هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الفتح:20-21].
فالله جل جلاله وعد المؤمنين من أهل الحديبية الذين لم يأخذوا غنائم في صلح الحديبية، بأن يأخذوا غنائم كثيرة معجلة، وهي غنائم غزوة خيبر، هذه المعركة التي قام بها اليهود فأدبهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأرسل جيوشه وكان على رأسها وحمل الراية فيها: أبو بكر ثم عمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وأعطاها لـعلي، فكان النصر وكان فتح خيبر على يده.
وعندما خرج اليهود صباحاً بمساحيهم وفئوسهم للعمل والزراعة إذا بهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه، فيتصايحون: محمداً والجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) .
وكان المنذرون هم هؤلاء اليهود، فنصر الله عبده ونبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نصراً عزيزاً مؤزراً، والغنائم كانت كثيرة: كانت عقاراً وأرضاً وذهباً وفضة، وجعل كل ذلك عليه الصلاة والسلام من نصيب من حضر صلح الحديبية وعمرتها، وهذا معنى قوله تعالى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20] إلى أن قال ربنا: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] .
فهذه معركة جديدة وغنائم جديدة لا تعجزنا، ولم تفكروا يوماً بقدرتكم عليها، ولكن الله جلال جلاله قد أحاط بها قدرة وعلماً، فجعلها من نصيب عباده المؤمنين.
وقال ابن عباس : كانت هذه التي لا يقدرون عليها هي حرب فارس والروم، والغنائم التي بشره الله بها هي غنائم حرب فارس والروم، وهو معنى قوله تعالى: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] أي: أحاط بها علمه وقدرته، فهو قادر جل جلاله أن يقويكم وينصركم لتقاتلوا هؤلاء الذين لم تحدثوا أنفسكم يوماً بحربهم وقتالهم، ولكن الله قد أحاط علمه بهذه الغنائم التي ما حدثتم أنفسكم فيها يوماً.
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الفتح:21] أي: كان الله على كل شيء قديراً لا يعجزه شيء، وكل ما يريده يقول له: كن فيكون.
ولقد حارب المؤمنون فارس والروم، ففتحوا فارس، وأذلوا الروم، وكانت غنائم عظيمة غنمها المسلمون، قال ابن عباس وقتادة في قوله تعالى: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا [الفتح:21] هي الفتوة الآتية والمقبلة، وهي كل ما يفتح في الأرض للمسلمين من أرض فارس والروم والقسطاط والبربر والهند والقسطنطينية وفرنسا وجميع دول الكفر التي فتحها المسلمون وغنموا غنائمها، وكانوا قبل الإسلام لا يقدرون عليها، فقدروا عليها ببركة الإيمان وقوة الإسلام، فكان لهم ما أرادوا.
يقول تعالى عن كفار مكة عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون للعمرة ثم توقفوا في الحديببية: لو قاتلكم كفار مكة وحاولوا أن يصدوكم بحرب وقتال لعجزوا، ولما استطاعوا على قتالكم، ولفروا وذهبوا عاجزين عن حربكم غير قادرين عليها ولهزموا، ولا يجدون من العرب من يواليهم أو يناصرهم أو يعززهم.
فقوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الفتح:22] أي: لا يجدون مؤازراً ولا معيناً ولا ناصراً حتى بالقول واللسان، فلو قاتلوكم لولوا الأدبار منهزمين، ولا يجدون من يواليهم أو يناصرهم عليكم.
يمتن الله على عباده المؤمنين من أهل الحديبية الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء، بأنه كف أيدي الكفار عنهم، فلم يحاربوهم ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من حدود الحرم، ولو شاءوا لاستطاعوا، ولكنهم لو فعلوا لأدبروا ولهزموا.
فالله كف أيديهم عنكم، أي: منعها من الحرب والقتال لكم، كما كف أيديكم عنهم، أي: كما منعكم من قتالهم، لأن هذا القتال لم يكن لكم فيه خير، وسيكون عليكم وبالاً، ولذلك كان الصلح خيراً، وكان هذا الموقف الذي ألهم الله نبيه والمؤمنين أن يقوموا به هو الذي ارتضاه الله لهم، ففيه نصرهم وعزهم ومصلحتهم.
وقوله تعالى: بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح:24] بطن مكة هو داخل حدود الحرم عند الحديبية حيث نزل صلى الله عليه وسلم بخيامه وجنده، فالله كف أيدي الكفار عن المؤمنين، وأيدي المؤمنين عن الكافرين.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24] أي: من بعد أن ظفر المسلمون بجماعة منهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق سراحهم.
وذلك بينما كان النبي عليه الصلاة والسلام في قومه وأنصاره إذا بثمانين كافراً أتوا من مكة للجهاد، وأرادوا أن يجدوا غرة وغفلة في رسول الله وأصحابه؛ ليجهزوا عليهم ويقاتلوهم، وطمعوا في أن يقوموا بمذبحة فيهم، فكان المسلمون على حيطة وحذر، فانتبهوا لهم فابتدروهم وأتوا بهم أسرى بعد أن نزعوا سلاحهم وسيوفهم، وجعلوهم بين يدي رسول الله أسرى في الحبال والسلاسل.
وهذا معنى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24] ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هل بيني وبينكم عقد ذمة؟ قالوا: لا، قال: هل عاقدتم أحداً من المؤمنين من أصحابي وأعطاكم الذمة والسلام؟ قالوا: لا، قال: إذاً: إن شئنا قتلناكم، قالوا: نعم، قال: اذهبوا) ، فأطلق سراحهم، وامتن عليهم بلا فداء ولا تعويض، وقد كان منهم معاوية وأبوه أبو سفيان .
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الفتح:24] أي: كان الله بما تخلصون به، وما تعملون وما تتحدث به أنفسكم بصيراً وعليماً وناظراً، فالله لعلمه بصدقكم وإخلاصكم وتقواكم اختار لكم النصر والعز بلا حرب ولا قتال، وأذل عدوكم، وصالحكم معهم، وأخضعهم لشروطكم، وأخضعهم لما سيكون بعد ذلك وبالاً عليهم.
يقول الله لنبيه: بأننا كففنا يديك وأيدي المسلمين عن حرب قومك وحرب أهل مكة؛ لأنه كان فيهم مؤمنون مستضعفون يكتمون إسلامهم رجالاً ونساء، وأنت لا تعلم هؤلاء ولا قومك، فيوشك لو تدخلون مكة أن تطئوا هؤلاء قتلاً وأسراً وتعذيباً، وهم مؤمنين مثلكم يوحدون الله كما أنتم كذلك، فإن فعلتم أصابتكم بذلك معرة وإثم وعيب.
وبما أنكم لم تعلموهم، والله لم يميز منهم الكافر من المؤمن كف الله أيدي الكفار عنكم وكف أيديكم عنهم، فكانت تلك الحكمة وتلك المصلحة.
قال الله عن أعداء النبي من أهل مكة: لقد تولوا وارتكبوا جرائم، فهم الذين كفروا بالله وبالرسول وبالإسلام، فهذه جريمة ولا جريمة بعدها هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الفتح:25]، ثم زادوا على الكفر وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الفتح:25] أي: منعوكم ودفعوكم عن دخول المسجد الحرام معتمرين طائفين ساعيين عابدين الله جل جلاله، فقد ارتكبوا الكفر ثم ارتكبوا الصد والظلم عن بيت الله، والإحالة بين المؤمنين وعبادة ربهم.
وقوله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25] أي: وصدوا الهدي.
والنبي عليه الصلاة والسلام جاء للعمرة ومعه سبعون بدنةٍ هدياً بين يدي المسلمين؛ يقدمونها ذبائح لله ونسكاً للعمرة، وإذا بهؤلاء الكفار منعوا الهدي من الدخول لمكة، كما صدوا المسلمين من الدخول لمكة ولبيت الله الحرام لأداء العمرة والطواف والسعي، ومنعوا الهدي من بلوغ محله، ومحله المكان الذي يصبح فيه حلالاً فينحر أو يذبح.
