لا نزال مع إبراهيم خليل الله والجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن نصره الله على أعدائه عندما قذفوه في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، جعلهم الأسفلين، ورد مكرهم في نحرهم، عند ذلك رأى أن البلاد ليست صالحة للمؤمن، وليست صالحة لداعية إلى الله وقد أصروا على قتال وحرب وتهديد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك البلاد وهاجر إلى الله، وكان أصل الهجرة ومشروعيتها ما فعله إبراهيم خليل الله، وقصه علينا ربنا جل جلاله.
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [الصافات:99] أي: إني مهاجر كما ذكر في آيات أخر، فهجر الكفر وبلاد الكافرين وهاجر إلى ربه حيث يجد متسعاً من الأرض بلا ضيق ولا مقاومة ولا صد عن دعوة الله، فذهب مهاجراً.
وقوله: سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، أي: سيهدني الطريق المستقيم، وسيهديني للذهاب إلى البلاد التي أدعو فيها إلى ربي دون أن أجد معارضاً ولا صادا،ً وقد قلنا: بأنه ذهب إلى أرض حران، فبعد أن وجد نفسه غريباً ترك موطنه، وترك عشيرته، ونادى ربه متضرعاً: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] أي: هب لي ولداً صالحاً يكون منهم، ويكون بينهم يصلح في دينه، ويصلح في دنياه، ويصلح لي باراً مطيعاً، ويصلح لعباد الله الصالحين، فأجابه الله واستجاب دعوته وقال: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101].
ومعنى ذلك: أن زوجته حملت، وأنها بعد الحمل ولدت، فبشره الله به قبل أن يكون، فكان بعد ذلك، وولد بعد ذلك فبشره به غلاماً مولوداً صغيراً رضيعاً، وبشره بأنه سيصبح رجلاً حليماً، والحلم: هو التوؤدة والتأني وعدم التسرع، وهو العقل فيما يهديه ويصلحه في دينه ودنياه، وهو الذي لا يتأثر بكلمة عابرة، ولا يغضب لأي سبب، فهو إذا أوذي حلم، وهو إذا أوذي قابل السيئة بالحسنة لا يغضب، فجعله الله غلاماً حليماً، وسيبشره بعد ذلك بالنبوة والرسالة الخالدة الساندة في سلالته إلى يوم القيامة.
قال ربنا: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102]، ومعنى ذلك: أنه استجيب دعاؤه وولد له ولد، وتمت البشارة التي بشره بها ربه، والبشرى تكون بخير في أغلب الكلام وأغلب الأحيان، وقد تكون البشرى بشر، ولكنها تكون إلى الهزل والسخرية أقرب.
ولد الولد الذي بشر به، وكبر حتى بلغ مبلغ الرجال الذين يسعون مع آبائهم في معاشهم، يسعون لخدمة دارهم وأهاليهم وأبيهم وأمهم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102]، والسعي في الخدمة وفي الاستزادة منه، والصلاح، قالوا: ولقد كان سنه ثلاثة عشر عاماً، وقال بعضهم: كانت سنه تسعة أعوام، وقال ابن عباس : بلغ أن يصلي ويصوم، أي: قد بلغ، فأصبح مكلفاً كما يكلف الرجال، ونحن في الصحاري في الأرض الحارة وهو هنا نشأ، وهناك نبئ، وهناك حدث ما حدث فيما يقصه الله علينا في هذه البلدة المقدسة الطاهرة عند زمزم والكعبة المشرفة، زادها الله تشريفاً وتكريماً، وبلوغ النساء في البلاد الحارة يكون بين التاسعة والعاشرة، وبلوغ الرجال يكون في العادة بين العاشرة والثانية عشرة، وقد حكى التاريخ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان بين أبيه وبينه اثنا عشر عاماً، وتزوج صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة أم المؤمنين ودخل بها وهي ابنة تسع فكانت بالغة، تصلي وتصوم، وهذا يدفع الكلام من الكثير من أعداء الله وأعداء رسول الله والمسلمين بأنه تزوج طفلة ليست مطيقة بعد، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يقيسون ذلك على أنفسهم وهم يعيشون في أرض باردة لا يكاد الشاب يبلغ إلا بعد أن يصل ثماني عشرة سنة، ولا تكاد تبلغ البنت حتى تتجاوز السادسة عشرة.
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102] لما بلغ سن الثالثة عشرة، وكان يصلي ويصوم، وقد بلغ مبلغ الرجال، رأى إبراهيم رؤيا في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي، لأن الشيطان لا أثر له على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولذلك عندما رأى إبراهيم الرؤيا قصها على ولده، وقد بلغ معه السعي، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].
فكر معي ما هو رأيك؟ ماذا ترى؟ هل توافق على هذا؟ ومعنى ذلك: أن ولده هذا كان يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، فهو يسأل ولده وهو يعلم معنى هذا الكلام، فأنا قد رأيت فماذا ترى؟ وإبراهيم خليل الله الرحمن لا يريد أن ينفذ الأمر بناءً على مشورة ولده، ولكنه يريد أن يطيب خاطره، ويسمع موافقته، وإلا فرؤياه التي هي أمر إلهي لن يتراجع عنها أبداً.
فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] والرؤية هنا ليست نظر البصر، ولكن نظر الفكر والرأي والبصيرة.
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]؛ لأن هذا الوليد اعتبر ذلك أمراً إلهياً مما يدل على فهمه، وعلى إدراكه، وعلى وعيه في مبتدأ العمر.
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
قال له: افعل ما تؤمر، اذبح فهذا أمر وأنا أطيق ذلك، وأومن به، وعلق ذلك على المشيئة الإلهية لأنه بلاء عظيم، وهو مصيبة شديدة، ومع ذلك خاف أن يعجز عند التنفيذ وعند الذبح ألا يصبر، فقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
فبمشيئة الله، وبعون الله ستجدني صابراً على تنفيذ هذا الأمر الإلهي.
قالت جمهرة من العلماء: إن الذبيح هو إسحاق بن سارة، وهو كلام تلقف من اليهود، وأخذ من كعب الأحبار ولا أصل له، والقرآن محتو على تفسير آياته لمن تمعن وتفكر، والذي يتفكر يجزم أن الذبيح هو إسماعيل، وممن قال هذا القول: عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وروي عن ابن عباس خلاف في هذا القول، فروي عنه أنه إسحاق ، وروي عنه أنه إسماعيل، وهو رأي جماعة من التابعين كذلك، والأدلة القاطعة على هذا:
أولاً: إسماعيل هو الذي كان هنا في مكة، والذبح وقع في منى عند المنحر، وكان ذلك أيضاً وقت الحج عندما ذهب الشيطان في صورة إنسان إلى أمه هاجر، فقال لها: يا هاجر! أين ذهب إبراهيم بابنه إسماعيل؟ قالت: ذهب لحاجته، قال لها: لم يذهب لحاجته وإنما ذهب ليذبحه قالت: لم يذبحه؟ قال: يزعم بأن ربه أمره بذلك فقالت: إن كان ربه أمره فأمر الله لابد أن يطاع وصبر جميل.
فأيس منها فذهب إلى إبراهيم فقال: يا إبراهيم! أين تذهب بولدك؟ قال: لحاجة، قال: بل تريد أن تذبحه، قال: كيف عرفت ذلك؟ قال: أدركت بأنك زعمت أنك رأيت رؤيا بقتله، قال: إن كان ربي أمرني فسأنفذ أمر ربي.
فذهب إلى الوليد فقال: يا إسماعيل! -وكان خلف أبيه- أين أنت ذاهب مع أبيك؟ قال: لحاجتنا. قال: لا، يريد أن يذبحك قال: لم يذبحني؟ قال: لأنه زعم أنه رأى رؤيا قال: إذا رأى رؤيا وربه أمره فأمر ربنا مطاع.
فذهب إلى أصل الرجم الذي لا نزال نرجمه بالخذف في ذلك الموضع إلى يومنا، فجاء الشيطان وظهر لإبراهيم عند جمرة العقبة، فعندما رآه إبراهيم وإسماعيل قذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الوسطى فرمياه وقذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الكبرى، فقذفاه ورمياه بسبع حصيات، وكان هذا أصل الرمي، وبقي رمزاً على أن الحاج عندما يأتي عابداً ربه هذه العبادة التي لا تكون واجبة إلا مرة في العمر، فإنه يفعل فيها ما سبق أن فعله إبراهيم الذي بنى الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وهو الذي شرع بأمر ربه الحج ومناسكه، ولكن خزاعة وقريشاً بعد ذلك غيروا وبدلوا، فبقي الحج مغيراً مبدلاً إلى أن أعاده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليه أيام إبراهيم إلا فيما أمره ربه به من شرائع جديدة فيه.
فكان من ذلك أن الحاج عندما يصل إلى منى، وعندما يصل إلى الجمرات يرمي الجمرات، والرمي: أن يقذف الشيطان بحصوات الخذف، ويرميه كذلك من نفسه، وينبذ وساوسه، ومعنى ذلك: أنه يستعين بالله وهو يرمي بهذه الحجرات، وينوي بما يقذفه من الحصيات أنه لن يطيع الشيطان بعد اليوم في شيء، ولن يخضع لوساوسه، ولن يخضع لفتنته، ولن يخضع لبلواه قط.
وبقي ذلك شرعاً إلى يوم القيامة عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام فأكد ذلك، وجعله من المناسك.
وفي نفس هذه الآيات سيأتي قول الله: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ [الصافات:112]، فكانت هناك بشرى بولادة الغلام الحليم الذي لم يسم، ثم كانت بشرى بولد آخر وهو إسحاق، وهذه البشرى كانت في الأصل لامرأة إبراهيم سارة ، كما في سورة هود في قصة قوم لوط عندما جاءت الملائكة إبراهيم تخبره بما أمرها ربها به بأن تجعل أرض قوم لوط عاليها سافلها عند البحيرة المنتنة من أرض فلسطين، وكانت سارة ترى الملائكة في صورة شباب ذوي نور، فأتاهم بعجل حنيذ مشوي فلم يأكلوا، فنكرهم وبعد ذلك علم أنهم رسل ربه إليه ليخبروه بما أمره به الله من عذاب قوم لوط وجعل أرضهم عاليها سافلها، وامرأته واقفة فضحكت، قال ربنا: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:71-73] فهذه البشرى كانت لـسارة من طريق الملائكة.
وأما إسماعيل فكان بشرى لإبراهيم وليس هو ولد سارة ، والبشرى بإسحاق كانت لـسارة.
فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
أي: أن إسحاق سيلد يعقوب عليهما السلام، إذاً: مع ذلك يؤمر إبراهيم بذبحه فلو ذبح وهو غلام قد بلغ السعي -كما قال ربنا في الآية- فمعنى ذلك: أن ما وعد الله به من أنه سيكون له ولد اسمه يعقوب أن هذا الوعد لا يمكن أن ينفذ، ولا يكون.
قال ربنا جل جلاله عن إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم:54]، وليس لإسحاق وعد، ولكن الوعد كان من إسماعيل عندما قال له أبوه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فوعد أباه بأنه خاضع ومستسلم لقضاء الله وهو يرجو الله أن يصبره.
واستسلم لقضاء الله، وبهذا استحق في هذه الآية أن يشيد الله به، وأن يرفع ذكره وأن يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام مما أصبح وحياً يتلى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، ثم إن إسحاق لم يكن إلا نبياً وكان إسماعيل نبياً رسولاً معاً.
كذلك قال الله: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85].
فوصفه الله في هذه الآية بأنه من الصابرين، وهو الذي صبر على الذبح وعلى الاستسلام لقضاء الله، وعلى رؤيا والده، ولم يذكر لإسحاق شيئاً يصبر عليه، ولم يذكر لإسحاق وعداً ينفذه، كل هذا يدل الدلالة القاطعة في نفس القرآن الكريم، وخاصة وقد ذكر الله في الآيات المتتابعة ذكَر الغلام الذي لم يسم وذكر بعده الغلام الثاني واسمه إسحاق وأنه بشِّر به.
وأيضاً: يقول الله هنا: بأن هذا الدعاء من إبراهيم كان عندما أنقذ الله إبراهيم من النمرود وعاد مكره عليه فكان الأحقر، وكان الأذل والأخزى، وأنجى الله إبراهيم فترك البلاد وهو لا يزال يذكر بأنه شاب فتىً عندما جاءوا بالابن ووجدوا أن الأصنام قد كسرت، وأن الفأس وضعت في عنق كبيرهم أخذوا يتساءلون من فعل هذا؟ فقال قائلون: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]وصفوه بأنه فتى، وبمجرد ما وقع بينه وبينهم محاورة وأخذ وعطاء كما مضى تفصيل ذلك ذهبوا إلى التعصب لآلهتهم بعد أن عجزوا عن الدليل والبرهان: فأرادوا به مكراً يقول ربنا: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70].
فكانوا الذين خسروا، وكانوا الذين جعلوا في الأسفل والأذل والأحقر، وكان إبراهيم الأعلى، بعد هذا مباشرة سلط الله على نمرود ناموسة صغيرة دخلت في أنفه فأخذت تدخل إلى مخه إلى أن أخذ يضرب رأسه بالحجارة إلى أن انفجر رأسه، وتفتت مخه، وذهب إلى نار الجحيم، ثم لم تطل المدة إلى أن ترك البلاد إبراهيم ولا يزال فتى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99].
إذاً: فاليقين أن الذبيح هو إسماعيل كما قطع بهذا ابن كثير وكما قطع بهذا البغوي ، وكما قطع به الكثير من المفسرين، وكما قطع به ابن السبكي في رسالته القاطعة يقول: لا يمكن أن يكون حسب سياق القرآن أن الذبيح إلا إسماعيل والأمر هكذا.
أسلم يهودي وحسن إسلامه أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فجلس مرة عند عمر فسأله عمر ؟ من الذبيح عندكم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أمير المؤمنين ! أما اليهود فتقول: إسحاق، ولكنها كاذبة حسدت العرب أن يكون جدها هو الذبيح المنوه به في كتاب الله، فغيروا وبدلوا ذلك سواء في التوراة أو الإنجيل وقالوا: إسحاق. وهذا بسند صحيح إلى عمر بن عبد العزيز ، وهذا الذي أشاع بين الصحابة وبين التابعين وبين الكفرة: أن الذبيح إسحاق هو كعب الأحبار ووهب بن منبه ، ونوف البكالي وكلهم من أصول يهودية، وبعضهم مشتبه في صدق إسلامه، بل إن كثيراً يروون عن كتبهم أشياء لم تذكر ألبتة، وكعب شكك في صدقه جماعة من كبار الصحابة كـالعباس بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام وعمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان.
إذا علمنا هذا والأمر كذلك فالحديث لا يصح سنده وإن كان معناه صحيحاً، وهو أن أحدهم جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: (يا ابن الذبيحين!) فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه، ولم يستنكر ذلك، وورد عنه أنه قال: (أنا ابن الذبيحين) فهو ابن إسماعيل ابن إبراهيم، والذبيح الثاني: هو أبوه عبد الله بن عبد المطلب.
قالوا: إن عبد المطلب لم يلد له ولد في الأولى فجعل عهداً بينه وبين ربه: أنه إذا ولد له عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً إلى الله، فولد له عشرة أولاد وكان من العشرة: عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام، فأراد ذبح واحد منهم، فجعل بينهم قرعة، فخرجت القرعة على عبد الله وكان عبد الله أحب أولاده إليه، فأعاد القرعة ففي كل مرة تخرج القرعة على عبد الله ، وإذا بـعبد المطلب يقول له عقلاء من قريش: ادفع دية قتيل عن ولدك، فقال: أفعل! فذبح عنه مائة ناقة فدية لذبحه، فكان هو الذبيح الثاني أي: المراد ذبحه، وكان إسماعيل الذبيح الأول المراد ذبحه، وإلا لم يذبح عبد الله كما لم يذبح إسماعيل، بل كان الأول يراد ذبحه بناءً على القرعة، وإسماعيل يراد ذبحه بناءً على الرؤيا النبوية التي هي أمر من الله سبحانه.
أخذ الولد وقد اتفقا على أن يخضع الولد والوالد للذبح، فلما استسلما لقضاء الله، ناداه الله أن قد صدقت الرؤيا. قوله: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] أي: أسلما نفسيهما واستسلما لقضاء الله، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أي: طرحه على جبينه، وكبه على وجهه لكي لا يرى وجهه وعينه عند الذبح فيرحمه، فأراد ذبحه من قفاه، وقد قالوا: إن الولد أخذ يقول له: يا أبت! أخف عينيك وارمني على جبهتي لكي لا ترحمني، ولكي لا أفر، فقال الله جل جلاله: وَنَادَيْنَاهُ )[الصافات:104]، قالوا: الواو هنا مقحمة صلة، أي: ناديناه في حال أخذه السكين ليذبحه: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، قد امتثلت لأمر ربك، وذبحت ولدك، ولكننا لم نفعل، فلا يراد من هذا إلا ابتلاؤك واختبار ولدك.
قالوا: فعندما أخذ السكين ليذبحه إذا بالسكين تذبح عنقاً من نحاس أو حديد، وأخذت السكين تنطوي في يده لم تؤثر ولم تذبح.
ومن هنا يقول علماؤنا: إن السكين لا تذبح إلا بإرادة الله وليس بأثر منها، ولا بطبيعة فيها، وإنما عندها لا بها، وإلا فالحياة بيد الله والممات بيد الله، وإن شاء الله حياة الإنسان فمهما جرى عليه فلن يموت، ونعم الحارس الأجل، فهذه السكين بعد أن براها، وبعد أن جعلها كأنها سيف مهند، وضعها على رقبة ولده، فكأنه يضعها على نحاس أو حديد أو صخر، فلم تذبح ولم تؤثر، وإذا به يناديه ربه: يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105] فأنت ذبحت ولكننا لا نريد ذبحه، ولا نريد موته؛ لأن إسماعيل سيكون من سلالته بعد ذلك محمد سيد البشر وخاتم الأنبياء، ولو ذبح إسماعيل لما كان محمد، ولذلك جعل الله جل جلاله لإسماعيل من المعجزات والآيات الباهرات ما كانت معجزات له، وكانت إرهاصات لما يحمله في صلبه من سيد البشر محمد صلى الله عليه وعلى آله.
قوله: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:105] يقال: رؤيا، ورؤية، الرؤية: بالتاء المربوطة رؤية البصر، والرؤيا هكذا بالألف المقصورة تكون للرؤيا المنامية، وكانت الحادثة عند المنحر في منى، ولذلك شرع لنا أن تكون الهدايا والمنحورات هناك، وأن تكون المذبوحات عند منى.
قال تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:105] أي: كما أنجينا إبراهيم من ذبحه لولده، وأنجينا إسماعيل، وفرجنا عنهما همهما وكربهما، حيث استسلما لله الواحد الأحد فرضيا بقضاء الله مستسلمين، فكذلك العبد الصالح إذا استسلم لقضاء الله وأمره أنقذه الله في آخر لحظة وفي آخر ساعة، ومن يتق ويصبر فالله جل جلاله يفرج غمه، ويكشف كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وينقذه من عدوه مهما كان، وهذا ما حدث كثيراً للماضين والحاضرين، فقد يأتي البلاء ويحيط بالإنسان فينادي يا رب! فيفرج الله عنه، وكما حصل لأحد الوزراء الطيبين من حكومتنا هنا عندما اختطفت الطائرة وكانوا في مؤتمر بسوريا، وأرادوا ذبحه وقتله، يقول: وقد أعلن ذلك على الملأ، ففكرت وأنا أتلو القرآن ما جرى للنبي الصابر عندما قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال: عندما تذكر ذلك وأنه عندما دعا الله وتضرع إليه فرج همه، يقول: ما وجدت أقرب إلى نفسي من هذا، وهو من أدعية تفريج الكروب وزوال الهموم، فما دعا به مكروب إلا وأذهب الله بلاءه واستجاب له ونصره، قال: فأخذت أردد في نفسي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وعدوه الذي اختطف الطائرة أخذ يحدثه: كيف سأقتلك؟ وكيف سأذبحك؟ وماذا سأصنع بك؟ وإذا بالله ينقذه من حيث لا يحتسب، وهكذا يقول ربنا كذلك: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105].
أي: كل من فعل فِعل إبراهيم، وفعل فِعل إسماعيل، فاستسلم لقضاء الله وأمر الله، فإن الله جل جلاله يكشف كربه ويزيل همه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، يرزقه النصر ويرزقه النجاة.
أي: إن هذا لهو البلاء الظاهر، والاختبار البين، فبلاء عظيم أن يؤمر أب بذبح ابنه، ولكن إبراهيم وإسماعيل استسلما لهذا البلاء، فسلم إسماعيل عنقه، وسلم إبراهيم ولده، وذهبا لتنفيذ قضاء الله، ولا يسع المسلم سوى ذلك، فالله جل جلاله يبتلي ويعافي، فقد ابتلى هذين النبيين واختبرهما وبعد أن اختبرهما وجدهما صادقين ومطيعين، فإذا بالسكين لم تؤثر ولم تذبح.
قال ربنا: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
ذبح أي: مذبوح، فداه الله بكبش عظيم، قالوا: هذا الكبش هو الذي كان قدمه أحد ابني آدم قرباناً فتقبل منه ولم يتقبل من أخيه في قصة قابيل وهابيل، وإذا بالله الكريم يحييه في الجنة فيرتع في خيراتها وثمارها وفواكهها، فأمر جبريل أن يأتي به من الجنة، ووضعه عند إبراهيم عند جبل كبير، فجرى إليه وأتى به وكان هذا الكبش أبيض أعين ذا قرنين، وهكذا جرت سنة الضحايا، فقد (ضحى رسول الله عليه الصلاة والسلام بكبشين أقرنين أعينين، يأكلان في سواد، وينظران في سواد، ويمشيان في سواد).
(يأكل في سواد) أي: ثغره أسود الشعر، (وينظر في سواد) أي: كان الشعر المحيط بعينيه أسود، (ويمشي في سواد) أي: كانت أرجل هذين الكبشين سوداء الشعر، وأصبحت هذه الصفة في ضحايا العيد أفضلها وأكرمها.
فقد كان هذا الكبش عظيماً سميناً؛ لأنه عاش في الجنة دهراً، وتقبل قرباناً من أحد ابني آدم.
قال تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:78] يقول ابن عباس : لقد جاء الإسلام وإني لأرى رأس هذا الكبش معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس ووحش.
ويقول الشعبي: أدركت أنا هذا. وبقي إلى أن احترقت الكعبة فاحترق الرأس معها.
وجاء الأصمعي إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو ! أي الذبيحين في ابني إبراهيم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ أين كان إسحاق؟ إسحاق لم يأت الحجاز قط، إسحاق كان في أرض كنعان أرض الشام، كان مع أمه، والذي كان في الحجاز، والذي بنى مع أبيه الكعبة، والذي انفرد بذلك وكان أبا العرب بعد ذلك هو إسماعيل.
فإسماعيل هو الذي أريد ذبحه عند منى، ورؤياه كانت هناك، ولذلك بقي هذا الكبش معلقاً في الكعبة مدة هذه القرون إلى أن رآه ابن عباس في صدر الإسلام، وبقي إلى أيام الشعبي وكان في القرن الثالث ورآه، فأين إسحاق من كل هذا؟
إذاً: فالذبيح بالقطع واليقين كما يعبر كثير من الأعلام كـابن كثير والبغوي والسدي وآخرون، هو إسماعيل.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:78] أي: ترك الذكر الطيب لإبراهيم في الآخرين، وإبراهيم كذلك ممن تؤمن به جميع الأديان وتذكره جميع الأديان -اليهودية والنصرانية والإسلام- بالرضا والسلام، ويصونونه بالاحترام والتقدير، وأكد هذا القرآن فرفع ذكره وأعلى اسمه، حتى إن المجوس تجد أشرافهم وكبارهم بالنسبة لهم يسمونهم: البراهمة؛ نسبة إلى إبراهيم.
قال تعالى: كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:110]، الجزاء الأول جزاء المحسنين بإنقاذهم من البلاء ومن الغم ومن الهم، فقد أنقذه الله من الذبح في آخر ساعة، كذلك الذي أحسن الطاعة لربه عبادة وإيماناً به وإيماناً بنبيه، يرفع الله ذكره في الصالحين، ويذكر بالخيرات، كصحابة رسول الله وأئمة شريعتنا، فنحن إذا ذكرنا الصحابة قلنا: رضي الله عنهم، فهذا ذكرهم العالي، وإذا قلنا الإمام مالك أو الإمام الشافعي أو الإمام أبو حنيفة أو الإمام أحمد وأمثالهم قلنا: رحمهم الله، وهم كذلك رفع الله ذكرهم، وكانوا كذلك ممن أحسنوا دينهم، ونشروا الدعوة لربهم، ونشروا شريعة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله، فجوزوا جزاء الأولين بالرحمة والرضا، والذكر بالصالحات والطيبات.
قال تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:111]، إن إبراهيم من عباد الله الصادقين الإيمان، الصادقين الإسلام، الذين آمنوا بربهم وآمنوا بأنبيائهم السابقين، وآمن بنفسه نبياً ورسولاً وخليلاً لربه، فالله أشاد به كما أشاد بالأنبياء.
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112] كان هذا بعد أن بشر بالغلام الحليم الذي هو الذبيح إسماعيل، وكانت البشرى الأولى بطلب إبراهيم عندما دعا ربه، قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]، وكانت البشرى بإسحاق بلا طلب.
جاءت ملائكة الرحمن لتبلغ إبراهيم خليل الله بما سيفعلونه بقوم لوط، وكانت المرأة واقفة فضحكت، وفسروا الضحك هنا بالحيض، ولا حاجة لذلك، بل ضحكت وابتسمت وإذا بالملائكة يتبسمون إليها ويبشرونها، فهي لم تطلب ذلك ولم تدع له، ولم يطلبه إبراهيم قبلها، بدليل أنها تعجبت ولم تكن حينها فيمن يلد، ولم يكن زوجها فيمن ولدوا، فضحكت: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:71-72]، فكانت البشرى منحة وكرامة، فقد بشرت سارة لصبرها مع إبراهيم، وما لقيت مع إبراهيم، وكانت قد أسنت وعجزت وكبر زوجها وشاخ، ومع ذلك تفضل الله عليها وأرسل الملائكة تبشرها بإسحاق.
قالوا: وإسحاق ولد بعد أن تجاوز إبراهيم المائة، والقرآن قال: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72]، والشيخوخة في ذلك العصر تكون أحياناً في المائتين، فقد كانوا يعمرون كثيراً، يعيشون الثلاثة والأربعة من القرون، ونجد هذا لا يزال في التوراة، ولا يزال في الإنجيل، ويؤكد ذلك ويصدقه القرآن، عندما يقص عن نوح: أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فمعنى ذلك بلغ من السنين ما لا يكاد يصل إليه أحد من الأمة المحمدية؛ لأن الأمة المحمدية يقول عنها عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يتجاوز ذلك).
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112] بشره الله بولادته ثم بكبره إلى أن يصبح نبياً، وإلى أن يكون من الصالحين، فإسماعيل أفضل منه، لأنه كان نبياً فقط، أما إسماعيل فكان نبياً رسولاً، والنبي هو عبد لله أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، كذلك كان إسحاق، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
قال: (مِنَ الصَّالِحِينَ) وكل نبي صالح وكل رسول صالح، ولكن إشادة الله به في كتابه، وإعلاء ذكره، والتنويه به يدل على أنه كان في رفقة من الصالحين.
أي: بارك على إبراهيم فجعل جميع الأنبياء بعده من سلالته، وبارك في إسحاق بأن جعل بني إسرائيل من بني إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل، وقيل: بل هو إسحاق، كذلك قال ابن مسعود، وهذا مفروغ منه.
وكلهم ينتسبون إلى إبراهيم، ففي الأحاديث الصحيحة المتواترة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب نفسه على المنبر فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب .. إلى أن رفع نسبه إلى عدنان، ثم قال فيما بعد عدنان: (كذب النسابون)، وقد ذكر نسب عدنان إلى إبراهيم إلى نوح إلى آدم، ولكن النبي لم يصدقهم، ولكن عاد فقال: (وعدنان هو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فأنا ابن إسماعيل بن إبراهيم) ولذلك لما أسري به في السماء ليلة المعراج، رأى جده إبراهيم فالنبي ناداه: يا أبت! وإبراهيم قال للنبي: يا بني! وهذا أيضاً من الأحاديث المتواترة الصحيحة، وهذا ليس موضع نزاع.
قوله: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) على إبراهيم، والبركة: النماء والزيادة، فكان من النماء والزيادة أن إبراهيم كان نبياً رسولاً خليلاً، وكان أحد ولديه نبياً رسولاً، والثاني كان نبياً، ومن سلالتهما كان أنبياء الله جميعاً، أنبياء بني إسرائيل، وسيد الأنبياء رسولنا ونبينا عليه الصلاة والسلام.
(وَعَلَى إِسْحَاقَ) وكذلك إسحاق، فالنماء والبركة في سلالته ذلك.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا) ذرية إسحاق منه إلى عيسى عليه السلام، وذرية إبراهيم إلى إسماعيل، وإلى إسحاق وذريتهما إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال ربنا: (مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي: سيكون في سلالة هؤلاء أولاد، لكن منهم محسن، أي: موحد ومؤمن، ومنهم ظالم لنفسه أي: مشرك ظاهر الكفر، فنعوذ بالله من الخذلان، أي: فكما يكون هذا في بني إسرائيل فهو أيضاً في العرب، ولقد أرسل نبينا عليه الصلاة والسلام بجزيرة العرب ثم للعالم كله، وكانوا وثنيين، وكان العالم كذلك، وأهل الكتاب كانوا قد بدلوا وغيروا، وانحرفوا كذلك إلى الكفر والشرك.
امتن جل جلاله وتكرم وتنعم على موسى وهارون، كانت هذه المنة بأن جعل موسى نبياً رسولاً، وبأن جعل هارون نبياً رسولاً، وكان هارون رسولاً نبياً بطلب من أخيه، قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32]، ولذلك قالوا: لا يوجد أخ في الدنيا قدم لأخيه كما فعله موسى لهارون، طلب له النبوءة والرسالة فاستجاب الله له.
قال: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) نجاهما الله كما نجى قومهما، وأنقذهم ونصرهم وأذل أعداءهم.
والكرب العظيم: ما عاشه بنو إسرائيل تحت فرعون وهامان من الذل ومن الاستعباد، ومن الاستخدام في أرذل الأعمال، مع الهوان والتحقير والإيذاء والبطش، ومع قتل شبابهم وسبي نسائهم، ولذلك سمى الله ذلك: الكرب العظيم، أي: البلاء والشدة والمصيبة العظيمة، وتنوع العذاب من الخدمة إلى الاستعباد إلى القتل إلى كل ما لا يرضى به إنسان، فهو قد امتن أولاً بالرسالة والنبوة.
ثم قال: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) نجاهم من فرعون، ونجاهم من هامان ، ونجاهم من الأقباط حيث كانوا يظلمون بني إسرائيل، وأنجى قومهما من بني إسرائيل، فأخرج بني إسرائيل من مصر وأخرج معهم جميع أموالهم، ومع ذلك بعد أن أنجاهم الله وأنقذهم أبوا إلا الكفر، فذهبوا يعبدون عجلاً صنعوه من ذهب، وخرجوا على هارون وكادوا يقتلونه، فبقوا في التيه أربعين عاماً.
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:116].
نصر الله موسى وهارون، ونصر قومهما فكانوا هم الغالبين، والمعركة كانت شديدة وكانت حامية بين بني إسرائيل والأقباط، فأذلوا من أذلوا، وقتلوا من قتلوا، وتملكوا من تملكوا، وأخذوا مال من أخذوا، إلى أن أنقذهم الله بنبيين منهم: موسى وهارون، وأنقذ موسى وهارون كذلك من بلاء القبط وفرعون وهامان ، إلى أن انتصروا عليهم، وخرجوا من بلادهم وأخذوا أموالهم، وغرق فرعون وجنده أذلاء مقهورين مغلوبين على أمرهم.
ولم يقدر ذلك بنو إسرائيل، بل بعد أشهر ارتد منهم من ارتد، وجاء السامري فجعل لهم عجلاً جسداً له خوار، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى، وجعل فيه حيلة، فقد ثقب من دبره إلى فيه، ثم وضعه في مجرى الريح والهواء، فصار الهواء كلما دخل من فمه أحدث صوتاً، وحدث هذا لما ذهب موسى للقاء ربه في جبل الطور، وهكذا أصبحوا وثنيين مرة أخرى، فعوقبوا بأن تاهوا في الصحاري أربعين سنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر