنساء المتبرجات.

    لا شك أنه سيساهم فعلاً بدور كبير في مواجهة الفساد، وستسخر منه المرأة المتبرجة قطعاً، وستعرض عنه، لكنها عندما تذهب إلى المنزل فإنها ستقول: لا أستغرب أنا أن أسمع هذه الكلمة مثلاً من رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خطيب المسجد، لكن لما أسمع هذه الكلمة من التاجر، ومن صاحب المحل، وأسمع الكلمة من الرجل الآخر، ومن فلان وفلان من الناس، فسيدعوها هذا إلى أن تعيد النظر في نفسها، وأن تعيد النظر في هذا التبرج والسفور التي قد وقعت فيه.

    والآن بدأنا نرى وجود محلات خياطة لا تفصل مثلاً ثياباً أسفل من الكعبين، وهذا مظهر طيب، وأنا لا أقول: إن القضية هذه ستحل مشاكل الأمة، لكن هذا مظهر طيب من مظاهر الصحوة، ومظهر يشعر الناس أن الصحوة بدأت تمتد في مجال أوسع، ومدى أوسع.

    وعندما يوجد عندنا أيضاً في وسط الأسواق الذي فيها تبرج وسفور محلات لا تبيع الأزياء المخالفة، وعندما يوجد صاحب المحل الذي يحمل عاطفة خيرة، والكثير من هؤلاء طيبون، فهل تتصورون مثلاً أن أصحاب المحلات كلهم أناس سيئون، لا، ولذلك أحياناً عندما تأتي صاحب المحل وتتحدث معه تجده يعاني من السفور الموجود في السوق، بل أحياناً بعضهم يترك المحل ويترك هذه التجارة؛ نظراً لأنه لا يطيق أن يبقى في هذا المكان.

    وأنا أعتبر هذا الموقف غير سليم، فإذا كان الإنسان متزوجاً، وعنده قدر من التحمل فيجب عليه أن يبقى في السوق، فإذا كان هؤلاء الخيرون سيتركون هذا الميدان فسيبقى الميدان لمن يتمنى أن يرى المرأة متبرجة لينظر إليها.

    فأقول مثلاً: لو استطعنا أن نوظف هذه الطاقات، أصحاب المهن الحرة: التجار، وأصحاب المحلات التجارية، وكافة طبقات المجتمع، أن نوظف هؤلاء لخدمة قضايا الدعوة لكان خيراً كثيراً، ولا يشترط أن يأتي مثل هذا الرجل ويسجل في المركز الصيفي، أو يجلس في حلقة من حلقات تحفيظ القرآن حتى يكون من جيل الصحوة، لا، لكن عندما نخاطب هؤلاء، ونشعر هؤلاء، ونقدم لهم برامج فعلاً للدعوة، فنقول: أنت تستطيع أن تقدم خدمة للدعوة عندما تصنع كذا وكذا، فأجزم أن هناك فئة كبيرة عندها استعداد أن تساهم.

    من الطاقات المعطلة المرأة

    كذلك من الطاقات المعطلة: المرأة

    والحديث عن المرأة حديث ذو شجون، وأظن أننا قد أخذنا نصيب الأسد من الوقت ولم نأت على نصف ما أردنا أن نأتي عليه في هذه المحاضرة، فلعلي أن أختصر.

    فعندنا عدد من النساء متعلمات وعندهن قدرة على التعامل مع المراجع، وعلى التعامل مع الكتب، وعندهن قدرة على الاستفادة والإفادة، فالوقت الذي يضيع عليها وقت هام، فلو أن مثلاً المرأة استغلت جزءاً من وقت الفراغ وقامت مثلاً بإعداد عناصر لبعض الموضوعات، فتجمع بعض النصوص مثلاً، وبعض الشواهد، وتجمع بعض ما ينشر في الصحف، فتجمع مثل هذه القضايا وتوصلها إلى خطيب الجامع مثلاً عن طريق أحد محارمها، أو ترسلها مثلاً إلى أحد الدعاة، أو أحد المهتمين بهذه القضية، أو حتى لو استطاعت أن تخدم زوجها في مثل هذه القضايا، فإنها تقدم خيراً كثيراً، وتوفر لهؤلاء وقتاً يمكن أن يصرفوه لأمر آخر.

    وكذلك المرأة مثلاً تتعامل مع مجتمع لا نستطيع أن نتعامل معه نحن، فالخطباء والدعاة يستطيعون أن يتحدثون مع النساء اللاتي يأتين إلى المسجد عندما تكون محاضرة في المسجد، في مكان مخصص للنساء، أو فقط اللاتي يسمعن الشريط الإسلامي، لكن القطاع الكبير والواسع من يتعامل معه؟ ما يتعامل معه إلا المرأة.

    فما مدى أداء المرأة المدرسة لدورها؟ والمرأة التي تلتقي بالنساء في المجتمعات العامة كالأفراح والمناسبات، وإذا كان الآن الأستاذ مثلاً، وأتحدث أيضاً عن نفسي نحن جميعاً نحتاج إلى الخبرة، ونسأل المختصين كيف نستطيع أن نؤثر على الطلاب؟ وكيف نستطيع أن نوجه الطلاب؟

    إذا كان الأستاذ وهو الذي يتعامل مع الناس الآن، ومفتوح على أبواب الصحوة على مصراعيها، فكيف بالمرأة التي لا تجد من يربيها، ولا تجد من يوجهها، غاية ما عندها من الثقافة ما تسمعه من الأشرطة، أو ما تقرأه في الكتب، فالمرأة أيضاً أحوج ما تكون إلى أن يرسم لها برامج، وأن تفتح لها آفاق تستطيع أن تعمل من خلالها.

    1.   

    الوسائل المقترحة لاستغلال الطاقات الموجودة في المجتمع

    بعد ذلك ننتقل إلى وسائل مقترحة لاستغلال هذه الطاقات:

    ن أن لعلي أن أذكركم مرة أخرى بما قلته في المقدمة: أنني لا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولن أستطيع، وعندما أدعي ذلك، بل عندما أحاول أن أضع النقاط على الحروف في مثل هذا الموضوع، وأوجد الحلول لمثل هذه المشكلة أعرف أنني أرتقي مكانة ليست لي، وأعرف أنني أتشبع بما لم أعط، لكن على الأقل يكفي أن أثير الموضوع؛ ليتولى من هو أعلم مني ومن هو خير مني دراسة مثل هذا الموضوع، والعناية به، وإيجاد الحلول.

    لكن لعلي أشير باختصار إلى أهم ما أراه من وجهة نظري من بعض الوسائل والأساليب التي يمكن أن نستطيع من خلالها أن نوظف هذه الطاقات:

    مخاطبة الناس بأهمية الدعوة، وتنبيههم على أنهم مخاطبون بها

    أولاً: أن نركز في حديثنا في الخطب، وحديث الأستاذ في الفصل، والحديث مع الناس في مجتمعاتهم العامة على أهمية الدعوة، وعلى شمول الدعوة، وعلى أن الناس جميعاً مخاطبون بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست خاصة بفئة دون أخرى.

    بيان مراتب فضائل الأعمال

    كذلك من الوسائل: بيان مراتب فضائل الأعمال.

    فإنك تجد فئة كبيرة من الناس عندهم حرص على العبادة، وعندهم حرص على نوافل العبادات، وعلى نوافل الطاعات، وعندهم اجتهاد مثلاً في أمور من الخير نتمنى أن نملك قدراً من هذا الاجتهاد الذي لديهم.

    والكثير من هؤلاء إنما يؤتى من جهله بمراتب فضائل الأعمال، ولذا من وسائل الشيطان وأساليب الشيطان في إضلال الناس أن يشغل العابد بالمفضول عن الفاضل، ولا شك أنه كما قال ابن الجوزي : ألست تبغي القرب منه -يعني: من الله سبحانه وتعالى-؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم.

    والإمام ابن القيم رحمه الله يقول: الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالم الذي عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس، وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله، وتفريغ وقته للصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح.

    وقبل ذلك كله يقول الله سبحانه وتعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:19].

    فأنا أرى أنه من وسائل تشغيل هذه الطاقات: أن يعرف هؤلاء مراتب فضائل الأعمال، وأن من أفضل الأعمال الانشغال بنفع الناس، وأفضل نفع للناس هو إنقاذهم من الضلال، إنقاذهم من الظلمات إلى النور.

    أليس الله سبحانه وتعالى يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]؟

    فالله سبحانه وتعالى رتب الأجر العظيم على هذه الأعمال؛ لأنها أعمال متعدية للناس نفعها ليس قاصراً على صاحبها وحده.

    اقتراح برامج للناس وطرحها

    كذلك أيضاً من الوسائل: اقتراح برامج للناس وطرحها.

    فلا يكفي مثلاً أن نطالب الناس بالدعوة، وأن نطالب الناس بالمساهمة في أمور الخير، وأن نقول للناس: إنكم قادرون أن تبذلوا، وأن تصنعوا كذا وكذا، بل الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة).

    فلو تأتي إلى الإبل المائة مثلاً لو توجها ستسير في الطريق، والراحلة تنتفع بها أكثر من غيرها، لكن تبقى تسع وتسعون يمكن أن ينتفع بها، وإذا وجهتها توجهت.

    فالناس لا يكفي أن تقول لهم: اعملوا، اصنعوا، افعلوا كذا وكذا، ليس كل الناس قادرين على ذلك، القادرون هم طبقة معينة من الناس أو فئة من الناس الذي بمجرد أنه يستشعر المسئولية، ويدرك الأمانة هو من تلقاء نفسه فإنه يبتكر الأساليب والوسائل، فهو يدرك ماذا يصنع، هؤلاء فئة قليلة، لكن البقية ينتظرون أن يرسم لهم برنامج محدد، فمثلاً عندما يحصل منكر ونطالب الناس بتغييره ينبغي أن نرسم لهم برنامجاً واضحاً، فنقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك نفتح المجال للرواحل، نفتح المجال للطاقات أن تبدع بعد ذلك فيما وراء ذلك.

    وهكذا مثلاً عندما نخاطب التاجر ونطالبه أن يساهم في الدعوة، فنقول له: اصنع كذا وكذا وكذا، وعندما نخاطب الطالب، فالأستاذ مثلاً عندما يقول لطلابه، سواء طلابه في الفصل عموماً، أو الطلاب الذين هم أخص من ذلك الذين يتلقون منه التوجيه، ويثقون به، ويسمعون كل ما يقول، عندما يحثهم على الدعوة، ويشجعهم، ويثير حماستهم، فسيتحمس الجميع.

    لكن ماذا بعد ذلك؟ يجب أن ننتقل إلى خطوة أخرى، فنرسم لهم برامج واضحة محددة مقنعة يستطيع هؤلاء أن يصنعوها، ونحدد لهم الخطوات، ونرسم لهم البرامج، فحينئذٍ تجزم أن هؤلاء سيصنعون شيئاً.

    وأضرب لكم مثالاً: لو جاء أستاذ وتحدث مع الطلاب عموماً عن ضرورة الدعوة، والحاجة إليها، ولا تحتقرون أنفسكم، وافعلوا وافعلوا، فسينصرف الجميع وهو يحمل في نفسه قناعة، ويحمل في نفسه شعور وتوجه نحو الدعوة، لكن لا يدري بعد ذلك ماذا يصنع، بدليل مثلاً أنك تجد الأسئلة بعد ذلك: ماذا أصنع؟ وماذا علي؟ عرفت أن الدعوة مهمة فماذا أصنع؟ وما الحل لهذه المشكلة؟

    لكن لو قال مثلاً لهم: من الحلول مثلاً أن تصنعوا كذا وكذا، والفصل فيه مثلاً ثلاثون طالباً، وفيه خمسة من الشباب الأخيار، لو يجتمع كل واحد منهم مثلاً ويدفع شهرياً مثلاً عشرين ريالاً فقط، فسيكون عندنا مائة ريال، وعندنا ثلاثون طالباً إذا نسخنا شريطاً بثلاثة ريالات فسنستطيع أن نعطي جميع طلاب الفصل نسخة من هذا الشريط.

    فأنا أجزم أن الأستاذ عندما يقترح مثل هذا البرنامج على الطلاب فإنه سيجد منهم المبادرة إلى تنفيذه، لكن لو كان يحدثهم عن الدعوة عموماً، وعن مجالات الدعوة الواسعة فقد لا يهتدوا إلى مثل هذه الفكرة أو تلك.

    فأقول يا إخوة: لا يكفي فقط أن ندعو الناس إلى الدعوة، ولا يكفي أيضاً أن نتهم الناس بالتقصير: أنتم مقصرون في الدعوة، وما عندكم غيرة، وما عندكم اهتمام، وقائمة من التهم التي نصف بها هؤلاء الناس، والمشكلة أننا لا نوجه هذا الكلام إلا إلى الناس الخيرين الذين يسمعون لنا.

    فأنا مثلاً عندما أتحدث وأقول: أنتم مقصرون في الدعوة، وأنتم ما عندكم غيرة، وما عندكم حمية، من يسمع لي؟ يسمع لي الناس الأخيار، يسمع لي رواد الصحوة، فما يكفي هذا الأسلوب، ولا شك أن بيان الأخطاء مطلوب، لكن بأسلوب، لكن خير من ذلك كله أن أرسم البرامج للناس يسيرون وراءها.

    الأسلوب الآخر: مثل هذا الأسلوب لكنه نقلة أخرى، وهو أن نقوم بإشراك هؤلاء في برامج عملية، يعني: نحن ننظم البرامج، ونجعل هؤلاء يشاركون فيها، فمثلاً بدلاً من أن أقوم أنا بالعبء لوحدي، أو يقوم بالعبء مثلاً خمسة من الشباب الذين يمكن أن يعملوا أعمالاً أخرى، ويستغلوا ميادين أخرى، ممكن يقوم واحد من هؤلاء الشباب ويستغل عشرة من الطاقات المعطلة، وسيجد فئة كبيرة من طبقات المجتمع عندها استعداد أن تتعاون معه.

    فيرسم البرنامج، ويقوم هو بنفسه على هذا البرنامج، فيقوم الجميع وراءه، ويسيرون معه، فنستطيع هنا أن نشغل هذه الطاقات، ونستطيع أن نشعر الناس أنهم قادرون على أن يعملوا، ونستطيع أن نوفر أوقات نحتاج إليها عندما تكون كل الأعمال والأعباء علينا.

    وانظروا مثلاً إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء قوم من مضر عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، مجتابي النمار، فرقّ النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، فدخل وخرج، وتغير وجهه، فصعد المنبر وقال: (تصدق رجل من بره، تصدق رجل من درهمه، من ديناره)، فما تصدق أحد، حتى جاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها، بل قد عجزت عنها، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس.

    يقول الراوي: حتى رأيت كومين من طعام وثياب عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

    فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب وحث الناس، ودعاهم للصدقة، وهم يرون الموقف أمامهم، يرون أقواماً قد بلغ بهم الفقر مبلغاً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرق لحالهم، ويدخل ويخرج، ويدعو الناس للتصدق، ومع ذلك ما تصدقوا، لكن لما جاء هذا الأنصاري بهذه الصرة وألقاها وضع أمامهم برنامجاً هم يعرفونه ولا يجهلونه، لكن كان هذا داع تتابع الناس بعد ذلك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

    فلماذا مثلاً نجعل الأعباء علينا وحدنا؟ فلما تأتي أنت وتريد أن تقوم بجهد فبدلاً من أن تحمل نفسك هذا الجهد، وقطعاً لن يكون على المستوى المطلوب، وإنما تأتي وتشرك فيه عدداً أكبر سيكون عندكم قدرة على رفع المستوى، وعلى جهد أعلى، ففيه اجتماع الآراء، وتشغيل هذه الطاقات، وأيضاً فيه توفير وقت وجهد لك أنت يمكن أن تستثمره في أمور أخرى.

    أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة

    كذلك من وسائل أيضاً استغلال هذه الطاقات: أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة، فما يشعر الناس أن القضية أن هناك أعداء، هناك أناس مؤيدون أصحاب الصحوة، ونحن جمهور المتفرجين دورنا فقط هو التصفيق والتأييد.

    فهناك قطاع كبير من الناس يشعر بأن دوره هو التأييد، فيقف .. ويسمع .. وينظر من بعيد، لكن لما نشعر هؤلاء بأنهم جزء من الصحوة أصلاً، فنقول لأحدهم: أنت جزء من الصحوة، فيجب أن تشعر أنك إذا استهدف فلان أنك أنت مستهدف، الأعداء ما يستهدفون الدعاة وحدهم، وإنما أيضاً يستهدفونك أنت، فالدعاة فقط مجرد قادة، ومجرد أعلام، وأنت يجب أن تسير وراءهم.

    فعندما نشعر الناس بهذا، ونقضي على الحاجز هذا: أن القضية مجرد مجموعة من الناس هم جيل الصحوة، والمجتمع بمعزل، لا، لابد أن نكسر هذا الحاجز، ونشعر الناس بأنهم جميعاً أبناء الصحوة، فلا شك أن هذا يدعوهم إلى أن يساهموا أكثر، وأن يقدموا خدمات أكثر للصحوة.

    تغيير لغة التخاطب مع الناس

    أسلوب سابع: تغيير لغة التخاطب مع الناس.

    أظن مثلاً يعني الحديث مع الناس: هذا حرام، والكثير من الناس يستهينون به، ولا يعبأون بحدود الله، وحرمات الله، هذا الهجوم الشرس على الناس أظن أنه ليس وحده أسلوب الموعظة الناجح، وكذلك الحديث العاطفي الذي يأخذ قدراً كبيراً من المبالغة، وإلهاب عواطف الناس وحماس الناس، مما يجعلهم يأخذون ردة فعل معاكسة ليس هو الأسلوب وحده أيضاً الذي يؤدي إلى إقناع الناس.

    أحد الخطباء الغيورين خطب وتحدث مع الناس عن مشكلة موجودة، وللأسف ليست حالات فردية، ولا حالات نادرة، بل حالات منتشرة، وهي أن بعض الفتيات يخرجن مثلاً في الليل دون أن يعلم عنهن أولياء الأمور، فهي ظاهرة موجودة ومشكلة موجودة في المجتمع، فالكثير من أولياء هؤلاء الفتيات لا يعلمون.

    فالخطيب يريد أن يتحدث عن هذه المشكلة، وعن مشكلة العلاقات السيئة بين الفتيات وبين الشباب، فبالغ في الموضوع، وضخم الأمر، وقال: يجب على كل أب أن يستيقظ الساعة الواحدة، ويذهب يتفقد ابنته هل هي في الفراش أم لا! وضخم الموضوع، حتى يقول لي أحد الحاضرين: خرجت وأنا أشك في والدتي، وأنا أشك بأمي أنها تستيقظ نصف الليل وتذهب مع بعض الشباب.

    فالخطيب يريد أن يعالج قضية فعلاً مهمة، وقضية حساسة، لكنه عندما يندفع بهذه العاطفة، ويتجاوز ويبالغ، فالنتيجة ستكون ردة فعل، أو النتيجة أن يقول الناس: هذا إنسان عاطفي، لكن لو كان يعالج المشكلة فعلاً بعقلانية وبمنطق، ويتحدث مع الناس بأسلوب مناسب، ويطرح حلولاً معقولة، ويتعامل مع الناس بالثقة، فأظن أن الصورة ستختلف كثيراً.

    كذلك مثلاً عندما أتحدث مع ناس يقعون في معصية معينة من المعاصي بدلاً من أن أقول: أنتم للأسف متهاونون بحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا تقيمون لشرع الله وزناً، ولا يبالي أحدكم بأمر الله عز وجل، ويعطي قائمة من التهم، لو كان يقول للناس: إننا مقصرون في طاعة الله، ونحن نتجاوز حرمات الله عز وجل، ونتجرأ على المعاصي، ويشرك نفسه مع الناس؛ لاختلفت نظرة الناس إلى هذا الحديث.

    ولو كان يتحدث للناس مثلاً عن أضرار المعاصي فقط وشؤم المعاصي، فالناس يدركون أنهم واقعون في المعصية، فعامة المسلمين الآن الذين يقعون في المعاصي يدركون أنهم واقعون في المعصية، لو كان يتحدث فقط عن أضرار المعصية، أو يتحدث عن ورع السلف عن المعاصي، ويتحدث عن حال الزهاد، وعن حال النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلك مثل هذه الأساليب والوسائل.

    فلنغير لغة التخاطب مع الناس، فأحياناً نتحدث عن جوانب الخير عند الناس: عندكم جوانب خير، وفيكم كذا وكذا، فمثلاً أحد الناس قام يتحدث بعد صلاة الفجر عن التأخر عن صلاة الفجر، فهؤلاء جاءوا يصلون الفجر، ففيهم خير، وبدأ ينزل على الناس: للأسف أنتم لا تبالون بصلاة الفجر، ولا تقيمون لها وزناً، فقال له أحد الحاضرين: خاطب الناس الذين في الفرش، وأما نحن فقد حضرنا، ولو ما كان عندنا خير، ولو كان ما عندنا شعور بأهمية صلاة الفجر لما جئنا أمامك، ولما سمعنا حديثك.

    فأقول: أيضاً من الوسائل: تغيير لغة التخاطب مع الناس، وأنا لا أدعو إلى أن نتنازل ونميع القضايا، ونقول للفساق: أنتم من الأتقياء، وأنتم من البررة، لا، لكن على الأقل نغير أسلوب التخاطب مع الناس.

    ولنا أسوة بأنبياء الله، وأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيوسف عليه السلام قال وهو يخاطب أناساً مشركين: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:37-39]، فبدأ يتدرج مع هؤلاء مع أنهم مشركون.

    و ابن القيم رحمه الله له عبارة جميلة في (الفوائد) قريبة مما قلناه، يقول: العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة؟! فإن صعب عليهم ترك الذنوب، فاجتهد أن تحبب الله إليهم؛ بذكر آلائه، وإنعامه، وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها.

    التنويع والتجديد في مجالات الدعوة

    وأخيراً من هذه الأساليب: التنويع والتجديد في مجالات الدعوة.

    إن قطاعات المجتمع تختلف، فمثلاً عندما نسير على برامج محددة، وعلى خطوات محددة، فهذه البرامج وهذه الخطوات قد لا تتناسب مع فئات أخرى من المجتمع، فيجب أن ننوع، والمجتمع يتحمل، وأظن أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين يحتمل كل ما عندنا من قدرات، وكل ما عندنا من مواهب، وكل ما عندنا من أساليب، فلو رمينا به في الساحة أجزم أن الواقع سيتحمل كل هذه الجهود.

    فينبغي أن نجدد، ونبتكر، ونطور في أساليب الدعوة التي من خلالها نستطيع أن نوظف كثير من هذه الطاقات المعطلة.

    مرة أخرى -أيها الإخوة- أكرر ما قلته في بداية هذه المحاضرة: أن هذا الموضوع أكبر مني، بل أرى أن مثل هذا الموضوع لا يمكن أن يعالجه مجرد شخص واحد، ولا حتى مفكر واحد، مثل هذه الأمور أعتبر أنها قضايا أساسية، وقضايا مهمة من قضايا الصحوة، يجب أن يتعاون ويتكاتف عليها الجميع، ويجب أن تقوم دراسات فعلاً حول مثل هذه القضايا، ولكن فقط ما أردت تحقيقه من خلال هذا العرض هو إثارة الاهتمام بمثل هذه القضية، وتوضيح هذه المشكلة التي أرى أننا بحاجة إلى أن نعتني بها.

    وما طرحت من الأساليب والوسائل أيضاً أجزم أنها ليست هي الأساليب المثلى، وليست هي الأساليب الكافية فعلاً لتشغيل مثل هذه الطاقات، ولكنها على الأقل مجرد أمور ومقترحات أقترحها للأخوة جميعاً أن يعملوا بها، وأن يساهموا في تطوير مثل هذه المقترحات، وأجزم أيضاً أنهم قادرون على اقتراح وصنع وإيجاد وسائل وأساليب أخرى.

    وأخيراً أيضاً: أنبه مرة أخرى أني لست أتهم هؤلاء الخيرين الذين قد أكون صنفت البعض منهم في مثل هذه الطاقات المعطلة، لست أتهمهم بالتقصير أو الإهمال، لا، إنما أقول -وأنا أول المقصرين-: يجب أن نوظف جميع طاقاتنا وقدراتنا في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، والقضية تناصح وتعاون على البر والتقوى.

    أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى.

    1.   

    الأسئلة

    دور المسلم في خدمة هذا الدين

    السؤال: قد يقول قائل: ما هو دوري كطاقة معطلة بعد سماعي للشريط، أو قراءتي للكتاب، أو طلبي للعلم الشرعي؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: أنت عندما تعترف بأنك طاقة معطلة فإنك تكون قد قطعت علينا ثلاثة أرباع الطريق.

    فاعترفت أولاً أنك طاقة، يعني: أنك قادر أن تصنع شيئاً.

    الأمر الثاني: اعترفت أنك معطل، أي: أنك لم تقم بالواجب الشرعي، فهذا الشعور بحد ذاته يكفي، فأحياناً نجد عناء في إقناع الناس به.

    ودورك بعد ذلك أن تقوم بواجبك، فمجالات الدعوة كثيرة وليست مجالاً واحداً، فأنت تسخر طاقتك وقدراتك لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، فمهما كان مجالك، ومهما كانت قدراتك، ومهما كان تخصصك أظن أنك ستجد مجالات واسعة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.

    فأقول: دورك ما دمت أنك اعترفت أنك طاقة معطلة: أن تشغل هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.

    الفرق بين الطاقة المعطلة والطاقة المتعطلة، والسبب في تعطيل هذه الطاقات

    السؤال: عنوان هذه الموضوع: الطاقات المعطلة، فلماذا لم يكن: الطاقات المتعطلة، وهل هذه الطاقات قد عطلت من أصحابها، أم أنها عطلت من غيرهم؟

    الجواب: أظن أنه ليس هناك مشكلة، فكلها سواء: الطاقات المعطلة، الطاقات المهدرة، الطاقات المتعطلة، فأنتم إذا وافقتمونا على ما طرحناه، فيبقى العنوان ليس فيه إشكال، فسواء كان: الطاقات المتعطلة، أو الطاقات المعطلة، لكن أنا مع تقديري واحترامي لوجهت نظر الأخ وشكري له، أتصور أن الطاقات معطلة وليست متعطلة؛ لأني قلت يا إخوة: مع أننا نحمل هؤلاء المسئولية، لكن أرى أن أهل التوجيه يتحملون جزءاً كبيراً من المسئولية، فمثلاً عندما نقول: إن قطاعاً كبيراً من الطلاب هم من الطاقات المعطلة، فالذي يتحمل المسئولية هم الأساتذة؛ لأنهم هم القادرون على رسم برامج محددة لهؤلاء.

    وكذلك القطاع المتعامل مع الصحوة، فأقول: الموجهون الآن للصحوة من خلال كافة المنابر التي من خلالها يتعاملون مع قطاع عريض من قطاع الصحوة، أقول: هؤلاء هم أيضاً مسئولون عن تشغيل هذه الطاقات، وهم مسئولون عن رسم برامج معينة، ولذا قصدت إلى اختيار هذا العنوان نظراً لأني أرى من وجهة نظري الشخصية أن العبء الأكبر يقع على الدعاة، وإن كان في الواقع الناس الآخرين ليسوا معفيين من تحمل المسئولية، لكن هذه الطاقات التي نعنيها هي طاقات متجاوبة مع الصحوة، فكثير من طلبة العلم، ومن الطلاب، ومن خطباء الجوامع، ومن غيرهم، هم أناس يتفاعلون مع قضايا الصحوة، لكنهم يحتاجون أن يوجهوا، وأن يرسم لهم برامج معينة.

    نصيحة لأئمة المساجد

    السؤال: فضيلة الشيخ! ألا ترى أن من الطاقات المعطلة بعض أئمة المساجد؟ فإن كان كذلك فما علاج هذه الطاقة المعطلة؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: أيضاً من الطاقات المعطلة ولا شك أئمة المساجد، وفي الدراسة السابقة التي أشرت إليها أيضاً للأسف أن نسبة أقل جداً 85% من الشباب غير الملتزمين يقولون: إن إمام المسجد دعاه إلى الالتزام والاستقامة، فما دور الإمام؟ فهو يصلي بهم وعلى الأقل هو موجود في الحي، فإذا كان 15% فقط من أئمة المساجد هم الذين يعتنون بهؤلاء الشباب الموجودين عندهم في الحي فأظن أن هناك تقصيراً واضحاً.

    فالإمام مثلاً لو دعا هذا إلى منزله، ولو تحدث معه حديثاً ودياً أخوياً؛ لتغيرت الصورة بمجرد لقاء واحد أحياناً مع إمام المسجد، لكن أنا تحدثت عن الخطيب نظراً لأن الخطيب يتعامل مع كافة الناس، فكل المسلمين يصلون مع خطيب الجمعة، والخطيب يستطيع أن يتحدث معهم، وينصتون إليه أكثر من الإمام، لكن الإمام أيضاً هو الآخر عليه مسؤوليات أخرى يجب أن يقوم بها.

    فأنا لا أود أن يطرح هذا السؤال مرة أخرى: كيف يعمل؟ ما دمت تشعر أنك طاقة معطلة يا أخي! فشغل هذه الطاقة، فينصح الناس الذين لا يصلون في المسجد، ويقوم بجمع التبرعات للمسلمين، ويقوم بجمع الزكاة، ويخدم أهل الحي، ويساهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحي، ويقوم بدعوة الشباب الموجودين في الحي، ويرتب برامج لهؤلاء، كل جهد وكل دعوة يمكن أن تقدم في الحي فإمام المسجد من مسئوليته أن يقوم بها.

    كيفية تدريب الطاقات المعطلة

    السؤال: تعطيل الطاقات أمر صحيح، ولكن كيف تدرب هذه الطاقات؛ لكي تؤدي دورها الآن، لأن فاقد الشيء لا يعطيه؟

    الجواب: نعم، هذا سؤال وجيه ويفرض نفسه، لكن هل تريدون أنه مثلاً نعقد دورات تدريبية لهؤلاء؟ إن التدريب هو في العمل، التدريب يكون على رأس العمل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فما عندنا فترة تدريبية، فإذا أسلمت ودخلت في الإسلام فابدأ، فعلى قدر ما تستطيع ساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا التزمت واستقمت وسلكت طريق الخير فابدأ ساهم في الدعوة بقدر ما تستطيع، والتدريب على رأس العمل، والقدرات والمواهب لن تملكها إلا من خلال العمل، فليس هناك تدريب إلا بالعمل نفسه.

    صحيح أنك ستستفيد من خبرات الآخرين، فمثلاً عندما تقرأ في سير الدعاة، وتطرح بعض التجارب المعينة، وبعض الأفكار، وبعض التوجيهات، فإن ذلك يفيد، لكن التدريب الحقيقي هو من خلال العمل، فالخطيب الذي يستطيع أن يؤثر في الناس ويشد الناس، كيف تعود؟ تعود من خلال المنبر، فمن خلال الخطابة استطاع أن يملك مهارة الخطابة، وهكذا كل إنسان.

    فأقول: إن تدريب هذه الطاقات، وإعداد هذه الطاقات، إنما يتم ذلك فعلياً من خلال العمل، فالعمل نفسه هو الذي يعد هذه الطاقات ويهيئها.

    نصيحة لبعض الشباب العاطلين والذي لا يعترفون بأنهم طاقات معطلة

    السؤال: بعض الشباب -للأسف- لا يقتنع بأنه طاقة معطلة، مع أنه لا يبذل إلا القليل للإسلام، فما علاج هذه المشكلة؟

    الجواب: هذه القضية سبق أن تحدثت عنها في المحاضرات السابقة، وهي التهرب من المسئولية، يعني: إما أن يشعر أنه غير قادر، أو يشعر بعدة مشاعر يرى أنها تعفيه من المسئولية، فالطريق هو إقناعه أولاً بأنه طاقة، ثم إقناعه بأنه معطل، ثم بعد ذلك يرسم له البرنامج العملي الذي يساهم فيه.

    لكن أحياناً قد يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة) يعني: بعض الناس أصلاً هذه غاية ما يصل إليه، وهذه قدراته، فلن نحمل الناس إلا ما يطيقون.

    نصيحة لمن كانت طاقته معطلة

    السؤال: أنا شاب طاقاتي معطلة، فكيف أحركها؟

    الجواب: الشاب الغالب عليه أن يكون طالباً، وأنا عرضت لكم نموذجاً، فنريد أن تستغل وقتك فعلاً في الدراسة، وأن تشعر أن عليك واجباً تجاه زملاء الدراسة، وتبذل الجهد في استصلاح هؤلاء وهدايتهم، وتقدم أنت خيراً كبيراً لهم، وهذا غاية ما تقدم، وغيرك قد لا يستطيع هذا الجهد.

    فأنت قادر على أن يهتدي على يديك الكثير من الشباب، وقادر أن تمنع مثلاً الكثير من المخالفات الموجودة في وسط المدرسة، وقادر على أن تصنع الشيء الكثير عندما تقتنع بأنك قادر.

    فنريد من الشباب هذا الجهد وحده، مع عنايتهم بإعداد أنفسهم، ولا يشغلنا يا إخوة! العناية بالدعوة، والشعور بخدمة الأمة، أن يشعر كل واحد منا أنه قد تخرج وانتهى، وأصبح يعطي ولا يأخذ، لا، يجب أن يكون نصيب الأسد الآن من اهتمامنا هو في إعداد أنفسنا، لكن أيضاً مع هذا الإعداد أن نقدم ونبذل الكثير.

    فالشاب يستطيع أن يصنع جهوداً لا يصنعها غيره، ويستطيع أن يؤثر على زملائه بقدر لا يمكن أن يصنعه غيره.

    ولعلي على كل حال أتحدث عن مثل هذه القضايا إن شاء الله فيما وعدت أن أتحدث عنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756225958