وكان معهم أبل وبقر، وجعل صلى الله عليه وسلم لكل سبع منهم بدنة، والبقرة يقال عنها بدنة، والجمل والناقة يقال عنهما: بدناً، فهذه البدن التي جاء بها رسول الله والمؤمنون لتكون نسكاً بين يديهم، ويذبحونها وينحرونها داخل مكة، حال المشركون بين المؤمنين وعبادة ربهم، وحالوا بين المؤمنين وتقديم الهدي والمناسك لعبادة لله وبين يدي عمرتهم.
وقوله تعالى: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ [الفتح:25] .
أي: لولا أنه في مكة رجال مؤمنون مستضعفون لا تعلمونهم، ونساء مؤمنات لم تعلموهن، والمحذوف مقدر يدل عليه السياق، قال ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز.
أي: لولا وجود هؤلاء المؤمنين والمؤمنات وعدم علمكم بهم، فإنه يخاف منكم أن تدوسوهم بالأقدام إذلالاً وقتلاً.
وقوله تعالى: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الفتح:25] أي: فتصابون بسبب وطئكم لهم إثم ومذمة من الناس ومن الله.
فيقول الناس: جاء هؤلاء من المدينة إلى مكة ليقتلوا إخوانهم المسلمين وأخواتهم المسلمات، وبما أنهم اختلطوا فلم يعلمهم رسول الله ولا المؤمنون، لذا صان الله دماء الكفار ببركة هؤلاء المؤمنين الذين هم بينهم.
لولا ذلك لأطلقنا أيديكم عليهم فقاتلتموهم، وأخذتم منهم ثأركم، وعاقبتموهم للصد وللكفر وللظلم، ولكن الله صان دماءهم ببركة هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء الذين كانوا بينهم وأنتم لا تعلمونهم.
قال الله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [الفتح:25] أي: ليدخل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات في رحمته، فيدخلون الجنة.
قال الله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25] أي: لو تميز الكافر من المؤمن، ومعنى ذلك: أن المحذوف يتعلق بالأمرين، أي: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، ولو تميز الكافر من المؤمن لسلطكم الله عليهم فعذبتموهم العذاب الأليم: قتلاً وأسراً وإذلالاً ومهانة، ولعذاب الله يوم القيامة لهم أشد وأنكى، وبما أنهم قد اختلطوا بالمؤمنين فلم يتميزوا، فالمرأة هي المرأة ولا تعلم أمؤمنة هي أم كافرة؟ وكذا الرجل أهو مؤمن أو كافر؟ لأن الكثير من أهل مكة كانوا قد أسلموا نساء ورجالاً وغلماناً وإماء، ولكنهم مستضعفون لم يستطيعوا التواصل بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة ولا الهجرة إليه، فقد كانوا أضعف وأعجز من ذلك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين من مؤمني مكة، وكان منهم: أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري الذي كان أبوه كاتب الصلح وسفير أهل مكة في عقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
فعندما جاء أبو جندل والرسول عليه الصلاة والسلام وسهيل يكتبان العقد، رمى بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأبيه يصيح في وجه ولده ويضربه على وجهه، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (دع لي هذا، فنحن لم ننته فيما بعد من العقد، قال: بل قد أتممناه فإما أن تسلمني وإما لا صلح بيننا) فألح رسول الله وألح سهيل، فما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يوافق مكرهاً، وكاد ذلك أن يكون فتنة للمسلمين، فأخذ أبو جندل يصيح: يا معاشر المسلمين! أتردونني إلى الكفار ليفتنوني عن ديني! وتقدم إليه عمر بسيفه وسحب الغمد من مكانه؛ ليمد أبو جندل يديه للسيف فيضرب أباه، ولكن أبا جندل لم يفعل ولم يجرؤ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي جندل : (سيجعل الله لك ولأمثالك فرجاً ومخرجاً) .
فقوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح:26] أي: وقت أن حمي الكفار وجعلوا في قلوبهم الحمية والنصرة والأنفة، وكانت هذه الحمية والأنفة وهذا السكر والتعالي وهذا العمل الجاهلي عندما جاء كاتبهم وسفيرهم في الصلح، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: لا أعلم ما الرحمن ولا الرحيم؛ ليظهر ما كان يكتب سلفه وقومه: باسمك اللهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً -وكان كاتب العهد- أن يكتب: باسمك اللهم.
ثم قال: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، فأخذته الأنفة وقال: لا نقر أنك رسول الله، ولو علمنا أنك رسول الله لما قاتلناك.
فحمية الجاهلية: الأنفة والاستعلاء بالباطل وبالكفر، فمنعوهم عن دخول البيت زاعمين بأن ذلك سيذلهم عند العرب، الذين يعتبرون أن قريشاً قد ذلت فخضعت لعدوها محمد وللمؤمنين، فكانت تلك الحمية الجاهلية كما سماها الله.
والله لم يجعل المؤمنين تأخذهم الحمية أو العصبية فيما يتعلق بشأنهم؛ لأن الحكمة ستضيع بذلك، فقال ربنا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:26] أي: أنزل الطمأنينة على قلب عبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل هذه الطمأنينة وهذا الوقار على قلوب المؤمنين فلم يبادروا أهل مكة حمية بحمية، ولا عصبية بعصبية، ولا أنفة بأنفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك ذلك لله.
فشعار المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم أو عبارة باسمك اللهم يدعوان للإيمان، فكلاهما نداء لله وتبركاً باسمه.
وأما نفيهم أنه رسول الله فلن يضير ذلك رسول الله في شيء، فهو رسول الله حقاً شهد الله له بذلك وملائكته والمؤمنون، وهم أنفسهم سيشهدون بعد ذلك وسيخضعون للإسلام وكلمته.
ولذلك فإن الله أنزل طمأنينته ووقاره على قلوب المؤمنين، فلم تكن لهم حمية، ولو كان هناك حمية واصطدام وتقاتل لذهبت الغاية من الصلح.
وقوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [الفتح:26] أي: أوجب عليهم كلمة التقوى، فقد وفقهم لالتزامها حضراً وسفراً، سلاماً وحرباً، رضاً وغضباً، وكلمة التقوى هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فما قالها إنسان إلا ووقي العذاب، ووقي النار، ووقي اللعنة والغضب، وجعل بينه وبين عذاب الله وغضبه وجحيمه سداً يحفظه من اللعنة ومن العذاب، فلما كان رسول الله والمؤمنون معه قد أنزل الله سكينته على قلوبهم فاطمأنت وزال قلقها واضطرابها، والتزموا كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يبادلوا كفار مكة حمية بحمية، ولا أنفة بأنفة، ولا عصبية بعصبية.
وقوله تعالى: وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26] أي: كان رسول الله والمؤمنون أحق بكلمة التقوى، وأجدر بها من كفار مكة الذين قاتلوها ورفضوها، وامتنعوا أن يقروا لقب رسول الله في المعاهدة، وأبوا أن يفتتح الصلح بالشعار الإسلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن رسول الله والمؤمنين بما التزموا به من كلمة التقوى: لا إله إلا الله، وبما طمأنهم ربهم به من سكينة ووقار: لم يحموا ولم يتعصبوا.
وأهلها هم الملتزمون بها، القائمون عليها، الداعون إليها، فهم أهل: لا إله إلا الله، وكل من قالها هو من أهلها، أدامنا الله عليها، وأحيانا عليها، وأماتنا عليها، وحشرنا مع سيد المرسلين تحت لوائه.
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26] أي: وكان الله عليماً بكل شيء، عليماً بحال الكافرين ظواهرهم وبواطنهم، وبحال المؤمنين ظواهرهم وبواطنهم، فسيجزي الكافرين على كفرهم، والمؤمنين على إيمانهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر